دِبَبة ناميتوكو
إن قصة دِبَبة جبل ناميتوكو مثيرة للاهتمام. ناميتوكو جبلٌ ضخم ينبُع نهر فوتشيزاوا من مكانٍ ما داخله. في معظم أيام السنة، يمتص الجبل وينفُث ضبابًا وسُحبًا باردة. وتُشبِه القمم المحيطة به أيضًا البزَّاقات البحرية الخضراء المُسودَّة أو أسماك عفاريت البحر الصلعاء. وفي منتصفه، يُوجد كهفٌ كبير يخرج منه شلال قد شكَّلَته مياه نهر فوتشيزاوا، يبلغ طوله حوالَي ثلاثمائة قدم، والذي يسقط هادرًا متخللًا أشجار السَّرْو والقيقب الكثيفة النمو.
في الوقت الحاضر، لا أحد يستخدم الطريق السريع القديم؛ لذا نمَت عليه في جميع أنحائه نباتاتُ الأرام وعُشبة العُقدة، وهناك أماكنُ أقام فيها الأهالي أسوارًا على الطريق لمنع الماشية من الشرود وتسلُّق المنحدرات. لكن إذا توغَّلتَ لمسافة ستة أميال تقريبًا عَبْر حفيف الشجيرات، فسوف تسمع من بعيد صوتًا يشبه صوت الريح على قمة جبل. وإذا أمعَنتَ النظر جيدًا في هذا الاتجاه، فقد تُصاب بالحَيرة لرؤية شيءٍ طويل وأبيضَ وضيق يتدلى أسفل الجبل وسط موجة من الضباب؛ هذا الشيء هو شلال أوزورا. في تلك المنطقة، كما يقولون، كان يعيش عدد كبير من الدِّبَبة.
الآن، يجب أن أقِر بأنني في الواقع لم أشاهد بالفعل قطُّ جبل ناميتوكو أو كبد دُب قُتِل حديثًا. كل هذا يعتمد على ما سمعتُه من أشخاصٍ آخرين أو ما توصَّلتُ إليه بنفسي. قد لا يكون هذا حقيقيًّا بالكامل، على الرغم من أنني، من بينِ آخرين، أصدِّقه.
لكنني أعلم أن جبل ناميتوكو مشهور بكبد الدُّب، الذي هو مفيد لآلام المعدة، ويساعد على التئام الجروح. عند مدخل نبع ناماري الساخن، تُوجد لافتةٌ مكتوب عليها «كبد الدُّب من جبل ناميتوكو». لذلك تُوجد هناك بالتأكيد دِبَبة على الجبل. يمكنني تقريبًا رؤيتها، وهي تمُر عَبْر الوديان بألسنتها الوردية المتدلية، وصغارها وهي تتصارع فيما بينها، حتى تفقد في النهاية أعصابها وتلكُم بعضها آذان بعض. كانت أمثال تلك الدِّبَبة هي التي قد قتلَها الصياد الشهير كوجورو فوتشيزاوا ذات مرة بحُريةٍ تامة.
كان كوجورو رجلًا داكن اللون، قوي البنية، في منتصف العمر، ويُوجد حَوَل في عينَيه. كان جسده ضخمًا مثل البرميل، وكانت يداه كبيرتَين وسميكتَين مثل أثَر يد الإله بيشامون الذي كانوا يستخدمونه لعلاج أمراض الناس في مقام كيتاجيما. في الصيف، كان كوجورو يرتدي رداءً مصنوعًا من لحاء الشجر للاحتماء من المطر مع سروالٍ ضيق، وكان يحمل في يده فأس حطَّاب ومسدسًا كبيرًا وثقيلًا يشبه بندقيةً قصيرة عتيقة الطراز. وبصحبة كلب الصيد الأصفر الضخم الخاص به، كان يتجوَّل عَبْر الجبال، من جبل ناميتوكو إلى وادي شيدوك، ومن ميتسوماتا إلى جبل ساكاي، ومن غابة ماميانا إلى وادي شيرا.
