دنيا الله «١٩٨٥م»
هذا هو حسن الإمام يعود مرةً أخرى
إلى أدب نجيب محفوظ بعد عرض
«أميرة حبي أنا» بعشرة أعوام في فيلم
«دنيا الله»، الذي سبق لإبراهيم الصحن أن أخرج القصة القصيرة في عام
١٩٦٨م في فيلم قصير، ويعرض الفيلم عام ١٩٨٥م في قمَّة القطيعة العربية
لاسم نجيب محفوظ وأعماله، فلا يكتب اسم الكاتب على العناوين، كما أن
هذا الفيلم هو أول نصٍّ أدبيٍّ لمحفوظ، تتمُّ إعادة إنتاجه من بين
أعماله، وهو النصُّ الذي فرضت الرقابة الخليجية أن يتغيَّر اسمه، عند
توزيعه في السوق الخليجيِّ من ناحية، أو عند عرضه في القنوات الخليجية،
ويحمل اسم «عسل الحب المُر».
سبق أن أوجزنا النصَّ الأدبيَّ «دنيا
الله» في الفصل الخاص بالفيلم القصير السابق الإشارة إليه،
وقد كتبت السيناريو والحوار لفيلم «دنيا الله»
عصام الجمبلاطي الذي لم يكتب قطُّ أيَّ سيناريو لنجيب
محفوظ، وهو الذي غير أيضًا من أحداث فيلم «عصر
الحب» لحسن الإمام عام ١٩٨٦م عن النصِّ الأدبيِّ. ومن
الواضح أن كل الظروف التي ذكرناها قد جعلت الفيلم بالصورة التي نراها،
فنحن أمام فيلم حركة في المقام الأول، أضاف السيناريو الكثير من
الحكايات الجانبية، وقام بتغيير سماتٍ عامَّة للأبطال أو للشخصيات
الرئيسة، فأسند الدور إلى نور الشريف
ليقوم بدور عم إبراهيم الساعي في
دائرة وظيفية تتكون من سبعة أشخاص، من بينهم امرأة، على غير الموجود في
الرواية.
وإبراهيم هنا أصغر سنًّا، أكثر رشاقة، وأشدُّ قوة، وفي إمكانه أن
يتغلب على عدَّة أشخاص بمفرده، هم محترفون معارك، ويحدُث هذا أكثر من
مرَّة؛ الأولى حين يتحرشون به في موقف السيارات المتجهة إلى
الإسكندرية، والثانية في إحدى ليالي المولد المقام بمنطقة أبي قير، نفس
المشاجرة، ونفس آلية الإخراج.
وإبراهيم الساعي، في الفيلم ليس منفرًا مثلما جاء على لسان ياسمينة التي لم تُطقه أبدًا، بل هو في وسامة
وقوة وحركة نور الشريف، ونحن نعرف أن إبراهيم الساعي في الفيلم في
الخامسة والخمسين، متزوج من امرأة عجوز عوراء، بدت في الفيلم الأول
أقرب إلى ما صوَّره الكاتب في النصِّ الأدبيِّ، وأيضًا صورة الزوجة
العجفاء في الفيلم الأول، أمَّا سناء
يونس في الفيلم الثاني، فقد غطَّت عينيها ﺑ «مدورة» لا
تعطيها صفة العوراء، وهي ليست عجوزًا، ولكنها امرأة سليطة اللسان، لا
يستمتع زوجها بالحكْي معها، وعندما يحكي لها عن رجل يعرفه واقع في غرام
شابَّة صغيرة، فإنها سرعان ما تفهم أنه المقصود، وتأخذ في الصراخ،
وتنادي على الجيران، وليس هذا في النصِّ الأدبيِّ؛ أيْ إنها غير
مقبولة، وقد حوَّل السيناريو شخصية ياسمين إلى ما يشبه الزوجة؛ فهي
تعاركه عندما تفيض له بأنها تعرف سرَّ أنه اللصُّ منذ اللحظة الأولى،
وهنا اختلاف؛ فالفتاة هي التي تحضُّه على سرقة المرتَّبات، بتحريضٍ آخر
من طرف عشيقها حمودة الهجام؛ أيْ إن
حمودة هو الذي اكتشف سرَّ الرجل الذي يدَّعي لياسمينة أنه قرويٌّ
ثريٌّ، وأنه عُمدة، وراحت توحي له أن يتزوجها، وأن يدبِّر لها ثمن
الزواج، فيسعى لسرقة المرتَّبات، ويسعى حمودة بدوره لسرقة حقيبة النقود
قبل أن يهُمَّ بركوب السيارة الأُجرة المتجهة إلى الإسكندرية.
