العنكبوت والبزَّاق والراكون
عنكبوتٌ أحمر بأذرعٍ طويلة وبزَّاقٌ فضي اللون وراكون لم يغسل وجهه قط، بدأ ثَلاثتُهم الدراسة معًا في مدرسة الغرير. كانت هناك ثلاثة أشياء علَّمها لهم السيد الغرير.
أولًا: حكى لهم قصة السباق بين السُّلَحْفاة والأرنب. ثانيًا: أوضَح لهم، كما تشير تلك القصة، أن بإمكان أي شخصٍ أن يتفوَّق على الآخرين ويُصبِح أكبرَ وأكثرَ أهميةً منهم. ثالثًا: قال لهم إن الشخص الأكبر حجمًا هو الذي ينال الاحترام الأكبر.
منذ ذلك الحين، عمل الثلاثة بكل قوَّتهم، وأخذوا يتنافسون فيما بينهم للحصول على المركز الأول في الصف.
في عامهم الأول، عُوقب كلٌّ من البزَّاق والراكون لتأخُّرهما الدائم؛ لذلك صَعِد العنكبوت إلى المقدمة. بينما كان البزَّاق والراكون يَذرِفان الدموع من الغيظ.
في عامهم الثاني، أخطأ السيد الغرير في حساب علاماتهم؛ لذلك جاء البزاق في المركز الأول. أما العنكبوت والراكون فقد أخذا يَجزَّان على أسنانهما من شدة الغيظ.
وفي اختبار السنة الثالثة، كان الضوء شديدًا جدًّا في قاعة الاختبار؛ فدمعَت عينا السيد الغرير مما جعله يُغلقهما باستمرار. أثناء ذلك فتح الراكون الكتاب المدرسي ونقل الأجوبة منه، فجاء في المرتبة الأولى.
وهكذا فإن العنكبوت الأحمر ذا الأذرع الطويلة والبزَّاق الفضي والراكون الذي لم يغسل وجهه قط تخرَّجوا جميعًا من مدرسة السيد الغرير في نفس الوقت.
قام الثلاثة، والذين بدَوا ظاهريًّا أنهم أصدقاءُ حميميون، بكل ما في وُسْعهم للاحتفال بهذه المناسبة. فقد أقاموا حفلةً للسيد الغرير تعبيرًا عن شكرهم له على كل ما قد فعله لهم، وأتبَعوا ذلك بحفلة وداعٍ خاصة بهم، لكن في أعماق قلوبهم، كان كلٌّ منهم مشغولًا بالتفكير في الاثنَين الآخرَين، ويقول في نفسه: «ها! ما الذي لديهما ليفخرا به؟ انتظِرا فقط لتُشاهِدا من سيصبح الأكبر والأكثر أهمية!»
بمجرد انتهاء الحفلتَين، عادوا جميعًا إلى منازلهم لتطبيق ما تعلَّموه. وكان السيد الغرير مشغولًا مرةً أخرى بالفعل؛ إذ كان يُلاحِق أحد جرذان المجاري من أجل إلحاقه بالمدرسة.
لقد كان الوقت الذي تتفتَّح فيه أزهار البنفسج النابي. وكان عددٌ لا يُحصى من النحل ذي العيون الزرقاء يطير وهو يطنُّ في الأنحاء بابتهاجٍ تحت أشعة الشمس، ويُلقي بتحيَّاته على كل زهرةٍ وردية صغيرة قبل أن يمتصَّ رحيقها، ثم يحمل كُرات حبوب اللقاح الذهبية إلى زهورٍ أخرى، أو يجمع الشمع الذي لم تعُد براعم الأشجار الغضَّة بحاجة إليه لاستخدامه في بناء منازلهم ذات الجوانب الستة. لقد كان يومًا سعيدًا مليئًا بالنشاط والحيوية في بداية الربيع.
ما حَلَّ بالعنكبوت
في المساء الذي تلا الحفلتَين، رجع العنكبوت إلى شجرة البلوط التي كان يعيش فيها عند طرَف الغابة.
لسوء الحظ، كان قد استنفَد كل أمواله في مدرسة الغرير ولم يَبقَ شيءٌ واحد يمتلكه. لذلك تَحمَّل جوعه، وبدأ في غزل شبكةٍ تحت ضوء القمر الخافت.
