سمارة الأمير
بدت منظومة نجيب محفوظ السينمائية
وقد اقتربت من دائرة الاكتمال بفيلم «سمارة
الأمير» لأحمد يحيى عام ١٩٩٢م، حيث رجع السينمائيون إلى
أغلب روايات الكاتب الصالحة لحواديت السينما، والغريب أن هذه السينما
قد تجاهلت تمامًا كافَّة الروايات والمجموعات القصصية التي نشرها في
الثمانينيات، باعتبار أن أغلبها يميل إلى التجريد والفلسفة، ومنها
روايات «أفراح القبة»، و«ليالي ألف ليلة»، و«الباقي من الزمن ساعة»، و«أمام
العرش»، و«رحلة ابن
فطومة»، و«العائش في
الحقيقة»، و«يوم مقتل
الزعيم»، و«حديث الصباح
والمساء»، و«قشتمر»،
وغيرها.
«سمارة الأمير» هي رواية قصيرة
جدًّا منشورة في مجموعة «الحب فوق هضبة
الهرم» تدور أحداثها في مدينة الإسكندرية التي كان يزورها
محفوظ صيفًا في تلك الآونة بشكل منتظم، وبطلة القصة جاءت من خارج
الإسكندرية، أسوةً بزهرة في
«ميرامار»، ويصفها الكاتب في بداية
النصِّ الأدبيِّ أنها ضئيلة جدًّا، تبدو مثل عصفورة حائرة في وثباتها
المتتابعة فوق ممشى الفسيفساء، تعمل في سراي عصمت باشا خورشيد منذ أن كانت في الثامنة؛ أيْ منذ سبعة
أعوام، مات أبوها ثُم أمُّها تباعًا، التصقت بالسرايا باعتبارها دنياها
الوحيدة، السراي موجودة بالإسكندرية، لها مكانة لدى الباشا، اسمها
شلبية، وقد ألفت الحياة الأنيقة التي
يعيشها الباشا وحرمه.
أمَّا الفيلم فيبدأ وعشيقها نائم معها فوق الفِراش، وسرعان ما يتمُّ
اكتشاف أمرها وطردها كي تذهب وتسكن مع «علي
جلال» فوق سطح أحد المنازل، وهو يطرح عليها سؤالًا: لماذا
استغنى الباشا عنك؟ «علي» هذا بدون وظيفة، ويبحث لها عن وظيفة، الأولى
خادمة لدى رضوان بيه، ثُم يعرضها على
الفرماوي، صاحب أكبر ملهًى ليليٍّ في
الإسكندرية، كي تصبح راقصة، ويتمُّ تغيير اسمها إلى سمارة، أمَّا الأمير فهو منسوب إلى الباشا صاحب
السرايا.
في الفصل «٢» تحدَّث الكاتب عن العلاقة العاطفية التي تمَّت بين
شلبية وعلي جلال، ويصفه المؤلِّف كرجلٍ غامضٍ وسيم، مقطبًا وباسمًا في
نفس الوقت. في لقائهما الأول في الحدائق ضمَّها إلى صدره، وغمرها
بقبلاتٍ شرهة. وقفت مستسلمةً لا تشارك ولا تقاوم، فصار فارس قلبها، في
الفيلم ضُبطا معًا يمارسان الفحشاء في سريرها، فطُردت، وفي الرواية
أخبرها أن من الخير أن تترك السراي، فهربت معه، وفي غرفته أحسَّت أنها
تنتمي إلى وطن، وأنها ست بيت، وعلي جلال أشبه بفرج في رواية «زقاق
المدق»، إنه يتعرف على البنات، ويدعوهن للهرب، ويعيش معهن
أيام عسل، قبل أن يحوِّلهن إلى راقصات أو بنات ليل، لا يتزوج، ولكنها
مهنته، وإن كان علي جلال أكثر ارتباطًا بهذا. بدا هذا في الرواية أكثر
مما في الفيلم، ودائمًا ما يذكِّرها الرجل أن هروبها أثار زوبعة في
السراي، وإن كان الماضي هذا لم يُذكر قطُّ في الفيلم.
