تحوُّل رينجامي
جلسَ السيد جون رينجامي — المؤلِّف — في مكتبته يحدِّق في تراخٍ وفُتور إلى خارج النافذة. كان المنظرُ أمامه مبهجًا للغاية وباعثًا على السرور، وأبرزت شمسُ الصباح الباكر خضرة الأشجار الوارفة على نحو لافتٍ للغاية. كان السيد رينجامي رجلًا كثير الانشغال فيما مضى، أما الآن، فلعله يأخذ الحياة على مَحْمَلٍ هيِّن — إنْ هو أرادَ هذا؛ ذلك أنَّ كُتبًا قليلة قد تناولت النجاح الباهر لآخِر أعماله. كان السيد رينجامي يفكِّر في هذا الشأن حين فُتِح البابَ ودخلَ من حجرة مكتبه الملحقة بالمكتبة شابٌّ طويل البنية يبدو عليه أنه مُثقَّف. وضعَ الشابُّ على الطاولة مجموعة من الخطابات كانت في يده، وبعد أن سَحَبَ كرسيًّا، فتحَ دفتر ملاحظات فارغًا كان يحوي بين طياته قلمًا رصاصًا كلا طرفَيْه مَشحوذان.
قال المؤلِّف وهو يُقرِّب كرسيَّه أيضًا من الطاولة: «صباحُ الخير سيد سكريفر.» وقد تنهَّدَ المؤلِّف أثناء فِعله ذلك؛ ذلك أنَّ المشهد الربيعي الخلَّاب من نافذة المكتبة كان أكثر جاذبية من مهمَّة الرد على عدد كبير من المراسَلات.
«هل لدينا الكثير من الرسائل اليوم يا سكريفر؟!»
«هناك الكثير فعلًا يا سيدي. لكن أغلبها مجرد رسائل صغيرة تتطلَّب توقعيك.»
«الطوابع مُرفَقة بها، أليس كذلك؟»
«معظمُها كذلك يا سيدي، وتلك التي لم يكن مُرفقًا بها الطوابع ألقيتُها في سلة المهملات.»
«أحسنت صُنعًا. أما عن التوقيعات، فيمكنك أن تعمل عليها بعد ظهر اليوم، إذا كان لديك متسعٌ من الوقت.»
«لقد عملتُ عليها بالفعل يا سيدي. فحتى أقرب أصدقائك لا يستطيع أن يُفرِّقَ بين نسختي من توقيعك والنسخة الحقيقية منه، وهو أمرٌ أمتدحُ نفسي بشأنه.»
وبينما كان يقول جملته تلك، دفعَ الشابُّ نحو المؤلِّف برسالة كَتَبَها هو، فنظرَ إليها السيدُ رينجامي بعين ناقِدة.
«جيد جدًّا يا سكريفر، جيد جدًّا حقًّا. في الواقع، إن استُدعيتُ إلى منصة الشهود فلستُ بواثقٍ من قدرتي على القَسَم بأنَّ هذا التوقيع ليس توقيعي. ما الذي ذكرته في متن الرسالة عن الأفكار والآراء الخاصة؟ آمل ألا تَكتُب عني رأيًا خاصًّا. حذارِ يا فتى، فأنا لا أريدُ للصحف أن تحصل على أي شيءٍ يمكن أن يُحوِّلوه إلى أضحوكة أو سخرية. إنهم يميلون كثيرًا ليفعلوا ذلك إذا ما سنحت لهم نصفُ فرصة.»
قال الشابُّ: «أوه، أعتقدُ أنك ستجدَ أن لا بأسَ بذلك. إلا أنني فكَّرتُ أنَّ من الأفضل أن أطرح الرسالة عليك قبل أن أرسلها. إنَّ السيدة صاحبة الرسالة أنشأت «نادي رينجامي» في كالامازو، وهي تطلب منك أن تكتبَ لها رأيًا خاصًّا أو فكرةً خاصة بخط يدك حتى يمكن لهم أن يتخذوها شعارًا لناديهم. ولذا، كتبتُ لها جملة «ينبغي لكل فئات العمَّال أن تَحصُل على أجور متساوية.» وإذا لم تكن هذه الجملة مناسبة لك، فيُمكنُني أن أغيِّرها بسهولة.»
«أوه، إنها تناسبني تمامًا، إنها ممتازة.»
«إنها بالطبع هُراء شنيع، لكنَّني ظننت أن العقلية الأنثوية ستُسَرُّ بمثل هذه الجملة.»
«شنيع، ماذا قلت يا سيد سكريفر؟»
«حسنٌ، إنه شيء على سبيل الترضية، إذا كان من الأنسب وصفه بذلك. أنت بالطبع لا تؤمن بأيٍّ من تلك التفاهات.»
عبسَ وجه السيد جونسون رينجامي وهو ينظر إلى سكرتيره.
ثم قال في النهاية: «لا أعتقد بأنني أفهمك.»
