جورج سوريل١
كان جورج سوريل من المعمرين كمعظم زملائه من فلاسفة الحكم في العصر الحديث، فامتدت حياته من سنة ١٨٤٧ إلى سنة ١٩٢٢، ووقعت في خلال هذا العمر حرب السبعين، وتأسست الدولة الألمانية، وتداولت فرنسا أنواع مختلفة من الحكومات، ثم نشبت الحرب العالمية الأولى، وقامت بعدها حكومة شيوعية في بلاد روسيا القيصرية، فاستطاع سوريل أن يقرن بين مشاهدة الوقائع، ومطالعة التواريخ، ومذاهب السياسة التي كانت في إبان رواجها حوالي الزمن الذي بلغ فيه سن العمل والتفكير، فبنى مذهبه على ما استخلصه من المشاهدة والمطالعة، وكان يقول: إنه يطالع ليمسح من ذهنه بعض ما تعلمه في صباه، فهو يطالع لنسيان بعض القديم كما يطالع لتحصيل بعض الجديد.
ويعتبر سوريل أستاذًا لكثير من الكُتاب في فلسفة الحكم والسياسة، ومنهم باريتو وميشل اللذان كتبنا عنهما في هذه الرسالة، وكان موسوليني يقول: «إن الذي جعلني أنا ما أنا لست مدينًا به لنيتشه ولا لوليام جيمس، بل لسوريل.» ومن عجائب الخصائص التي امتاز بها سوريل أنه يَصلح أن يكون أستاذًا لأناس يخالف بعضهم بعضًا مخالفة النقيض؛ لأنه في طوية نفسه محافظ متمرد، ويتوقف على فهم هذه الطبيعة فيه فهم كل ما آمن به وكل ما أنكره من المعتقدات والأخلاق.
كان فرنسيًّا من النورمانديين، فيه ما فيهم من طبيعة الجد والمحافظة، فهو لا يتمرد لأنه يحب الإفلات من الواجبات والمأثورات؛ بل يتمرد لأنه يقدِّس الواجبات والمأثورات، ويشمئز من التبذل والإباحة والانطلاق مع الشهوات والصغائر، ولعل استقامته في حياته الزوجية مثل فريد بين الأكثرين من دعاة الثورة وأنصار التجديد.
ويمكننا أن نعرف الطريق التي تنفتح أمام هذا الثائر المتمرد إذا عرفنا الآراء التي كانت طاغية في زمانه على الأفكار، فهناك نزعة تمرد أمام كل رأي طغى على سائر الآراء، ومن ثَم كانت ثورة سوريل على مذهب داروين، وعلى تقديس العلم والعقل، وعلى عصمة الحياة النيابية، وثورته على الشيوعية الماركسية كذلك.
وُلد سوريل في شربورج وتعلَّم في مدارسها، ثم تخرج من مدرسة الصناعات والفنون بباريس، واشتغل بهندسة الطرق والقناطر إلى أن بلغ الخامسة والأربعين وحصل باجتهاده وأمانته على وسام فرقة الشرف، ثم ثقلت على نفسه آفات الفساد والاختلاس فترك الهندسة، وعوَّل على الدعوة إلى إصلاح المجتمع من حيث يقدر له الصلاح.
وران على ضميره شعور الاشمئزاز فملَكته فكرة الانهيار والتداعي، فراح يكتب عن تداعي العالم الحديث كما يكتب عن تداعي العالم القديم، وليس أكثر في كتاباته عن كلمات الانحلال والانحطاط والخراب مقترنة بوصف النظم الاجتماعية التي وجب في عرفه أن تنهدم أو تزال كما تزال الأنقاض.
وقد أسلفنا أن الأفكار الطاغية في كل زمن من الأزمان تدلنا على الوجهة التي تنفتح بطبيعتها أمام المتمرد في ذلك الزمن.
ولهذا تمرَّد سوريل — كما أسلفنا — على مذهب داروين وعلى تقديس العلم والعقل وعلى عصمة الحياة النيابية، كما تمرَّد على الشيوعية الماركسية.
