جراهام والاس١
كاتب اجتماعي اشتغل بالتدريس، وساهم في تأسيس الجمعية الفابية الاشتراكية، وكان أحد الأعضاء في لجنة التحقيق التي ندبتها الحكومة الإنجليزية لبحث مسألة الوظائف والموظفين، وألَّف كتبًا قيمة في أصول السياسة والاجتماع: منها كتاب «الطبيعة البشرية في السياسة»، وكتاب «تراثنا الاجتماعي»، وكتاب «الهيئة الاجتماعية العظمى»، وكتاب «الرأي الاجتماعي»، ورسائل منوعة تدور حول هذا الموضوع، عدا بعض التراجم والتقارير.
وهذا الكاتب الألمعي طراز آخر غير الكُتاب الذين أجملنا الكلام عليهم في هذه الرسالة، فهو لا يتشيع لشكل خاص من أشكال الحكومة، ولا يستخلص من عِبر التاريخ محورًا خاصًّا تدور عليه النظم الحكومية، ولكنه يحاول أن ينشئ عِلمًا للسياسة يضارع علم الاقتصاد أو علم الاجتماع إن لم يبلغ في دقته مبلغ العلوم الطبيعية والرياضية، ويهتدي في محاولته هذه بقول أرسطو؛ إذ يقرر أن السياسة عِلم يُدرس للعمل لا لمجرد الفهم والمعرفة، فلا ينفعنا أن نرصد حركات الأمم في الماضي، ونقيس عليها حركات الأمم في المستقبل، ونضبط القياس حتى لا يختل قيد شعرة في تقدير ما هو كائن وما سوف يكون، فإن علماء الفلك يتقنون الحساب الذي يترسمون به سَير الكواكب في مداراتها وملتقى الشموس والأقمار في أوقاته، ومواعيد الخسوف والكسوف بأيامها وساعاتها ودقائقها، ولكنه عِلم لا يتيح لأحدهم أن يحوِّل كوكبًا عن مجراه أو يؤخِّر لحظة من موعد الخسوف والكسوف.
أما المقصود بعِلم السياسة فهو الإحاطة بمجاريها والاقتدار على تعديلها وتحويرها والتأثير فيها، ومثل هذا العِلم لا يكمل في سنوات، ولكنه قد يبدأ في ساعات، وينتهي بعد حين إلى فائدة لا شك فيها، ولو ظل ناقصًا مختلطًا عدة سنين.
ورأى جراهام أن تكوين عِلم السياسة لا يستلزم أن يكون الإنسان معقولًا في تصرفاته السياسية، وهو على حق في ذلك؛ إذ ليست المراقبة العلمية وقفًا على أعمال المتعلقين والمناطقة، بل هي قد تتناول حركات الجماد كما تتناول حركات الإنسان في المجتمع السياسي معقولًا وغير معقول، وصدق مَن قال إن المرء ليحتاج إلى كثير من التعقل ليعلم كم يخلو الإنسان السياسي من التعقل، ولا سبيل إلى فهم السياسة، ولا إلى وضع عِلم للسياسة ما لم تكن هذه الحقيقة ماثلة أمام مَن يدرسونها.
وقد مات جراهام والاس ولما يفرغ من محاولاته في تقرير قواعد علمه، فلا نريد في هذا الفصل أن نلخص محاولاته تلك أو نلخص المقررات التي عساه كان منتهيًا إليها لو امتدت به أوقات الاستقراء والتقرير، فغاية ما في الوسع أن نعرض هنا نماذج من الأغاليط التي طرحها على مشرحته، وأن نلم بأمثلة من أساليبه في مناقشتها أو تفنيدها، وهي باتفاق الآراء أساليب علمية منزهة عن الهوى السياسي والدوافع الشخصية.
عرض مثلًا لقول القائلين إن العامل الأول الذي يُحسب حسابه في تصرفات الإنسان السياسية هو حب المنفعة.
فبعد أن تساءل: هل يَصدق الإنسان في تقدير منفعته دائمًا؟ عاد يضرب المثل لحالة إنسان عرف منفعته في صفقة من الصفقات، فإذا بمعرفة المنفعة وحدها لا تكفي لتحقيق غاية من الغايات.
اطلع ذلك الإنسان مثلًا على نبأ في صحيفة يدله على طريق منفعة من وراء المساهمة في إحدى الشركات … فليس هذا الاطلاع وحده كافيًا لعمل ما، بل ينبغي أن يتبعه النشاط اللازم للعمل والخبرة الصالحة لاستخدام ذلك النشاط، وإلا فالعلم بالمنفعة والجهل بها يستويان.
وعرض لرأي القائلين إن الإنسان خاضع لعاطفته في حركاته السياسية، فقال: إن العاطفة الواحدة قد تكون خالصة أو تكون مشوبة فيختلف أثرها في الحالتين.
