رهاناتٌ كبيرة
كان الثلج يتساقط رويدًا تحت النور الأبيض الساطع للمصباح الكهربائي عندما كان بوني رويل يُزرِّر معطفه ويُغادر فندق ميتروبوليتان، وكان ذلك الفندق هو منزله. كان بوني رويل شابًّا لا يتخطَّى عمره الثلاثين عامًا، وكان وجهه ملفتًا للنظر. كان حليقًا مُستدق الملامح. وقد يتراءى للناظِر أنه يُشبه وجه مُمثِّل أو رجل من رجال الدولة. فوجه المُمثِّل له قدرة معينة على إظهار التعابير والانفعالات نتيجة الشخصيات التي يؤدِّيها الممثل عادةً وتكون مختلفة اختلافًا شاسعًا. إنك حين تَنظر إلى وجه رويل عن كثب، تجد أنه قد اعتاد على كبت التعابير والانفعالات لا على إظهار مشاعر أو انفعالاتٍ من أي نوع. وقد تجعلك نظرةٌ عابرة على وجه بوني رويل تَعتقِد أنَّ وجهه سيُخبرك بشيءٍ، ولكن إذا تفحَّصته بعناية فستجد أنه لن يخبرك بأي شيء. وكانت عيناه رماديتي اللون ذواتي نظرة حادة ثاقبة حتى إنهما تبدوان وكأن بمقدورهما قراءة أفكار الغير، فيما تُخفيان أفكاره بفعالية. وكان من المعروف عن بوني رويل أنه رجل لا يُخلُّ بوعده. وكان مقامرًا محترفًا.
في ذلك المساء تحديدًا، كان بوني رويل يسير في الشارع في أريحية رجل يَحظى بوقت فراغ طويل وليس لديه ما يَشغله. وقد تردَّد للحظة أمام ممرٍّ مُضاء بإضاءة خافتة يقع في مُنتصَف بناية كبيرة في شارع جانبي، ثم دخل الممر وصعد الدَّرج. وطَرَقَ طَرقًا خفيفًا على أحد الأبواب. أُزيحَ مزلاج بالباب ونظر إليه للحظة رجلٌ من الداخل. ثم فُتِح الباب في الحال؛ ذلك أنَّ وجه بوني كان معروفًا لدى كل أندية المقامرة في المدينة. وكان لا يزال أمامه باب آخر يمرُّ به وعليه حارس؛ ذلك أنَّ أيَّ مالِك أصيل لأحد أندية القمار لا يُمكن أن يعرف أبدًا اللحظة التي قد تَستعِر فيها الأخلاق فجأة لدى الشرطة فتجعلها تجتاح المكان وتُداهِمه، ومن الأفضل أن يكون أمامه بعض الوقت ليُخفيَ أدوات القِمار وتجهيزاته. وكان نادي ميليش للقمار معروفًا لدى الشرطة بقدر ما هو مَعروفٌ لدى بوني رويل، لكن ميليش كان يعرف أنه لن يتعرَّض لإزعاجٍ من قِبل الشرطة ما لم يُحدث العامة جلبة بشأنه.
كان ميليش رجلًا حريصًا، وكان لا بدَّ من التحقُّق جيدًا من هُويَّة مُرتادي نادي القمار الخاص به قبل أن يُسمَح لهم بالدخول. ولم تقع قطُّ أي مُشكلات في نادي ميليش للقمار. وكان من المعروف عنه أنه دائمًا ما ينصح المقامر الصغير بالتوقف عن اللعب حين يُدرك أنه لن يتحمَّل الخسارة، ورُويَت بعض الأحداث التي كان فيها ميليش نفسه مُقرضًا لرجلٍ تملَّكه اليأس. كان الجميع يحب ميليش؛ ذلك أنَّ سخاءَه لم يكن له حدود، وحديثه مقنع للغاية.
وداخل الغرفة التي دَلَفَ إليها بوني رويل، كانت هناك طاولة روليت تدور، ولعبة فارو تُلعَب في مَوضِع آخر من الغرفة. وعلى طاولاتٍ صغيرةٍ كان هناك عددٌ كبيرٌ من مُرتادي المكان يستمتعون بلعب البوكر.