بداية الفيلم تدور في المكتب الذي يعمل فيه الموظفون؛ الأول، بدون
ترتيب، هو حلمي الجندي «مصطفى كريم»
شابٌّ يحبُّ فتاة جميلة، لا يودُّ أهلها أن يزوِّجوها منه لضعف دخله،
لكنها أمام هذا الرفض تأتيه وتطلب منه أن يتزوجا، وأن تهرب معه. ويجد
الفتى أن المرتَّب سوف يحلُّ المشكلة، فسوف يمكِّنه أن يستأجر شقَّة
مفروشة، وأن يعيش معها، لكن سرقة المرتَّب تجعل حُلمه ينهار، فيطلب من
الفتاة أن تعود إلى أهلها، وتُنذره أن هذا هو آخر لقاءٍ به، ويضيع
حُلمه بالزواج من فتاته رجاء «ماجدة
حمادة».
هذا الشابُّ يحتاج إلى خمسة عشر عامًا كي يمكنه تدبير ثمن الزواج؛
مما يعني أن أيام المتعة التي سيقضيها إبراهيم مع حبيبته الصغيرة تعني
الدمار لمستقبل فتًى وحبيبته.
أمَّا لطفي «شفيق جلال» فهو رجل
أنيق كريم، يعطي لإبراهيم أجرة التاكسي ذاهبًا وعائدًا، وسط تأكيد أن
الموظفين في حاجة للمرتَّبات.
أمَّا أحمد، كاتب المحفوظات، الذي
هو أول مَن يحضر إلى المكتب في النصِّ الأدبيِّ، فهو في الخمسين من
العمر، تعاني زوجته من أمراضٍ عديدة، ولا توجد الأدوية المكتوبة
لعلاجها في الصيدليات، لذا فإنه سيُفاجأ أن إبراهيم ترك له المرتَّب مع
زوجته، قبل أن يسافر في رحلة الحُب.
أمَّا المدير العام كامل «محمود
الزهيري»؛ فهو رجل يحبُّ لعب القمار، ويذهب كل ليلة مع
الموظف سمير «المنتصر بالله»، فيخسر
كثيرًا، ونادرًا ما يكسب، ويطلب منه أن يلعب في بيته، هذا المدير
تتفاقم أموره مع اللعب، فيكتب الشيكات بعد الخسارة، ويدفعه سمير إلى أن
يتهاون في شأن صفقة خاصَّة بالعمل، وتكون نهايته القبض عليه، والإفراج
عن الموظف مصطفى «عبد الوهاب خليل»
الذي يقوم بالإبلاغ عن هذه العملية الذي وجد نفسه مساقًا إليها، ويتوب
وينتبه إلى نفسه عقب أن رزقه الله بولدٍ أسماه منجد.
أمَّا الموظفة «ليلى جمال» فلم
يكُن لها في الفيلم حولٌ أو قوة، لم يتوقف الفيلم عند ظروفها
الاجتماعية، كما أن الفيلم ألغى شخصية الموظف الذي سوف يصطاف في منطقة
أبي قير لمدَّة شهرين.
من الواضح أن السيناريو قد أخذ الأسماء من الصفحة الأولى في النصِّ
الأدبيِّ، وراح يجد لها أكثر من دور، حيث أدلى كلٌّ منهم بأقواله عندما
جاءت الشُّرطة للتحقيق في الإدارة، ثُم اختفى كلٌّ منهم ليهتمَّ
السيناريو بحكاية إبراهيم في الإسكندرية.
