إصلاح جو هولندز
كانت الحانات في طريق بورويل — وهي كثيرة ومُمتدة على طول الطريق — تَفخَر بجو هولندز. كان نموذجًا مثاليًّا للأشخاص الذين تفرزهم بيئة الحانات. كان جو على الأرجح هو السكِّير الأكثر مثابرةً على طول هذا الطريق، وكان مشهد الشرطة وهي تُلقي القبض عليه هو أحد المشاهد المألوفة في الشارع. كان الكثير من مرتادي تلك الحانات يحتاجون إلى رجل شرطة واحد لاقتيادهم إلى القسم، ويحتاج البعض إلى رجلَيْن، لكن جو كان يحتاج في المتوسط إلى أربعة من رجال الشرطة لاقتياده. وعُرِفَ عن جو أنه يتفاخر أن الأمر تطلَّب ذات مرة سبعة من رجال الشرطة لاقتياده إلى القسم، إلا أنَّ ذلك كان قبل أن تدرس الشرطة حالة جو وتُقرِّر حجم القوة الصحيح المُكافئ لقوَّته. كان رجال الشرطة الآن يَطرحونه أرضًا؛ حيث يُمسِك أحد رجال الشرطة بإحدى قدمَيه العصيَّة ويُمسك آخر بالقدم الأخرى، فيما يتولى الشرطيان المتبقيان أمر الجزء العلوي من جسده. وهكذا حملوه، وتبعهم الحشدُ المتعجِّب، وأخذ السكارى الآخرون يُشاهدونهم وقد تملَّكتْهم الغيرة؛ إذ لم يكن الأمر يتطلَّب معهم سوى شرطي واحد حين يتعرَّضُون لموقف مُماثل. وكان جو يتمكَّن أحيانًا من تسديد ركلة مؤثِّرة للغاية إلى بطن رجل الشرطة، وحين ينزوي الشرطي على نفسه بعيدًا عنه كان القتال يُستأنَف في غضون بضع لحظات، ويكون القتال صامتًا من جانب رجال الشرطة وصاخبًا مُجلجلًا من طرف السكِّير الذي يتمتَّع بلسانٍ سليط لا يكفُّ عن السباب. ثم يستمر الموكب مجدَّدًا، وكان من غير المُجدي تمامًا أن يُوضَع جو في عربة الإسعاف التابعة للشرطة؛ ذلك أن الأمر كان يتطلَّب ركوب شرطيَّين معه لكبت حركته والسيطرة عليه أثناء نقله، والعربة غير مصنوعة لتتحمَّل مثل هذا الحمل.
وبالطبع، كانت عربة الإسعاف تقوم بواجبها حين يخرج جو مُترنِّحًا من الحانة ويسقط في القذارة، فكان يُدفَع بمجهود إلى مكان سكنه، لكن المرح الحقيقي حدث عندما أُلقيَ القبض على جو أثناء المرحلة الثالثة من نوبته. اجتاز جو المرحلة الخطابية، ثم المرحلة العاطفية أو الشعورية، ومنها انتقَلَ إلى مرحلة الاشتباك والشجار التي عادةً ما يُلقَى به في الشارع خلالها؛ حيث يبدأ على الفور في إثارة الصخب في أرجاء المدينة وتلوين شوارعها بالدماء. وعندئذٍ، تُدوِّي صفارة الشرطة وتُدرك الشرطة أن جو مُتحفِّز للقتال وأن نداء الواجب يدعوهم إلى ساحة الوغى.
كان يُعتقَد في الحي أنَّ جو خريج جامعي، وكان هذا يُعلي شأنه لدى معجبيه. فكانت فصاحتُه وبلاغته أمرًا مفروغًا منه، بعد تناولِه بضع كئوس من الشراب تختلف في عددها تبعًا لقوة تأثير ما تحتويه من شراب، وكان مَنْ يستمع إلى كبار المتحدثين السياسيِّين في تلك الفترة يُقرُّ بأن أحدًا من هؤلاء لا يُضاهي جو حين يتحدث في أمر مظالم العُمَّال وطغيان صاحب رأس المال واستبدادِه. ومن المفهوم بصفة عامة أنَّ جو كان في مقدوره أن يُصبحَ أيَّ شيء يريده، وأنه لم يكن عدو أحدٍ سوى نفسه. كما ألمحَ إلى أنَّ في وسعه أن يُسدي النصائح إلى كبار الشخصيات إذا ما استشاروه وسألوه رأيه في شئون الدولة.