عندما كان يتنقل عَبْر الوديان القديمة الجافَّة، كان يجد المرور عَبْر الأشجار النامية بكثافةٍ أشبه بعبور نفقٍ أخضرَ باهت، رغم أنه في بعض الأحيان كان يلمع فجأةً باللونَين الأخضر والذهبي، وفي أحيانٍ أخرى كان ضوء الشمس يسقط في كل الأنحاء، فيبدو المكان كما لو أنه قد أُنير بالكامل. كان كوجورو يتحرك بخُطًا بطيئة وثقيلة، بارتياحٍ شديد كما لو كان في غرفة المعيشة الخاصة به. أما كلبه فكان يسبقه، فيجري بسرعة بطول الضفاف المرتفعة، أو يغوص في الماء. كان يَسبَح بكل ما أوتي من قوة في المياه النائية الراكدة والمخيفة بعض الشيء، وعندما كان يصل في النهاية إلى الضفة الأخرى كان يهزُّ نفسه بقوة لينفُض الماء عن جلده، ثم كان يقف بأنفٍ متجعد في انتظار سيده للحاق به. كان كوجورو يعبُر الماء بفمٍ مُلتوٍ قليلًا، وهو يُحرِّك ساقيه بقوة وحذَر مثل ساقَي الفرجار، بينما يتناثر الماء في موجةٍ بيضاء فوق ركبتَيه.
كانت الدِّبَبة في منطقة جبل ناميتوكو مُولعةً بكوجورو. وأحد الأدلة على ذلك أنها غالبًا ما كانت تُحدِّق لأسفل بصمت من مكانٍ عالٍ بينما كان يشُق طريقه عَبْر الوديان أو يمُر بطول الحواف الناتئة الضيقة المليئة بالنباتات الشوكية التي تُحيط بالوادي. كانت تتشبَّث بفرع في أعلى شجرة، أو تجلس على ضفةٍ واضعةً كفوفها حول رُكَبها، وتُراقِبه باهتمامٍ أثناء مروره.
وقد بدا حتى أن الدِّبَبة كانت تُحِب كلب كوجورو.
ومع ذلك لم تكن تُحبه كثيرًا عندما تصبح في مواجهةٍ فعلية معه وكان يهجُم عليها ككرة من نار، أو عندما يسدِّد كوجورو بندقيته نحوها ببريقٍ غريب في عينَيه. في مثل هذه الأوقات، كانت معظمها تلوِّح بكفوفها كما لو كانت في محنة، وكأنها تقول له إنها لا تريد أن تُعامَل بهذه الطريقة.
لكن هناك أنواعًا مختلفة من الدببة، تمامًا كما يُوجد أنواعٌ مختلفة من الناس، وكانت أشرسُها تقف على أرجلها الخلفية، وتُزمجر عاليًا وتتقدم مادةً أقدامها الأمامية باتجاه كوجورو، متجاهلةً الكلب كما لو كان بإمكانها سحقُه تحت أرجلها بسهولةٍ شديدة. أما كوجورو فكان يُحافِظ على كامل هدوئه، ومن خلف شجرة يسدِّد بندقيته نحو منتصف جبهة الدُّب ثم يُطلِق النارَ عليه.
كانت الغابة بكاملها تبدو وكأنها تصرُخ بصوتٍ عالٍ، وكان الدُّب يسقط على الأرض. كان الدم الأحمر الداكن يتدفق من فمه ويخنفر بوتيرة متسارعة إلى أن يموت في النهاية.