صاحَ بيرت راجستوك: «أهلًا يا بوني. هل ستمنحُني فرصة الثأر منكَ الليلة؟»
أجابَ بوني في هدوءٍ ورباطة جأش وهو يُشعِل سيجارةً جديدة: «أنا على استعدادٍ دومًا لأن أعطيَ أيَّ شخصٍ فرصته في الثأر.»
«حسنٌ إذن، تعالَ واجلس هنا.»
«لن ألعب الآن. أريد أن أنتظر بعض الوقت.»
«دَعك من ذلك. إنني أنتظرك منذ فترة طويلة بالفعل. اجلس.»
«ينبغي أن تكون قد عرفتَ الآن يا بيرت أنني حين أقول شيئًا فإنني أعنيه حقًّا. لن أمسَّ أي ورقة حتى تدق الساعة الثانية عشرة. حينها سأكون معك.»
«أفٍّ يا بوني، ينبغي أن تكون أسمى من هذا. تلك خرافات يا رويل. وأنت رجلٌ على قدر كبير من الذكاء يجعلك لا تُلقي بالًا إلى ساعة حظٍّ بعينها تلمس فيها ورق اللعب. هيا.»
«لا بأسَ بكل هذا، لقد حدثت نفسي بذلك، وسألعب عند منتصَف الليل وإلا فلن ألعب.»
أومأ المقامرون القدامى في المكان بالموافقة على هذا القرار. كان من الطبيعي لبيرت راجستوك أن يسخر من الخرافات؛ لأنه لم يكن مقامرًا حقيقيًّا. وإنما كان يأتي إلى نادي ميليش للقمار في المساء لأنَّ البورصة لم تكن تَفتح أبوابها ليلًا. ومن الغريب القول بأنَّ راجستوك كان رجل أعمال جيدًا ومُقامرًا ذكيًّا. وكان يتحسَّر على القدر الذي جعله ثريًّا بحيث لا يكون للمقامرة عليه تأثير مبهج كان من الممكن أن يشعر به لو كان يلعب وهو فقير.
حين دقَّت الساعة مُعلنةً عن منتصف الليل أخذ بوني رويل مجموعة ورق اللعب وبدأ يخلطها.
وقال: «والآن أيها الرجل، إنني ألعب من أجل الفوز. أريد الفوز بمبلغٍ كبيرٍ الليلة.»
صاحَ بيرت في حماسةٍ قائلًا: «صحيح. وسأقف إلى جوارك طالَما بقيت الأشكال على الورق.»
ومع خيوط الصباح الأولى، عندما كان الجميع قد غادَرَ وكان ميليش نفسه يتثاءَب، كان الرجلان لا يزالان يلعبان. كان المقامر المُحترِف قد فاز بمبلغٍ كبير من المال، وهو أكبر مبلغ يفوز به على الإطلاق. ومع ذلك، لم يكن تبدو في عينَيه المُتحمِّستَيْن أي علامة من علامات النصر. أما بيرت، فقد بدا وكأنه هو الفائز من الانفعال البادي على وجهه. كان الرجلان متكافئَيْن، وكانا يَستمتِعان باللعب معًا.
صاحَ بوني في النهاية: «ألم تكتفِ بعد؟ الحظ ليس في صالحك. لو كنت مكانكَ لما ظللت أضرب برأسي في جدار طوب.»
«عزيزي بوني، كم مرة أخبرتُك أنه لا يوجد شيء اسمُه الحظ. لكن لأصدقك القول، إنني أشعر بالتعب وسأذهب إلى المنزل. تأجَّل موعد الثأر. متى سألتقي بعدوِّي مجددًا؟»
راحَ بوني رويل يخلط ورق اللعب في تراخٍ وفتور لبضع لحظات من دون أن يُجيبَ أو يَرفع نظره إليه. ثم قال في النهاية:
«في المرة القادمة التي ألاعبك فيها، ستكون على رهاناتٍ كبيرة.»