وذات مساءٍ حين كان جو يتقدَّم ببطءٍ كالمعتاد نحو قسم الشرطة؛ حيث كان يَصطحبه العدد اللازم من رجال الشرطة وقدمه مرفوعة في الهواء وهو يخطب في الحشد أثناء ذلك ملهبًا إعجابهم به، وقفت امرأةٌ وظهرُها ملاصق للجدار الحَجري وكانت مرعوبة من هول ما ترى. كان وجه المرأة شاحبًا وصافيًا وترتدي ثيابًا سوداء. وكانت مهمتها التي فرضتْها على نفسها محصورةً في هؤلاء الناس، لكنَّها لم تكن قد رأت جو من قبل وهو يُقتاد إلى قسم الشرطة، وكان المشهد الذي تراهُ صادمًا بالنسبة إليها، رغم أنه كان مُسليًا بالنسبة إلى الحي. فتساءلت عن أمر جو وسمعت القصة المعتادة بأنه لم يكن عدوًّا لأحدٍ إلا لنفسِه، وإن كانوا إحقاقًا للحق قد أضافُوا أنه كان عدوًّا للشرطة. إلا أنه نادرًا ما كان يُنظر إلى رجال الشرطة على أنهم آدميُّون في هذا الحي. أطلعت السيدة جونسون لجنة الرابطة الاجتماعية على القضية، وطلبت مشورة أعضائها. وعندئذٍ، عُقِدَ العزم على إصلاح جو هولندز.
تَقبَّل جو السيدة جونسون في إجلال مكبوت وسلوك دلَّ بكياسةٍ على معرفته بسموِّ منزلتها عنه وتَدني قَدْره. كان يعلم كيف يَنبغي التعامل مع امرأة حتى ولو كان سكيرًا، وذلك طبقًا لما أخبر به المقرَّبين منه بعد ذلك. وكان جو على استعدادٍ تامٍّ لترويضه وإصلاحه. فحتى هذه اللحظة من حياته، لم يكن أحد قد مدَّ إليه يد العون. كان ما يحتاجه جو هو التعاطف الإنساني، ونادرًا ما كان يحظى به. كان ما تلقَّاه ذلك الرجل الفقير في حياته من الركل والرفس يفوق بكثير ما معه من مالٍ. ولم يكن الأثرياء يكترثون بما يحلُّ بالفقراء؛ فلم يُلقوا بالًا لهؤلاء، وهي مسألة كانت السيدة جونسون ترفضها بشدة.
كان أحد مبادئ اللجنة أنْ يمدَّ الأغنياء يدَ العون إلى الفقراء متى كان ذلك مُمكنًا. ومن ثمَّ، عُقِدَ العزم على أن يَحصل جو على ملابس لائقة وأن يُبحَث له عن مكان يعمل فيه ليَتمكَّن من مساعدة نفسه. وكانت السيدة جونسون تجوب الحي وتجمع التبرعات لعملية الإصلاح. وكان معظم الناس يَرغبُون في مساعدة جو، وإن كان يُرى بصفة عامة أن الشارع سيبدو أقل إمتاعًا حين يُقلِع جو عن الشراب. ولكن، في إحدى الغرف في الحي، لم تَستطِع السيدة جونسون الحصول على المال الذي كانت تسعى في طلبه.
قالت المرأة التي كان ابنها الشاحب الضعيف يتعلَّق بذيل تنورتها: «لا يُمكننا أن ندَّخر ولو بِنسًا واحدًا. لقد سُرِّحَ زَوجي مؤخرًا من العمل مرةً أخرى، ولم يكن قد مضى على عمله سوى أربعة أسابيع هذه المرة.»
جالت السيدة جونسون بنظرها في أرجاء الغرفة وعرفت السبب وراء عدم وجود الأموال. كان من الواضح تمامًا أين ذهبت أموال الزوج.
كانت الغرفة مفروشة على نحو أفضل بكثير من الغرف العادية في الحي؛ فقد كانت هناك مجموعتان من الأطباق حيث كانت مجموعة واحدة فقط ستكفي. وعلى رفِّ الموقد والجدران كان هناك العديد من الأشياء غير الضرورية التي تُكلِّف أموالًا.
لاحظت السيدة جونسون كلَّ ذلك لكنها لم تقل شيئًا، رغم أنها قرَّرت أن تُخبرَ اللجنة بما رأت. ففي الاتحاد قوة، وتَكمُن الحصافة في كثرة التشاور. وكانت السيدة جونسون تؤمن إيمانًا شديدًا بحكمة اللجنة وحنكتها.
«كم مرَّ على تسريح زوجك من العمل؟»
«بضعة أيام ليس إلا، لكن الظروف عصيبة وهو يَخشى ألَّا يجد وظيفة أخرى قريبًا.»
«وماذا يعمل؟»
«نجار، وهو عامل ماهر ورصين ولا يُعاقر الشراب.»
«إذا أعطيتني اسمه فسأضعه على قوائمنا. ربما يُمكننا مساعدته.»
«اسمه جون موريس.»
دوَّنت السيدة جونسون اسمه في دفترها، وحين غادَرَت، شعرت الزوجة بالكاد بالامتنان لما يمكن أن يأتيهم من مساعدة.