بعد ذلك، كان كوجورو يُسنِد بندقيته على شجرة، ويتوجَّه بحذر نحو الدب ويقول له شيئًا كهذا:
«لا تظُن أيها الدب أنني قتلتُك لأنني كنتُ أكرهُك. يجب أن أكسب عيشي، تمامًا كما يجب أن تموت بطلقاتي. أتمنى أن أقوم بعملٍ آخر؛ أن أعمل بدون وجود خطيئة في الأمر، لكن ليس لديَّ حقول، ويقولون إن أشجاري هي ملكٌ للدولة، وعندما أذهب إلى القرية، لا يرغب أحد في التعامل معي. أنا صياد لأنه ليس بوسعي فعل شيءٍ آخر. إن القدَر هو الذي جعلك دُبًّا، وهو الذي يجعلني أقوم بهذا العمل. تأكَّدْ من أنك لن تُولَد دبًّا من جديد في المرة القادمة!»
في مثل هذه الأوقات، كان الكلب أيضًا يجلس بجانبه بعينَين شبه مغمضتَين وهيئةٍ كئيبة. كان الكلب، كما تلاحظون، الرفيق الوحيد لكوجورو. ففي صيف عامه الأربعين، كانت كل عائلته قد أصيبت بمرض الزُّحار وتُوفي ابنُه وزوجة ابنه. لكن الكلب ظل نشيطًا وبصحةٍ جيدة.
بعد ذلك، كان كوجورو يُخرِج من جيبه سكينًا قصيرًا حادَّ الشفرة، ويشُق جلد الدب بضربةٍ واحدة طويلة تمتد من تحت ذقنه حتى صدره وصولًا إلى بطنه. المشهد الذي كان يعقب ذلك لا أرغب في التفكير فيه. ففي كل الأحوال، في النهاية، كان كوجورو يضع كبد الدُّب الأحمر الفاتح في الصندوق الخشبي الذي يحمله على ظهره، ويغسل فراءه الذي كان يقطُر دمًا بالكامل في مياه النهر، ثم يلفُّه ويرفعه على ظهره، لينطلق بعدها أسفل الوادي بقلبٍ مُثقل.
•••
لقد بدا حتى لكوجورو أن بإمكانه أن يفهم ما تقوله الدِّبَبة بعضها لبعض. ففي وقتٍ مبكِّر من أحد فصول الربيع، وقبل أن يتحوَّل لون أيٍّ من الأشجار إلى اللون الأخضر، أخذ كوجورو الكلب معه وذهب بعيدًا نحو المنطقة المستنقعية لوادي شيرا. ومع اقتراب الغَسَق، بدأ في الصعود إلى الممر المؤدي إلى وادي بكاي، حيث كان قد بنى كوخًا صغيرًا من عُشب الخيزران ليحتمي به. لكن لسبب أو لآخر، وعلى غير عادته، سلك كوجورو الطريق الخاطئ. ذلك أنه ولعدة مرات كان يصعد ثم ينزل ليبدأ بالصعود مرةً أخرى؛ حتى إن الكلب كان مرهَقًا جدًّا، وكان كوجورو نفسُه يتنفَّس بصعوبة من طرَفٍ واحد من فمه، قبل أن يعثُرا أخيرًا على الكوخ الذي كان قد بناه في العام السابق، والذي كان نصفُه متداعيًا.
متذكرًا أن هناك نبعًا عند أسفل الكوخ مباشرةً، انطلق كوجورو إلى أسفل الجبل، لكن لم يكن قد قطع سوى مسافةٍ قصيرة عندما تفاجأ بوجود دُبَّين، أم وصغيرها الذي بالكاد يبلغ من العمر سنةً واحدة، يقفان تحت الضوء الخافت للقمر الذي كان لا يزال جديدًا، ويُحدِّقان باهتمامٍ صوب الوادي البعيد، وقد رفَعا أقدامهما الأمامية إلى جبهتَيهما، تمامًا كما يفعل البشر عند التحديق في شيءٍ بعيد. بالنسبة لكوجورو، بدا الدُّبَّان كما لو كانا مَحوطَين بنوع من الهالة، وتوقف ونظر إليهما مذهولًا.