«يا إلهي، ألم تكتفِ بالرهانات التي لعبنا عليها الليلة؟»
«لا. أريد أن ألعب معك على رهانٍ سيقف له شعرُ رأسِك. فهل ستخوض ذلك؟»
«بكل تأكيد. متى؟»
«لا أستطيع أن أخبرك بذلك الآن. أنا مشغولٌ الآن بأمرٍ كبير. سأقابل رجلًا الليلة بهذا الشأن، وكلُّ ما أريد أن أعرفَه هو أن تعدَني بأنَّك ستلعب.»
«هذا أمرٌ يَكتنفُه الغموض يا بوني. أعتقد أنك تَخشى أن أتهرب منك. ولكنني على استعداد لأن ألعب معك تحت أي شرطٍ وعلى أي رهان.»
«هذا يكفي. سأُطلعُكَ على بعض التفاصيل بمجرد أن أعرف كلَّ ما أريد. طابت ليلتك.»
قال بيرت بينما كان ميليش يُساعِدُه في ارتداء معطفه الطويل: «بل طابت ليلتك أنت. لقد فزتَ بالمال كلِّه: لقد سرقتَ رجلًا فقيرًا وجرَّدتَه من ماله الذي كَدَّ في كسبه!»
«أوه، الرجل الفقير ليس في حاجة إلى المال بقدر حاجتي أنا إليه. وعلاوةً على ذلك، سأعطيك فرصةً لاسترداد كل شيءٍ وزيادة.»
عندما غادر راجستوك، كان بوني لا يزال جالسًا على الطاولة يَخلط الورق وهو شارد الذهن.
قال ميليش وهو يضع يده على كتفِه: «لو كنتُ مكانك لأخذت ذلك المال ووضعته في البنك ولتوقَّفت.»
سأله بوني بعد أن رفع نظره إليه مبتسمًا: «بنك الفارو؟»
«لا، كنت لأقلع عن القمار تمامًا لو كنتُ مكانك. سأفعل ذلك يومًا ما.»
«أوه، كلُّنا يعرف ذلك. طوال العشرين عامًا المنصرمة، كنت على وشك الإقلاع عن القمار تمامًا. وسأفعل أنا ذلك أيضًا، لكن ليس الآن. وبالطبع هذا هو ما يقوله الجميع، لكنَّني أعني ذلك حقًّا.»
سارَ بوني رويل في هذا الشتاء الباكر والقارس باتجاه فندق ميتروبوليتان ثم خَلد إلى النوم. وفي الثالثة من عصر ذلك اليوم أتى الرجل الذي كان على مَوعِد معه للقائه.
بدأ الزائر حديثه قائلًا: «كنتَ تُريد لقائي بشأن وثيقة تأمين.» فوكلاءُ التأمين دائمًا ما يكونون على استعداد لأحاديث العمل. «هل كنت تفكِّر في نظام الوَقْفِ، أم فكَّرت في نظام سندات التأمين الجديد لدينا؟ يبدو أسلوب الدفع على عشرين دفعة رائجًا للغاية.»
قال بوني: «أريد أن أسألك بضعة أسئلة. إذا أمَّنتُ على حياتي لدى شركتك ثم انتحرتُ، فهل سيُلغي هذا صلاحية وثيقة التأمين؟»
«ليس بعد عامَيْن؛ ففي شركتنا، تكون وثيقة التأمين لا نزاعَ فيها بعد عامَيْن.»
«عامَين؟ لن يَنفعني هذا. ألَا تَستطيع أنْ تجعلها عامًا واحدًا؟»
قال وكيل التأمين وهو يَخفِض صوته: «سأُخبرك بما سأفعل. يُمكنني أن أكتبَ الوثيقةَ بتاريخٍ سابق، وبذلك سوف تَنتهي مدة العامَيْن في الوقت الذي تُريده، ولنَقُل بعد عامٍ من الآن.»
