التوت والنبوت
«التوت والنبوت» هي الحكاية
العاشرة والأخيرة من ملحمة الحرافيش، كما أنها الملحمة أو النصُّ
الأدبيُّ الأقصر مساحةً من حيث عدد الصفحات، ضمن الحكايات كلها، بعد
الحكاية التاسعة المعنونة «سارق
النعمة».
يبدأ النصُّ بالحديث عن وفاة الفتوَّة السابق فتح الباب، ولم يبقَ من صفوة ذرية الناجي إلا الناجي، إنه شخص ينتمي إلى الفقر وأُسرة موصومة
بالدعارة والإجرام والجنون، وقرر أن يمضي حياته وحيدًا، لكنه تزوج من
امرأة فقيرة، وكان قد تجاوز الخمسين، فأنجبت له الصبيان الثلاثة، أبطال
النص.
الفيلم لن يشير بالطبع إلى هذه الجذور.
فالأمُّ حليمة هي صورة مشابهة
للأمِّ في «بداية ونهاية» رغم أنها
من سلالة الناجي، تنتقل مع أولادها إلى بدروم مكوَّن من حجرة ودهليز،
ثُم تعمل في تجارة المخلَّل، وتُدخل أبناءها الكُتَّاب، ثُم يبدأ كلٌّ
منهم مواجهة الحياة، ففائز بسوق
الكارو، وضياء شيال في محلِّ
النحاس.
فائز ساخط دومًا، يرى أنه خادم حمار، وأن أمَّه خادمة أوغاد، أمَّا
الابن الأصغر عاشور فيعمل صبيًّا
لغنام بسوق الماعز، تسأله أمُّه أن يتزوج عندما يبلغ العشرين، فيسألها
الانتظار، وعاشور في هذا الفيلم هو الابن الأكبر للأُسرة.
نحن إذَن أمام ثلاثة محاور للأبناء الثلاثة، فالابن فائز يختفي فجأةً
بعد أن أخذ الكارو معه، وسخر حسونة
السبع الفتوَّة الجديد من السرقة، وهو أفظع الفتوَّات الذين
أذلُّوا الحارة، وقد قام بصفع الأمِّ لأنها تأخرت في إحضار صفيحة
مفتقة، ولم تبلغ الأمُّ الأبناء بما حدث، لكن ضياء عرف من أحد الأشخاص،
فأبلغ أخوَيه اللذين تكتَّما الغيظ، واستقرَّت الإهانة في الأعماق،
خاصةً عاشور الذي تخدمه أمُّه «تظاهر بالجبن فهو أرحم، إنه قويُّ
الجثمان، لم يستعمل قوته إلا في المثابرة والصبر، غضب، لكنه لم يتهور،
فهو يعرف القوة الغشوم التي أمامه».
في الرواية لم يغادر الكاتب الحارة، بينما في الفيلم سوف نرى تفاصيل
الحياة التي عاشها فائز، إلى أن عاد محمَّلًا بالثروة والمال، يمنح
للفتوَّة صرَّة، ويقول أن الكارو قد سُرق أثناء نومه، وها هو يدفع
ثمنها، لكن الثمن يأخذه أيضًا الفتوَّة، وتتغير حياة الأُسرة، ويحكي
على لسانه، وليس لسان الكاتب، حكايته مع الخواجة الذي عمل عنده، وأنه
ربح ورقة يانصيب.
قرر فائز أن تعود لأُسرة الناجي مكانتها من خلال الوجاهة وليس
الفتوَنة، وتحسنت أحوال الأُسرة، ومن الواضح أن قصة الحبِّ التي تمَّت
بين عاشور والفتاة ابنة الميسورين تختلف بين الفيلم والرواية؛ فهي في
الفيلم غير موجودة، وأنه أنقذها من بين رجال، وصارت بينهما مقابلات في
الخلاء. وفي النصِّ الأدبيِّ اختارت الأمُّ لولديها عروسَين، لم يرضَ
عاشور عن عروسه، وقد أثار فسخ خِطبة ضياء عاصفةً من السخط داخل الحارة؛
مما يجعل الفتوَّة يسبُّ عاشور: «إنكم أندال يا آل الناجي.» ويبلغه
بفسخ خِطبته هو أيضًا على عروسه، ففرح بذلك في أعماقه، وهي تفاصيل غير
موجودة في الرواية، وقد امتنع عن الزواج شاعرًا بأن إهانة الفتوَّة
الشيطان لا تُمسح.
في الفقرة «١٩» يحكي الكاتب أن الشقيقين، ضياء وعاشور، أُعجبا
بفتاتَين من أعرق الأُسر، فخطب ضياء ابنة صاحب وكالة الخشب، أمَّا
عاشور فخطب كريمة أكبر عطار في الحارة.