«حسنٌ، انظر يا سيد رينجامي، إنني لا أتحدَّثُ الآن بصفتي موظفًا يتحدَّث إلى رب عمله، وإنما …»
«إنني لا أتحدَّث معك بهذه الصفة يا سكريفر. إنَّ فكرة رب العمل وموظَّفه ليست مطروحة بيننا. ينبغي ألا تكون مثل هذه الفكرة مطروحة بين أي شخصين. فالبشرُ جميعًا أحرار ومتساوون.»
«إنَّهم كذلك نظريًّا، ومن وجهة نظري أيضًا، كما يُمكنني القول إذا أردتُ أن أجعل الجملة معبِّرة أكثر.»
«يا سكريفر، لا يُمكنني أن أحييك على لغتك المعبِّرة، إنْ جاز لي أن أسميَها كذلك. لكننا نجنحُ عن حديثنا. كنت ستَقول إنك تتحدَّث بصفتك … حسنٌ، أكمِل.»
«كنت سأقول إنني أتحدَّث إليك بصفتي رجلًا عاقلًا يتحدَّثُ إلى رجل عاقل مثله، من دون لغوٍ أو تضليل، ألا تعتقد أنه محض هُراء أن يعتقد المرءُ بأن كل فئات العُمَّال ينبغي أن تحصل على أجور متساوية. أنتحدَّث بصراحة الآن؟»
أرجعَ المؤلِّف ظهره إلى الوراء في كرسيِّه وراحَ يُحدِّق في سكرتيره. ثم قالَ في النهاية:
«عزيزي سكريفر، لا يُمكنك أن تعني حقًّا ما تقول. أنت تعلم أنني أُومِن أن كل فئات العمَّال ينبغي أن تحصل على أجور متساوية تمامًا. عامِل المنجم، والحدَّاد، والواعِظ، وموظف البريد، والمؤلِّف، والناشِر، وصاحب المطبعة … أجل، ينبغي أن يحصل الرجل الذي يُنظِّف المكتب أو الذي يلمِّع الأحذية على أجور متساوية إذا كان للعالَم أن يسير بالطريقة التي ينبغي له أن يسير بها، أو التي سيسير بها فعلًا. ومن المؤكَّد يا سكريفر أنكَ لم تقرأ كتابي …»
«أقرؤه؟ أحقًّا! لقد كتبتُه.»
«هل كتبتَه؟ أحقًّا! لطالَما كنت أعتقدُ أنني أنا المؤلِّف …»
«هذا صحيحٌ فعلًا. لكن ألم أُدوِّنه كلَّه بالاختزال، وأضربُ بجدٍّ على الآلة الكاتبة، ألم أراجع معك مسوَّدة الطَّبْع. ومع ذلك، تسألني إنْ كنت قد قرأت الكتاب؟!»
«أوه، أجل، أنت محقٌّ تمامًا في هذا، أرى ما ترمي إليه. لكنَّك إذا أوليتَ اهتمامًا للحجج المذكورة في الكتاب بقدر ما أوليتَ إلى عملية نَسْخِه الآلية، فأعتقدُ أنك لم تكن لتسأل إنْ كنت أعني حقًّا ما قلت.»
«أعتقدُ بأنك — بطريقة ما — كنت تعني ذلك كله نظريًّا. ربما، لكن …»
«يا سيدي العزيز، اسمح لي أن أقول إنَّ النظرية التي لا تتسم بأنها عملية ليست بنظرية من الأساس. إنَّ النجاحَ الكبير لكتاب «النظر للأعلى» يعود إلى حقيقة أنه كتاب عمَليٌّ للغاية. إنَّ إضفاء الطابع القومي على كل شيءٍ ليس مجرَّد شأن نظري وحسب. إنَّ الأفكار التي ينادي بها الكتاب يُمكن أن تراها واقعًا أمامك في أي وقت. انظر إلى الجيش، وانظر إلى مكتب البريد.»
«أوه، لا بأسَ بذلك، أن تنظر إلى الأشياء في مجملها. لكن لنتطرق إلى التفاصيل العملية. فالتفاصيل هي المَحك الحقيقي لأي نظام. لنتناول كتاب «النظر للأعلى». هل لي أن أسألك كم جنيت من هذا الكتاب حتى هذه اللحظة؟»
«أوه، لا أعرف تحديدًا. في حدود ٢٠ ألف جنيه إسترليني.»
«جيد جدًّا. والآن لننظر إلى الطريقة التي أُنتِجَ بها هذا الكتاب. كنتَ تَذرع هذه الغرفة جيئة وذهابًا ويدُكَ خلف ظهرك، وكنت تُملي عليَّ الفصل تلو الآخر، وجلستُ أنا إلى هذه الطاولة أدوِّنه بالاختزال. ثم كنتَ تَخرُج أنت وتتنسَّم الهواء بينما كنت أضربُ بجدٍّ على الآلة الكاتبة.»
«أتمنَّى أن تتوقَّف عن قول «أضرب بجدٍّ» هذه يا سكريفر. لقد استخدمت هذه الكلمة مرتَيْن حتى الآن.»