«رائع جدًّا. إذا استطعت أن تفعل هذا بطريقة قانونية بحيث تنتهي مدة العامَيْن خلال عام واحد من الآن، فسأُؤمِّن لدى شركتك بمبلغ مائة ألف دولار.»
اتسعت عينا وكيل التأمين حين ذُكِر المبلغ.
«لا أريد وَقْفًا أو سندات، لكن أرخص أنواع التأمين على الحياة لديكم، و…»
«إذن، تأمين مدى الحياة هو ما تُريد.»
«فليكن هذا إذن، وسأدفع لك مقدمًا مقدار عامَيْن، أو لنقل مقدار عامَيْن ونصف؛ وذلك حين تحضر الوثائق إليَّ.»
وهكذا، أمَّنَ بوني رويل على حياته بمائة ألف دولار كجزءٍ من المال الذي ربحه في المقامرة، وبجزءٍ آخر من ذلك المال دفعَ مقابل إقامته الكاملة في فندق ميتروبوليتان لعام قادم.
أما الجزءُ المتبقِّي من المال، فقد احتفظَ به للمقامرة.
وفي أثناء العام التالي لذلك، ظلَّ يرفض أن يلعب مع بيرت راجستوك، وكادا يتشاجران مرة أو مرتَيْن، وتلك كانت هي المرة الأقرب التي كاد بوني يقع فيها في شجار مع أيِّ شخص؛ ذلك أن التشاجُر لم يكن أسلوبه قطُّ. ولو كان بوني يَعيش في مجتمعٍ أقل تحضُّرًا من هذا المكان فلربما اتخذ من التشاجُر أسلوبًا له، لكن بما أنَّ الشجار لا يسفر عن شيء، فإنه لم يكن ينخرط في أيٍّ من ذلك.
قال بيرت متذمِّرًا: «أمرَّ عامٌ منذ آخر لقاءٍ بيننا؟ يا له من هراء أن أنتظر كلَّ هذه المدة. أنت تلعب مع الآخرين، لِمَ لا تلعب معي؟ فكِّر في الفُرَص التي نَخسرها.»
فأجابه رويل: «إذن سنَحظى بفرصة لعب ستُعوِّض عن كل هذا الانتظار.»
وأخيرًا جاء الموعد السنوي، وحين دقَّت الساعة مُعلنةً عن ذلك، جلسَ بوني رويل وبيرت راجستوك في مواجهة أحدهما الآخر، مُستعدَّيْن لاستكمال ما بدآه كالمعتاد.
قال بيرت وهو يَفرك يده: «آه، الجلوسُ أمامك مُجددًا يُشعرُني بشعور جيد. أنت مغرور يا بوني. كنَّا سنَحظى بمائة فرصةٍ كهذه للعب طوال العام الماضي، لو لم تكن ممَّنْ يُؤمنون كثيرًا بالخرافات.»
«ليس بمثل هذه المرة. هذه هي المرة الأخيرة التي سألعب فيها، وإما الفوز أو الخسارة. وأنا أُخبرك بذلك الآن لأنه لن يكون هناك أي حديث عن الثأر إذا ما فزتُ أنا.»
«أنت لا تَعني ذلك حقًّا! لقد سمعتُ مثل هذا الحديث من قبل.»
«لا بأسَ. لقد حذَّرتُكَ. والآن أعتقد أنَّ هذه لعبة تَعتمِد تمامًا على الحظ. لدينا مجموعة جديدة من الورق، اخلطها، واقسِمها، ثم تَسحب أنت ورقة وأسحب أنا أخرى. ورقة الآس هي العُليا. وصاحب الورقة العليا هو مَنْ يَربح المال كله. والأفضل هو مَنْ يَسحب أعلى ورقتَيْن من بين ثلاث. أتُوافق على ذلك؟»
«بالطبع. كم سيكون مقدار المال؟»
«مائة ألف دولار.»
«أوه، أنت تحلم.»
«أليس بكافٍ؟»
«تبًّا لذلك! أنت لم ترَ هذا المبلغ من قبل.»
«ستحصل على المال إذا ما خسرتُ.»