أضاف السيناريو أيضًا شخصية حمودة الهجام «سعيد صالح»، وعزيزة بربون، ليزيد من مساحة الدراما؛
فالأول هو أحد البلطجية، هو متعدِّد العلاقات النسائية، يبحث عن عمليات
نصبٍ جديدة؛ فهو على علاقة بالفتاة ياسمين، وهي هنا ليست بائعة يانصيب،
باعتبار أن هذه المهنة لم يعد لها وجود في عام ١٩٨٥م، لكنها فتاة مليئة
بالأنوثة والسحر، تقع في طريق إبراهيم الذي يقول لها: «طول عمري عايش
مستور، عندي أرض في البلد.» ويخبرها أنه كان يتيمًا، وأن أملاكه كلها
تحت أمره، وهو يمنحها النقود على سبيل الفشخرة، إلا أن حمودة يعرف
وظيفته، وأنه يأتي بالمرتَّبات في نهاية كل شهر، فيدبِّر خطَّة
للاستيلاء على المرتَّبات «تسعة آلاف جنيه، وبعض الفكة»، فيطلب منها
التقرُّب إليه أكثر، ويدفعها أن تطلب منه الزواج، وهذه المؤامرة غير
موجودة بالطبع في النصِّ الأدبي.
كما أضاف السيناريو شخصية عزيزة بربون، التي تزوَّدت من صاحب مطعم
سمك في أبي قير بالإسكندرية، وهي تكافح وحدها، وقد صنع السيناريو
مصادفة؛ فهي تعيش في أبي قير التي سيذهب إليها إبراهيم، وهي حبيبة
سابقة لحمودة، وتودُّ منه أن يتزوجها عندما يظهر في حياتها، إنه
بالنسبة لها الوغد الذي تبغاه زوجًا، وهو على علاقة بياسمينة، أيْ إن
الرجل يلعب على المرأتين معًا، يسعى لسرقة بقية النقود المسروقة، وأن
يتزوج من صاحبة المطعم، وفي نهاية الفيلم، فإنه يأخذ النقود، ويهرب مع
عروسه، فتنقلب السيارة به وبعروسه، كنوعٍ من الانتقام السماويِّ لما
ارتكبه وعروسه.
هذه هي الشخصيات الرئيسة وما تلاها من أحداث التي ظهرت في فيلم
«دنيا الله»، إلا أن هناك أحداثًا
كثيرة أضيفت إلى الفيلم، مثل محاولة إبراهيم التراجع عن السرقة، فهو
حين يحكي لزوجته أم الخير عن صاحبه
الذي تزوَّج من غولة، تنكِّد عليه حياته، وأن هذا الصاحب واقعٌ تحت
إغواء بنت حلوة، سرعان ما تسبُّه «ابن بهانة، سكران»، رغم أنه حاول
التودُّد إليها، وقد تراجع إبراهيم أكثر من مرَّة عن رغبته في سرقة
المرتَّبات، وهذا لم يحدث في النصِّ الأدبيِّ، فهو لا يودُّ أن يتزوج
ياسمينة بنقودٍ حرام، ويعطيه الفيلم والأدب حسًّا إنسانيًّا، عندما
يترك لأحمد مرتَّبه قبل أن يسافر مع عشيقته، كما أنه فكر أن يأخذ زوجته
أمَّ الخير ويعود بها إلى قريته الأصلية، لكنها رفضت. لم تكُن
ياسمينة «معالي زايد» في هذا الفيلم
في العشرين من العمر بالطبع، مثلما بائعة اليانصيب عند نجيب محفوظ، ولم
تكُن ساذجة مثلها، بل هي مدفوعة، مع سبق الإصرار، من عشيقها أن تجعل
الفِراش يسرق المرتَّبات، ثُم أن تذهب إلى موقف السيارات، حيث سيأتي
الرجال لافتعال مشاجرة وسرقة الحقيبة، لكن الرجال يفشلون، وتسافر مع
الساعي إلى أبي قير، وقد اتضح مدى ما يحمله الرجل من ذكورة وكرم، فقد
أغدق عليها الصرف.
في الفيلم يبدو حيُّ أبي قير مزدحمًا عن مثيله في النَّص، فهناك فارق
واضح بين أبي قير الخمسينيات في فترة الربيع، وبين أبي قير في
الثمانينيات، ولذا فإن الأخطار تحوط بالرجل أكثر، ولكن هذه الأخطار لم
تتضح إلا بعد نشر صورة إبراهيم، ومن المفروض أن يكون العاشق قد قضى
ثلاثة أشهر في أبي قير.
