قصر الشوق
«قصر الشوق» هو اسم المنطقة التي
عاشت فيها أم ياسين، وقد آلت الشَّقة
التي كانت تسكن فيها إلى ابنها ياسين، فتزوَّج فيها أكثر من امرأة، منهنَّ مريم، ثُم زنوبة، وقد دارت أحداث كثيرة من الرواية والفيلم
هناك.
كما أن «قصر الشوق» هي الرواية
التي تبدأ أحداثها عام ١٩٢٤م، أيْ بعد خمس سنوات من وفاة فهمي، وتنتهي بعد ذلك بثلاث سنوات ليلة رحيل
زعيم الأمة سعد زغلول.
تبدأ الرواية بالخروج الأول لأحمد عبد
الجواد من داره إلى الحياة، عقب رحيل ابنه ومرور خمس سنوات،
والمقصود بالخروج هنا إلى الحياة أيْ إلى حياته الماجنة، فليست هناك
إشارة إلى أن الرجل استقرَّ بالبيت، وهو التاجر الكبير في العطارة، حيث
إن حانوته صار أكبر وأكثر اتساعًا، بما يعني أنه نجح في المهنة، وهذا
الفصل سيأتي في مرتبة تالية في الفيلم بعد المشهد الأول الذي سوف يكون
طويلًا، حيث إن الأُسرة سوف تفرح لأول مرَّة، بحصول كمال على البكالوريا، رغم أن هناك إشارة في
الرواية إلى أن النتيجة كانت سيئة هذا العام.
إنه مشهد حزين رغم فرحة الخبر، فأمينة تبكي ابنها وتتساءل عن سبب
الاحتفال، ويردِّد أحد الأبناء أن الأُسرة لم تضحك منذ خمس سنوات،
وتحوِّل الأمُّ المكان إلى مندبة، قبل أن تندمج في أجواء الأُسرة
السعيدة، بعد أن قرأ عليها كمال، الذي صار شابًّا، بعضًا من آيات
الصبر.
«قصر الشوق» الفيلم كتبه الكاتب
المفضَّل دومًا عند حسن الإمام، وهو
محمد مصطفى سامي، وأذكر أن يوسف جوهر الذي كتب الجزء الأول قد حدَّثني أن
حسن الإمام حوَّل الجزء الثاني إلى «مرقصة»، وهزل، وهذه هي بالفعل
أجزاء محمد مصطفى سامي في بعض الأفلام التي كتبها للإمام.
في رواية «بين القصرين»، كان هناك
همٌّ رئيسيٌّ على المستوى العام، انتقل أيضًا إلى المستوى الخاص، وهو
ثورة الشعب عام ١٩١٩م، فخرجت المظاهرات، وهي الأجواء التي سادت الفيلم،
أمَّا «قصر الشوق»، فلم يعد هناك هذا
الهمُّ بالمرَّة، سوى نزوات عبد الجواد وابنه، فتبادلا زنوبة التي انتقلت من أن تكون عاشقة للأب، إلى
أن تصير زوجة لابنه ياسين، وتنتهي الأحداث وهي تلد وليدها الأول من
زوجها يوم رحيل سعد زغلول.
أيْ إن هناك حزنًا عامًّا في نهاية كلٍّ من الروايتين، وتبقى
«قصر الشوق» ليكون أبطالها محدودين
يتمثلون في كمال، وياسين، وأبيهما، باعتبار أن عيشة وخديجة سكنتا مع زوجيهما في منطقة «السكَّرية»، وسوف
يكون حضورهما قويًّا في نهاية الرواية، عقب إصابتهما وزوجيهما
بالتيفوئيد، وعليه فإنه في الفيلم سوف يكون حضورهما ضمن تواجد جماعيٍّ
للأُسرة التي صارت أكبر عددًا في المناسبات، مثل حفل نجاح كمال وبعض
الزيارات.
إذَن ستنتقل الأحداث بين الشخصيات الثلاث، وبعضها متشابك معًا، كأن
يتزوج ياسين من عشيقة أبيه، وأن يذهب كمال إلى الحانة لاصطياد عاهرة،
فيقابل أخاه ياسين هناك، ويعرف أن أباه «ديله نجس» مثل ياسين.