قام الرجل بعرض المرأة على شخص قصير بدين اسمه مأمون الفرماوي، صاحب
ملهي «الفليردامور» بالشاطبي، الذي
سيدفعها إلى الرقص، وهنا يسير الفيلم موازيًا للرواية دون تغيُّر
ملحوظ، ويتمُّ إعدادها كي تصبح راقصة مع حلول الصيف، وأن تدريبها سوف
يتمُّ على يدَي امرأة خبيرة، وتمَّ التدريب وسط ظروف كانت تدفع علي
جلال أن يصفعها أحيانًا، وهذا لم يحدُث في الفيلم، ونعرف أن علي العاطل
انقطع عن التعليم بسبب الفقر واليتم، وعاش في الإصلاحية؛ لذا فهو يطمع
في حياةٍ بها أقل قدرٍ من الحرمان.
وفي الفصل «١٠» وصف محفوظ الملهى الصغير الأنيق، رقصت فيه سمارة مع
أول الربيع، وبدأ عدد الزبائن يزداد، وعليها ألَّا تنسى تحية الزبائن؛
لذا فإن السيناريو يتوازى مع النصِّ دون أيِّ إضافات، فكأنما كتب محفوظ
الرواية كسيناريو جاهز بحواره، وهو الخبير بذلك.
في الفيلم يظهر البريطاني فارلز في
الوقت نفسه الذي تتوطد علاقتها بأمين
تحت سمع وبصر عشيقها، الأول رجل لحمي، شاذ، مازوخي، والثاني رجل مهذب،
يعاني من مرض القلب؛ لذا فهو ينظر إليها من الجانب الرومانسي، وفي
الفيلم امتدت علاقة مروان أمين بها،
كي يطلبها إلى منزله، ويشجعها على أن تذهب، ويخبرها أن سمارة هي التي
تذهب، أمَّا شلبية فهي شيء آخر.
وفي رحاب مروان تظفر بحنان واحترام ومعاملة رفيعة ونقود وفيرة، فهو
أفضل من علي جلال، لذا يتعلق قلبها به، أمَّا علي فإن علاقتها به
تختلف؛ فهو الوحيد الذي يناديها شلبية، فتشعر بأنها ليست شخصًا آخر،
ومن خلال هذه العلاقة يشتري علي جلال شقَّة صغيرة في كامب شيزار بعمارة
جيدة، ويفكر في مشاركة الفرماوي في الملهى، وفي النصِّ الأدبيِّ نعرف
أنه كان يعمل خادمًا لدى الباشا، وليست هناك إشارة إلى ذلك في الفيلم،
وكانت سمارة كلما سألته الزواج أجابها أن هذا سوف يحدُث يومًا
ما.
مروان هذا مريض، يحتاج إلى جراحة سيجريها في الخارج، يبوح بمرضه لها
في الرواية، لكنه يخفي عنها مرضه في الفيلم، ولعلَّ هذا هو السبب في
أنه لم يلمسها، بل هو في الفيلم يخبرها أنه يبذل الكثير من الجهد في
عمله كصحفيٍّ، وهي في الفيلم تسأله وهي تعرض جسمها عليه «عاوزني والا
مش عاوزني؟»
نحن فقط كمشاهدين نعرف أنه مريض من خلال التحذير الذي يبلغه إياه
طبيبه الخاص، ويحذِّر من العلاقة الجنسية مع الراقصة، وهذا الطبيب يذهب
بنفسه إلى الملهى الليليِّ كي يمنع الجنس بين مريضه والراقصة، وتردِّد
له سمارة أنها نعمة يجب أن يحسَّ بها، والطبيب يدخل عليهما المنزل،
ويجدها تصرخ، فيخبرها أنه مات بسببها «كان مريضًا بالقلب».
وفي الرواية لم يمُت الصحفيُّ مروان، بل افترقا، وحزنت سمارة لفراقه.