حينئذٍ، قال الدُّب الصغير بصوتٍ مداهن: «أنا متأكد من أنه ثلج، يا أمي. فقط الجانب القريب من الوادي لونُه أبيض، أليس كذلك؟ بلى، أنا متأكد من أنه ثلج!»
تابعَت الأم التحديق لبعض الوقت قبل أن تقول: «إنه ليس ثلجًا. لن يسقُط في ذلك المكان فقط.»
قال الصغير: «إذَن، لا بُد أنه الوحيد الذي قد تبقَّى بعد انصهار بقية الثلج.»
«لا، لقد مررتُ من هناك البارحة وأنا في طريقي للبحث عن البراعم الشوكية.»
حدَّق كوجورو بقوة في نفس الاتجاه. كان ضوء القمر ينزلق أسفل جانب الجبل المتلألئ مثل درعٍ فضي. وبعد بُرهة تحدَّث الصغير ثانية.
قال: «إذا لم يكن ثلجًا فلا بد أنه صقيع. أنا متأكد من أنه كذلك.»
اعتقد كوجورو أنه سيكون هناك صقيعٌ الليلة حقًّا. كانت تُوجد نجمة تتلألأ باللون الأزرق بالقرب من القمر؛ وحتى لون القمر نفسه كان تمامًا مثل الثلج.
قالت الأم: «أعرف ما هو. إنه زهر الكَرز.»
«هل هذا كل شيء؟ لكني كنتُ قد رأيتُ ذلك.»
«لا، لم تفعل يا عزيزي.»
«لكنني فعلتُ. ذهبتُ وأحضرتُ بعضه للمنزل بنفسي أخيرًا.»
«لا، ذلك لم يكن كَرزًا. كان نوعًا من الزَّان، على ما أعتقد.»
تساءل الصغير ببراءة: «حقًّا؟»
لسببٍ ما، شعَر كوجورو بالسعادة. ألقى نظرةً أخيرة على الزهور الثلجية في الوادي، وعلى الأم وصغيرها الواقفَين هناك وضوء القمر يغمرهما، ثم انسحَب خلسةً من مكانه مع حرصه الشديد على عدم إصدار أي صوت. وبينما كان يتسلل بعيدًا، وهو يدعو طوال الوقت ألا تحمل الريح رائحتَه باتجاههما، وصلَت إليه رائحة شُجيرة بنجامين بقوة تحت ضوء القمر.
•••
عندما كان كوجورو الشجاع هذا يصل إلى البلدة لبيع جلود الدِّبَبة وأكبادها، كان يُبدي شخصيةً أكثر خنوعًا.
في مكان بالقرب من وسط البلدة، كان يُوجَد متجرٌ كبير لبيع المُعدَّات؛ إذ كانت تُباع سِلال التذرية والسكر، وأحجار الشحذ والسجائر الرخيصة الثمن، وحتى مصائد الذباب الزجاجية.
كان على كوجورو فقط أن يتخطَّى عتبة المتجر واضعًا مجموعةً كبيرة من جلود الدِّبَبة على ظهره، ليبدأ الناس هناك بالابتسام وكأنهم يقولون: «ها هو مرةً أخرى». كان صاحب المتجر سيجلسُ بمهابة بجانب مَوقدٍ ضخم في غرفة تؤدي إلى المتجر.
كان كوجورو سيقول: «شكرًا لكَ على لطفك في المرة الأخيرة، يا سيدي»؛ والصياد الذي كان في التلال سيد نفسه بالكامل، كان سيُنزِل كَومة الجلود من على ظهره وينحني بشدة نازلًا على ركبتَيه على ألواح الأرضية الخشبية.
«حسنًا، حسنًا. … وما الذي يُمكِنني أن أفعله من أجلك اليوم؟»
«لقد أحضرتُ قليلًا من جلود الدِّبَبة مرةً أخرى.»