كان جائعًا للغاية لدرجة أنه لم يبقَ في جسده سوى القليل من الخيوط. لكنه كان يُتمتِم في نفسه: «سيران! سيران!» واستمَر في الغزل بأقصى طاقته، إلى أن أنشأ في النهاية شبكةً بحجم عُملةٍ نُحاسية صغيرة. ثم اختبأ خلف غصن، وأخذ يراقب الشبكة بعيونٍ لامعة طوال الليل.
قرابة الفجر، جاء أحد ذُباب الخيل الصغير يطير في الأنحاء، ويطنُّ لنفسه، ووقع في الشبكة. لكنه سرعان ما تخلَّص منها؛ ذلك لأن العنكبوت كان جائعًا جدًّا عند نسجها، فلم تكن الخيوط لزجةً كما ينبغي.
بالقرب منه اندفَع العنكبوت من خلف الغصن، وغرَز أسنانه فيه.
قال صغير الذُّباب وهو يبكي: «لا تفعل، أتَوسَّل إليك!» لكن ودون أي كلمة التهَمه العنكبوت؛ التهم رأسَه وجناحَيه وقدمَيه وكل شيء فيه. تنفَّس العنكبوت الصُّعَداء، واستلقى لفترة من الوقت ينظر إلى السماء ويفرُكُ بطنه، ثم بدأ ينسج مزيدًا من الخيوط. فزاد حجم الشبكة إلى الضعف.
رجَع العنكبوت إلى خلف الغُصن، وكانت عيونه الستة تلمع وهو جالس بلا حَراكٍ يراقب الشبكة.
سأل ذكَر ذُباب مايو أعمى بينما كان يتقدَّم متكئًا على عصاه: «ما هذا المكان؟»
قال العنكبوت وعيونه الستة تطرف كلٌّ على حدة: «هذا نُزلٌ يا سيدي.»
جلس ذكَر ذُباب مايو على الشبكة وهو يبدو عليه التعب. خرج العنكبوت من مخبئه.
وقال: «إليك بعض الشاي»، لكن ودون سابق إنذار غرَز أسنانه في جسم ذكَر ذباب مايو.
رفع ذكَر ذُباب مايو اليد التي كان سيُمسِك بها كوب الشاي، وراح يُصارِع بلا جدوى، وهو يقول في الوقت نفسه بصوتٍ يلتمس الشفقة:
قال العنكبوت: «أنتَ، ذلك يكفي! وتوقَّف عن المقاومة!» وعندها ضَم ذكَر ذُباب مايو باطن كفَّيه معًا وقال مُتوسلًا:
«أشفِق لحالي، سيدي الطيب. دعني أُلقي قصيدتي الأخيرةَ على الأقل!»
قال العنكبوت وهو يشعُر بقليل من الأسف من أجله: «حسنًا، لكن أسرِع!» ثم جلس ينتظر مُحكِمًا قبضتَه على ساقَي ذكَر ذباب مايو.
وهكذا، بدأ ذكَر ذُباب مايو يتلو قصيدته بصوتٍ خافت يدعو بحقٍّ للشفقة، راجعًا مرةً أخرى لبدايتها:
صاح العنكبوت: «كيف تجرؤ على ذلك؟ … هذا يكفي!» ثم ابتلَعه دفعةً واحدة. استلقى لفترة من الوقت وهو ينظر إلى السماء ويفرُكُ بطنه، ثم طرَف بعيونه وبدأ يُغَني بمرح: «فات الأوان لتعلُّم الاحترام»، وبعد ذلك عاد لغزل الخيوط مرةً أخرى.
ازداد حجم الشبكة ثلاثة أضعاف، فأصبحَت تشبه مظلةً كبيرة. بذهنٍ صافٍ، اختبأ العنكبوت ثانيةً بين أوراق الشجرة. بعد ذلك مباشرة، سمع أحدَهم بالأسف يُغَني بصوتٍ حسن:
نظر العنكبوت لأسفل، فوجد أنثى عنكبوتٍ جميلة.
قال لها، تاركًا خيطًا طويلًا جدًّا يتدلى من أجلها: «اصعَدي إلى هنا.»