وكان العلم الحديث قد أرسل معاوله لهدم كل معتقَد قديم، ووقر في أذهان بعض أنصاره أنه قادر على تفسير كل سر من أسرار الطبيعة والنفس البشرية، وقادر على إصلاح كل عيب من عيوب الاجتماع.
وبدأ رد الفعل على هذه الدعوى في إبان الوقت الذي تحوَّل فيه سوريل من الهندسة إلى السياسة، فثار على دعوى العلم، بل ثار على العقليين الذين يعالِجون مسائل الأخلاق ومشكلات الاجتماع كأنما هي كلها قضايا عقلية تَخضع للمنطق والتعليل، ووافقت ثورته هذه ظهور مذهب برجسون القائل بدفعة الحياة وظهور مذهب وليام جيمس القائل بأن «العمل الواقع» هو مقياس الحقيقة، وامتزج المذهبان في رأي سوريل فأنحى على الفلاسفة الأقدمين والمحدثين الذين حسبوا أن الإقناع كافٍ للإصلاح، وأن الأخلاق منوطة بتعريفات العقول والعلوم، وعَدَّ من عيوب المجتمع «البرجوازي» أو مجتمع الطبقة الوسطى أنه يعتمد على الإقناع في جميع الأمور، ولا يلتفت إلى الفضائل الحيوية، وبواعث العمل من أعماق السرائر والطباع.
واشترك سوريل في السياسة العالمية أيام الدعوة إلى السلام، وفض المشكلات بالتحكيم والوئام، فنفرت نفسه من هذه الدعوة؛ لأنه اعتقد أن آفة الإنسانية في زمانه هي الاستكانة إلى الدعة، والركون إلى الرغد والرخاء، وتهيب الإقدام على أخطار البطولة والفداء، وهي الأخطار التي لا غنى عنها لاستنقاذ «المجتمع البشري» من الإسفاف والابتذال والنهوض به إلى المُثل العليا وعظائم الطموح والآمال الجسام.
•••
أما هذه الغاية المنشودة فهي موضوع الافتراق بينه وبين أصحاب المذاهب الأخرى، فهو مع إقباله على مذهب كارل ماركس في أوائل شبابه يخالفه كل المخالفة في جدوى المساعي السياسية والاعتماد على الحكومة، وهو كذلك يخالف الاشتراكيين النيابيين، ويعتقد أن حكومتهم — إذا قبضوا على زمام الدولة — لن تختلف عن حكومات النبلاء أو الطبقة الوسطى.
إلا أنه — مع مخالفته لكارل ماركس — يدين بقوة العوامل الاقتصادية، ويستند إليها في اختيار الحركة التي تؤدي إلى الإصلاح، فلا بد من التعويل على طبقة اقتصادية لإنشاء المجتمع الجديد، ولن تكون هذه الطبقة بالبداهة طبقة العلية؛ لأنها هي التي فسدت وجنت بفسادها على المجتمعات الحاضرة، ولن تكون هي الطبقة الوسطى؛ لأن أوساط الناس يتحرون الأمثلة العليا التي يتحراها علية الناس ولا يجدون في شئون معاشهم موضعًا لفكرة جديدة يجرون وراءها لتقويض مجتمع وإقامة مجتمع في مكانه، فلم يَبقَ إلا سواد الدهماء من الأجراء والمعوزين للنهوض بأمانة الرسالة الجديدة وراء هذه «النخبة المختارة».
وعلينا أن نَذكر دائمًا إعراض سوريل عن التفصيلات العلمية والبرامج المعقولة التي يتوخاها الطوبيون؛ إذ يتوهمون أنهم مطلعون سلفًا على كل خطوة من خطواتها في الحاضر والمستقبل، فأمثال هذه البرامج لا تُقدِّم ولا تؤخِّر في حوادث التاريخ، ولا يبلغ من أثرها أن تستجيش نفوس الجماهير وتُلهب فيها الحماسة والنخوة، وترتفع بها إلى التفدية والاستشهاد.
