بين القصرين
على عناوين الفيلم، بدأت الأحداث من نهاية الرواية، فهذا هو الأب
السيد أحمد عبد الجواد يمشي في
أزقَّة وحارات القاهرة القديمة المظلمة في حالة حزنٍ شديد وشرود،
وتنتقل الكاميرا به إلى العديد من الأماكن لتصوِّره في هذا الحال
الحزين، وعلى خلفية موسيقى تصويرية لأغنية «زوروني كل سنة مرة» التي
سوف يترنَّم بها الطفل كمال في آخر
جملة في الرواية، أيْ إن السيناريو الذي كتبه يوسف جوهر، قد بدأ من نهاية الرواية.
حتى إذا ما انتهت العناوين، بدأت الحياة من الماضي، هذا الماضي الذي
بدأ في الرواية بشكل طبيعي، واصفًا وقائع حياة أمينة ابتداءً من منتصف الليل، وحتى تعمَّد المؤلِّف أن
يصف بالتفاصيل ماذا تفعل، وتصرُّف الأبناء، والمكان نفسه، حتى يعود سيد
البيت من إحدى سهراته، كي يعكف محفوظ على وصف بطله وهيئته التي هي أقرب
الشبه إلى صورة أبيه كما رأيناها في مجموع الصور الخاصة بالكاتب، ثُم
يتفانى الكاتب في وصف ما يحدث في البيت في هذه الساعة من اليوم الجديد،
كي يدور الحوار بين الرجل وزوجته حول الأبناء ومن خلال الحوار مع
زوجته، وكأن عبد الجواد يتكلم إلى نفسه، حيث يحدِّثها في السياسة، وهي
المرأة التي إذا داست بقدميها خارج البيت كان جزاؤها الطرد من
البيت.
الكاتب يحدِّد بداية الرواية بوفاة السلطان
حسين، وقبول الأمير أحمد
فؤاد أن يتولَّى الحكم. هذا الحدث موجود في الفيلم، ولكن في
مشهد لاحق، حيث تعمَّد يوسف جوهر أن يبدأ أحداث الفيلم بالمشاهد
الوطنية، وهذا المشهد، حسب معرفتي، بدأ قبل الأوان؛ أيْ إن ثورات
الطلاب من أجل سعد لم تأتِ إلا بعد
هذا التاريخ المشار إليه.
المشهد الأول في الفيلم مجموعة من طلاب الجامعة، يجتمعون على النضال
والمقاومة، ويتحدثون أن شجرة الحرية لا تُروى إلا بالنضال، بينما هنا
أفراد سرِّية من جيش الاحتلال البريطاني يقومون باستعراض عسكري داخل
حرم الجامعة الأهلية آنذاك.
ليست هناك تواريخ محددة، لا في الفيلم، ولا في الرواية، بل هناك جمل
حوارية يردِّدها عبد الجواد في العملين؛ مما يعني أننا في عام ١٩١٧م،
حيث إن الحرب العظمى لا تزال مستمرة ولا أمل في نهايتها، وأن البرنس
أحمد فؤاد «ح يعملوه سلطان»، ولعلها المرَّة الوحيدة التي نرى فيها
الرجل يحاور زوجته، وهو الذي يكتفي معها بالشخط والأمر والنهي لا
أكثر.
المشاهد الأولى في الفيلم، جاء ترتيبها متأخرًا في الرواية مثل عقد
اجتماع للطلاب الثوار، ودخول فهمي
الطالب إلى هذا العالم، ثُم يأتي المشهد التالي حيث يعيش الابن
ياسين في عالَم مختلف تمامًا، كما
يأتي المشهد الثالث الذي ينتهي بأن يطلب فيه الزوج من امرأته المضاجعة:
«مش ح تكبري يا وليه؟» في اللحظة التي يتسلل فيها كمال إلى سريرهما،
فينهره ويطرده، وتستجيب «الولية» لزوجها قائلة: «خدامتك يا سيدي.» ومثل
هذا السلوك غير موجود قطُّ في الرواية، باعتبار أن محفوظ وصف الزوجة في
محض وصفه على أنها عجوز.