أمسكَت أنثى العنكبوت بالخيط في الحال وبدأَت بالصعود. وسرعان ما أصبحا زوجًا وزوجة. كان يُوجد جميع أنواع الطعام في الشبكة كل يوم، وأكلَت زوجة العنكبوت كثيرًا منه، وحوَّلَته إلى أطفال. لذلك وُلد كثير من العناكب الصغيرة. لكنهم كانوا جميعًا صغار الحجم للغاية لدرجة يصعُب معها رؤيتهم.
كانت الحياة مُفعَمةً بالحيوية بوجود الأطفال وهم ينزلقون، ويتصارعون ويتأرجحون على الشبكة. والأفضل من ذلك كله، أنه في أحد الأيام ظهر اليَعْسوب ليُخبرَهم بأن الحشرات قد قرَّرَت جعل العنكبوت نائبًا لرئيس جمعية الحشرات والديدان.
بعد ذلك بفترةٍ وجيزة، وبينما كان العنكبوت وزوجته يختبآن يشربان الشاي بين أوراق الشجرة، سمعا أحدهم يُغَني بصوتٍ مُتغطرِس:
نظرا فشاهَدا البزَّاق الفضي، الذي كان حجمُه قد تضاعف بنحوٍ كبير منذ أن رآه آخرَ مرَّة.
أصِيبَت زوجة العنكبوت الطيبة بضيقٍ شديد لدرجة أنها أخذَت تبكي وتبكي، ولم تُفلِح المحاولات في تهدئتها.
لكن العنكبوت الطويل الأرجل نخر وقال:
«إنه يغار مني، هذا كل ما في الأمر. أنت! أيها البزَّاق … لقد عُيِّنت نائبًا لرئيس جمعية الحشرات والديدان! ما رأيك بذلك، هه؟ لا يمكنني أن أتخيل أمثالك يصبحون ذلك مهما بلغ حجمهم. ها-ها، ها-ها!»
غضب البزاق الفضي غضبًا شديدًا لدرجة أنه أصِيب بالحُمى لعدة أيام، ولم يستطِع أن يقول شيئًا سوى: «أوه، يا له من عنكبوتٍ بغيض! يا لها من إهانة! هذا العنكبوت البغيض!»
من وقتٍ لآخر كانت الشبكة تتدمَّر بفعل الريح، أو تتضرَّر بسبب فعلٍ أخرق من قِبل خنفساء أيل، لكن العنكبوت كان سرعان ما ينسج خيطًا جديدًا طويلًا وناعمًا ويُصلِح الشبكة مجددًا.
من بين أطفالهما المائتَين، مائةٌ وثمانية وتسعون طفلًا سُرقوا من قِبل النمل، أو اختفَوا دون تركِ أي أثَر، أو ماتوا بمرض الزُّحار. لكن الأطفال كانوا جميعهم متشابهين إلى حدٍّ بعيد لدرجة أن والدَيهم سرعان ما نسياهم.
أصبحَت الشبكة الآن شيئًا عظيمًا. وقد وقع في خيوطها سيلٌ منتظم من الحشرات.
في أحد الأيام كان العنكبوت وزوجته متواريَين عن الأنظار يشربان الشاي بين أوراق الشجرة، عندما جاءت بعوضةٌ متجولة، وألقت نظرةً سريعة على الشبكة، وانحرفَت بعيدًا. وضَع العنكبوت ثلاثةً من أرجله داخل الشبكة، وراقبَها بازدراءٍ وهي تمضي.
بعد ذلك مباشرةً، وصلَ لمسامع العنكبوت وزوجته صوتُ ضحكةٍ مجلجلة قادمة من أسفل، وبدأ صوتٌ رائع يُغَني:
لقد كان هذا هو الراكون الذي لم يغسل وجهه قط.
قال العنكبوت وهو يكزُّ على أسنانه بغضب: «انتظِر أيها الراكونُ الأحمق! بعد فترةٍ وجيزة سأصبح رئيسًا لجمعية الحشرات والديدان، وبعدها سأجعلك تنحني لي … انتظِر فقط وسترى!»