لكن أمام ذلك النصِّ الأدبيِّ الضخم، كان لا بدَّ لكاتب السيناريو أن
يغيِّر ترتيب بعض الأحداث، وأن يقوم بإلغاء أحداث أخرى، في مقابل إضافة
المزيد من الأغنيات التي تؤدِّيها زنوبة، ورقصات في العوامة استهلكت
الكثير من زمن عرض الفيلم «١٢٥ق».
في الفصل الأول والفيلم ظهرت شخصية رضوان، ابن ياسين وزينب،
عند الحديث عن خِطبة الأم؛ أيْ إن زينب صار عليها أن تنتظر خمس سنوات
كي تتزوَّج، هذه السنوات دبَّت دماء الأنوثة، فيما بعد، في إحدى البنات
الصغيرات في بيت العالمة زبيدة،
فصارت شابَّة ناضجة خلبت لُبَّ الأب وابنه، وأيضًا صارت زبيدة امرأة
عجوزًا، جسَّدتها ميمي شكيب التي سبق
أن جسَّدت دور جليلة في «بين القصرين» لدرجة أننا خِلناها هي نفس
الشخص.
قام كاتب السيناريو بدمج عدَّة فصول معًا في المشهد الأول من الفيلم،
حيث إن الفصل «٢» يدور يوم الاحتفال بنجاح كمال. وقد وصف نجيب محفوظ أجواء البيت الذي قلَّ عدد سكانه
برحيل فهمي وزواج الابنتين، وقد وصف الكاتب أجواء البيت بدقة شديدة في
٦١ صفحة، بدت فيها كم اختلفتا الابنتان عن أمِّهما، فهما تتمتَّعان
بقوَّة شخصيَّة ملحوظة، قياسًا إلى أمِّهما، وذلك في علاقة كلٍّ منهما
بزوجها، وقد بدا لنا أننا نحن أمام رواية عائلية استمتعنا بوصف أجوائها
بكل هذه التفصيلات، ولم يكُن لأيِّ سيناريو أن يصف كل ما بها؛ لذا تمَّ
تقطيع الأحداث من العجين، وخروج الأب، وحضور البنتين والزوجين، وحوار
يدور بين عبد الجواد وكمال عن المدرسة.
«الكلية» التي ينوي الالتحاق بها، وذلك قبل أن يزيد المصروف لابنه،
وقد بدت ثقافة الأب الذي يودُّ لابنه أن يدرس الحقوق؛ ليكون من كبار
السياسة، أما كمال فهو يرغب التدريس في مدرسة المعلمين ليقوم بتحصيل
المزيد من العلم.
وقد تشابه الحوار بين الأب وابنه في كلٍّ من الفيلم والرواية؛ أيْ إن
اليوم الأول لخروج الأُسرة من الحداد الطويل كان طويلًا، وشهد حدودًا
فاصلة في حياة كلٍّ منهم. ولعل هناك تساؤلات ليست كلها للطرح، بلا شكٍّ
أن صبر ياسين على عدم الزواج هذه الفترة هو أيضًا نوع من الحداد، وعلى
الفور فإنه بعد انتهاء الفترة، صعد ياسين — في الفيلم — إلى السطح،
ليفعل ما كان يفعله أخوه فهمي، كأنه يحلُّ محلَّه بالفعل؛ فهو يغازل
مريم التي سبق لها الزواج أثناء هذه السنوات، وسوف يصعد أخوه كمال
وراءه ليعارضه لمغازلته المرأة التي ودَّ فهمي أن يتزوجها، وهو الموضوع
الذي سيأخذ مساحة من اهتمام البيت باعتبار أن أحداث الفيلم كلها
عائلية، لن تخرج أبدًا عن أبناء عائلة عبد الجواد داخل الأُسرة
وخارجها، فياسين يخبر كمال أن أخاه الراحل قد نبذ مريم بعد معرفته
بموقفها من العساكر الإنجليز (تم تغيير الممثلة زيزي البدراوي إلى زيزي
مصطفى)، وفيما بعد سوف يبرِّر ياسين الأمر لأبيه الذي
سيوافق على مضض، أمَّا زوجة الأب أمينة، فإنها تطرد ياسين عندما تسمعه يخبرها بذلك، وتبدو
في أشدِّ حالات القسوة.