مع صباح اليوم التالي، بدأ المؤلف في وصف هذا العالم بأشخاصه
وتفاصيله وتضاريسه، ثُم عاداته، وقد تشابه الفيلم والرواية في عمل هذه
البانوراما، وقد استهلكت الرواية صفحات طويلة لفحص هذا العالم من هدوء
الصباح الباكر حتى يصل عبد الجواد دكَّانه الذي يقع أمام جامع برقوق،
وقد حاول يوسف جوهر أن يجمع كل هذا العالم في مشاهد متتابعة ليرينا
علاقة فهمي ومريم، حيث يصعد إلى
السطح من أجلها، ثُم خروج أبناء الأُسرة إلى أعمالهم، حتى إذا خلا
البيت من الرجال، راحت عيشة تتطلع
إلى حبيبها من وراء المشربية، ونذهب إلى الأماكن المتفرقة لنرى تصرفات
أفراد الأُسرة خاصة ياسين المولع بالنساء، والتاجر عبد الجواد الذي
يودِّع عشيقته القديمة العجوز جليلة
كي يستقبل عشيقة جديدة تأتي إلى المحل هي زبيدة، التي ستصير خليلته لفترة طويلة.
أيْ إن القصة الأولى في الرواية، مثلما في كافة روايات محفوظ في هذه
المرحلة، وأيضًا المشاهد الأولى في الفيلم، بمثابة استعراض بانورامي
لكلٍّ من: الأشخاص، الأماكن، الزمن؛ ففي الفيلم مثلًا قام السيناريو
بتبديل العالمة جليلة بزيارة من الشيخ عبد الصمد، وهي زيارة طويلة
مليئة بالأدعية والبركة، كما أن السيناريو أهمل تمامًا وقائع حياة
الطفل كمال، فالفصل «٨» يصف بالدقة، ماذا يفعل كمال عقب انصرافه من
المدرسة، وتأخذ الفصول التالية في وصف وقائع حياة الأسرة بدون الأب في
بقية النهار مثل ما يُسمَّى بمجلس القهوة قُبيل المغيب، وصعود فهمي
وكمال إلى سطح البيت عند غروب الشمس، وعودة كمال لغرفته للاستذكار،
وتوجه ياسين ليلًا إلى عالَم الليل، وهو نفس العالَم الذي يذهب إليه
أبوه، ثُم ذهابه إلى الحانة، وقد عادت الرواية لتصف في الفصل «١٤»
بعضًا من وقائع حياة عبد الجواد الذي يستقبل في محلِّه أكثر من شخص،
حيث تأتي زبيدة ملكة العوالم وفي صحبتها جليلة، حيث لوحظ أن السيناريو
قد قام بتبديل الأسماء، وعليه فإن الحوار الذي حدث في الفيلم لم يكن
موجودًا في الرواية، لكننا نفهم من النَّص الأدبي أنها المرَّة الأولى
التي يلتقي فيها عبد الجواد بزبيدة، وتدعوه إلى زيارتها، ويطلق عليها
اسم «السلطانة».
في الفيلم، حدث قطع بين النهار والليل، وتم إلغاء الكثير من وقائع
النهار عند أُسرة الرجل، وسرعان ما رأينا عبد الجواد في بيت العاهرات،
وهي تغني له «البحر بيضحك»، ونحن حسب
ما نراه، نفهم أن عبد الجواد قد ذهب إلى هذا العالم بعد ساعاتٍ قليلة
من مضاجعته امرأته أمينة، وفي بيت زبيدة يردِّد أن الدهن في العتاقي،
وفي الرواية فإن هذه هي المرَّة الأولى التي يطأ فيها الرجل هذا
المكان، وأن المرأة التي تفتح الباب ستسأله عن هويته، ونفهم أنه ذهب
إلى بيت العوالم للاتفاق على حفلٍ لن يُقام.