منذ ذلك الحين، بدأ العنكبوت بالعمل بجِد. ونسَج عشر شبكاتٍ كاملة في أماكنَ مختلفة، وداوم على مراقبتها حتى في الليل.
لكن من المُحزِن القول بأن الضعف قد بدأ في الظهور. لقد تَراكَم كثير من الطعام لدرجة أن فسادَه كان لا مفَر منه. وقد وصل الضعف إلى العنكبوت وزوجته وطفلَيهما. بدأ الأربعة جميعهم بالشعور بالضعف والهشاشة، بدءًا من أطراف أرجلهم، حتى جرَفَهم المطر في النهاية بعيدًا.
حدَث هذا في نحو الوقت الذي كان فيه البرسيم في حالة إزهار، وكان النحل قد انتشر بعيونه الزرقاء في الريف؛ حيث كان يجمع العسل من كل زهرةٍ صغيرة كما لو كان يأخذ ضوءًا من مصباحٍ يدوي صغير.
ما حلَّ بالبزَّاق الفضي
في نحو الوقت الذي كان العنكبوت ينسجُ فيه شبكتَه الأولى التي بحجم عُملةٍ نُحاسية في شجرة البلوط على طرَف الغابة، صَعِد حلزون إلى المقر الجميل للبزَّاق الفضي.
في ذلك الحين، كان البزَّاق الفضي يتمتع بسمعةٍ طيبة في الغابة. كان الجميع يرى أنه مُتَعلم، ولطيف ومُراعٍ للآخرين.
قال الحلزون: «أيها البزَّاق، إنني أمُر في الوقت الحاضر بظروفٍ صعبة. ليس لديَّ أيُّ طعام لأتناولَه، ولا ماء؛ لذا هل تسمح لي بتناول قليل من عصير نباتات الأرام الذي تُخزِّنه؟»
قال البزَّاق: «عجبًا، بالطبع. تعالَ إلى الداخل، هلَّا فعلتَ؟»
قال الحلزون وهو يشرب عصير نباتات الأرام: «هذا لطفٌ كبيرٌ منك. إنك كما يُقال صديق عند الضيق.»
قال البزَّاق: «تناوَل المزيد. أقصِد، نحن شبه أخوَين، أليس كذلك؟ … ها-ها-ها. هيا، تناوَل مزيدًا منه.»
«حسنًا، إذَن، ربما قليلًا فقط. شكرًا لك، شكرًا لك.» وشرب الحلزون كما قال.
قال البزَّاق: «أيها الحلزون، هل نتصارع قليلًا عندما تشعُر بالقدرة على ذلك؟ لم نتصارع منذ وقتٍ طويل — ها-ها-ها — لم نفعل هذا منذ وقتٍ طويل.»
قال الحلزون: «إنني أتضوَّر جوعًا لدرجة أنه ليست لديَّ القوة لذلك.»
قال البزَّاق وهو يُخرِج بعض البراعم الشوكية وما شابه: «إذَن سأعطيك شيئًا لتأكُله. هيا، تفضَّل.»
«حسنًا، ما دُمتَ مصممًا. …» والتهمَها الحلزون كلها.
قال البزَّاق وهو ينهض أثناء كلامه: «الآن دعنا نتصارع، ها-ها-ها.»
قال الحلزون وهو يقف على قدمَيه على مضَض: «أشعُر بالوهن إلى حدٍّ كبير؛ لذا من فضلك لا ترمِني بقوةٍ شديدة.»
«هيا! لتسقُط!» سقط الحلزون على الأرض بقوة. «دعنا نكرِّر ذلك، ألن نفعل؟ ها-ها-ها!»
قال الحلزون: «لا، أنا حقًّا مُتعَب.»
«أوه، دعكَ من هذا. هيا مرةً ثانية، ها-ها-ها!» مرةً أخرى سقط الحلزون على الأرض. «ومرةً أخرى، ها-ها-ها.»
«لا، لقد اكتفيت.»
«هيا، مرةً أخرى فقط. لتسقط. ها-ها-ها. …» وسقط الحلزون على الأرض مرة أخرى.
«لا، أنا …»
«أوه، هيا! لتسقط! ها-ها-ها-ها.» وسقط الحلزون. «مرةً أخيرة؟»
«إنني أموت. وداعًا.»