في الفصل «٧» من الرواية ذهب عبد الجواد إلى العوامة لأول مرَّة؛ أيْ
إنه كان على المؤلِّف أن ينتظر طويلًا؛ كي يحكي لنا ما فعله الأبناء
طوال ٧٨ صفحة، أمَّا في الفيلم فقد ذهب الرجال الأربعة إلى العوَّامة
بعد مشاهد قليلة، لا تُقاس بمساحة الحكْي عند نجيب محفوظ حول الأُسرة،
ويردِّد علي عبد الرحيم: «هذه ليلة
تاريخية في حياتك وحياتنا، ينبغي أن نطلق عليها اسمًا مناسبًا،
احتفالًا بها، ليلة رجوع الشيخ»، وهذه الجملة مثلًا موجودة في النصين
معًا.
في الرواية، لا تزال جليلة موجودة،
أمَّا في الفيلم فقد حلَّت زبيدة
محلَّها، ومن المعروف أن مها صبري
التي أدَّت الدور قد اعتذرت عن الدور، فجمع السيناريو بين المرأتين في
شخصٍ واحد، باعتبار أن جليلة لا تزال تمارس عملها كقائدة فرقة العوالم،
وفي الفيلم تواجدت زبيدة بدلًا من جليلة، أيْ إن غياب مها صبري ألغى
الدور دون أن يحسَّ أحد بهذا. ظلَّت زبيدة في الرواية، هي العشيقة
القديمة لعبد الجواد، والتي سيتزوجها الابن، أمَّا زنوبة فهي ابنة أخت
زبيدة، وسوف تعود زبيدة مجددًا في «السكَّرية»، بما يعني أن زنوبة شخصية جديدة، وليست
نادية لطفي بديلًا عن مها صبري. بينما ظل تواجد جليلة طوال أحداث
الرواية متواجدة، وهي التي تخلَّى عنها عبد الجواد في الفيلم الأول،
وصارت زبيدة خليلته.
«لوحظ أن صوت السيد أحمد عبد الجواد قد علا، حتى كاد أن يغطي على صوت
زبيدة، روت جليلة تناتيش من مغامراتها»، وفي الليلة الأولى لعودة عبد
الجواد إلى عالم الليل، سوف يرقص ويغني ويقرع الدُّف، وسوف تلعب زنوبة
به ولن تخضع لسريره، فيردِّد: «ظننتكِ مثل خالتك لطافة وذوقًا فخاب
ظني، ولن ألوم إلا نفسي.»
وفي حوار في الفصل «٨» بين محمد
عفت وعبد الجواد، فإننا نفهم أن الرجل لم يحنَّ إلى جليلة
أو زبيدة، بل إلى زنوبة، وأنه التقاها عند الخواجا يعقوب بائع الذهب، وترك صلاة الجمعة من أجلها، هذا
الجواهرجي لن يظهر إلا بعد أن توافق زنوبة على الإقامة في العوَّامة،
وتتعهَّده بأن ترتدي «الأفرنكة» من الملابس والحُليَّ، بما يعني أن
السيناريو كان يقدم، ويؤخِّر الأحداث حسبما يريد، دون إخلال
بالنَّص.
وبالفعل فقد دبَّر عبد الجواد أن يدخل عليها البيت، وهي وحدها، وتعرف
المرأة أن الرجل يطاردها، فتأخذ في التدلُّل عليه، وقد خصَّص الكاتب
الفصل «٩» بتفاصيل طويلة لما حدث بينهما من حوار تطلب فيه أن تكون لها
عواقبها: «انتظر حتى يجمعنا المسكن الجديد؛ مسكنك ومسكني، عند ذاك أكون
لك إلى الأبد.»