نفهم من لقاء عبد الجواد بالغانية العجوز أنه رجل تحنَّك بزيارات هذا
العالَم، أمَّا في الفيلم، فلعلها المرَّة الأولى في هذا المكان على
الأقل، فيعود في الليالي التالية، وينجح في مغازلة السلطانة، إذَن
فالعوالم نفسها موجودة بين الفيلم والرواية، لكن يوسف جوهر كان يحذف
بعض المشاهد أحيانًا، ويقوم بتغيير مكان المشاهد وترتيبها في أحيانٍ
أخرى، حتى يصل الفيلم والرواية إلى قيام ياسين بزيارة أمه التي سوف
تتزوج لمرَّات لا يعرف أحد عددها. وهو واحد من أجمل مشاهد الفيلم في
الحوار والتنفيذ والتمثيل خاصَّةً عبد المنعم
إبراهيم وزوزو نبيل. الآن المرأة استولت على الأربعين من
ناحية، ولأن ياسين اكتمل شابًّا مدركًا بوسعه إذا شاء أن يدفع عن
كرامته الإساءة والهوان.
في الفيلم يدور حوار بين الأب ياسين حول أحقيَّة الأمِّ في الزواج،
فيطلب عبد الجواد من ابنه أن يذهب إليها، وفي الفصل «١٨» يصل ياسين إلى
الجمالية، ويصف محفوظ المكان وحالة ياسين، وفي مقطع طويل الصفحات يدور
الحوار العاصف بين الأمِّ وابنها «زواج وطلاق، زواج وطلاق، هذه أمور
شائنة لم تكن تليق بك، ولَشدَّ ما مزَّقت نياط قلبي بلا رحمة.» ويتشابه
الفصل والمشهد في أن عقد الزواج قد تم، وأن زيارة ياسين بلا
جدوى.
ألغى يوسف جوهر فصولًا بأكملها من الرواية، مثل الفصل «١٩» الذي تجلس
فيه أمينة تحاور ابنها فهمي الذي تناديه ب «سيدي الصغير»، ثُم استكملت
الحديث مع فهمي الذي يبلغها أنه يريد أن يخطب مريم، أمَّا الفصل «٢٠»
ففيه تطلب الأمُّ من زوجها أن تخطب مريم لابنهما، وهنا يتشابه الفيلم
والرواية في أن الأب يسأل: وكيف رآها أو تعرَّف عليها؟ وهنا يبدو عبد
الجواد مناقضًا تمامًا للرجل الذي يذهب إلى بيوت العوالم ليلًا؛ فهو
الغاضب على ابنه، يتساءل ويأمر: «قولي له أن يتأدَّب ويستحي ويلزم
حدوده.»
المشهد التالي في الفيلم: يذهب ياسين إلى بيت العوالم، ويرى أباه
هناك، وتكون أول جملة يردِّدها: «يا ابن الكلب يا بابا!» وهذه الشتيمة
المندهشة غير موجودة في الرواية.
قام كاتب السيناريو بإعادة ترتيب الحوارات كما يشاء، وليست كما هي
موجودة في الرواية، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، فقد جاءت ثلاث سيدات
لزيارة الست أمينة، وذلك تمهيدًا لطلب البنتين خديجة وعيشة كعروسين،
وفي الفصل «٢٤» أزاح محفوظ الزمن حين أكَّد أن مجلس القهوة — البيتي —
اكتسى بحلول الشتاء ميزة جديدة تمثلت في المدفأة الكبيرة، ونفهم أن
السيدات الثلاث جئن لخِطبة خديجة، أو عائشة، حيث حدث لبس، ومثل هذا
المشهد غير موجود في الفيلم، ويدور حوار حول زواج الصغرى قبل
الكبرى.
في الرواية، وحتى الفصل «٢٩» ليست هناك أيُّ إشارة إلى الجمعية
السرِّية السياسية التي يتردَّد عليها فهمي، بينما رأيناها أكثر من
مرَّة في الفيلم الذي استفاد من وجودها تمامًا في إحداث الرعب في قلب
فهمي الذي يقابله الضابط محمد وهو يحمل حقيبة المنشورات، فيصيبه الهلع
الشديد ويطمئن عندما يعرف أنه يسأل عن أخته.