فالرجل الذي يرى صديقًا مشوهًا يرحمه ويبكي لمصابه، وهذه هي العاطفة الإنسانية الخالصة.
غير أنه يصرع الناس ويشوههم إذا التقى بهم في ميدان القتال، وقيل له: إنهم أعداء الوطن أو أعداء الدِّين، فينسى الرحمة أمام الصرعى والمشوهين، وتخامره الغبطة حين يعمل الصراع والتشويه في أولئك الأعداء، وشوائب العاطفة مهمة في هذه الحالة، لا تقل في وجوب الاهتمام بها عن العاطفة كما خُلقت في بنية الإنسان وهي خالصة من شوائبها.
وعرض لرأي القائلين إن الحكم النيابي الصالح يتحقق بالانتخاب النسبي الذي يفسح المجال لكل ناخب أن يعطي صوته، وأن تكون لجملة الأصوات المتفرقة قوة برلمانية لا تخضع لتدبير الأحزاب والزعماء.
فكانت مناقشته لهذا الرأي أنه ترك المفاضلة بين قوانين الانتخاب، ورجع إلى البحث في قيمة التصويت: فهل المهم هو إعطاء الصوت فقط؟ أو المهم هو تكوين الصوت وما أدى إلى تكوينه من استقامة التفكير أو عوج التفكير؟
وبحث في مزية المجلس الأعلى الذي يوازن المجلس الآخر، ويصده عن الشطط أو الإخلال بسلامة الأداة الحكومية، فكان من رأيه أن المجلسين معًا يضمنان الموازنة النافعة، حيث يتولى وظائف الدولة «سلك» من الموظفين الدائمين لا ينقطع بانقطاع الصلة بين مجلس منتخب ومجلس منتخب يليه، أو بانقطاع الصلة بين المجلس الأعلى والمجلس الأدنى في مآزق النزاع، وأنكرَ أشد الإنكار أن ترجع الوزارة إلى النائب لاختيار الموظفين في دائرته الانتخابية، وهو رأي يقول به بعض المتوسعين في حدود الهيئة التشريعية، فاستدل بتجاربه في لجنة التحقيق على وجوب العزل بين الاختصاصين، وروى عن بعض الثقات أنهم يتشاءمون لما يلحظونه من تسامح المجالس الحديثة في الخلط بين عمل الوزارة وعمل التشريع، فمن شأن هذا الخلط أن يجعل المشرعين عالة على المنفذين، وأن يصدف ذوي الكفاءات عن التقدم للانتخاب.
ومن المسائل التي ألمَّ بها: مسألة الاجتماعات التي تُعقد لإقناع المستعمين، فقال: إن الذين يحضرون هذه الاجتماعات هم في الغالب مقتنعون بما سيقال فيها قبل حضورها، وإنهم لم يحضروها إلا لأنهم من أنصار الخطيب وحزبه في دعوتهم السياسية.
ونقل من خطب البرنس بولوف السياسي الألماني المعروف في أواخر أيام آل هوهنزلرن كلامًا يقول فيه عن تعميم حق التصويت: «لا أخال أن أحدًا من غير الاشتراكيين المتعصبين للنظريات قد بقي على تقديسه لفكرة التصويت العامِّ واعتبارها بمثابة الآيات المنزلة.» ثم يقول البرنس عن نفسه: إنه من جانبه لا يعبد الأصنام، ولا يصدق المنزلات السياسية، وإن السلامة والحرية في أمة من الأمم لا تتوقفان — كُلًّا ولا جزءًا — على شكل الدستور وأحكام قانون الانتخاب، وألمع البرنس إلى كلمة للزعيم الاشتراكي الألماني «بيبل» يقول فيها إنه يفضِّل النظم الإنجليزية على النظم الفرنسية، فعقَّب عليها قائلًا: غير أن الانتخاب في إنجلترا ليس بالحق العامِّ على سنة المساواة وليس بالانتخاب المباشر، ثم راح يسأل: هل في وسع قائل أن يزعم أن مكلنبرج التي ليس فيها انتخاب عامٌّ على الإطلاق أسوأ في حكومتها من جزر هايتي التي تسامعَ العالم أخيرًا بغرائب أخبارها على الرغم من انتخاباتها العامة؟
وجواب الأستاذ جراهام على السياسي الألماني أنه على حق إذا كان المقصود بالانتخاب العامِّ أن الذين يتساوون في الأصوات يتساوون في جميع الاعتبارات، ولكنه يجهل معنى كلامه أو يتجاهله إذا كان الانتخاب العامُّ مبنيًّا على «أن توسيع نطاق القوة السياسية عنصر هامٌّ من عناصر الحكومة الصالحة، وأن هناك عناصر أخرى للحكومة الصالحة كالاستعداد القومي والتبعة الوزارية وما إليها».