اهتمَّ السيناريو بالكبار أولًا؛ عبد الجواد وزنوبة، ثُم وقائع زواج
ياسين بمريم قبل أن يدخل إلى عالم كمال، ويخصِّص له صفحاتٍ مطوَّلة،
ليحكي لنا الفيلم مثلما حكت الرواية قصة الحب العذري الذي أحسَّه كمال
نحو عايدة شقيقة زميله حسين شداد، ابنة الأثرياء. لكن باعتبار أننا في
رواية «قصر الشوق»، فقد أفرد الكاتب
فصولًا متتالية لانتقال مريم إلى البيت هناك، ونفهم في الرواية أن هناك
علاقة ما كانت تربط ياسين بأمِّ
مريم، وأن هذه الأخيرة كانت تطمح أن يتزوجها هي لا ابنتها،
وهو أمرٌّ لم يُشر إليه الفيلم بالمرَّة، حيث إن الأمَّ تعارض بشدَّة،
لكن الزواج يتمُّ، وسوف تعرض الأمُّ نفسها بعد ذلك على عبد الجواد، إلا
أنه سيردُّها بلطف.
ابتداءً من الفصل «١٤» بدأ محفوظ يحكي عن كمال الذي يذهب إلى
العباسية التي يتردَّد عليها طوال سنوات المدرسة الثانوية الأربع، هناك
«شلَّة» من الأصدقاء يمثلهم كمال، وحسن،
وإسماعيل وحسين شداد شقيق عايدة، البنت ذات الثقافة
العالية، التي سيقع في غرامها كلٌّ من كمال وحسن، ويتنافسان، وقد أسهب
المؤلِّف في وصف هذا العالَم، باعتبار أن كمال هو محفوظ فعلًا، وأن هذه
هي تجربته دون أن يتوقَّف عن سردها واستحضار تفاصيلها، ابتداءً من أول
زيارة له بعد حصوله على البكالوريا، وفي الفيلم والرواية هناك اهتمام
بهذه التفاصيل، وقد دار في الاثنين حوار صارم بين حسن وكمال حول
سعد زغلول، حيث يرى الأول أن سعد
باشا مهرج صاحب قدرة بلاغية، والعامَّة يعجبون بالكلام، ويردِّد كمال
أن الكلام هو أعظم الأعمال: «نحن نسير في الحياة على هذه الكلمات، إن
سجِلَّ سعد زغلول حافل بأعماله.» ويقول حسن في الرواية: «ليست الوطنية
عند سعد إلا نوعًا من البلاغة التي تستهوي العامة.» وفي الرواية طال
الحوار حول هذه النقطة، بينما تمَّ اختصاره في الفيلم بشكلٍ حاد، ليكشف
السيناريو أن هناك منافسة أخرى بين الصديقين، ليست حول سعد زغلول، بل
حول عايدة.
وفي الرواية جاء اللقاء بين فؤاد الحمزاوي
وكمال متأخرًا كثيرًا عن مكانه في الفيلم، وحديث الأول عن
العاهرتين قمر ونرجس، أمَّا عند
حسن الإمام، فإن اللقاء تمَّ مباشرةً
بعد الحديث عن سعد زغلول، ومثلما تكلَّم كمال برومانسية عن الزعيم
الوطني، تكلَّم عن العفَّة «ما احبش الدنس»، وفي الرواية بدا كمال هو
الشخصية المحورية في فصول متوالية من حيث مكانته عند أمِّه وحديثه معها
في الفصل «١٥» حول مسائل عامَّة مثل الإنجليز، ويردِّد لنفسه: «أنت
تتطلَّع بحماس إلى المثل الأعلى في الدين والسياسة والفكر والحُب،
الأمهات لا يفكرن إلا في السلامة.» وفي الفصل «١٧» يدور الحوار بين
عايدة وكمال وسط الزملاء، وتظهر الطفلة بدور التي سوف يحبُّها كمال بديلًا عن أختها في «السكَّرية». وسوف تعتمد مثل هذه اللقاءات على
حوار طويل بدأ نجيب محفوظ يكتشف أهميته، حيث ازدادت مساحة الحوار عن
رواياته السابقة، وذلك تمهيدًا لانتقاله إلى المرحلة التالية من عالمه
الإبداعي.
