قلب الليل
نُشرت رواية «قلب الليل» لأول مرَّة عام ١٩٧٥م، وهي مثل نصوص قليلة للكاتب تدور على لسان راوية، بينما لا يحدث هذا عادةً في السينما.
جعفر الراوي في الفيلم سيكرر نفس التجربة التي مرَّ بها أبوه، لكن قبل أن يحدُث ذلك، فإن الطفل الصغير ظلَّ يخشى جدَّه ويخاف مهابته، وعاش في القصر، وخضع للتعليمات؛ أن يتعلم القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، وأن يدرس في الأزهر، وأن يصبح الشيخ جعفر.
بدأت الرواية بشكلٍ مختلفٍ تمامًا، بدأت بعد أن مرَّ الزمن الطويل لصدمات الجدِّ الأكبر، وصار جعفر رجلًا عجوزًا شديد الفقر، يقابل الموظف المسئول عن الوقف، الذي سيصير صديقه، وهو الراوي الرئيسي. لقد وضع الزمن على وجه جعفر الراوي قناعًا قبيحًا، وهو يطلب حقَّه من الموظف في الوقف، فيكتشف أن وقف الراوي الضخم لن يئول إليه، وأنهم يمكنهم أن يصرفوا له إعانة شهرية تُقدَّر بخمس جنيهات، فيتحدث جعفر عن جدِّه أنه «مزيج من الخير والشر، يمارس سلطته ميتًا كما مارسها حيًّا، وها أنا أكافح في موته كما كافحت في حياته، وحتى الموت.»
في الفصل «٢» تتوطَّد الصداقة بين الراوي وبين العجوز جعفر، فالراوي سمع دومًا عن مغامرات جعفر وجنونه «هناك أيضًا ميلي إليه، رغم فظاعة منظره، ورثائي له في خاتمته السعيدة.» في هذه الخاتمة يبيت جعفر في الخرابة التي تبقَّت من بيت جدِّه القديم، رغم أن له أبناءً قضاةً وأبناءً مجرمين، ويعترف لرفيقه أنه حزمة من التناقضات.
إنها نهاية مأساوية للرجل؛ فالصِّبية يجرون وراءه وهو يتخبط في الشوارع. وفي الفصل «٣» يبدأ يحكي لموظف الأوقاف هذا عن ماضيه منذ طفولته، ليس عن طريق العودة إلى الماضي، ولكن بالحوار؛ فالرجلان يذهبان إلى الباب الأخضر، وهناك يبدأ الحكْي، وهي البداية التي صاغ منها السيناريو الفيلم «جعفر لا يذكر أباه جيدًا في الرواية، وفي الفيلم رأيناه صبيًّا مع أمِّه، وقد وصف جعفر كيف مات أبوه، لكن السيناريو أغفل هذه الحادثة. ويتحدث كيف علَّمته أمُّه أشياء عن الله والشيطان، والجن، والجنة، والنور، والموت».
وقد تحدَّث جعفر طويلًا عن العفاريت التي تختفي من حياة الفرد مع اختفاء عهد الأسطورة، وسرعان ما ينساها. إذَن فالرواية تمزج بين حاضر رجلٍ عجوز يتكلم إلى موظفٍ صغير عن ماضيه، أمَّا الفيلم فهو حكى منذ الماضي، حتى تصيب اللوثة جعفر بعد الخروج من السجن، متصورًا أنه جاء للبشر بهداية جديدة.
وفي الرواية تحدَّث جعفر أنه أحبَّ لأول مرَّة وهو في السادسة، حين ضبطته أمُّه في سحارة، وقد أنزل الغطاء عليهما «أؤكد لك أن الجنس لم يكُن عنصرًا طاغيًا في حياتي، ولكنه لعب دورًا حاسمًا في حينه.» وفي الرواية وصف جعفر كيف استيقظ وحده لأول مرَّة، وكانت أمُّه ميتة إلى جواره، ولم ينتبه إلى ما حدث، فصعد إلى السطح، ووصف حالة أمِّه إلى الجارة، وسرعان ما عرف أن أمَّه ذهبت إلى أبيه، وهذا المشهد تمَّ إلغاؤه تمامًا في الفيلم.
بدا الجدُّ نفس الرجل في الفيلم والرواية، متلفعًا بشملة مزركشة، طويل الوجه نحيله، أمَّا لحيته فبيضاء مسدلة على الرقبة، وتلامس أعلى الصدر، يقول له الصغير في الرواية: «أريد أن أرجع إلى أمي.» ويبدو الجدُّ في الرواية أكثر حنوًّا ورقَّة من الجدِّ في الفيلم، ويدور حديث بين الجدِّ والحفيد في الرواية أطول منه بكثير عن الفيلم؛ فهو يسأله مَن الذي خلقه، ومَن هو نبيه، كما يحدِّثه الطفل عن الجن.