وتمنت لو دام لها ليجنِّبها التورط في علاقة جديدة؛ لذا فإنها تدخل في
علاقة أخرى، إنه الإنجليزيُّ من سادة البورصة، في الستين من عمره، يشرب
كثيرًا، ونادرًا يسكر، يتردَّد على الملهى الليليِّ، أرمل وحيد، يحترمه
توبي ومساعده، جذبته سمارة، وأهداها
قرطًا ثمينًا، وفي مقصورته تتعرف على صديقه مهدي
باشا الذي سيظهر في الفيلم بشكلٍ مختلف، فعندما سيطلب منها
البريطاني أن تضربه بالكرباج فإنها تصرخ، ويكون مهدي باشا جلال هو
منقذها.
مهدي باشا طويل ضخم الهيكل، فضيُّ الشَّعر والشارب، له وقار نفَّاذ،
تشعر بالارتياح إليه من أول نظرة، يبلغها: «رقصك جميل مثل وجهك.» أيْ
إن هناك رجلين في حياة سمارة في الوقت نفسه في الرواية، لكن أحدهما
انتزعها من الآخر في الفيلم، ومهدي هذا في الفيلم هو جار لفارلز، ويعيش
وحيدًا مثله، لكنهما في الفيلم ليسا بصديقين.
في الراوية يأتي مهدي باشا إلى المقهى الليليِّ في غياب صديقه، ويدعو
سمارة على مقصورته، وهذا لم يحدُث في الفيلم، ويدعوها مهدي إلى بيته
فتذهب، أيْ إن مسألة المازوخية عند فارلز هي من ابتداع السيناريو، وفي
بيت العجوز يخبرها أنه أرمل منذ عشرين عامًا، وأنه واقعٌ في
غرامها.
في الرواية يقوم فارلز الغاضب باقتحام الشقَّة عليهما، واشتدَّ بينهم
الحوار، عجوزان يتناطحان من أجل امرأة، يتبادلان اللطمات، وعقب
المشاحنة تعانق سمارة صديقها العجوز، وتصير له وحده.
لن نتساءل تُرى أيُّ المعالجتين أفضل، لكن لا شكَّ أن السينما تبحث
عن إلصاق السلوك الشاذِّ ببعض أبطالها؛ فالإنجليزيُّ مازوخيٌّ، أمَّا
المصريُّ فهو طيب، لذا ففي الرواية تصير له وحده، وتتمنى أن يبقى إلى
جانبها حتى آخر العمر، ذلك الأب الذي جادت به عليها السماء.
سمارة الأمير هي امرأة قدرية Fatal،
أشبه بزهيرة في «شهد الملكة»، خاصةً في الفيلم، فمروان يموت،
والإنجليزيُّ يُفتضح أمره، أمَّا مهدي باشا في الفيلم فهو محامٍ كبير،
وهو رئيس حزب الشعب، وهي تأنس إليه، وتحكي له كل شيء عن حياتها، إنه
أقرب إلى مروان، وبعد المعركة بين العجوزين يقرر مهدي أن يمنحها نصيبًا
من تَرِكته، ويبلغ محاميه بذلك، وعقب وفاته ترث منه مالًا تتحسن به
ظروفها.
علي جلال موجود دومًا في الخلفية، يشاركها ويعضدها، ويأخذ النقود،
وهي دومًا في صعود اجتماعي، في الرواية يطلبها مهدي للزواج، ويقبلها،
تقول له: «أنت أجمل ما في حياتي.» وهو يحذِّرها من استغلال علي جلال،
وقد عاشت أسعد أيام حياتها مع مهدي، «لكن الحبَّ مهما بلغ من قوته
وصفاته لا يستطيع أن يدفع القدر»، لذا يتشابه موقف مهدي إزائها في
الفيلم والرواية.
الرجال يسألونها الزواج، وهي تتمنى الزواج من علي جلال الذي سوف
يغيِّر موقفه منها، وما إن تنتهي حياة مهدي حتى يظهر الرجل الرابع في
حياة سمارة الأمير، إنه عمرو عبد
القوي مفتش الضرائب، شابٌّ في الثلاثين، جادُّ المظهر قويُّ
الجسم، يهزُّ منظره المتهربين من أعماقهم، من الوهلة الأولى يلاحظ علي
جلال أنه ينظر إلى سمارة بإعجاب؛ لذا فإنه يدفع بها للتقرُّب إليه،
«نحن أصحاب المكان، وعلينا إكرام الضيف»، وتعرف أنه من رشيد مثلها، إنه
يقدس العمل مهما كانت الإغراءات، وبسبب الضرائب يُمنى الملهى بخسارة
فادحة، وهو يدعوها للعشاء في شقَّته المتواضعة بكامب شيزار.