يبدو نجيب محفوظ أقرب إلى الكاتب
المسرحيِّ في هذه الرواية، لا يغادر الحارة مع أبطاله، ففائز قد غاب
وعاد غنيًّا، ثُم نعرف بعض تفاصيل ثرائه، ثُم هو يغيب ويعود مصدومًا،
لا يبوح بما حدث، إنه مصاب، ومعه خنجر دامٍ، وسرعان ما يموت. وعندما
تأتي الشُّرطة يدور التحقيق، وتعلن النتائج أنه انتحر لأسبابٍ مجهولة،
ويظل البحث جاريًا، وتتعدَّد التكهنات، وتمضي حياة الأُسرة كئيبة،
ويتأجل زواج عاشور وأخيه.
وعندما يأتي شيخ الحارة مع رجال السلطة إلى الدار يسحبون كل ما كان
يمتلك من وثائق، ويكون مصير الأُسرة الفقر من جديد، فقد ارتكب فائز
العديد من الجرائم، ويحكي الكاتب باختصارٍ شديد أن أهل الحارة وصلتهم
الأخبار أن فائز استثمر أمواله في الدعارة والقمار والمخدرات، وكان
يقامر بثرواتٍ خيالية، وأنه كان يقتل غريمه حين يخسر، ثُم يستولي على
نقوده، وأنه خسر أمواله جميعًا في آخر مقامرة، فقامر بأملاكه في شكل
عَقد بيع صوري، وخسر فانتحر. وهذه الحقائق المذكورة في سطورٍ قليلة
حوَّلها السيناريو إلى مساحاتٍ درامية، فرأينا كيف قام فائز بضرب
عشيقته الراقصة، وكيف اتفقت مع أحد المقامرين أن يكشف كيف يغشُّ فائز
في اللعب حتى خسر كل ما لديه تمامًا.
ما حدث كان بمثابة سبب قويٍّ لإذلال الأُسرة، خاصةً من الفتوة،
وسرعان ما فشلت الخِطبة الثانية. وقد بدا النصُّ السينمائيُّ مختلفًا
تمامًا عمَّا في النصِّ الأدبيِّ، فليست هناك زوجة لضياء أتى بها إلى
المنزل وعذَّبها، وهي من أُسرة نبيلة كما سنرى، وليست هناك علاقة حبٍّ
وزواج لعاشور، فبعد أن انهارت الأحوال المادية، عقب انتحار فائز، فإن
الأُسرة تختار السكن في المقابر والعمل هناك، وعاشور يعمل بائعًا
سريحًا في سوق الدرَّاسة، ثُم هو ينضمُّ إلى فقراء الحرافيش، ويتحدث
عاشور عن القوة، باعتبارها سرَّ سعادة الحارة، ويحثُّ الحرافيش على حمل
النبابيت، وقد غاب ضياء ليعود مرَّةً أخرى، ليعلن أنه مدير أكبر فندق
ببولاق، وأن الأمر مختلف عن غياب فائز، إنه يحلم بعودة الجاه إلى
الأُسرة، وأن يرجعوا إلى الحارة من جديد، فقد تزوج ضياء من امرأة لديها
المال، لكن عاشور يرفض العودة إلى الحارة.
يعود عاشور ذات يوم إلى الحارة، ويدخل المقهى، يقف أمام الفتوَّة،
ثُم يناوشه ويضربه، وقبل أن يتدخل أعوانه، تكون الحارة قد امتلأت
بالحرافيش ونبابيتهم، وينهالون ضربًا على رجال الفتوَّة، وترجع
الفتوَّة إلى آل الناجي.
وحتى لا تتكرر قصة الظُّلم الطويل، يردِّد عاشور لشيخ الحارة: «أحبُّ
العدل أكتر مما أحبُّ الحرافيش، وأكتر مما أكره الأعيان.»
ويساوي بين الوجهاء والحرافيش، ويفرض على الأعيان إتاوات ثقيلة، حتى
ضاق كثيرون بحياتهم فهجروا الحارة إلى أحياء لا تعرف الفتوَنة، وجدَّد
الزاوية والسبيل، وأنشأ كتَّابًا جديدًا يتسع لأبناء الحرافيش، وعاد
ضياء، لكنه لم يلقَ تشجيعًا لأفكاره، فيعود إلى فندقه، ويتزوج عاشور من
بهية بنت عدلات الماشطة.
النصُّ السينمائيُّ يختلف كثيرًا عن الرواية، سواءً من حيث حضور
الأبطال، أو من حيث إضافة العديد من الشخصيات، خاصةً النساء، ابتداءً
من المرأة التي تزوجها عاشور، والراقصة نوسة التي عشقها فايز، ثُم زوجة ضياء.
