أصدقاء الشيطان
«وهكذا اضطرَّ جلال إلى أن يخوض معركةً بعد معركة»، وهو الذي طالما أحبَّ الودَّ والتمس حُسن الصداقة، وقد تتبَّع محفوظ بطله إلى أن ناهز المراهقة، وآمن أن أمَّه كانت أعظم امرأة عرفتها الحارة، وقد أشركه أبوه في إدارة الفرن، وتركه أبوه يمارس سلطاته، فصلب عوده، ولم يبقَ له من ثروةٍ إلا الفرن.
وفي هذا الفصل يأتي ذكر قمر الذي يريد أن يتزوجها، فالأب السكِّير عقبة أمام ابنه في الزواج، وفي الفيلم مزج السيناريو بين عزيز الذي مات في نهاية الحكاية السادسة، وجعله هنا أبًا لقمر، لكن في الرواية فإن جلال ذهب لمقابلة عزيزة هانم، وطلب الزواج من حفيدتها، بينما أضاف الفيلم مشهدًا كوميديًّا؛ فالابن جلال الذي يودُّ الاقتران بابنة عزيز يطلب منه أثناء الصلاة في المسجد أن يمنحه ابنته، ويرفض الرجل بسبب سيرة عبده، لكن إلحاح جلال وحديثه ألَّا يؤاخذه بأبيه يجعله يوافق، وقبل أن يصافحه ويقرأ معه الفاتحة في الطريق يظهر الأب ويفسد ظهوره الاتفاق الوشيك.
سوف يوافق عزيز أفندي على هذه الزيجة عندما سوف يتستَّر عليه جلال في كشف حسابات الوقف، ونحسُّ أن عزيز هذا فاسد، ومقابل الموافقة فإن جلال سوف يسكت عن حساباته.
في الفصل «١٩» تعيش قمر مع أمِّها ألفت هانم، وجدتها عزيزة هانم، ونعرف أن عزيز قد مات، وتعلن قمر أنها لن تتزوج، وقد أصاب المرض الجدَّة وماتت، وبعد ستة أشهر من الحداد تمَّت الموافقة على الخِطبة (كل هذه التفاصيل اختُصرت في الفيلم ووُضع لها بديلًا)، وألحَّ جلال لعَقد القِران، سمعها تقول: «الحب يصنع المعجزات.» ودار حديث بين ألفت وعبده نقله الفيلم على أنه بين عزيز والفران.
بدأ نجيب محفوظ بالحديث عن القدرات الخارقة لبطله في الفصل «٢٥» شعر جلال بأن كائنًا خرافيًّا يحلُّ في جسده، إنه يملك حواسَّ جديدة، ويرى عالمًا غريبًا، وقد أسهب الكاتب في وصف هذا الجانب من بطله، وانطلق إلى المزيد من التساؤلات حول المطلق والكون أسوةً بما فعل الكثيرون من أبطال محفوظ في كافَّة رواياته، ويزيد الحديث عن الموت، كل هذا حدث بعد أن أصاب المرض حبيبته، فأسلمت الروح.
وقد اكتست هذه الشخصية، التي هي في أحد جوانبها فتوة الحارة، بفلسفة عميقة ووجهة نظر، فجلال يردِّد قائلًا لشيخ الحارة: «أجد ما لا أبحث عنه، وأبحث عمَّا لا أجد.» وصارت له خلوته، وقد تقلَّصت هذه الفلسفة كثيرًا في الرواية مقابل المعارك والصراعات، ومن المهمِّ اقتباس بعض مما تردَّد على لسان البطل في الرواية: «نحن خالدون ولا نموت إلا بالخيانة والضعف، أنا خالد، وجدت ما أبحث عنه.» وقد امتدَّت هذه الرؤى عبر الفصول القصيرة جدًّا في الرواية.
في الرواية صار سمكة هو الفتوَّة، وصار يأخذ الإتاوة، وفي الفيلم كذلك، وسرعان ما نشبت المشاجرة الحاسمة بين الرجلين، كان جلال قوة خارقة، تهاوى سمكة مثل ثور ذبيح، لم يمُت في الفيلم، فقد بصره، ينتظر أن ينتقم من جلال في جولة تالية بالغدر، أمَّا جلال فقد صار إلى الفتوَنة التي رجعت إلى عائلة الناجي.