المشهد «٢٨» من الرواية، هو الذي ستذهب فيه الست أمينة إلى المسجد
الحسيني، وتخبطها سيارة، وهو نفي الترتيب في الفيلم؛ حيث سرعان ما
سيأتي الزوج ويعرف أن امرأته خرجت دون إذنه، فيطردها إلى منزل أمها،
ولم يسدَّ فراغها في البيت أحد، وأثبت البيت أنه أكبر من الفتاتين.
وهناك الفصل «٣٣» الذي يصف مشاعر أمينة، وهي تعود إلى بيت أمها «إنه
غاضبٌ عليَّ يا أمي.» وقد ألغاه الفيلم تمامًا بكافة تفاصيله؛ حيث
تردِّد الأم: «إنهم في رعاية الله، ولن يطول بعدك عنهم بإذن الرحمن
الرحيم.» وهو فصل طويل، يقوم فيه أولادها وياسين بزيارتها.
ثُم يأتي الفصل «٣٤» ليصف حال البيت بدون الأم، وهكذا تتوالى الفصول
لتصف حال البيت من الداخل، وماذا حدث في غياب الأم، وإلحاح الأبناء على
الأب لاستعادة «نينة»، ولم يتخلَّل
هذه الفصول ما يشير إلى الحياة الماجنة الأخرى التي يعيشها عبد الجواد.
وفي الفصل «٣٥» تأتي أمُّ مريم لتحدِّث عبد الجواد عن غياب زوجته، وفي
أعماقها شيء من الغزل، وهذا المشهد غير موجود في الفيلم، حتى تأتي حرم
المرحوم شوكت في اليوم التالي «الفصل
٣٦» لتطلب عائشة لتكون زوجًا لخليل
ابنها، وفي الفيلم طلبت الابنتين كزوجتين لولديها، وهي تأمر وتسخط،
ويطلق عليها الفيلم اسم «لطيفة هانم»، وقد أضاف الفيلم مشهدًا رائعًا،
أن الشيخ يقابل عبد الجواد ليلًا، وهو عائد من ليلة حظ، ويخبره بذلك،
فيخبره الشيخ أن ابنه كمال موجود في المسجد الحسيني، وهناك يجد ابنه
يلجأ إلى المقام، داعيًا أن يعيد أبوه الأمَّ إلى المنزل.
في الرواية فوجئت الأمُّ بابنها كمال يطلب منها أن تلبس ملاءتها،
الأب لم يأتِ، ولكنه أرسل ولديه، أمَّا في الفيلم فقبل أن تصعد العربة،
فإن زوجها يخبرها أن لطيفة هانم جاءت تطلب يدَي ابنتيها، وفي الفيلم
مرَّت الزوجة قبل عودتها إلى مقام سيدنا الحسين، وعندما عادت الزوجة —
في الرواية — إلى الدار لتجد زوجها، قال لها نفس الجملة: «فاتحتني حرم
المرحوم شوكت برغبتها في اختيار عائشة زوجًا لخليل.» وفي الفيلم طلبت
الفتاتين معًا.
هل تصدرت صور سعد زغلول الشوارع في
عام ١٩١٨م؟ هذا خطأ وقع فيه الفيلم الذي حاول أن يعطي مساحة أطول
للنضال السياسي، في فترة كانت الحكومات تناصر كل ما هو ثوري، هذا هو
الموضوع الأكثر أهمية الذي زاد في الفيلم، بالإضافة إلى الأغنيات
والرقصات، وقد حدثني يوسف جوهر في بيته يومًا أن حسن الإمام هو الذي أفسد الرواية، واهتمَّ بجرعات الرقص،
لكنه لم يُشِر أيضًا إلى زيادة جرعة الجلسات السرِّية، والمظاهرات التي
عمَّت شوارع القاهرة.