«جلود دِبَبة؟ الجلود الأخيرة ما تزال مُلقاةً هنا في مكانٍ ما. لا نحتاج لمزيد منها.»
«أرجوك، يا سيدي؛ امنحنا فرصة. سأدعُكَ تحصُل عليها بسعرٍ رخيص.»
كان صاحب المتجر سيقول له بهدوء وهو يضرب على الفوَّهة الصغيرة لغَليونه براحة يده: «أنا لا أهتم بمدى رُخْص ثَمَنها؛ فأنا لا أريدها.»
حينما كان يسمع ذلك، كان كوجورو، سيد التلال الشجاع، يشعُر بأن وجهه يتلوَّى من القلق.
في المكان الذي ينتمي إليه كوجورو، كان يُوجد كستناء في التلال، وكان ينمو الدُّخن في الحقل الفقير البائس الذي يقع في الجزء الخلفي من المنزل؛ لكن لم يكن ينبُت الأرز هناك، ولم يكن هناك معجونُ فول صويا لصنع الحَساء. لذلك، كان عليه الحصول على بعض الأرز، مهما كان قليلًا، ليعود به إلى عائلته المكوَّنة من سبعة أفراد؛ والدته العجوز وأحفاده.
لو كان يعيش في القرية، لزرَع القنب اللازم لصناعة الملابس، لكن في المكان الذي كان يعيش فيه لم يكن يُوجد سوى عددٍ قليل من مُعترشات الويستريا التي تُصنع منها السِّلال وما شابه.
بعد بُرهة، كان كوجورو سيقول بصوتٍ مبحوح من الضيق: «من فضلك … من فضلك اشتَرِ بعضها، مهما كان الثمن.» وكان سينحني لأسفل بشدة مرةً أخرى.
كان صاحب المتجر سينفُث الدخان لبعض الوقت دون أن يَنبِس ببِنتِ شَفة، ثم، محاولًا إخفاء ابتسامةِ رضًا بسيطة، كان سيجلس أمام كوجورو ويناوله أربعَ قِطعٍ نقدية فضية كبيرة. كان كوجورو سيَقبَلها بابتسامة، ويرفعُها إلى جبهته باحترام. ثم كان صاحب المتجر سيبدأ تدريجيًّا في رفع الكُلفة.
«يا هذا … أعطِ كوجورو بعض الساكي.»
بحلول ذلك الوقت، كان وجه كوجورو سيبدأ في التوهُّج فرحًا. وكان صاحب المتجر سيتحدث معه بارتياح عن هذا وذاك. وباحترام، كان كوجورو سيُحدِّثه عن بعض الأمور التي تحدُث في التلال. وسرعان ما كان صوت سيأتي من داخل المطبخ يقول بأن الطعام قد أصبح جاهزًا. كان كوجورو سينهض ليغادر، لكن في النهاية كان سيُحمل على الدخول إلى المطبخ، حيث كان سيُلقي تحياته المهذبة مرةً أخرى.
على الفَور، كانوا سيُحضِرون طاولةً صغيرةً مَطليَّة بالورنيش الأسود موضوعًا عليها شرائح من سمك السلمون المُملَّح مع الحبار المُقطَّع ودورق من شراب الساكي الدافئ.
كان كوجورو سيجلس بنحوٍ مؤدب للغاية على الطاولة ويبدأ بتناول الطعام، موازنًا قطع الحبار على ظهر يده قبل أن يبتلعها وصابًّا شراب الساكي الأصفر في الكوب الصغير بوقار. …
أيًّا كان معنى البيع بسعرٍ منخفض، فإن أي شخص كان سيرى أن اثنين من الين كان سعرًا زهيدًا جدًّا مقابل زوجٍ من جلد الدِّبَبة.