«هذا مبلغ كبير حقًّا يا بوني. مائة ألف دولار! يا إلهي! كم عدد رجال الأعمال الذين يتوقَّعون أن تُؤخَذ كلمتهم بأنهم سيَدفعون مائة ألف دولار على محمَل الجِد لمجرَّد أنهم قالُوا ذلك؟»
«أنا لستُ برجل أعمال. أنا مقامر.»
«صحيح، صحيح. هل المال معك الآن؟»
«لا، لكنه سيُدفَع لك. إنَّ مالك ليس هنا في المكان. ولكنَّني أثقُ بك، ألا تستطيع أن تثق بي؟»
«الأمرُ ليس سيان يا بوني. سأثقُ بك ثلاثة أضعاف ما تَحمل الآن من مال، لكن عندما تتحدَّث عن مائة ألف دولار فأنت تتحدَّث عن مال كثير.»
«إذا استطعت أن أُقنعَ ميليش بأنك ستَحصل على مالك، فهل ستلعب؟»
«يمكنك أن تُقنعَني بنفس السهولة التي ستقنع بها ميليش. فما فائدة جرِّه في هذا الأمر؟»
«يُمكنني أن أقنعَك في غضون دقيقة، لكنك قد تستمر في رفض اللعب. والآن، لا بد أن ألعب هذه المرة، ولا يُمكنُني أن أتحمَّل أيَّ مَخاطر. وإذا لم تكن كلمتي وكلمة ميليش كافيتَيْن كإثباتٍ لك على الدفع، فقُل ذلك.»
صاحَ بيرت: «حسنًا، إذا استطعت أن تقنع ميليش بأنك ستدفع المال إذا خسرت، فسألعبُ معك.»
انسحبَ رويل وميليش إلى حجرة داخلية ثم خرَجَا بعد عدة دقائق.
وكان وجه ميليش أحمر حين دخلَ، أما الآن فقد أصبح وجهُه شاحبًا قليلًا.
قال ميليش: «لا يُعجبُني هذا الأمر يا بيرت، وأعتقد أنَّ من الأفضل أن يتوقَّف الأمر عند هذه النقطة.»
«إذن، فأنت لست مُقتنعًا بأنني واثقٌ من وجود أموالي؟»
«بلى، أنا مُقتنِع بذلك ولكن …»
«وهذا كافٍ بالنسبة إليَّ. أحضر مجموعة الأوراق الجديدة.»
قال بوني عندما رأى أنَّ مالِك المنزل كان على وشك أن يتحدَّث: «لقد أعطيتَني كلمتَك يا ميليش. لا تنطق بأكثر من ذلك.»
فأضافَ بيرت: «إنَّ ورقتَيْن من بين ثلاث سيكون سريعًا جدًّا بالنسبة إلى هذا المَبلغ. فلنجعلْها خمسًا من بين تسع ورقات.»
«لا بأسَ بذلك.»
ثم أُحضِرَت مجموعة الورق الجديدة ومُزِّق غلافها.
قال رويل: «اخلط أنتَ الأوراق أولًا، وسأقسم أنا.» وقد بدت شفتاه جافتَيْن فراحَ يُرطِّبهما بين الحين والآخر، وكان هذا الأمر غير عادي بالنسبة إلى مُقامِر هادئ مثله. وراحَ ميليش يتملمَل في أرجاءِ المكان مُقطِّب الجبين. خلطَ بيرت الأوراق دون اكتراث وكأنه يلعب على ورقة من فئة خمسة دولارات. وعندما سحبَ كلٌّ منهما ورقة، كان في يد بيرت ورقة آس، وفي يد بوني ورقة الشايب. ثم خلطَ بوني الأوراق وسحبَ ورقة مُرقَّمة، بينما سحبَ خصمُه ورقة البنت. ابتسم بيرت وراحت قطرات العَرَق تظهر على جبين بوني رغم محاولاته الجاهدة للسيطرة على نفسه. ولم يَنبس اللاعبان ولا المُتفرِّجون ببنت شفة. وبعد التوزيعة التالية للورق، خسر بوني مرةً أخرى. وبدا أنَّ رباطة جأشه قد غابَتْ عنه. فلَمْلَمَ الأوراق من فوق الطاولة وهو يتلفَّظ وقال بصوتٍ أجش: «أحضِروا مجموعة ورقٍ أخرى.»