«قف على قدمَيك، الآن! هيا، دعني أساعدك في الوقوف … الوقوف، وها أنت تسقط، ها-ها-ها. …»
ومات الحلزون. فأكله البزَّاق الفضي بالكامل بشهية؛ الأجزاء الخارجية الصلبة وغيرها.
بعد حوالي شهر من ذلك، جاء ذكَر سحلية وهو يعرُج إلى المنزل الجميل للبزَّاق.
وقال: «أيها البزَّاق، أتساءل هل بإمكاني الحصول على قليل من الدواء؟»
سأل البزَّاق مبتسمًا: «ما المشكلة؟»
قال ذكَر السحلية: «لقد لدغَني ثعبان.»
قال البزَّاق مبتسمًا: «أوه، هذا سهل. سألعق مكان العضَّة من أجلك. إذا لعقتُها فسيزول سُم الثعبان على الفور. يجب أن يحدُث ذلك؛ نظرًا لأن بإمكاني إذابة الثعبان نفسه، ها-ها-ها!»
قال ذكَر السحلية وهو يمُد ساقه: «حسنًا، إذا لم يكن لديك مانع.»
«عجبًا، طبعًا، طبعًا. نحن أخَوان على نحوٍ ما، أليس كذلك؟ وكذلك أنت والثعبان، هه؟ ها-ها-ها!» ووضع البزَّاق فمه على جُرح ذكَر السحلية.
قال ذكَر السحلية بعد برهة: «شكرًا لك.»
تمتم البزاق وهو يتابع اللعق: «انتظر، لم ننتهِ بعدُ. لا أريد منك أن تطلب المساعدة مرةً أخرى فيما بعدُ، ها-ها-ها.»
قال ذكَر السحلية بانزعاج: «أيها البزَّاق … أعتقد أن ساقي قد بدأت تذوب!»
أجاب البزَّاق بغموض كما كان من قبلُ: «ها-ها-ها، لا يُوجد هناك ما يدعو للقلق.»
قال ذكَر السحلية بقلق: «أيها البزَّاق … أشعُر بنوع من السخونة في المنتصف.»
تمتَم البزاق: «ها-ها-ها، يجب ألَّا تدَعَ ذلك يُزعِجك.»
قال ذَكر السحلية وهو يبكي: «أيها البزَّاق … أعتقد أن نصف جسدي قد ذاب. توقَّف عن ذلك الآن، أرجوك!»
قال البزَّاق: «ها-ها-ها، كل شيء على ما يُرام … بأمانة إنه كذلك.»
عندما سمع ذلك، توقف ذكَر السحلية عن القلق أخيرًا. توقف عن القلق لأنه في تلك اللحظة تمامًا قد ذاب قلبه.
وهنا، التهَم البزَّاق بصوتٍ عالٍ ذكَر السحلية بأكمله. وأصبح ضخمًا بنحوٍ يبعث على السخرية. وكان يشعُر بسعادةٍ بالغة بداخله بحيث لم يستطِع مقاومة رغبته في مضايقة العنكبوت.
لكن في المقابل كان العنكبوت قد سَخِر منه؛ لذلك رجَع لمنزله ولَزِم سريره يشكو من الحمى، وكان كل يوم يُردِّد: «انتظِر فقط. سأصبح ضخمًا بقَدْر استطاعتي. ومن شبه المؤكد حينها أنني سأصبح عضوًا فخريًّا في جمعية الحشرات والديدان. وإذا قال العنكبوت أي شيء، فلن أرُد عليه، بل سأكتفي بالنظر إليك باحتقارٍ كبير.»
لكن المشكلة أن سُمعة البزاق لسبب أو لآخر قد بدأت بالتدهور في ذلك الوقت.
كان الراكون على وجه الخصوص يستخف دائمًا بالبزَّاق عند أي ذِكرٍ له، قائلًا وهو يبتسم: «لا أستطيع القول بأنني مُعجَب بطريقة البزَّاق في فعل الأشياء. عجبًا، إن بإمكان أي شخصٍ أن يصبح ضخمًا بالطريقة التي يسلُكها!»
