ليل وخونة
مثلما فعل مصطفى محرم في رواية
«الطريق» عندما حوَّلها إلى فيلم
«وصمة عار» بأن غيَّر كافَّة معالم
الرواية، فإن أحمد صالح فعل الشيء
نفسه وهو يكتب سيناريو فيلم «ليل
وخونة» إخراج أشرف فهمي
أيضًا، ومثلما فعل من قبلُ في «الشريد» لنفس المُخرج؛ حيث غيَّر كل ما هو موجود في
النصِّ الروائي.
قام السيناريو بتغيير أسماء الأبطال، والفيلم نفسه، وأيضًا مصائر
هؤلاء الأبطال، وإذا كان نجيب محفوظ
قد بدأ روايته بخروج بطله من السجن، بعد أن قضى مدَّة عقوبته، فإن
أحداث الفيلم الذي أخرجه كمال الشيخ
بدأت قبل ذلك بفترةٍ طويلة، وفي الرواية لعلَّها من المرَّات القليلة
التي يقسم فيها الكاتب رواية له إلى فصول، سواءً في مرحلته السابقة أو
هذه المرحلة الجديدة التي بدأت عام ١٩٦١م، فهذا هو اللصُّ يتنفس نسمة
الحرية، وهو يتوعد كل الخصوم الذين خانوه، ويردِّد: أنا راجع لكم يا
كلاب. مثلما ردَّد سعيد مهران في
الراوية: «سأنقضُّ في الوقت المناسب كالقدر.» هؤلاء الكلاب الذين
يقصدهم هم زوجته سنية، وزميله اللصُّ
شقرون «صلاح السعدني»، لصُّ المنازل،
وهو رجل أميٌّ، قام بالإبلاغ عن صلاح
سليمان، فتمَّ القبض عليه، ثُم تزوج من سنية، التي تواطأت
معه ضدَّ زوجها، وطلبت الطلاق أثناء فترة سجنه.
الأحداث تدور هنا في العِقد التاسع من القرن العشرين، وكان الانفتاح
الاقتصاديُّ على أشدِّه؛ حيث تحوَّل لصوص الأمس، مثل فيلم «أهل القمة»، إلى أثرياء صغار في
الثمانينيَّات؛ لذا تحوَّل شقرون، وهو اسم أحد أبطال رواية «قلب الليل»، إلى صاحب سوبر ماركت، يبيع
البضائع المستوردة، أو التي تمَّ تهريبها من الخارج دون أن يدفع
أصحابها أيَّ جمارك. ولا شك أن أحمد صالح هنا قد اختار أسماءً لأبطاله
ذوات دلالة؛ فقد احتفظ باسم البطل الحقيقي لرواية «محمود أمين سليمان» مقرونًا باسم البطل
صلاح محمود سليمان.
وقد أضاف السيناريو شخصية المحامي محسب «محمود
يس»، الذي يعمل في القضايا المشبوهة، وينادي بالمساواة في
القانون، وفي نفس الوقت يدافع عن الخارجين عن القانون، بصور متعددة من
الخروج عن القانون. هذا المحامي يهدف إلى الربح السريع مثل أغلب البشر
من حوله، وحين يذهب إليه صلاح فإنه يبدأ في تعليمه كيف يحقِّق الربح
السريع، وذلك من خلال تعريف صلاح بأسماء الأثرياء اللُّصوص الذين
يستحقون أن تُسرق أموالهم، وهو يساعده في تدبير عمليات السرقة والتخطيط
ثُم التنفيذ، وقد قام السيناريو بإضافة شخصية المحامي محسب، أو فلنقُل
بإعادة الشخصية إلى الواقع، باعتبار أن محمود أمين سليمان كان يشكُّ في
أن هناك علاقة ما بين زوجته نوال
ومحامي، وأنه حاول أن يقتله.
إذَن صار هناك في الفيلم أكثر من شخصية في محيط صلاح محمود سليمان؛
الأول هو المحامي، والثاني هو الصحفيُّ الذي يدافع عن كل مَن يدفع له،
والرجلان يتكاتفان لتشويه صورة صلاح أمام الرأي العام، بالإضافة إلى
شقرون.
محسب «محمود يس» هو الذي يعلِّم صلاح كيف يكون لصًّا، وليس الصحفيَّ
مثلما في الرواية والفيلم الأول، وهو الذي ينقلب عليه بعد ذلك، يبدأ
محسب بدفعه إلى سرقة مجوهرات خزينة إحدى العميلات، وبها الكثير من
الأسماء المهمَّة التي تتعامل مع شركات توظيف الأموال، وتتطور الأمور
التي يمارسها صلاح من خلال المحامي بمساومة صاحب شركة الأموال لدفع
عدَّة ملايين من الدولارات مقابل إعادة هذه الكشوف إليه، كما تتعدد
العمليات القذرة التي يمارسها محسب، ومنها قبول الدفاع عن امرأة
اتُّهمت بتهريب الهيروين في حالة تلبُّس.