ابتسمَ بيرت إليه على الجانب الآخر من الطاولة. لا شك أنه كان يُفكِّر أنهم يقامرون على مبالغ متساوية.
لم يكن باستطاعة ميليش أن يَتحمَّل أكثر من ذلك. فدَلَفَ إلى إحدى الغرف الداخلية. أما التوزيعة الأولى لمجموعة الورق الجديدة، فقد كانت في صالح بوني وبدا كأنه يشعر بأنَّ حظَّه قد تغيَّر، لكن التوزيعة التي تلَتْها كانت في غير صالحه وكذلك المجموعة التي تلتها.
قال رويل وهو يدفع بالورق باتجاه خصمِه: «إنَّه دورك في خلط الأوراق.» لم يمسَّ بيرت الورق، لكنه راحَ يبتسم في وجه المقامر الآخر.
«ما خطبُك؟ لِمَ لا تخلط الأوراق؟»
قال بيرت في هدوءٍ: «لست مضطرًّا لفعل ذلك. لقد فزتُ في خمس توزيعات.»
وضعَ رويل يده على جبينه المتعرِّق وحدَّق إلى الرجل الجالس قبالته على الطاولة. ثم بدا كأنه قد استجمع شتاتَ نفسه.
وقال: «إذن فقد فزت، لم ألحظ ذلك. عذرًا. أعتقد بأنني سأذهب الآن.»
«اجلس حيث أنت ولنلعبْ على شيءٍ أبسط من ذلك. أنا لا آبَهُ بشأن ذلك البَذخ وأعتقد أنك لا تأبه به كذلك … والآن.»
«شكرًا، لا. لقد أخبرتُكَ أنَّ تلك هي آخر مرةٍ لي. أما بالنسبة إلى البذخ، فلو كنت أمتلك المال لحاولتُ اللعب مرة أخرى عن طيب خاطر. ولَلعبتُ مرارًا وتكرارًا.»
وعندما أتى ميليش ورأى أن اللعبة قد انتهَت سألَ عن بوني.
فأجابه بيرت: «أعتقد أنه عَرفَ بأنه قد اكتفى بهذا الحَدِّ. لقد ذهبَ إلى منزله.»
قال ميليش: «ادخل هنا يا بيرت. أريد أن أتحدَّث إليك.»
وعندما كانا وحدهما التفت ميليش نحوه.
«أعتقد أنَّ بوني لم يُخبرك من أين سيأتي المال، أليس كذلك؟»
«لا، لقد أخبرك أنت وكان هذا كافيًا بالنسبة إليَّ.»
«إذن، لا سببَ يَحُول دون أن تعرف ذلك الآن. لقد وعدتُه أن ألتزمَ الصمت حتى تنتهي اللعبة. لقد أمَّنَ على حياته بمبلغ مائة ألف دولار وسينتحر من أجل أن تحصُل أنت على المال.»
صاحَ بيرت: «يا إلهي! لِمَ تركتنا نُواصِل اللعبة؟»
«لقد حاولت إيقافها، لكنَّني كنت قد أعطيت كلمتي، وأنت …»
«حسنًا، لن نقف هنا ونثرثر. إنه في فندق ميتروبوليتان، أليس كذلك؟ إذن هيا بنا. ارتدِ معطفَك بسرعة.»
كان ميليش يعرف رقم غرفة رويل ومن ثمَّ لم يُضيِّعوا وقتًا في الاستعلام عند مكتب الاستقبال. وحاول ميليش فتح الباب، لكنه كان مُوصَدًا كما توقَّع.
جاءَ صوتٌ يصيح من الداخل: «مَنْ بالباب؟»
«إنه أنا … ميليش. أريد أن أتحدَّث إليك للحظة.»
«لا أُريد أن أقابلك.»