عندما سمع البزَّاق ذلك استشاط غضبًا أكثر، وحاول بكل جنونٍ أن يُنتخب عضوًا فخريًّا في الجمعية في أقرب وقتٍ ممكن.
بعد فترةٍ قصيرة، تعفَّن العنكبوت وذاب ثم جرفَته مياه الأمطار بعيدًا؛ مما خفَّف قليلًا من غضب البزَّاق. وانتظر بفارغ الصبر قدوم زائرٍ آخر.
ثم جاء في أحد الأيام ضفدع.
قال: «طاب يومُك أيها البزَّاق. هل تسمح لي ببعض الماء؟»
قال البزَّاق بصوتٍ لطيف على نحوٍ مصطنع: «من الجميل أن أراكَ أيها الضفدع»؛ لأنه كان يتوق إلى التهامه. «ماء؟ خذ منه ما تشاء. فقد حلَّ الجفاف منذ عهدٍ قريب … لكن أنت وأنا شبه أخوَين، أليس كذلك؟ ها-ها-ها!» ثم أخذ الضفدع إلى إناء الماء.
شرب الضفدع حتى ارتوى، ثم نظر إلى البزَّاق لبُرهة بتعبيرٍ بريء، وقال له: «ما رأيك بقليلٍ من المصارعة، أيها البزَّاق؟»
فرِح البزَّاق. فقد قدَّم الضفدع الاقتراح الذي كان على وشك أن يُقدِّمه هو بنفسه. إن مخلوقًا ضعيفًا مثل هذا من المحتمل أن يكون جاهزًا للابتلاع بعد خمس رميات أو نحو ذلك.
قال البزَّاق: «نعم، دعنا نتصارع. هيا! لتسقُط، ها-ها-ها!» سقط الضفدع على الأرض. «دعنا نُحاوِل مرةً أخرى. لتسقُط، ها-ها-ها!» ومرةً أخرى أُلقيَ الضفدعُ على الأرض.
هنا، أخرج الضفدع بسرعة كيسَ مِلحٍ من جيبه.
وقال وهو يرُش حَفْنة من المِلح في المكان: «يُطهِّر مصارعو السومو دائمًا الحلبة بالملح.»
قال البزَّاق: «هيا، أنا متأكدٌ أنك ستهزمني في المرة القادمة. فأنت قويٌّ جدًّا. هيا! دعنا نتصارع، ها-ها-ها!» ومرةً أخرى ارتطَم الضفدع بالأرض.
رقد هناك مُمدَّدَ الذراعَين والساقَين، وبطنُه الباهت اللون كان يتجه لأعلى، فبدا وكأنه قد فارق الحياة. لكن عندما أراد البزَّاق الفضي التوجُّه نحوه لابتلاعه، لم يستطِع أن يُحرِّك ساقَيه لسببٍ ما. نظر، فوجد أنه قد ذاب نصفهما.
صرَخ البزَّاق: «أوه، يا إلهي، الملح!»
عند ذلك قفَز الضفدع وجلس متربعًا على الأرض، وفتح فمَه الكبير على مصراعَيه وراح يضحك.
قال بانحناءة: «الوداع، أيها البزَّاق. لا بد أن ذلك أكثر شيءٍ مزعج بالنسبة لك.»
كان البزَّاق على وشك البكاء.
وقال: «أيها الضفدع، الودا…» لكن حين ذلك ذاب لسانُه.
أخذ الضفدع يضحك ويضحك.
وقال: «أتوقَّع أنكَ كنتَ ستقول «الوداع». حسنًا، إذَن، الوداع لك. عندما أعود إلى المنزل سأبكي عليك كثيرًا.» وانطلق مسرعًا دون النظر إلى الوراء ولو مرةً واحدة.
كانت الأزهار البيضاء للحنطة السوداء المبذورة في الخريف، قد بدأت في التفتح للتو، وأعدادٌ لا حصر لها من النحل ذي العيون الزرقاء كان يحوم بين السويقات الوردية المنتشرة في أحد الحقول المربَّعة، متمايلًا على الأغصان الصغيرة التي تحمل الأزهار، ومشغولًا بجمع آخر عسلٍ في السنة.
ما حَلَّ بالراكون
لم يسبق للراكون هذا أن غسل وجهه عن قصد.