إنما اللازم في هذه الحالة خرافة أو أسطورة أو أمثولة أو فكرة ساحرة، ولا يلزم عند عرض هذه الفكرة إلا أن تروق السامعين بصيغتها، وتلقي في روعهم أنها قابلة للإنجاز في جملتها، ومهمة النخبة المختارة هي توكيد هذه الفكرة بالتكرار والتعزيز والعمل الذي لا يحجم عن العنف إذا اقتضاه.
والأمثولة التي اختارها سوريل لتكويف الجماهير حول الراية هي «إضراب عظيم» تتحفز نقابات العمال والصناع لإعلانه في وقت من الأوقات، ولا ضير في تصويره لهم في صورة الواقع القريب.
وفحوى الأمثولة أن تُعرِض الطبقة الفقيرة عن الانتخابات، وتنصرف بجهودها كلها إلى تنظيم النقابات وإعدادها ليوم «الإضراب الأعظم» متى تم لها أن تقبض على أزمة الإنتاج في المجتمع كله، ويومئذٍ تُضرب عن العمل، وتشل حركة الطبقة العليا والطبقة الوسطى، وتبرم أمرها في إدارة المرافق العامة، وتوزيع مطالب المعيشة بالمبادلة والمقايضة أو بأسلوب المعاملة الذي تمليه الضرورة في حينها.
أيمكن هذا؟
في رأي سوريل أنه يمكن، ولكنه يرى أيضًا أن المهم هو فعل «الأمثولة» في نفوس المتمثلين به لا إمكان وقوعها بجميع أجزائها، وقد يقع الإضراب الأعظم أو لا يقع على طول الزمن، ولكنه ينفع في بلوغ غرضه، ويؤدي إلى نتيجة تهدي إلى ما بعدها.
فالأماني التي أذاعها الحكيم الإيطالي «ماتسيني» بين قومه كانت كأضغاث الأحلام في رأي النقاد «المعقولين» … ولكن إيطاليا الحديثة لم تكن لتصبح شيئًا مذكورًا في العالم الأوروبي لولا تلك الأماني والأحلام.
وجنود نابليون بونابرت كانوا يُقدِمون على «الاستشهاد» إيمانًا بمجد البطولة ومجد الدولة، وهم يعيشون ويموتون في فاقة لا ينفعهم فيها هذا المجد ولا ذاك.
وبعدُ، فمن ذا الذي يسوغ له أن يدعي الجزم بما يكون أو لا يكون من أطوار الجماعات البشرية في المستقبل البعيد؟
إن العقائد الكبرى قد انتشرت بين أتباعها؛ لأنها ملأت قلوبهم بالثقة، وعمرت صدورهم بالأمل، ووافقت منهم دخيلة السخط على ما هم فيه، ولم تنتشر لأنهم عرضوا وعودها على موازين الاحتمال فرجحت عندهم كفة الإمكان … ويقول سوريل: إن الدِّين الذي يوضح كل عقيدة بالعقل والبرهان يَضعف ويتزعزع، وإن الدِّين الذي يترك للغيب المجهول محلًّا من الضمير يقوى ويستقر، وبهذا يعلل غلبة الكثلكة على اللوثرية في الديانة المسيحية.
وكذلك يتقي سوريل اعتراض العلماء والباحثين المحللين على فكرته العزيزة التي ساهم بها في حركة الثورة النقابية، وهي الإضراب الأعظم.
ونقول إنه ساهم بها في الحركة النقابية؛ لأن الحركة النقابية في ذاتها كانت قائمة منتشرة قبل انتمائه إليها، ولكنه برز فيها لأنه اشتهر بتوكيد أمثولة الإضراب الأعظم، وساعد على تدعيم الحركة النقابية بنظريات الفلسفة وعلم الاجتماع، وقد أراح نفسه وأراح أصحابه من مئونة المناقشة والجدل حول هذه الأمثولة، فتقرر لديه أن العلم مخطئ في ادعائه الإحاطة بما ينجم عن التبشير بالإضراب الأعظم، ولكن المبشرين به غير مخطئين؛ لأنهم على يقين من إنجاز شيء على سُنَّة العمل والتغير التي حلت في اعتقاده محل سُنة التقدم والارتقاء.