إذَن لقد أضاف أحمد صالح شخصيةً غير موجودة في النصِّ الأساسيِّ، ولا
شكَّ أنه شاهد الفيلم الأول، وسعى أن يكون فيلمه «ليل وخونة» مختلفًا تمامًا من المصدر، فهذا المحامي هو
قمَّة في الخسَّة والنذالة والوضاعة، لا منفذ منه إلى أيِّ خير، وهذه
هي سمات الكثير من الفقراء في السينما المصرية في تلك الحقبة من الزمن.
وقد صور الفيلم المحامي باعتبار أنه قام بتدريب صلاح، وذلك قبل أن
يتزوج، وقبل أن تعشق زوجته صبيَّه شقرون، وعندما يتمرَّد صلاح على
صانعه فإن هذا الأخير يتعاون مع شقرون من أجل أن يشي بصلاح، وإدخاله
السجن كي يقضي هناك سبع سنوات، يتزوج خلالها شقرون من سنية «صفية العمري».
أيْ إن الأحداث اختلفت تمامًا عن النصِّ الأصلي، بل إنه جعل
قمر، الشخصية المعادلة لنور التي جسَّدتها شهيرة، كانت صديقة لشقرون، ومع الزمن تحولت إلى عاهرة من
عاهرات الانفتاح، ليست فقيرة معدمة مثل نور، بل هي تمتلك الآن عوَّامة
وسيارة مرسيدس، وكذلك شقرون صار من كبار رجال الأعمال.
ليس في الفيلم ذلك المشهد الذي يطلب فيه اللصُّ الخارج من السجن
الكتب، بعد أن أنكرته ابنته، وقد غير السيناريو الكثير من الوقائع؛ حيث
استطاع صلاح سليمان أن يقتل مساعده السابق، وهو الذي لم يستطع أن يفعله
صِنوه سعيد مهران بقتل عليش، ويأتي الدور على سنية، فيسعى إلى قتلها،
ويطاردها في أكثر من مكانٍ وزمان، لكنه يسقط قتيلًا في اللحظة التي
تناديه ابنته ﺑ «بابا»، وهو النداء الذي حُرم منه سعيد مهران طوال
حياته.
إذَن لقد قتل السيناريو اللصَّ الساعي إلى الانتقام من كل مَن خانوه،
مثلما مات في فيلم كمال الشيخ، بينما قام سعيد مهران بتسليم نفسه في
الرواية، وفي المشهد الأخير من فيلم «اللص
والكلاب» حمل جثمان سعيد إلى عربة الإسعاف، وفي فيلم أشرف
فهمي وضع الشيخ الجنيدي، الذي تقلص
دوره هنا، أوراق الصحف فوق جثمان صلاح محمود سليمان، إنها الجرائد
نفسها التي كتب فيها الصحفيُّ عبده
المقالات المغالية في حالة السفاح، كما أن الفيلم قلَّص دور قمر،
وجعلها فتاة ليل تناسب عصر الانفتاح، حيث يراها صلاح في سيارتها
المرسيدس، في مكانٍ مهجور، وهي في حالة جنس مع أحد الموظفين الكبار،
إنها عاهرة العِقد التاسع من القرن الماشي، التي تردِّد لصلاح: «دي
عربيتي، السرقة دي سكتك أنت، نسوان الشوارع بيركبوا المرسيدس، مش فيه
انفتاح في البلد.»
أيْ إن صلاح سليمان مختلف تمامًا عن سعيد مهران، فهذا الأخير لصٌّ
مثقَّف، قارئٌ تربَّى على أيدي رءوف
علوان، وفي السجن لم يكُن يكفُّ عن التردُّد على المكتبة،
أمَّا صلاح فهو ابن عصر انتبذ فيه الناس القراءة، وبدا اللصُّ هنا مجرد
لصٍّ، تمَّ تعبئة أفكاره بالفساد الذي حشاه به المحامي محسب.
وقد كتب حليم ذكري مليكة في نشرة
نادي سينما القاهرة — ١٩ مارس عام ١٩٩٠م — عن شخصية سنية أن أحمد صالح
قدَّمها «كنوعية جديدة من الزوجة المصرية»، نوعية أخرى من إفراز
الانفتاح، امرأة قوية متسلطة ومتطلعة إلى أعلى، وبذلك يبرر سبب
خيانتها، لا تقف مطالبها عند حدٍّ، فالمال بالنسبة لها هو كل شيء في
الوجود، بالرغم من أنها من طبقة متدنية، فقد كانت تعمل كخادمة، وعندما
تتضخم ثورة محسب المحامي على حساب زوجها الذي يعمل لحسابه، تتمرَّد على
زوجها وتطالبه بوضع حدٍّ لهذا الاستغلال «يا راجل ده أنا مرة ولي حقوق
عليك.» ويبدأ شقرون في زرع أول بذرة للخيانة للتقرُّب منها عقب إحدى
ثورات تمرُّدها على زوجها «الحاجات الغالية ما تترميش كده.»