«يريد بيرت أن يقول لك شيئًا. إنه أمر مُهم. دعنا ندخل.»
«لن أدخلكما. اذهبا من هنا ولا تُحدِثا جلبة. لن يجدي الأمر. يمكنكما أن تَدخُلا بعد عشر دقائق من الآن.»
قال بيرت بنبرة حادة: «اسمع يا بوني افتح هذا الباب فورًا، وإلا فسأُحطمه. أتسمعني؟ أريد أن أراك للحظة، ثم يمكنك بعدها أن تفعل ما تريد.»
وبعد أن تردَّد للحظة، فتحَ رويل الباب ودخلَ الرجلان. كان نصف السجادة مرفوعًا من مكانه وكانت أرضية الغرفة مفروشة بجرائد قديمة. وعلى الطاولة كان هناك مسدَّس دوَّار وأدوات كتابة وخطاب لم يكتمل بعد. أما بوني فكان يرتدي قميصًا ولم يبدُ عليه السرور بتلك المقاطعة.
فسأل باقتضاب: «ماذا تريدان؟»
قال بيرت: «اسمع يا بوني. لقد اعترفتُ إلى ميليش وقد أتيتُ لأعترفَ إليك. أريدكَ أن تتساهل معي وتتكتَّم على الأمر. لقد غششت. كان الورق جاهزًا معي.»
قال رويل وهو ينظر في عينيه مباشرةً: «أنت كاذب.»
صاحَ راجستوك وقد شدَّ على قبضته: «لا تُكرِّر قول ذلك. قليلٌ من الرجال من أتقبَّل منهم تلك الكلمة.»
«كنت تُجهِّز الورقَ لي؟ لا يستطيع أحد فعل ذلك معي!»
«كنتَ مُتحمِّسًا ولم تلحظ الأمر.»
«أنت لست بكاذب فقط، بل إنك غير بارع في الكذب. لقد خسرتُ المال وسأدفع لك. كان المال سيكون جاهزًا الآن، إلا أن هناك خطابًا يتحتَّم عليَّ أن أكتبه. لقد أخبركَ ميليش عن وثيقة التأمين ووصيتي المرفَقة بها. هَاكَ هما. إنهما لك. لستُ بغشَّاش، كما أنني أُميِّز جيدًا متى يكون اللعب مُنصفًا.»
أخذ بيرت الوثيقة ولا شكَّ أنه كان يَنوي أن يُمزِّقها، في حين أومأ إليه ميليش بعينيه وراحَ يتسلل شيئًا فشيئًا ليَحصُل على المسدس. قرأ راجستوك الاسم المكتوب بأحرفٍ كبيرةٍ في رأس الصفحة وكان منقوشًا بخطٍّ جميل. وهنا اتسعَت عيناه ثمَّ غاصَ في كرسيٍّ وراحَ يَضحك بصوتٍ مُرتفِع. فنظر إليه الرجلان الآخران في ذهول.
سأله ميليش: «ما الأمر؟»
«الأمر؟ كان هذا الأمر سيكون خدعةً لبوني. من الجيد لكلٍّ منكما أن تعرفا شيئًا عن الموضوع كما تَعرفان عن المقامرة. لقد أفلست شركة هاردفاست للتأمين على الحياة قبل ستة أشهر. هذه هي الحقيقة يا بوني، حتى لو لم أكن قد جهَّزت الورق بنيَّة الغشِّ في اللعب. من الأفضل أن تجريَ بعض الاستعلامات في دوائر الأعمال والأوساط التجارية قبل أن تُحاول الحصول على أيِّ أموال من تلك الشركة. والآن يا بوني، اطلب لنا بعض المشروبات، إذا كان هناك ما يُمكن أن تَطلبه في مثل تلك الساعة المتأخِّرة. نحن ضيوفك؛ ومن ثمَّ يُتوقَّع منك أن تكون مضيفًا كريمًا. لقد حصلتُ على ما يَكفي من الإثارة لليلةٍ واحدة. سنَعتبِر أننا مُتعادِلان وسنبدأ من جديد.»