أخوه راضي هو صديقه الوحيد في الرواية، وفي الفيلم هناك شخصية سيد أحد أفراد الحرافيش. أمَّا في الفيلم، فقد يبدو جلال صلدًا، لكنه في أعماقه ليس ظالمًا، وليس طامعًا في أيِّ مال.
تتحول الحوارات بين جلال والعطار في الرواية إلى جدلٍ مشابهٍ مع زينات، فليست العلاقة في الفيلم قوية مع العطار، وزينات هي التي تحدِّثه عن الجان، أمَّا العطار فيقول: «مؤاخاة الجان، الخلود واللعنة الأبدية، التحام الإنسان بالشيطان إلى الأبد.» إذَن العطار هو الذي دلَّه على شاور في الرواية، أمَّا زينات فهي التي لعبت الدور في الفيلم، فيذهب إليه.
في الفيلم انطلق جلال إلى ما يشبه الغار، وليس إلى بيته، وأقام هناك شهرين فقط ليعود شخصًا مختلفًا مؤمنًا بخلوده، وفي الرواية وهب جلال كبرى عماراته للجارية حواء، أمَّا زينات فقد تلقَّت الأمر كأنه ضربة قاتلة، وهذا الأمر غير موجود، باعتبار أن الإقامة الجبرية قد تمَّت في بيته في الرواية، وفي الجبل في الفيلم، وفي أثناء غيابه ظهر فتوَّات جدُد.
في الرواية قضى جلال عامًا بأكمله في بيته منعزلًا عن الناس، وفي اليوم الأخير وقف عاريًا أمام نافذة مفتوحة، واستقبل شعاع شمس مغسولًا برطوبة الشتاء، واقتحمت زينات الحجرة، وطارت مجنونةً نحوه «كيف هنت عليك؟» يخبرها أنه كان مريضًا وشُفي، وكان أول مَن قابل هم أبيه وأخيه، وبعض رجاله، ثُم زار المئذنة، وفيما بعدُ قابل العطار، ثُم سعى لاسترداد عرشه كفتوَّة، وحقق ما يريد.
في الفيلم يقصُّ الفتوَّة لحيته عقب خروجه، ويستعيد عرشه، وينام مع زينات، ثُم يذهب إلى بيت شاور، فسيجده شخصًا مختلفًا، إنه خائف منه، لقد تعلَّم الخوف بعد أن منحه المال، ونعرف أن بينهما سرًّا، وينتهي اللقاء بأن يقوم جلال بقتل شاور الذي يعرف سرَّه مع الخلود.
في الرواية يتغير أسلوبه في الحياة، يأكل أكثر ويشرب أكثر، ويدخِّن بإفراط، ويستجيب لكل الغانيات، ويتحرر من سطوة زينات؛ مما أشعل الغيرة في قلبها، فصار جسمها ينحل ويذبل، واحتقن قلبها بالحبِّ والتعاسة. وفي الرواية أيضًا فإن الأب أقلع عن البوظة، ورزقه الله بطفلٍ أسماه خالد. وفي الفيلم أطلق الأب لحيته بعد عودة ابنه من المعزل.
أضاف الفيلم شخصية المأمور الذي يبحث في طلب جلال، فلم يذهب إليه وحده، وإنما معه رجاله، ولم يُدخل المأمور إلى مكتبه هذا الفتوَّة إلا بعد أن أطلق سراح سيد، وقد تمَّ استدعاء الفتوَّة بتهمة قتل شاور، وهذا القتل غير موجود في الرواية، ويخبر المأمور الفتوَّة أن الحكومة سترث العمارة التي كان يملكها شاور، إنها العمارة التي وهبها جلال إلى الحبشية، في الرواية، وفيما بعدُ تتمُّ الاتفاقات بين المأمور، بصفته ممثلًا للحكومة، وبين جلال؛ فالمأمور يطلب من جلال أن يكون الأمن راسخًا في الحارة، ويطالب نقودًا للحكومة، ويطلب جلال أن يتزوج من ابنة المأمور الذي يسوِّف الوقت لمدَّة شهر، إلا أن جلال يقول: «خير البرِّ عاجله.»