«لا بأسَ، خطأٌ مطبعي … ذلكَ أنَّ «أضرب بجدٍّ» تُفهَم بأنها «أعمل بمهارة». ثم كنتَ تمرُّ بعينيك سريعًا على الصفحات المطبوعة على الآلة الكاتبة، وكنتُ أمسحُ أنا وأضيف إليها، ثم أخرج في النهاية بنسخة مثالية. والآن لقد عملتُ بجدٍّ مثلك — وربما أكثر منك — لكن نجاح هذا الكتاب يعود إليك وحدك، وليس لي شيء فيه. ولذا، من الإنصاف جدًّا أن تحصل أنت على مبلغ العشرين ألف جنيه إسترليني وأحصل أنا على جنيهَيْن أسبوعيًّا. أليسَ كذلك؟ إنني أتحدَّث كرجل عاقل.»
«وأنا أتحدَّث أيضًا كرجل عاقل تمامًا وأقول إن هذا ليس من الإنصاف في شيء. لو كان العالَم يسير بقواعد سليمة ومُنصِفة لكانَ أجر المؤلِّف هو مثل أجر سكرتيره بالضبط.»
أجابه السكرتير: «أوه، حسنًا، الآن وقد تطرَّقت إلى هذا الأمر، فليس لديَّ ما أضيفه.»
ضحكَ المؤلِّف، وكرَّسَ الرجلان طاقاتهما ليفرغا من المراسلات. وحين انتهوا من المهمة، قال سكريفر:
«أريدُ أن أحصل على إجازة لعدة أيام يا سيد رينجامي. فهناك أعمال خاصة عليَّ أن أوليها اهتمامي.»
«متى يُمكنُك أن تعود لتباشر العمل؟»
«سأرسلُ إليك في صباح يوم الخميس.»
«حسنٌ إذن. لا تتأخَّر عن يوم الخميس. أعتقدُ بأنني سآخذ إجازة أنا أيضًا لبضعة أيام.»
•••
وفي صباح يوم الخميس، جلسَ السيد جونسون رينجامي في مكتبته وراحَ يُطلُّ من النافذة، لكن اليوم لم يكن باعثًا على البهجة كآخِر مرة نَظَرَ فيها إلى التلال والغابات والحقول الخضراء. ذلك أنَّ عاصفة ربيعية هوجاء ضربت المظهر الطبيعي أمامه، وراحت قطرات المطر تَضرب على النافذة. انتظرَ السيدُ رينجامي لبعض الوقت ثم فتحَ باب مكتبه ونظرَ بداخلها. كانت الغرفة الصغيرة خالية. دقَّ الجرس، فحضرت إليه الخادمة.
«ألم يَجئ السيد سكريفر بعد؟»
«لا يا سيدي، لم يَجئ بعد.»
«ربما منعَه سقوطُ المطر.»
«قال السيد سكريفر إنك حين تعود ستَجد خطابًا على الطاولة بانتظارك.»
«آه، هذا هو إذن. شكرًا لكِ. يُمكنكِ الانصراف.»
عزيزي السيد رينجامي، لقد أقنعتني تمامًا حُجتك في ذلك اليوم بأنكَ محق، وأنني كنت مُخطئًا (تمتَم المؤلِّف في نفسه: «آه! كنت أعرف أنها ستُقنعُك».) ومن ثمَّ، فقد اتخذتُ خطوةً نحو تطبيق نظرياتك ووضعها حيز التنفيذ. إنَّ النظام يُعد قديمًا في الحياة التجارية، لكنه لا يزال حديثًا في تطبيقه الحالي، حتى إنني أخشى أنَّ الأمر لن يَجد نصيرًا له سواكَ أنت، وأثقُ أنني الآن وأنا بعيد كلَّ البُعد (صاحَ المؤلِّف: «يا إلهي! ماذا يعني هذا؟») أنك ستُبرهِن لكل المشكِّكين أنني تصرَّفتُ بناءً على المبادئ التي ستحكم العالَم حين تُوضَع نظريات كتاب «النظر للأعلى» موضع التطبيق. وخشية أن الجميع لن يوافقوكَ الرأي في الوقت الراهن، فقد اتخذتُ الحيطة وذهبتُ إلى ذلك البلد غير المُكتشَف، الذي لا توجد فيه مُعاهَدة تسليم مجرمين تجبر المسافر على العودة. لقد ذهبتُ إلى إسبانيا المشمسة. وقد قلتَ إنك لا تَستطيع أن تُفرِّق بين تقليدي لتوقيعك وتوقيعك الحقيقي. ولم يستطع صرَّاف البنك حتى أن يُفرِّق بينهما. لقد مكَّنني تقليدي الدقيق لتوقيعك من سحب مبلغ ١٠ آلاف جينه إسترليني من حسابك البنكي. إنها نصف الأرباح كما تعلم. ويُمكنك أن تُرسل المستحقات المتراكِمة مُستقبلًا على عنوان بوست ريستانت، مدريد، إسبانيا؛ ذلك أنَّ الكتاب سيُواصِل مبيعاته.
وفي الحال وضعَ السيد رينجامي القضية بين أيدي المحققين، حيث لا تزال على حَالِها.