بحلول الوقت الذي كان العنكبوت قد بنى فيه شبكتَه الأولى التي كانت بحجم عُملةٍ نحاسية في شجرة البلوط عند طرَف الغابة، عاد الراكون إلى المعبد حيث كان يعيش في الريف. لكنه كان أيضًا جائعًا جدًّا، وكان يتكئ على شجرة صنَوبَر وعيناه مغمضتان عندما جاء أرنب باتجاهه.
قال الأرنب: «أيها الراكون، من المخيف أن يكون الشخص جائعًا هكذا، أليس كذلك؟ وقد يموت بسبب ذلك.»
قال الراكون: «نعم بالفعل. لا يبدو أن هناك كثيرًا من الأمل. لكن كل هذا بإرادة القط البري، القط المبارك. السلام عليه، السلام عليه!»
قال الأرنب أيضًا: «السلام عليه.»
«السلام عليه، السلام عليه، السلام عليه!» أمسك الراكون بكف الأرنب وقرَّبه منه قليلًا.
تمتم الراكون قائلًا: «السلام عليه، السلام عليه. كل شيء بإرادة القط المبارك. السلام عليه، السلام عليه. …» وأخذ قضمةً من أذن الأرنب.
صرَخ الأرنب في ذعر: «آه! ماذا تفعل أيها الراكون؟»
تمتَم الراكون وفمه ممتلئ بأذن الأرنب: «السلام عليه، السلام عليه.» وأضاف: «كل شيء على الأرض تحكُمه إرادة القط البري. أوه، إن حِكمتَه التي فوق الوصف تقضي بأن أقضم أذنَيك حتى تصل للحجم المعقول! السلام عليه. …» وانتهى به الأمر إلى أكل أذنَي الأرنب.
لكن، وبينما كان يستمع، امتلأ الأرنب تدريجيًّا بالفرح وبدأ يذرف دموعًا غزيرة.
وقاطعه قائلًا: «السلام عليه، السلام عليه. تباركتَ أيها القط البري! ما أعظم الحُب الذي يهتم بمضغ أذنَي بائسٍ مثلي! ما الذي تعنيه أذنان، أو أكثر، إذا كان في ذلك إنقاذٌ لروح أحدهم؟ السلام عليه.»
وراح الراكون أيضًا يَذرِف دموعًا زائفة غزيرة.
«السلام عليه، السلام عليه. هل تأمرني بمضغ أرجل الأرنب هذه المرة؟ لأنه يقفز كثيرًا جدًّا، على الأرجح؟ نعم، نعم … سأمضُغها، سأمضُغها! السلام عليه، السلام عليه! سيُنفَّذ أمرك!» وأخذ قضمةً كبيرة من أرجل الأرنب الخلفية.
بكى الأرنب بابتهاجٍ أكثر من أي وقتٍ مضى قائلًا: «آه، الحمد له! الآن، الشكر للقط البري المقدس، لقد اختفت رجلاي الخلفيتان، ولم أعُد بحاجة إلى المشي! آه، الحمد له! السلام عليه، السلام عليه!»
بدا الراكون وكأنه غارقٌ في دموعه.
«السلام عليه، السلام عليه. كل شيءٍ حسب إرادتك. لذا الآن، أنت تقول إن مخلوقًا متواضعًا مثلي يجب أن يعيش لتنفيذ إرادتك؟ حسنًا جدًّا، إذا كان هذا أمرك … السلام عليك، السلام عليك، السلام عليك. إن مشيئتك سوف تنفُذ. هممم، هممم …»
واختفى الأرنب بالكامل.
قال الأرنب من بطن الراكون: «لقد خدعتَني! إن جوفكَ ظلامٌ دامس! آه، كم كنتُ أحمق!»
قال الراكون بغضب: «اهدأ، يا هذا! هيا دعني أهضِمكَ بسرعة.»
نادى الأرنب مرةً أخرى: «اسمَعوا جميعًا! لا تجعلوا الراكون يخدعُكم!»
وبينما كان ينظر حوله بقلق، أغلق الراكون فمه وأبقاه هكذا لفترة من الوقت، وغطَّى كذلك أنفه بكفه حتى يكتُم أيَّ صوت.