إذَن فالرواية لم تخرج فصولها عن المكان الضيق الذي تعيش به الأُسرة،
حتى فرح عيشة قد تم في منزل أبيها، قبل أن تنقل إلى بيت آل شوكت
بالسكرية؛ مما يبيِّن الفروق الواضحة بين الفيلم والرواية؛ فمحفوظ لم
يُكسب روايته الجانب السياسي أو الوطني، مثلما حدث في الفيلم، وقام
بالتركيز على مسيرة أفراد الأُسرة، وعليه فإن الفيلم اختصر إجراءات
كثيرة بتزويج الأختين من شقيقين، ورأينا أبناء عبد الجواد هم أبطال
الرواية الفعليِّين، وليسوا الطلاب المناضلين.
في الفرح — سينمائيًّا — ظهرت جليلة تداعب عبد الجواد، وسرعان ما فهم
فهمي الوجه الماجن لأبيه، وفي الفيلم أيضًا تم عمل توكيلات بأسماء
الشعب والوفد، وهناك إشارة إلى القبض على الزعيم سعد زغلول، وهناك
مشاهد من ثماني دقائق تصور المظاهرات، والتحام الهلال والصليب، وخروج
طالبات المدرسة السُّنية، ثُم مواجهات مع الشرطة، كل هذا لم يسترعِ
انتباه محفوظ وهو يكتب روايته، في الوقت الذي أبقى فيه يوسف جوهر على
مشهد تحرُّش ياسين بأمِّ حنفي
الخادمة العجوز الزنجيَّة، وهو المشهد الذي انتهى برفض المرأة، وقيام
أبيه بضربه قبل أن يفرَّ وسط الظلام، ليتزوج ياسين من ابنة محمد عفت التي ستأتي بدورها إلى البيت.
يعني هذا أن قراءة الرواية بتفاصيلها الرائعة، أمر يختلف تمامًا عن
شِبه الملخص الذي رأيناه في الفيلم؛ فمحفوظ يولي اهتمامه الأساسيَّ
بأبطاله، سُكَّان بين القصرين والوافدين إليه، مثل زينب التي سيتزوجها ياسين، حيث تفرَّغ هذا
الأخير لحياته الزوجية الجديدة، فلا سهر بالليل خارج البيت، ثُم ما لبث
أن خرج إلى حياته القديمة. وإذا كان الفيلم قد زوَّج الأختين في نفس
الفرح، فإن الرواية قد زوَّجت الأختين على مسافتين زمنيتين متباعدتين،
وقد مات محمد رضوان والد مريم ليلة
عرس خديجة.
في الرواية كانت أول إشارة سياسية إلى ما يدور في مصر من أحداثٍ
سياسية في الفصل «٤٨» حين قال فهمي: سعد زغلول وكيل الجمعية التشريعية،
وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي عضوان بها، الحقُّ أني لا أعرف
شيئًا عن الآخرين، أمَّا سعد فأكاد أكوِّن عنه فكرةً لا بأس
بها.
وهنا بدأ الجانب السياسيُّ في الرواية الذي استهلك جزءًا كبيرًا، كما
أشرنا، من الفيلم لأسبابٍ سياسية، لمناصرة فكرة نجاح الثورة، وقد توقف
الفيلم والرواية عند مسألة توكيلات حزب الوفد؛ حيث وقع عليها عبد
الجواد وأصحابه من أجل إثبات أن الوفد يتكلم باسم الأمة.
«في نفس الوقت الذي شُغل فيه الوطن بحريته، كان ياسين دائبًا بحزم
وعزم على استئثار حريته هو كذلك.» فما يلبث أن يحسَّ بالخواء في
الزواج، حتى وإن كانت امرأته التي تزوَّجها ابنة رجل فاضل، ويصل به
الأمر أن يتعرَّف على زنوبة خليلة أبيه. وقد كسا الفيلم هذه الشخصية
بروح الفكاهة، حيث جسدها عبد المنعم إبراهيم في واحد من أهمِّ أدواره،
غير أن ياسين الرواية نزِق أكثر، فهو ينظر إلى النساء باعتبارهن
حيواناتٍ أليفة.