إن كمال في هذه الفصول يحب عايدة دون أن يتساءل إن كانت تحبُّه أم
لا. ونعرف أن أُسرة الفتاة المُتفرنجة تشرب البيرة في الموائد وشطائر
لحم الخنزير، وقد كان الفصل «١٧» من الطول أن بلغ ٢٤ صفحة، ويكاد يكون
الأطول عند نجيب محفوظ بشكل عام، حيث وصف بدقة الحياة الاجتماعية في
بيت يُعتبر الوجه المعاكس تمامًا للبيت الذي يعيش فيه كمال.
وقد بدا محفوظ كأنه قد عني بكتابة رواية موازية حول كمال وعشقه
لعايدة، فاستغرق ذلك منه الصفحات الطويلة، حيث روى عن قصة الحُبِّ
الأفلاطوني لعاشقٍ لا يطمع في أن تحبه عايدة بنفس حبِّه، وقيام حسن
بإقناعه بأن عايدة تحبُّه هو، وأنه سيتزوج منها، فيباركه فيما
يشعر.
نعم، إنها رواية موازية عن كمال، لم يشأ محفوظ أن يقطع فصولها مثلما
فعل الفيلم، وظللنا عشرات الصفحات نتعرَّف على ما يحدث من حسن وعايدة،
والذهاب إلى ما أسماه المؤلِّف «قصر الحب والعذاب»، إنه ابن التاجر
الذي ينافسه على قلبها ابن المستشار.
وقد توقَّف محفوظ بضع صفحات، كي يعود إلى الحكاية نفسها في الفصل
«٢٣»، وقد حذا الفيلم حذوه، لكن الفيلم لم يتوقَّف عند ما يحدث في بيت
السكَّرية؛ حيث تسكن خديجة وعائشة،
وما يؤكِّد أن ما يدور في هذا البيت يتناقض كثيرًا مع الحياة التي
عاشتها الابنتان في «بين القصرين»،
أمَّا العودة إلى قصة الحُبِّ المستحيلة لكمال، فلقد بدأ الحدث الرئيس
عند الكاتب حيث يدور في الفيلم والرواية حوار غريب، وسط الليل المظلم،
وفي الشارع، بما لا يتناسب مع أجواء عام ١٩٢٦م، ولا شكَّ أن الحوار
الذي جاء في الفيلم بين الاثنين كان رغم طوله مختصرًا، وهي تكملة بنوعٍ
من السخرية «ألست فيلسوفًا؟»
وقد استمرَّ الكاتب يتابع هذه القصة الجامدة لفصول متتالية لنعرف أن
حسن سوف يعمل بالسِّلك الدبلوماسي،
وأن عايدة بالتالي سوف تغادر القطر لتعيش هناك، وهي التي اعتادت أن
تذهب إلى أوروبا في الإجازات إلى أن يقول المؤلِّف في الفصل «٢٥»: أنه
«تنقضي السنون ولا يفتُر حبُّه لهذا الطريق.» قال لنفسه، وهو يلقي على
ما حوله نظرة عميقة: «لو شابه حبي للمرأة التي يختارها قلبي حبي لهذا
الطريق لأراحني من متاعب جمَّة.» ثُم نكتشف أن هذه الجملة التي تناسب
كمال وطريق العباسية، هي أيضًا مناسبة للغاية لياسين الذي التقى زنوبة
في طريق مُظلم في ظروف تختلف تمامًا عن التي قدَّمها الفيلم، فهو لقاء
مصادفة، اشترت فيه زنوبة الذهب من عند يعقوب الجواهرجي، بينما جاءت
جليلة (أو زبيدة حسب الفيلم) كي تبيع، فتتعاركان، وتخرج لترى ياسين في
أعقاب امرأة دميمة بدينة، وتلفت زنوبة انتباهه. كل هذا لم نقرأه في
الرواية حيث قابل ياسين المرأة، وهي التي لم يرَها منذ فترة، تعرف أنه
متزوِّج، وتخبره أنها متزوِّجة تقريبًا، ثُم يأخذها أولًا إلى حانة،
ثُم إلى شقَّة الزوجية تحت بصر وسمع مريم ليضاجعها: «أنا متزوِّج وأبحث
عن رفيقة»، والحقيقة أن عبد المنعم
إبراهيم قد أعطى هذه الشخصية قبولًا وفكهة قياسًا إلى هذه
الشخصية المصابة بالشبق، والتي لا ترعى مشاعر النساء بأيِّ ثمن، حيث
أولى محفوظ لياسين وزنوبة أهمية في فصول متلاحقة، حتى يتمَّ السِّباب
بين مريم وزوجها في كلٍّ من الفيلم والرواية: «أنتِ العاهرة، أنتِ
وأمُّك.» ويعايرها، لتقول له ضمن ما قالت: «أنا أشرف من أهلك ومن
أمِّك. سَل نفسك عن الرجل الذي يتزوج امرأة وهو يعلم أنها عاهرة، هل
يكون إلا قوادًا خسيسًا؟» وفي الحقيقة فإن هذا هو الحوار الأكثر سبًّا
في الرواية المصرية حتى ذلك الأوان، وقد انتقل بدوره إلى
الفيلم.