الفيلم إذَن يعزف على ضرب العواطف تجاه النساء، ويمتلئ بثلاث حكايات
مع النسوة، ليست كلها قصص حُبٍّ أو رومانسية، سوى تلك التي ربطت بين
عاشور وزوجته، وهي كما أشرنا غير موجودة في الفيلم، لكنها مكتوبة بشكلٍ
جيد، وأعطت الفيلم جوًّا إنسانيًّا، وأكسبت عاشور إحساسًا بالقيمة، فهو
يبحث عن الفتوَنة من أجل استعادة زوجته التي سلبها منه الفتوَّة أكثر
من مرَّة، حين يفرض عليه أن يطلِّقها، وهي تعلن له أنها تحبُّه، لكنه
يمتثل إلى أوامر الفتوَّة، وحين تستبدُّ القوة بجسده، فإنه يذهب إلى
الفتوة، ويبدأ في مواجهته بكل شموخ، يصفعه بقوة، ثُم تبدأ المبارزة
النهائية بالنبوت، وهذه العلاقة العاطفية تقرِّب ما بين طبقتين، لكن
الزواج لا يتمُّ إلا عندما تصبح الأُسرة ميسورة، فالشابُّ ينقذ الفتاة
من موقف، يبدو فيه شهمًا وشجاعًا، ورغم الفارق بين الزوجين، فإنهما
يتزوجان، يبدو الزوج سعيدًا، وتتفانى المرأة في حياة زوجها وخدمته، ثُم
تتوسل إليه ألا يطلِّقها، ويقرر الفتوَّة أن يتزوج منها، وأن يضيفها
إلى زوجاته؛ مما يخلق الدافع الحقيقي أن يدخل عاشور عليه ليلة زفافه
منها ويقاتله.
أمَّا الأخ الثاني ضياء «محمود
الجندي»، فقد بدا مزدوج الشخصية، فهو ضعيف أمام الفتوَّة،
ويعوِّض ذلك في زوجته التي يسعى إلى أن يذلَّها أمام أُسرته، وأن تقوم
بخدمته، وهي ابنة النبلاء، ويصرُّ أنه الزوج الذي يجب طاعته بأيِّ ثمن،
حتى إذا انحطَّ الحال بالأُسرة مجدَّدًا، طلب منه الفتوَّة أن
يطلِّقها، ومن الشُّرفة تبدو الزوجة سعيدة، وهي تبصق على طليقها الذي
كم أذلَّها.
فايز الذي غادر الحارة وسرق العربة والحمار، وباعها، ثُم عمل في
مقهًى ليلي، يعيش قصة عشق مع الراقصة ليلى «منى
سعيد»، ويستبدُّ الغرور بفايز؛ فهو يضرب عشيقته ويصفعها،
رغم أنها صاحبة المكان، وهو يتصرف معها بقسوة وخسَّة، وعندما يصفعها
تقرر أن تنتقم منه، فهو يغشُّ في اللعب، لذا فإنها تكشف الحيلة إلى أحد
اللاعبين، وتبدأ حيلة فايز في التكشُّف، ويخسر النقود، إلى أن يقامر
باللعب على ممتلكاته، ويخسر كل شيء وسط نظرات الشماتة من الراقصة،
ويكون ذلك دافعًا أن ينتحر.
حسب النصِّ الأدبيِّ فإننا نعرف ذلك من خلال السرد، أمَّا في الفيلم
فإن نيازي مصطفى يكشف تفاصيل الحدوتة
إلى أن يعود الفقر مرَّةً أخرى للأُسرة.
وقد كتب جورج بطرس — نشرة
نادي سينما القاهرة ١٦ / ٦ / ١٩٨٦م —
أن نيازي مصطفى حوَّل الصراع إلى تراشقٍ لفظيٍّ وبالعصيِّ، فسطَّح
الفكرة وفشل في إبراز الرمز في صورة مرئية موحية، وإن كان قد نجح
تقنيًّا بالاشتراك مع المونتير في خلق إيقاع يتناسب مع الأحداث، إلا
أنه أخفق إخفاقًا ذريعًا في تقديم معنًى لتلك الأحداث، وفي إدانة
المجتمع البرجوازي الذي أفرز شخصية الفتوَّة، فخرج المتفرجون وهم لا
يعرفون ما المقصود بما رأوه.
النصُّ السينمائيُّ الذي قدَّمه نيازي مصطفى، وكتب له السيناريو
والحوار عصام الجمبلاطي الذي لم
يتعامل مع النصوص الأدبية، بدا كأنه مصنوع بشكلٍ خاصٍّ لمُخرج أفلام
حركة، وعلى كلٍّ فإنه لم يكُن يمكن قبول هذا العالم الجاف الحاد،
خصوصًا في سينما نيازي مصطفى، دون هذه التغيرات التي تمَّت، بصرف النظر
عن قيمة الفيلم.