وقد أسلفنا أن الرجل صالح لأن يتتلمذ عليه المتفقون والمتناقضون، ولعل طبيعة الحركة النقابية نفسها ترشحها للالتقاء بكثير من المذاهب على فرط ما بينها من التناقض والافتراق.
فهي تلتقي بالفوضية؛ لأنها تنكر الحكومة، وتنفي عن برنامجها استخدام الجند والشرطة في مجتمعها الذي تسوده بعد نجاحها، وتصر على أنها إذا بلغت من القوة أن تستخدم الجند والشرطة فقد بلغت من القوة ما يكفي لإدارة المجتمع بالنقابات دون غيرها.
وهي تلتقي بالشيوعية؛ لأنها تؤلب الأجراء والفقراء، وتَعتبر الحرب بين الطبقات أصلًا من أصول الأطوار الاجتماعية.
وهي تلتقي بأحزاب اليمين المتطرفة؛ لأنها تحارِب الديمقراطية والحكومة النيابية، وتكل الأمر إلى النخبة الممتازة دون الكثرة المغمورة.
ولا يرى أحد من المطلعين على مساعي الدعاة الاجتماعيين والسياسيين — ما ظهر منها وما بطن — أن الحركة النقابية تتقدم في العالم وتؤذن بالامتداد والاتساع، فربما كان أهم سبب للهتاف باسمها أن النقاد نسبوا نجاح الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية إليها، وزعموا أن موسوليني طبق نظام النقابات في مجلسه النيابي تنفيذًا لآراء سوريل الذي أعلن غير مرة أنه من تلاميذه!
بيد أنه «نجاح معكوس» أن ينتهي إنكار الحكومة إلى تركيز السلطان كله في أيدي الحكومة، فربما كان القول بإفلاس النقابية لهذا السبب أصح من القول بنجاحها لأجله، ولا سيما بعد انهيار الفاشية والنازية، وبعد تجربتهما في الدولتين على أوسع نطاق.
والظاهر أن «النقابية» مبتلاة بداء أصيل يتعذر شفاؤه؛ إذ هي تصاب مما يبدو أنه موطن القوة فيها، فَعِلَّةُ فشلها لاصقة بعِلَّة رواجها لا تنفصل عنها.
إن من شواهد القوة — في الظاهر — أن تلتقي المذهب بعدة مذاهب تتناقض فيما بينها كما تتناقض الفوضية والشيوعية أو الفاشية والحكومة الدينية، ولكن هذا بعينه هو مكمن الضعف في المذهب حيث التقى وحيث افترق؛ إذ هو يتشعب ويتوزع ولا يصيب قوته كلها في اتجاه واحد، فله ممن يؤيدونه من جهة محاربون مستميتون في حربه من جهة أخرى، كلما وصل إلى الفعل الحاسم والتنفيذ الأخير.
وإذا جاز الأخذ بالأرقام المسجلة في أسانيد المصانع وأسانيد الهيئات الثورية، فهذه الأرقام تدل على تناقض النقابيين في جميع البقاع التي ظهروا فيها، وكأنما يطرد النقص في عددهم ورواج دعوتهم في كل قطر تقدمت فيه الصناعة والحكومة النيابية، فهم على حظ من الرواج في أمم أمريكا اللاتينية، وكانوا على حظ من الرواج في إسبانيا الجمهورية، ولكنهم يتأخرون ولا يتقدمون بين صناع الولايات المتحدة والجزر البريطانية.
ولم يكن الرجل ذا وجهين باختياره، ولكنه كان على الرغم منه ذا وجوه شتى يلاقي بها أقصى اليسار وأقصى اليمين، فأدركه حظ مَن تعددت وجوهه، فلم يكن وجيهًا عند هؤلاء ولا هؤلاء.