ياسمينة امرأة مليئة بالأنوثة، سعت في الفيلم إلى إغواء إبراهيم،
لكنها لم تسعَ إلى الاستيلاء على نقوده في الأيام الأولى معه، وكان
حمودة هو الذي دفعها أن تفعل ذلك، بعد أن نفدت كمِّية كبيرة من النقود
المسروقة. وفي الفيلم فإن الفارق الكبير في السنِّ بين إبراهيم
وياسمينة غير ملحوظ، فهو قويُّ الذكورة، وهي بالغة الأنوثة. وفي الفيلم
يشتاط بالغيرة تجاهها «قوللي ياس إبراهيم، أنا حلوة قوي كده؟»
وفي الفيلم كانت هناك قصص موازية لرحلة إبراهيم مع عشيقته من أجل
التنوُّع الدرامي، مثل حكاية سمير الذي أغوى رئيسه على إرساء الممارسة
على عميل بعينه، وقصة زوجة مصطفى التي ستلد زوجته كما أشرنا، ثُم هناك
مشاعر غيرة تدبُّ لدى عزيزة تجاه ياسمينة، فكلٌّ منهما تحاول أن تحوز
الهجام بأيِّ سببٍ، وسط مزاعم عديدة من طرف حمودة أن ياسمينة ابنة عمه،
واختلاق مولد يتمُّ فيه التحرُّش مرَّة أخرى بإبراهيم، ثُم يقوم حمودة
بزيارة الفتاة، ويدَّعي أنه جاء لحماية شرف ابنة العمِّ نجيب المأذون، ويتعهد إبراهيم: «بحياة أمواتي
حالزم حدودي مع ابنة عمك.» هناك مشاهد مفتعلة، كأن يرفض النوم معها
باعتبار أنها محرمة عليه، فلما يزداد إغواؤها، يخلع ملابسه، وسرعان ما
يظهر الحزام الملفوف به النقود المسروقة.
يزداد الإغواء، فتدفعه إلى شرب المزيد من الخمر، ويفقد وعيه من
الإعياء والشراب. وفي الليلة التالية، يقوم بعمل تربسة للنوافذ
والأبواب، حتى لا تخرج، خاصةً بعد أن نشرت الصحف صورته، وتبدأ المواجهة
بين الاثنين، هي لا تعضُّ يده فقط، كما حدث في النصِّ الأدبيِّ، بل
إنها تعايره: «يا فرَّاش يا حرامي!» يُخرج لها سكينًا يهدِّدها به،
وتكسر هي زجاجة خمر تهدِّده بها: «قرب وشوف مين فينا اللي ح يقتل
الثاني، أنا عارفة قبل ما تسرق أنت مين. تقتلني، ح اقتلك.»
ويدور حوارٌ مليء بالكراهية والقسوة، تخبره أنها، «مستحملاك»، من أجل
نقوده «احنا مجرمين زي بعض»، ثُم تقول له من جديد: «طلع الفلوس يا
حرامي، يا فرَّاش.» تضربه بالكرسي، فيسقط مغشيًّا عليه، وتحاول أخذ
الحزام، ثُم تهرب وتجري في الشوارع كي تلحق بحمودة لتعطيه النقود، لا
لتأخذها لنفسها، ويحدُث قطعٌ لنرى حفل زفاف عزيزة وحمودة، وما إن يدخل
العروسان إلى شقَّة عزيزة، حتى تدخل ياسمينة وتُصدم لما تراه، «جبت
الفلوس معايا، تعالي نهرب»، فيأخذ النقود، وتدور معركة بين المرأتين،
بينما هو يجلس على المقعد يعُدُّ الرِّزَم الثلاث ورقةً وراء
أخرى.
المشهد قبل الأخير في الفيلم، تنقلب السيارة بالعروسين، وتسرع
ياسمينة إلى قسم الشُّرطة تعلن: «أنا اللي قتلت إبراهيم.» ويبلغها ضابط
الشرطة أن إبراهيم لم يمُت، فتردِّد في أسًى وهي تبكي: «أنا السبب في
كل حاجة، انضحك عليا.»
في قسم الشُّرطة يجلس إبراهيم فوق الدكة، وقد أصابه حالة من الندم،
يتوجه في البداية إليها: «دا جزاء إني حبيتك.» ثُم يرفع رأسه إلى
السماء، ويعلن ندمه بادئًا بقوله: «ليه انكتب عليَّ أعشق مجرمة؟»
ويبتهل وهو يبكي طالبًا الغفران والسماح من الله عز وجل: «الدنيا ما
لهاش أمان.» ويظل يبكي وهو يبتهل إلى الله.