في الفصول الأخيرة من الرواية، بدأ نجيب محفوظ في الاهتمام بالجوانب
العامة والسياسية التي عاشتها مصر، وركَّز على سلوك ياسين في قراءة ما
ردَّده على أخويه. وفي الفصل «٥٢» بدأ فهمي في كتابة المنشورات، كما
أننا رأينا الأمَّ أمينة، وقد صار لها مفهوم سياسيٌّ بتأثير من ابنها،
ونقل فهمي ثوريَّته إلى مجلس الأُسرة التقليدي، وعمَّ الحزن أجواء
الأُسرة بسبب ما حدث لسعد زغلول ورفاقه، وقد بدا أسلوب محفوظ في
الاهتمام بحدث ما أو شخصية كي يمنحها الاهتمام لعدَّة فصول متوالية،
ففعل ذلك بالنسبة للجوِّ الوطنيِّ والسياسيِّ العامِّ وربطه بسلوك
فهمي، ووصل الأمر أن العسكر البريطانيين أقاموا عددًا من الخيام في
«بين القصرين»، فانتقلت الرواية من
الهمِّ الخاصِّ إلى العام، وتحدَّث عن مظاهرات النساء، لدرجة أن ياسين
يردِّد: «ما كنت أتصوَّر أن في شعبنا هذه الروح المكافحة!» وبدت مسيرة
الرواية كأنما ما حدث من قبل، لم يكن سوى تمهيد للحديث عن الثورة، أما
الفيلم فقد بدأت الثورة مبكرًا، منذ المشهد الأول.
وفي الرواية فإنه وسط ما يشهده الوطن، فإن ياسين يغازل الخادمة
الزنجيَّة نور، ويبلغها: «أنام على العقارب من أجلك يا نور.» والمقصود
الحشرات التي تلدغ، إلا أن أمره يُكشف للمرَّة الثانية، بينما يحاول
الجنود الإنجليز أن يتصرفوا كأنما الحياة يجب أن تمشي بشكل طبيعي،
وتذهب زينب إلى أبيها غاضبة، وهي أحداث لم يكن لسيناريو أن يغفلها، لكن
هناك فارقًا بين التفاصيل في النَّص الأدبي، وإيجاز الصورة في الفيلم،
لذا فالملاحظ أن الفصول بدأت تطول في نهاية الرواية، ففي الفيلم فإن
أمور خروج زينب من البيت، وطلبها للطلاق قد تمَّت بسرعة، وبشكل موجَز،
بينما اهتمَّ المؤلِّف بالمزيد من التفاصيل، ومن هذه على سبيل المثال
ذهاب عبد الجواد بأبنائه لتأدية صلاة الجمعة في مسجد الحسين، حيث أخذ
النَّص يشرح تاريخ هذه العادة في الأُسرة، وأثرها على الأبناء الذكور
الثلاثة. كما احتفظ الفيلم بالحدث المُهم، وهو أن يعرف عبد الجواد أن
ابنه ضمن خلايا المجاهدين، وقد استخدم الفيلم الشتيمة نفسها في
الرواية، باعتبار أن السينما ينطق فيها لأول مرَّة تعبير «ابن الكلب»
مرَّتين.
كما توقَّف الفيلم أيضًا عند وفاة أم ياسين، وقيام الابن بالذهاب إلى
الأم، وهي في مرضها الأخير، وبقائه إلى جوارها حتى تسلم الروح، إلا أن
الأمَّ لم تمُت بين يدَي ابنها؛ حيث إن أمينة هي التي أخبرت ياسين بأمر
رحيل أمه.