لقد كان حقًّا قليلًا جدًّا، وكان كوجورو يعرف ذلك. إذَن، لماذا لم يَبِع جلوده لشخصٍ آخر غير تاجر المُعدَّات؟ سيبدو ذلك غامضًا بالنسبة لمعظم الناس. لكن في تلك الأيام كان يُوجَد قانون للأشياء؛ من شأن كوجورو طبعًا أن يتغلب على الدِّبَبة، وصاحب المتجر أن يتغلب على كوجورو، والدِّبَبة أن تتغلب … لكن بما أن صاحب المتجر كان يعيش في البلدة، لم تستطع الدِّبَبة التغلب عليه، في الوقت الحالي على الأقل.
•••
كون الأمور كانت تجري هكذا، فإن كوجورو كان يقتُل الدِّبَبة دون أدنى شعور بالكراهية تجاهها. لكن، في إحدى السنوات، حدَث أمرٌ غريب.
كان كوجورو في طريقه صعودًا إلى أحد الأودية، وقد تسلَّق صخرةً لينظر فيما حوله، عندما شاهد دُبًّا ضخمًا محني الظهر، يتسلق مثل القطة شجرةً أمامه مباشرة. على الفور، صوَّب كوجورو بندقيته إليه. مبتهجًا، كان الكلب موجودًا بالفعل عند أسفل الشجرة، وأخذ يجري بجنونٍ حولها.
لكن الدُّب، الذي بدا لبعض الوقت وكأنه في جدال مع نفسه فيما إذا كان عليه أن ينزل عن الشجرة ويهجُم على كوجورو أم يجعل من نفسه هدفًا لطلقاته ببقائه في مكانه، أطلق كُفوفَه فجأةً في الهواء وسقط على الأرض. على الفَور وبحذرٍ شديد، وضع كوجورو بندقيتَه على كتفه واقترَب منه. لكن عند هذه النقطة رفع الدُّب كُفوفَه وصرخ قائلًا:
«ما الذي تسعى إليه؟ لماذا عليك أن تطلق النار عليَّ؟»
أجابه كوجورو: «لا شيء سوى الحصول على جِلدكَ وكبدك. لا يعني ذلك أنني سأحصُل على كثير مقابلهما عند أخذهما إلى البلدة. أشعُر بالأسف من أجلك، لكن لا حيلة لي في الأمر. هذا على الرغم من أنني عندما سمعتُ كلامك، فكَّرتُ بقرارة نفسي بأنني من الأفضل أن أعيش على الكستناء والسرخس وما شابه، حتى وإن أدى ذلك إلى موتي.»
«ألا يمكنك الانتظار لمدة عامَين آخرَين فقط؟ بالنسبة لي، أنا لا أبالي إن مت أم لا، لكنَّ هناك أمورًا أخرى يجب عليَّ أن أفعلها. وبعد مرور عامَين، ستجدني ميتًا أمام منزلك، أعدُك بذلك. عندها يُمكنكَ الحصول على جِلدي وأعضائي أيضًا.»
ممتلئًا بشعورٍ غريب، وقف كوجورو ساكنًا تمامًا، وأخذ يفكِّر.
وضع الدُّب كُفوفَه الأربعة على الأرض، وبدأ في الابتعاد ببطءٍ شديد. أما كوجورو فقد استمر في الوقوف هناك مُحدِّقًا أمامه بوجهٍ خالٍ من التعبير.
ببطء، ابتعد الدُّب دون أن ينظر إلى الوراء، كما لو كان يعلم جيدًا بأن كوجورو لن يطلق النار عليه من الخلف أبدًا. للحظة، لمع ظهرُه العريض ذو اللون الأسود المائل للبُني، تحت في ضوء الشمس المتساقط من خلال أغصان الشجر، وفي نفس اللحظة تأوَّه كوجورو بألَم، ثم توجَّه نحو منزله عَبْر الوادي.