ويقترب موعد الزفاف، في الفيلم، فإن هذا الزفاف يثير غيرة زينات التي تدسُّ له السُّم، وهو الذي يؤمن تمامًا بأنه إنسان خالد لن يموت. أمَّا في الرواية فشخصية المأمور غير موجودة، وذات ليلة تذهب زينات إليه وقد كتمت أحزانها، فتقدِّم له الأقداح، فشرب كثيرًا، «وصار عاريًا تمامًا»، وأحسَّ بالظمأ للمزيد من الشرب، وبدأت آلام السُّم تسري فيه، صارت المرأة متوحشة، أصبحت قطعة من التحفُّز المشرَّب بالمرارة والحزن.
تردِّد: «إنه الموت يا حبيبي.» وتبلغه أنها جرَّعته من السُّم ما يكفي لقتل فيل، ثُم قالت له وهو يتساقط: «قتلتك لأقتل حياة العذاب.» فيقول: «الموت مات يا جاهلة.» ثُم تندفع هاربة مجنونة.
اختلف الفيلم عن الرواية ليكون أكثر رومانسية، فزينات لا تودُّه أن يتزوج من ابنة المأمور، وهو يُبلغها أن الزواج مصلحة، «القلب عمران بحبك أنت»، فتردِّد: «بيسموه قلب عشان بيتقلب»، وتذكِّره بأن قمر كانت تمسك بقلبه حتى لا يحبَّ غيرها.
يقول: «أنا مش ناوي أودع.» ينظر من النافذة إلى المدعوين، وقد ارتدوا أحسن ما لديهم: «الحارة زي ما تكون في عيد.»
وفي هذه النهاية فإن الأب يقوم بترحيل زوجته وابنه عن الحارة، متوقعًا حدوث شرٍّ، لم يُشر الفيلم إليه، بينما يبدأ جلال في الانهيار، ويردِّد أنه أخذ العهد من شاور، ولعلَّ هذا هو السرُّ المقصود بالخلود، ويقول: «التلميذ غلب أستاذه.» ثُم يسألها: «بطلتي تحبيني؟» فتجثو على قدميه: «باحب التراب اللي بتمشي عليه.» ويقع أكثر من مرَّة، ليس من السُّكْر، ولكن من وقع السُّم الذي لا يعترف به.
الاختلاف بين الفيلم والرواية أن زينات في الفيلم لديها ترياق يمكنها أن تشفيه لو أعلن عن عدم زفافه، أمَّا زينات الرواية فهي تبدو أقوى، لا تريده أن يتراجع، بل أن يموت «لو نمت عمرك ما حتصحى، إنت بتموت يا حبيبي، حطيت لك السم في المشروب.» ثُم تقول: «الموت بيطل من عينيك الحلوين.» أمَّا هو فبكل كبرياء وضعف يقول: «جلال ما يموتش أبدًا.»
تطلب منه أن يؤجل الزيجة، إلا أنه لا يصدق، يتقدم نحو الزفة وهو يتألم، ثُم يسقط في مياه الفسقية، وتصرخ المرأة في الرجال خاصةً عزيز والد قمر: «انتو اللي قتلتوه.»
وتعترف أنهم هم الذين منحوها السُّم كي تدسَّه في شرابه، أمَّا أبوه فإنه ينظر إلى جثمان ابنه، مرتديًا البدلة البيضاء، ويردِّد في حزن: «اللي مات في جلال جثته، أما أعماله الطيبة فباقية.»
وما يلبث العطار أن يموت مذبوحًا، وفي الخلفية تبدأ الصراعات على السلطة، حيث يدخل الفرقاء في مشاجرات قاتلة.
مثل هذه النهاية الدامية غير موجودة في الرواية، أمَّا الفصل الأخير «٧٠» فإن جلال قبل أن يموت قد تعثَّر بحوض الدواب، وراح يشرب بنهمٍ وجنون، ثُم صرخ صرخةً مدوية ممزقة بوحشية الألم.