بعد هذه الحادثة بشهرَين تمامًا، كان الراكون يؤدي صلواته المعتادة، عندما جاء إليه ذئبٌ يحمل نصف مكيال من الأرز غير المقشَّر، وتوسَّل إليه بأن يُلقيَ خطبة.
بدأ الراكون كلامه قائلًا: «إن الأرواحَ التي أخذتَها لن يُكفَّر عنها بسهولة. من منا الذي يموت طواعيةً؟ غير أنك التهمتَ الكثير، أليس كذلك؟ أسرِع بالتوبة، وإلَّا فإن العذاب الشديد ينتظرك! أوه، يا لَشِدته! السلام عليه، السلام عليه!»
مرعوبًا بشدة، نظَر الذئب حوله بقلق.
وقال: «إذَن ما الذي يجب أن أفعله برأيك؟»
«يجب أن تفعل بالضبط كما أقول لك؛ لأن القط المبارك يتحدث من خلالي. السلام عليه، السلام عليه!»
سأل الذئب مذعورًا: «وما الذي يجب أن أفعله؟»
قال الراكون: «حسنًا، الآن. فقط ابقَ هادئًا، وسأقتلع أنيابك. آه، كم من أرواحٍ بريئة قد سلبَتْها هذه الأنياب! يا له من أمرٍ مرعب! الآن سوف أقتلع عينَيك. كم من مخلوقات حدَّقَت بها هاتان العينان حتى الموت! إنها لفكرةٌ مُروِّعة. والآن (السلام عليه، السلام عليه، السلام عليه!) سوف أقضِم قليلًا من أذنَيك. هذا من قبيل العقاب. السلام عليه! السلام عليه! تحمَّل الآن. سوف أقضِم رأسك. غمغم، غمغم. السلام عليه! الشيء المهم في هذا العالم هو القدرة على التحمُّل. السلام … غمغم، هممم … الآن سوف ألتهم سيقانك. إنها لذيذة جدًّا. السلام عليه، غمغم، هممم. الآن ظهرك … مم، هذا جيد أيضًا. غمغم، غمغم، غمغم، هممم، هممم …»
في النهاية التُهِم الذئب بالكامل. وصرَخ من داخل معدة الراكون قائلًا:
«إن الظلام دامسٌ هنا. لكن يُوجد بعضُ عظام أرنب. من كان بإمكانه قتلُه؟ اسمعوا يا من بالخارج، أنا أحذِّركم … لا تدَعوا هذا الراكون يَعِظكم، وإلَّا فإنه سوف يبتلعُكم.»
قال الراكون: «إنك تُصدِر كثيرًا من الضجيج. سأضع غطاءً فوقك.» ومرةً واحدة ابتلع الصُّرة التي تحتوي على نصف مكيال الأرز، التي كان الذئب قد أحضَرَها معه.
لكن في اليوم التالي، شعَر الراكون أنه ليس على ما يُرام على الإطلاق. لسببٍ ما أصيب بألمٍ فظيع في معدته، وكان يشعُر بوخز في حلقه.
في البداية، خفَّف من الألم بشرب كثير من الماء. لكن حالته كانت تزداد سوءًا مع مرور الأيام، إلى أن أصبح الألم في النهاية أكثر مما يستطيع تحمُّله.
أخيرًا، في اليوم الخامس والعشرين من بعد التهامه للذئب وقد انتفَخ جسدُه، وأصبح كالبالون المطاطي، انفجر مُحدِثًا دويًّا هائلًا.
عندما اجتمعَت جميع حيوانات الغابة مذعورةً، وجدَت أن جسد الراكون كان محشوًّا بالأرز. كان الأرز الذي ابتلَعه قد نبَت ونما.
جاء السيد الغرير أيضًا، متأخرًا قليلًا. ألقى نظرةً سريعة، وقال بتثاؤبةٍ كبيرة: «يا إلهي، يا لَلأسف! الثلاثة كانوا تلاميذ شديدي الذكاء.»
كان الشتاء في أوَّله في ذلك الوقت، وكلُّ نحلة من النحل الأزرق العينَين كانت في المنزل ذي الجوانب الستة الذي قد صنَعَته من الشمع تنام بسلام، وتحلُم بقدوم الربيع.