•••
مرَّ عامان. وفي صباح أحد الأيام، هبَّت الريح بشدة لدرجة أن كوجورو، الذي كان متأكدًا من أنها كانت ستُسقِط الأشجار والسياج النباتي وكل شيء، قد خرج ليتفحَّص الأمر. فوجد أن سياج السَّرو كان لا يزال واقفًا على حاله، لكن عند أسفله كان هناك شيءٌ أسودُ مائل للبني يبدو مألوفًا. خفَق قلبه بشدة؛ لأنه مرَّ عامان بالضبط منذ ذلك اليوم، وكان يُساوِره القلق فيما إذا كان الدُّب قد حضر. تقدَّم نحوه، فوجد الدُّب نفسه يرقد هناك كما وعَدَه، وكان ميتًا يَسبَح في بركةٍ كبيرة من الدماء التي كانت تتدفق من فمه. دون تفكير تقريبًا، ضم كوجورو يدَيه معًا وبدأ يُصَلي.
•••
كان ذلك في أحد أيام شهر يناير. بينما كان كوجورو يغادر المنزل في ذلك الصباح، قال شيئًا لم يكن قد قاله قطُّ من قبلُ.
قال: «أمي، لا بد أنني أتقدم بالعمر. هذا الصباح، ولأول مرة في حياتي، لا أشعر أنني أريد أن أخوض فيما كنتُ أخوض فيه.»
رفعَت والدته، ذاتُ التسعين عامًا، التي كانت تجلس في الشُّرفة تغزل الصوف تحت أشعة الشمس، عينَيها المتعبتَين، ونظرَت إليه بتعبير قد ينمُّ عن الحزن أو الابتسام.
انتَعل كوجورو صندلَه المصنوع من القش، ثم وقف على قدمَيه وانطلق. وواحدًا تلو الآخر، أخرج الأطفال وجوهَهم من الحظيرة وقالوا مبتسمين: «عد إلى المنزل سريعًا، يا جدي.»
نظر كوجورو إلى السماء الزرقاء الصافية، ثم التفَت إلى أحفاده وقال لهم: «سأعود في وقتٍ لاحق.»
صَعِد عَبْر الثلج الأبيض النقي المتراص في اتجاه وادي شيرا. كان الكلب بالفعل يلهثُ بشدة ولسانه الوردي يتدلى من فمه، بينما كان يركُض إلى الأمام ويتوقف ثم يركُض ويتوقف مرةً أخرى. وسرعان ما غاب كوجورو عن الأنظار خلف تلٍّ منخفض، وعاد الأطفال إلى ألعابهم.
اتَّبَع كوجورو ضفة النهر حتى وادي شيرا. هنا كانت المياه تتجمَّع في بِركٍ زرقاءَ عميقة، وهناك كانت مجمَّدة في ألواحٍ أشبه بألواح الزجاج، وهنا كانت الرقاقات الثلجية تتدلى بأعدادٍ لا حصر لها مثل الستائر المصنوعة من الخرَز، وعلى كلتا الضفتَين كانت ثمار شجرة المغزل تختلس النظر مثل الزهور الحمراء والصفراء. وبينما كان كوجورو يَصعَد أعلى النهر، شاهد ظله المتلألئ وظل الكلب، النيلي الغامق، والذي قد ارتسم بوضوح على الثلج، يتداخلان أثناء تنقُّلهما مع ظلال جذوع شجر البتولا.
على الجانب الآخر من الجبل من ناحية وادي شيرا، كان يعيش، كما كان قد أكد خلال الصيف، دُبٌّ ضخم.
استمر بالمضي أعلى مجرى النهر، مجتازًا خمسة روافدَ صغيرة جاءت متدفقةً إلى الوادي، عابرًا المياه مرةً بعد الأخرى من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين. ثم وصل إلى شلالٍ صغير، بدأ من أسفله في التسلق باتجاه قمة الجبل. كان الثلج باهرًا لدرجة أنه بدا وكأنه مشتعل، وبينما كان كوجورو يُجاهِد للوصول للقمة، شعَر كما لو أنه يرى كل شيءٍ حوله من خلال نظارةٍ أرجوانية.