سوف تستمرُّ الأحداث بمثابة حكْيٍ على لسان جعفر للراوية الأساسيِّ في «قلب الليل» وهو شكلٌ لم يكتبه محفوظ، ولا أحد آخر على مدى علمي في الأدب، يقول جعفر إنه دخل الأزهر وهو في طور المراهقة كأنه أمير سماوي، ليجد نفسه في بيئة شعبية أصيلة أنهكها الفقر والتقشُّف والأسى. وقد أبلغ جعفر جدَّه أنه سيهب حياته للدين، إلا أنه غير متحمِّس للوعظ أو للتدريس، كما أن شكرون سوف يغيِّر في حياة جعفر، فيغير له ملابسه، ويأخذه معه إلى بيوت العوالم من أجل أن يدفعه للغناء.
تتوازى الرواية والفيلم مجدَّدًا حين تلفت الراعية أنظار جعفر، فيقع في حبِّها، ويظل يتتبَّعها وهو يمشي إلى جوار الأغنام، ومعها أمها: «نظرت إلى عيني الفتاة فاقتحمني الجنون الكامل.»
يسأل الراوي جعفر: «هل كانت مروانة على قدرٍ كبيرٍ من الجمال؟» فيرُد: «المسألة نداء يصيب مفتاحًا كهربائيًّا.» ونكتشف أن جعفر قد أصابه داء الحكْي بهدف الالتماس لإعانة شهرية من وقف جدِّه، ثُم يستمرُّ في الحكْي عن حياته الزوجية مع مروانة: «كانت فاتنة بفطرتها كلسانٍ من اللهب، ومعتزَّة بنفسها.» وقد أسهب جعفر في وصف المرأة الفاتنة القوية، لكن هذه المرأة سرعان ما كشفت عن حيوانٍ قويٍّ، لا تحسن تنظيف الشقَّة ولا طهي الطعام، تمشي نصف عارية منتفشة الشَّعر، وفي الرواية هناك مفاجأة؛ فجعفر لم يكُن يعرف اسم أمِّه إلى أن تزوج مروانة، فلما التقى يومًا بجارةٍ لأمِّه أبلغته أن اسمها سكينة.
سرعان ما بدأت أحوال الحبِّ تتغير، حين انكشف الجانب القبيح من مروانة، وفي الفيلم قام جعفر بطرد حميه وحماته من المنزل، فانتظر الرجل الفرصة، وجاء إلى جعفر مع رجاله، وأجبره على أن يطلِّق ابنته، وكان الحوار في الرواية قد دار بين مروانة وزوجها على الانفصال، وبقيت مسألة حضانة الأولاد، ويقول الأب العجوز: «قد أقدِم على شرٍّ كبير إذا رأيتك في ضوء الشمس.»
يعترف جعفر بعد الطلاق وانغماسه في تخت شكرون: «مع وجود مروانة والأولاد كان ثمة حياة متكاملة أيًّا تكُن.» فخلع ثوب الشيخ، وكان عليه أن يعيد النظر في حياته.
في نهاية الفصل «٦» يظهر الراوية مرَّة أخرى، ليطلب من جعفر أن يحدِّثه عن الحقيقة والحرية والمأساة، فيردُّ في سخرية: «إنك في الواقع تخاطب إنسانًا لم يبقَ منه إلا الخرابة التي تجالسك الآن، لقد مات، لقد دفنت أكثر من شخص عاشوا في جسدي متتابعين.»
هذا الحوار بالطبع لم نسمعه في الفيلم، لكن جعفر الراوي يحكي عن أفكاره في هذا الشأن، فيرى أن الحرية مغامرة نمارسها أحيانًا كمتعةٍ للغرائز: «إنها عبودية متنكرة في لباسٍ حُر، الحرية الحقيقية وعي بالعقل ورسالته.» ولا شكَّ أن السيناريو السينمائيَّ يختصر مثل هذه التعريفات، فمتفرِّج السينما يختلف عن قارئ الرواية، وقد امتلأت صفحات الرواية بقناعات جعفر النوري في مسائل فلسفية خاصة به، قد تعبِّر أو لا تعبِّر عن رأي المؤلِّف نفسه.