وسرعان ما يرمي عليها الطلاق، وتبقى زنوبة في بيته حتى الصباح، كأنه
قصَّ أظفرًا بدون أيِّ معاناة، ونامت زنوبة في فراش مريم. وفي الفصل
«٢٧» هناك حوار يدور في صباح اليوم التالي بين زنوبة وياسين غير موجود
في الرواية، مثل خشية زنوبة أن تنتظرها مريم لتنفرد بها خارج المنزل،
ثُم هو يطلب منها أن تطرد الرجل الآخر من حياتها، دون أن يعرف أنه
أبوه.
يدور الفصل «٢٨» في العوامة كما سيحدث في الفيلم؛ حيث يدور النقاش
الحادُّ بين العاشق والمرأة التي سرعان ما تتنمَّر عليه، وتطرده من
العوامة التي كتبها باسمها بعد حوار طويل اعتاد نجيب محفوظ على صياغته
بحرفية عالية، وذلك بعد أن لانت له في الرواية، ثُم تراجعت، وفي الفيلم
خرج عبد الجواد بعد أول طردة منها، وفي الرواية عاد إليها مرَّة أخرى
في العوَّامة؛ أيْ إن الفيلم اختصر اللقاءين في مشهد واحد. «هذه
العوَّامة عوامتي وعقد إيجارها باسمي، فاذهب بالسلامة قبل أن تذهب في
زفة.»
هذه المرأة المتمرِّدة غير الطائعة سوف تتحوَّل إلى أمينة أخرى في
بيت ياسين بعد أن تتزوج منه، وقد ألغى الفيلم حوارات طويلة في هذه
المسألة، حيث إن محمد عفت يقول له: «زبيدة نفسها لم تفكر في ذلك، يا
للعجب، لكنها معذورة، فقد وجدتك تدلِّلها أكثر مما تحلم به فطمعت في
المزيد.» وقد روى المؤلِّف أن الكبرياء انحنى بصاحبه الذي ذهب مرَّات
ومرَّات، حتى صار التردُّد أمام العوَّامة بعد جثوم الليل عادة
يجرِّبها قبل ذهابه إلى مجلس الإخوان، إلى أن تتبَّع خطاها، فدخلت بيت
ياسين في قصر الشوق، وهو المشهد الذي صوِّر بشكل موجز للغاية في
الفيلم.
وما إن انتهى المؤلِّف من هذه الحكاية، حتى عاد إلى الحكاية كمال في
الفصل «٣١»، حيث ستتزوج عايدة من حسن، أمَّا كمال في الفيلم فيبدو
رجلًا يؤمن فقط بالحُب، وأن الزواج يفسد الحُب، «إتحكم عليَّ من زمان
إني أحبك، أنا فخور بحبي، ولو كرهتيني. الاعتراف بالحُب بداية مش
نهاية.» ثُم تنتقل الأحداث إلى أن عبد الجواد قد أصابه صداع لمدَّة
أسابيع، وتظل حادثة زواج ابنه من زنوبة مثار متاعبه «تُرى هل تعلم
زنوبة بأنه ابني؟!» وتتغير مفاهيم الأب حول الأبناء الذين صاروا
بالغين، ثُم تتشابه مسارات الرواية والفيلم بعد ذلك، عدا الأغنية
الطويلة التي تعبر عن سعادة الزوجين.