وقد أعطى السيناريو لسنية مساحة درامية أكبر من نبوية، زوجة سعيد
مهران، في الوقت الذي انكمش فيه دور العاهرة، كما سبقت الإشارة.
ومن بين الإضافات العديدة في الفيلم مشهد محاولة صلاح أن يقتل زوجته
السابقة سنية؛ فهو يرتدي زِيَّ الضابط، ويصل إلى شقَّة شقرون وسنية،
هناك يصوب مسدَّسه نحوها، بعد أن فتح باب الشقَّة، لكنه يرى ابنته في
أحضان أمِّها فوق السرير، إلا أنه يتراجع ويقرر الهروب من النافذة،
وعندما تأتي الشُّرطة وينزل إلى أسفل عن طريق المواسير، تطلق الشُّرطة
الرَّصاص عليه، ويسقط من أعلى كي يموت؛ أيْ إن صلاح لم يقاوم، ولم يطلق
الرصاص مثلما فعل سعيد مهران في كلٍّ من رواية نجيب محفوظ، وفيلم كمال
الشيخ.
كما أن السيناريو قام بتقليص دور الشيخ الذي كان صديقًا لوالد سعيد
مهران، والذي أقام عنده بضعة أيام بعد خروجه من السجن، وذلك قبل أن
ينتقل للإقامة في بيت نور، وهو الرجل الذي طلب منه أن يتوضَّأ (أيْ
يتطهر)، ويقرأ القرآن، كما أخبره أنه خرج من السجن الصغير إلى السجن
الكبير، وهو المدينة، أو الحياة، وقد قابل صلاح في «ليل وخونة» الشيخ مصادفةً عندما مرَّ من أمام
المسجد، فراح يطلب منه الغفران، النصُّ الأدبيُّ ثُم السينمائيُّ الأول
عمله من علاقة اللصِّ بالشيخ، أمَّا المرَّة الثانية والأخيرة في
الفيلم فهي أيضًا أقرب إلى المصادفة؛ حيث يظهر الشيخ في المشهد الأخير،
ويقوم بتغطية القتيل بورق الصُّحف التي ساعدت بدورها في قتل
صلاح.
وقد حوَّل السيناريو اللقاء الذي تمَّ بين اللصِّ وأستاذه إلى معالجة
مختلفة، فقد منح رءوف تلميذه اللصَّ عشرة جنيهات، ثُم قام سعيد بالعودة
إلى بيت الرجل كي يسرقه، أمَّا في فيلم «ليل
وخونة» فإن حوارًا يتمُّ بين صلاح واللصِّ الكبير المحامي
محسب الذي حقَّق الكثير من الثروات بشكلٍ غير شرعيٍّ، وذلك قبل أن
يسجن، حيث يطالب صلاح بنصيبه من عملية سرقة كشوف البركة، ويطالب بحقِّه
«مليون جنيه»، إلا أن محسب يعرض عليه ثلاثين ألف جنيه فقط. ثُم يطلب من
شقرون أن يتخلص من صلاح ليأخذ مكانه عند المحامي، وعند زوجته.
قدَّم الفيلم منحنًى وطنيًّا وإنسانيًّا عن اللصِّ صلاح، ففي بداية
الفيلم نرى المُعاق سيد هو الذي ينتظر صلاح عند خروجه من السجن، إنه
الشخص الوحيد المخلص للص وسط جميع مَن يعرفونه، ونعرف أن صلاح قد اشترى
للمُعاق كشكًا بأمواله المسروقة، كي يبيع فيه الصحف، يرى الفيلم أن
اللصَّ أكثر حنوًّا على واحدٍ من الذين شاركوا في حرب أكتوبر من الدولة
نفسها، بينما الخونة قد صاروا هم أغنياء تلك الحقبة، وقد كشف الفيلم أن
هناك رجلين في حياة صلاح؛ الأول هو المُعاق سيد الذي يعرف مصدر أموال
الكشك، ثُم شقرون الذي سبق أن عرَّف المحامي على صلاح، وجعله تلميذًا
له.
في النصِّ الأدبيِّ بقي الصحفيُّ الفاسد يمارس مهنته، ويستفيد من
سقوط السفاح، وفي فيلم «ليل وخونة»
بقي أيضًا كلٌّ من المحامي والصحفيِّ، وكلاهما فاسدان.