مثلما أشرنا فمسار كلٍّ من الرواية والفيلم يتوازيان بما يشبه
التقارب الشديد، وتتطور العلاقة بين الرجل والمرأة، تحسُّ به مختلفًا
عن كل الرجال السابقين في حياتها، وبسببها يتشاجر علي جلال ومأمور
الضرائب، ثُم تهجر الملهى وتعيش مع عمرو، وتحسُّ بحريتها لأول مرَّة،
تقول: ما اهتممت أبدًا بالنقود، وما تطلعت إلا للحبِّ والاحترام.
ويتدخل علي، ويبلغ رئيس مصلحة الضرائب أن «عمرو» مرتشٍ، وأمام الفضائح
يتزوج منها، ثُم يستقيل عقب إصدار قرار بنقله إلى الصعيد.
المبلغ الذي ترثه من مهدي باشا ساندها في أزمة زوجها؛ مما يثير غيرة
عمرو «أتريد أن أرفض النعمة؟ إنك فقير، وفي بطني جنين.»
وتسعد سمارة بزوج يحبُّها حقًّا، زوج مفعم بالرجولة والفحولة
والشهامة والعطف، وهو أيضًا شديد الغيرة عليها، عنيف في ذلك، أمَّا
عيبه الرئيس فهو أنه مقامر؛ مما يثبت أننا أمام امرأة قدرية حقًّا، فقد
لعب وخسر الأموال التي ورِثتها من مهدي، رغم أنها رزقت منه بابنه
أحمد. وفي الفيلم والرواية فإن علي
جلال يصبح منافسًا له على مائدة القمار، وهو يطمع أن ينال
المرأة.
في الفيلم أضاف السيناريو أحداثًا بها المزيد من البهارات، فقد صار
الزوج مدينًا لخصمه بمبلغ ١٠٥٠ جنيهًا، وتقوم الزوجة بسداد المبلغ لعلي
عندما يطلب منها العودة للرقص، ثُم تُفاجأ أن هناك شيكات على زوجها
نتيجة لخسارته في اللعب، ولا يكفُّ عمرو عن اللعب، وتأتي سمارة في
الفيلم إلى شقَّة القمار؛ مما يصدم الزوج الذي يطلب منها أن تعود إلى
البيت، وتتوسل إليه أن يرجع معها، يردِّد علي: «مش ح يخرج من هنا إلا
لما يدفع عشرة آلاف جنيه.» ويهدِّده أن الشيكات ستذهب إلى النيابة، ثُم
يكون الاقتراح أن يطلِّق زوجته لو خسر الجولة الأخيرة، وأمام رفض ودهشة
الزوجة يخسر الزوج، ويتشاجر مع خصمه الذي يطعنه ويرديه قتيلًا.
اختصر الكاتب هذا المشهد السينمائيَّ الطويل، فلا لعب على طلاقها،
وإنما «تراجع علي جلال أمام ضربات لا قبل له بها، فاستلَّ مطواة طعن
بها قلب خصمه فتهاوى فاقد الحياة».
وفي نهاية الرواية غير الموجودة في الفيلم، تجد سمارة نفسها وابنها
في دنيا خالية، فقدت الحبَّ والأمان، ناءت تحت عبء مسئوليتها الكاملة
عن وليدها نفسه، وفي الفصل الأخير «٤١» يظهر سعداوي بائع الفستق في الملهى، ويخبرها أن الفرماوي يطلبها
للعمل، فترفض بشدَّة لأنها أمٌّ، عليها أن تصون ابنها من الآن فصاعدًا،
وتخبره أنها أخفت هدية ثمينة أهداها إياها المرحوم مهدي باش جلال، وبها
يمكن أن تبدأ حياتها لتربِّي ابنها. وهذه النهاية لم يتطرق إليها
الفيلم.