وتجاهل الفيلم أجواء الصداقة التي تمَّت بين كمال والجنود الإنجليز،
وإن كان كمال هو الذي أبلغ فهمي أن مريم تمنح الجنود بعض الحلوى،
وفهمنا من حوارها مع فهمي، أنها تفعل ذلك عن طيب خاطر، وهي التي
رأيناها فيما بعد تخرج في المظاهرة مع النساء، وترى حبيبها فهمي وقد
اخترقت الرَّصاصاتُ صدرَه.
هناك تفصيلات كثيرة، لم يتوقَّف الفيلم عندها، مثل علاقة عبد الجواد
بأمِّ مريم، وقد اهتمَّ يوسف جوهر بالفصل «٦٥» الذي أجبر فيه الجنود
بعض أبناء المنطقة بنقل أجولة الرمال، وأضاف الفيلم مشهدًا رائعًا حين
بكى ياسين، ونطق: «يا حبيبي يا بابا!» وراح يحمل الأجولة عن
أبيه.
ما إن خرجت خديجة وعائشة من بين القصرين إلى بيت الزوجية، حتى
اختفيَتا تمامًا من الأحداث، إلا أنهما ظهرتا في الرواية، وقد صارت
خديجة حامل، وعرضت أن تنقل الأُسرة وسط هذه الظروف للإقامة في بيتهم.
وتأتي سيرة زينب بأنها أيضًا حامل، بما يعني أن الوليد القادم سيكون
مصيره كأبيه، في أن يتربَّى في أُسرة منفصلة.
وفي الفصل «٦٧» يعرف عبد الجواد من الشيخ
متولي، أن فهمي قد حنث العهد الذي قطعه أمام أبيه أن يبتعد
عن أعمال الثورة، وهو الذي يردِّد أن أنباء القتلى تتواتر كل ساعة،
لنعود من جديد إلى أخبار الابنتين، حيث تأتي الأخبار أن عائشة قد
أنجبت، لتعود الرواية إلى وصف الأجواء السياسية والإفراج عن سعد زغلول،
وخروج المظاهرات مجددًا، وهو الجزء الذي ركز عليه الفيلم، وفي لقاء
عائلي غير موجود في الفيلم، تتحدَّث الأُسرة كلها عن حُبِّها لسعد
زغلول، بمَن فيهم أمينة، حيث يردِّد فهمي: «الأم الوطنية حقًّا تزغرد
لاستشهاد ابنها.» وهو مشهد حوار رائع كان سيترك أثره لو نُفِّذ
سينمائيًّا، وينوي فهمي الاشتراك في مظاهرات الغد.
في أمسية يوم المظاهرات، جاء ثلاثة شُبَّان إلى دكَّان أحمد عبد
الجواد، وقال أحدهم في الرواية: «يؤسفنا أن ننعى إليك أخانا المجاهد
فهمي أحمد.» وفي الفيلم إشارة إلى أن فهمي مات ومعه ثلاثة عشر شهيدًا،
وقد فهمنا أن الإنجليز أطلقوا الرَّصاص بعد أن أعلنوا أن المظاهرات
ستكون آمنة، إلا أن النَّص الأدبيَّ لم يُشِر إلى ذلك، ويردِّد زملاء
النضال: «لا يليق أن يُشيَّع فهمي في جنازةٍ عاديَّة، كمَن قضوا في
بيوتهم.»
انتهت سطور الرواية والأب يدخل بيته، بينما يدندن الابن كمال بأغنية
«زوروني كل سنة مرة»، أما الفيلم فقد أضاف إعلام الأب لزوجته: «فهمي
مات يا أمينة، قتلوه الإنجليز.» وما تكاد أن تصرخ حتى يقول بحزم: «مش
عايز صويت يا أمينة.» وتظهر صورة مريم على الحائط، ويأتي صوت المعلق:
«ولم يكن موت فهمي نهاية المرحلة، فإن دماءه الطاهرة أمدَّته بالشعب.»
وذلك على نغمات «بلادي بلادي»، ولقطات لمظاهرات جديدة، وطلقات رصاص،
وأجراس كنائس، ونداء الأذان، ثُم تظهر لوحة تملأ الكادر: إلى اللقاء في
«قصر الشوق».