كان الكلب يتسلق الجبل وكأنه كان عازمًا على ألا تهزمه وعورة المنحدر، فكان يتشبث بالثلج بتجهُّم على الرغم من أنه كاد ينزلق عنه عدة مرات. وعندما وصلا أخيرًا إلى القمة، وجدا أنفسهما على هضبةٍ كانت تنحدر برفق؛ حيث كان الثلج يلمع كالرخام الأبيض والقمم المُغطَّاة بالثلوج ترتفع في السماء من حولهما.
ما حدث بعد ذلك وقع بينما كان كوجورو يستريح هناك على القمة. فجأة، بدأ الكلب ينبَح بجنون. مذهولًا، نظر كوجورو خلفه فرأى نفس الدُّب الضخم الذي كان قد لمَحَه في ذلك الصيف وقد انتصب على ساقَيه الخلفيتَين وراح يمشي بتثاقلٍ نحوه. دون ذُعر، غرَز كوجورو قدمَيه في الثلج بثبات وصوَّب بندقيتَه نحوه.
رافعًا كفَّيه الأماميَّتَين الضخمَتَين، اندفع الدُّب نحوَه مباشرةً. حتى كوجورو شَحَب وجهه قليلًا من المنظر.
سمع كوجورو دَوِي البندقية. لكن الدُّب لم يُظهِر أي علامة على السقوط، بل بدا أنه يتقدم متمايلًا نحوَه، أسوَدَ وغاضبًا كالعاصفة. غرَز الكلبُ أسنانَه في ساقه. في اللحظة التالية، امتلأ رأس كوجورو بضوضاء شديدة، وأصبح كل شيء من حوله أبيض. ثم، من مسافةٍ بعيدة، سمع صوتًا يقول: «أوه، كوجورو، لم أقصد قتلك.»
قال كوجورو في نفسه: «إنه الموت.» كل ما كان بإمكانه رؤيته من حوله كانت أضواءً تتلألأ بنحوٍ مستمر كنجومٍ زرقاء. قال لنفسه: «تلك هي العلامات التي تُشير إلى أنني قد انتهيت؛ إنها النيران التي تراها وأنت تموت. سامحيني، أيتها الدِّبَبة.» أمَّا ما شعَر به بعد ذلك، فليس لديَّ أدنى فكرة عنه.
•••
كان هذا مساء اليوم الثالث بعد ذلك. بدا القمر في السماء ككُرةٍ كبيرة من الجليد. لمَع الثلج بلونٍ أبيضَ مُزرقٍّ زاهٍ، وتوهَّجَت المياه باللون الفسفوري. كانت كوكبة الثريا وحزام أوريون يُومضان مرةً باللون الأخضر، ومرةً باللون البرتقالي؛ كما لو كانا يتنفَّسان.
على الهضبة الموجودة أعلى الجبل، المحوطة بأشجار الكستناء والقمم الثلجية، تجمَّعَت العديد من الأشكال السوداء الكبيرة في حلقة، كلٌّ منها كان يُلقي بظله الأسود، ويسجُد على الثلج مثل المسلم في الصلاة، دون أن يتحرك أبدًا. وهناك عند أعلى نقطة كان يمكن للمرء أن يرى، في ضوء الثلج والقمر، جُثة كوجورو وهي في وضعية الركوع. وقد يتخيل المرء حتى أن على وجه كوجورو الميت المتيبِّس يُمكِن رؤية ابتسامةٍ باردة كما لو كان لا يزال على قيد الحياة. تحرَّك حزام أوريون إلى وسط السماء، ثم مال بعيدًا إلى الغرب، غير أن الأشكال السوداء الكبيرة ظلت مكانها ساكنةً تمامًا، كما لو أنها قد تحوَّلَت إلى حَجَر.