في الرواية هناك إشارة إلى أن شكرون كان يوصل النفقة الشرعية إلى أمِّ مروانة، أمَّا الفيلم فقد تجاهل تمامًا أن جعفر طلب حضانة ابنه الأكبر، لكنه تبيَّن أن مروانة تزوجت في الفيلم والرواية، اتجه جعفر إلى ممارسة القانون، وبدأ يدافع في القضايا السياسية، تقول له زوجته: «في السياسة يجد العقل نفسه في محنة.» أمَّا هو فيرى أن السياسة عالم رحيب، ويرى أن في الشيوعية عدالةً كاملةً تجد المذاهب البشرية في مناخها تفتُّحها وازدهارها، وهي آراء لم ترِد في الفيلم، لدرجة أنه يقول: «خطر لي ذات مرَّة أنه توجد أوجه شبهٍ بين حياة النبيِّ وحياتي.» وكان تبريره في ذلك أن أباه تُوفي وهو دون الوعي، وتُوفيت أمُّه وهو لم يجاوز الخامسة، ثُم كان خروجه من قصر جدِّه نوعًا من الهجرة.
إلا أن الشخصيات نفسها موجودة في الرواية والفيلم، مثل شخصية المحامي سعد، والكتاب الذي عكف على تأليفه حيث يدعو في الرواية إلى نظامٍ اجتماعيٍّ شيوعي، أمَّا في الفيلم فيدعو إلى العدالة الاجتماعية، وذلك بعد أن قرأ الكثير من الكتب في الاجتماع والفلسفة والسياسة.
وفي الصفحات الأخيرة من الرواية، يتحول الحوار إلى الفلسفة الاجتماعية والسياسية، وتبعًا للخلاف في وجهات النظر فإن احتدادًا يمتلك المحامي سعد، فيلطمه ويشتبك معه ويقتله بقطاعة الورق، يردِّد جعفر في الفيلم حول سعد أنه حقير، تافه، حقود، ويردِّد: إن النظرية التي يؤمن بها تقوم على إيحاء المركَّب الموضوعيِّ الذي تتلاقى عنده الحتمية التاريخية والحتمية البيولوجية؛ لتتولد حرية الإنسان.
في الفيلم تبدو آراء جعفر أقرب إلى الهلوسة أو الجنون، لكنها في الرواية هي رؤًى وقراءات للبطل، ويهتف: «يا عقلي المقدَّس، لماذا تخلَّيت عني؟» وأثناء هذه الأحداث فإن الجدَّ يموت دون أن يذكر الحفيد في الوصية، ويتحول قصره إلى الوقف، وأثناء السجن فإن زوجته هدى تموت، ويؤلف كتابًا جديدًا، أمَّا ابنه فقد هاجر إلى إسطنبول.
خرج جعفر من السجن في الفيلم كي يواصل مجد رسالته وفلسفته، ونراه في عصرنا الحديث، فوق كوبري ٦ أكتوبر، وناحية ميدان رمسيس يردِّد: «أنا في الأصل هابط من السماء، أنا المستهين الوحيد في الحياة، والحياة لا تحترم إلا من يستهين بها.» وفوق الكوبري تتوقف سيارة شكرون، ويحاول إحضاره، لكن جعفر يردِّد كالمجانين: «جدِّي وهب ثروته إلى الحسين، فهل أنا أغنى من الحسين؟»
أمَّا في الرواية فإن جعفر بعد خروجه من السجن يبحث عن حقِّه في الوقوف، يبحث عن شكرون فلا يجده، ولا يصادف أحدًا يعرفه، فراح يبحث عن بيت زوجته، وتوجه إلى عُشش الترجمان، فوجد العمران قد اجتاحها، يتساءل: «أين أبناء مروانة وأين أبناء هدى؟» أمَّا وقف الراوي فقد صار خرابة مترامية، وأكوامًا من النفايات، ونفرًا من الصعاليك. يقول للراوية في الصفحة الأخيرة: «إنك تخاطب عظيمًا من الرجال.» ومن أسباب عظمته السحرية أنه قادر على التكيُّف مع أقسى الظروف والأحوال، فيخوضها بكل تعالٍ وابتسام، ثُم يقرر التخلي وسط ظروفه عن كتابة الالتماس لصرف حقِّه في الوقف «حرمني الراوي من تَرِكته، وإني أرفض أن أتسوَّل منها مليمًا واحدًا.»
أصاب الجنون إذَن جعفر في نهاية الفيلم، أمَّا في الرواية فهو قادر على استيعاب كل ماضيه وسيرة حياته، يحكيها بشكل سرديٍّ تقليدي، يتعامل مع نفسه على أنه صعلوك متجوِّل، وهناك فرق بين الصعاليك والمجانين، يغادر خرابة الراوي كي يهيم على وجهه في الطرقات، في كل مكان له ذكرى ونجوى، ويهمس في النهاية للراوية: لتمتلئ الحياة بالجنون المقدَّس حتى النفس الأخير.