عندما يذهب ياسين إلى أبيه يطلب منه أن يطلِّق زنوبة، لكنه يتراجع
بعد أن يعرف أنها حامل، ومن أجل أن يتخلَّص منها، يدَّعي أنه سوف يُنقل
إلى الصعيد «وماله أنا خدامتك، معاك لآخر الدنيا.» وأنه سيتحول إلى
أبيه، طاغية في البيت، لا يتوقف عن البحث عن الداعرات، إلى أن يقابل
أخاه كمال المصدوم في حبِّه عند باب أحد المواخير، وقد انتهى لتوِّه،
ويدور بينهما حوار صارم بالنسبة لكمال: «أبوك عمدة الفجور والفسق،
يردِّد ياسين: زنوبة ست محترمة، مصممة تفضل معايا للأبد.» ويقول ياسين
أيضًا: «إن الستات ماركة مكرَّرة بينما الحُبُّ عاطفة عمرها أيام
وأسابيع.»
هذه المشاهد لم يهمل الفيلم في نقلها، والاهتمام بها عدا بعض
التفاصيل، كأن يذهب ياسين إلى ابنه كي يوقف أمر نقله بنفوذه، ويعرف
الأب أن أمر نقله بسبب ذهابه إلى درب طياب، وشجاره مع ساقطة، فحُرِّر
له محضر بلغت صورته إلى الوزارة، ورغم غضب الأب فإنه ظل وراء الأمر حتى
أوقف أمر النقل، كما أن الفيلم لم يُشر إلى ما سمعه كمال عن عايدة بعد
زواجها، وسفرها، وحملها.
لم يذكر محفوظ تاريخًا محدَّدًا في روايته، إلا ما جاء على لسان
ياسين يوم الخميس ٣٠ أكتوبر ١٩٢٦م، حين تقابل مع أخيه، وكاشفه بسرِّ
أبيه والأُسرة، وجاء ذكر العاهرة وردة، وفي هذا الحوار نعرف أن ياسين لم يدلف بين القصرين
منذ أن طردته أمينة التي نسيت الأمر تمامًا، وألغى الفيلم أيضًا الفصل
الذي يعود فيه ياسين إلى البيت بعد منتصف الليل، ويدور بينهما عتاب هو
أقرب إلى الشِّجار «مكتوب على مَن يعاشرك التعب.» وعندما تتنهَّد يقول:
«هذه التنهيدة حرقت قلبي، الله يقطعني.»
في الفصل «٤١» يعود عبد الجواد إلى العوَّامة، هذا الفصل غير موجود
في الفيلم، ليغازل جليلة وزبيدة. لقد أفل نجم جليلة، ولم تعد زبيدة تجد
حولها غيره، فيبدو الرجل كأنه لم يتجاوز الأربعين «راح يرقص مع النغمة
رافعًا الكأس التي لم يبقَ فيها إلا الثُمالة أمام عينيه.»
وقد صوَّرت الرواية أن المرض الذي أصاب عبد الجواد بسبب إسرافه في
العوَّامة، أمَّا في الفيلم فإن ذلك حدث بسبب مرضه حزنًا على ما فعلته
زنوبة، وكانت النتيجة في الحالتين أن جاءت زنوبة لتزور المريض، عشيقها
السابق ووالد زوجها وجدَّ الجنين الذي يكمن في بطنها. استقبلتها
الأُسرة كلها ببشاشة، وعاد ياسين إلى «بين
القصرين»، وامتلأ البيت بالأبناء والبنين وزوجيهما،
والأحفاد. وكان المشهد مؤثرًا للغاية في الفيلم، وزنوبة تنحني لتقبِّل
يد عبد الجواد، وتكون هناك إشارة إلى التيفوئيد الذي سيجعل أبناء خديجة
وعيشة يأتون للإقامة في بين القصرين، ليكون المشهد النهائي في البيت
المُظلم الحزين أن ولادة زنوبة متعسِّرة، والصحيفة التي تنشر خبر وفاة
سعد زغلول «هو يعني كان أحسن من اللي راحوا»، وينحني ياسين ليقبِّل
أباه: «زنوبة بتولد.» وعناق بين كمال وأبيه الذي بدت عليه علامات
السنِّ، والكهولة.