ومن أسئلة الأستاذ جراهام سؤال عن رضا المحكومين هل هو شرط من شروط الحكومة الصالحة؟ وقد رجَّح أن العالم النفساني يجيب عن هذا السؤال بالنفي، وأنه لو وُجِّه في الزمن القديم إلى أفلاطون لأجاب عنه بالنفي كذلك؛ لأن العقل في رأيه لا يتصور أن يقوم الحكم على أساس متقلب كأهواء جمهرة الناس، ويقتدي بأفلاطون في هذا الرأي مفكر حديث هو «ولز» صاحب كتاب «طوبى العصرية» الذي يتخيل فيه قيام ثورة من العلماء الممتازين تتسلم زمام الحكم، وتمضي فيه على هدى العلم والأخلاق وإن سخط عليه الجهلاء، فإنهم كثيرًا ما يسخطون على ما ينفع، ويفرحون بما يضر ويضير.
ولم يزعم جراهام أنه حلَّ هذه المشكلة، ولكنه قال إنها عقدة جديرة بعقل كعقل بنتام يعود إلى الدنيا مستهديًا في هذه المرة بدراسات النفسانيين والاجتماعيين المحدثين، ولا يقتبس هداه من فنيلون وهلڨسيوس.
•••
من هذه الأمثلة نعرف نهج الأستاذ جراهام والاس في محاولاته، ونعرف المدى الذي وصل إليه من تقرير قواعد علمه … فهو كالمهندس الذي يجس أعواد الخشب وحجارة البناء خشبة خشبة وحجرًا حجرًا ليدل على المادة التي تصلح لبناء البيت المقترح، أو بناء «علم السياسة» كما بنيت علوم الطبيعة أو علوم الاجتماع والاقتصاد.
وفي اعتقاده أن مجرد الابتداء بتطبيق العِلم على السياسة يرينا وجه الخطأ في كلام الذين يتحدثون عن «الديمقراطي المثالي» كأنه لا يعمل لغرض قط غير المصلحة العامة، ولا يخطئ أبدًا في فهم هذه المصلحة … فنحن لا نسمع بعالِم «بيولوجي» يتكلم عن الحي المثالي الذي لا يجوع ولا يمرض ولا يشكو نقصًا في تركيب أعضائه، فلماذا يبقى بيننا مَن يتحدثون بالمثالية في تصرف المجتمعات والآحاد؟ ولماذا نتمادى في أخطاء المخطئين الذين يردون تصرف الإنسان السياسي إلى باعث نفساني واحد، أو يقيمونه على فرض عقلي واحد، وهو مزيج من شتى البواعث والفروض؟
إن عِلم السياسة مطلوب لضمان السلامة في المجتمعات الإنسانية، وليكن مَثل العالمِ السياسي كمثل الصانع الخبير الذي يتحرى في تركيب الآلة السليمة أن يكون الشطط في استعمالها محسوبًا له حسابه في صميم جهازها، فتتقي الانفجار إذا زاد الوقود أو زادت السرعة أو أديرَ فيها مفتاح غير المفتاح الذي ينبغي أن يدار.
فليس من الضروري أن نتقن علم الآلات لتركيب آلة مثالية يمتنع عليها الخلل وتأبى المزيد من التحسين، بل يكفي من العِلم بها ما نحتاط به لعيوبها جهد ما تتيسر الحيطة، ويكفي كذلك من العِلم بالسياسة ما يؤدي بنا إلى مثل هذه النتيجة.
والمفهوم من مجمل أقوال الأستاذ جراهام أن استحالة التعقل في جميع التصرفات الإنسانية لا يحول دون الترقي في علاج الشئون السياسية، فإذا كانت الغلبة للشعور في تصرف الإنسان، فالشعور نفسه قد يتهيأ لقبول الآراء الصالحة حسب معلومات «الشاعر» واتساع مجال إدراكه، وقد يكون أثر الحقيقة من الحقائق أبعد مدى من نتائجها الحسية، كما أثر كشف أمريكا في تصحيح أوهام الناس عن الكرة الأرضية، وصورة الكون كله، ومركز الإنسان فيه قبل أن تستفاد من ذلك الكشف نتائجه الحسية التي تتعلق بترقية الملاحة والتجارة، وجمع الملاحظات الصادقة عن طبائع الجماعات، وبواعث العمل السياسي فيها وهي مجتمعة، وبواعث العمل في آحادها وهم متفرقون — عِلم مطلوب كما تُطلب العلوم، ومحاولة طيبة لإلقاء النور على دوافع الساسة ودوافع المسوسين، وحسْب الناس من تقدم في هذا السبيل أن يخرجوا بالسياسة من الظلام إلى النور.