أُبلِغَت وقائعُ الحالة إلى اللجنة، وجرى تفويض السيدة جونسون لتقديم النُّصح إلى السيدة موريس بشأن إسرافها وتبذيرها. ووُضِعَ اسم جون موريس في الدفاتر بين أسماء أشخاص آخرين عاطلين عن العمل. ثم طُرِحَت قضية جو هولندز وأثارت حماسًا كبيرًا. فقد اشتُريَت ملابس لائقة بجزءٍ من المال الذي جُمِعَ له، وتقرَّر الاحتفاظ بما تبقَّى منه في شكل وديعة بحيث يُدفَع له منه متى ما اقتضت الحاجة.
وحملت اثنتان من السيدات اللاتي لهنَّ القدرة على الإقناع على عاتقهما مسئولية البحث له عن عمل في أحد المصانع إذا ما أمكن ذلك.
شعر جو بأنه غير مُرتاح نوعًا ما في ملابسه الجديدة، ويبدو أنه كان يرى أن ما أُنفِقَ من أموال ليس إلا تبديدًا. كما شعر بخيبة أمل حين عرف أنه لن يأخذ المال الذي جُمِعَ له دفعةً واحدة. وقد قال بأنه لا يعبأ بأمرِ المال، إنما كان يَعبأ أكثر بانعدام الثقة الواضح. لو كان الناس يثقون به أكثر من ذلك، لَربما غدا أفضل حالًا. فما كان ما يَحتاجه جو هو أن يَحظى بالثقة والتعاطُف الإنساني.
ناشَدَت السيدتان — بما لهما من قُدرة على الإقناع — السيدَ ستيلويل وهو صاحب مصنع صغير لصنع الصناديق. وقالوا له إنهما واثقتان أنَّ حال هولندز سيتغير إلى الأفضل لو أنه حظيَ بالفرصة. وأجابهما ستيلويل بأنه لا يوجد لديه مكان شاغر. فقد كان لديه من العمالة ما يَكفي بالفعل. كانت صناعة الصناديق تُعاني كسادًا، وكان هو يردُّ كلَّ يوم المتقدِّمين الذين كانوا عُمَّالًا أكفاء ولم يكونوا في حاجة إلى الإصلاح. لكنَّ السيدتين كانتا على درجةٍ كبيرةٍ جدًّا من الإقناع، وليس بمقدُور أيِّ رجلٍ أن يَرفض مناشدة امرأة حسناء، ناهيك عن امرأتَين. فوعَدَهما ستيلويل أن يُعطيَ هولندز فرصة، وقال بأنه سيستشير رئيس العُمَّال لديه، وأنه سيُعلِم السيدتَين بما يُمكنُ القيام به.
لم يتلقَّ جو هولندز أخبار فرصته هذه بالحماس المُتوقَّع. كَمْ من رجلٍ كان يجوب أنحاء لندن بحثًا عن عملٍ ولا يجده؛ ولذا فحتَّى السيدتان اللتان كانتا حريصتَين على صلاح أمر جو وسعادته ظنَّتا أنه يَنبغي أن يكون مُمتنًّا لحُصوله على العمل من غير سعيٍ منه. وكل ما كان من جانب جو أن قال بأنه سيَبذُل قُصارَى جهدِه، وحين تُفكِّر في ذلك تجد أن هذا ما نستطيع أن نتوقَّعه من أي امرئٍ.
وبعد ذلك ببضعة أيام تَقدَّم جاك موريس إلى السيد ستيلويل من أجل الحصول على وظيفة، بيد أنه لم تكن لديه لجنة فرعية من النساء المُقنِعات لمناشدة السيد ستيلويل باسمه. كان جاك على استعدادٍ للعمل بنصف دوام أو رُبعه؛ فقد كانت لديه زوجة وابن يَعُولهما. واستطاع أن يُبرهِن على أنه عامل ماهر وأنه لم يكن يُعاقر الشراب. وهكذا أخذ موريس يُعدِّد ما لديه من مؤهلاتٍ على مسامع ستيلويل — صانع الصناديق — العازف عن سماعه. وحينما غادر المكان مخذولًا برفضٍ آخر، صادفه جو هولندز. وكان جو مُحبًّا لإخوته في الإنسانية ويأبى أن يرى أيَّ شخصٍ خائبَ الأمل مخذولًا. وكان لديه حل واحد مؤكَّد لعلاج الحزن ووهن العزيمة. ولمَّا كان جو قد طُرِد لتوِّه من العمل، فإنه كان يتمتَّع بمعنوياتٍ مرتفعة؛ وذلك لأن توقعه بأنه شخصية لا تقبل الإصلاح قد تحقق للتو، هذا إذا كان العمل شرطًا من شروط الإصلاح.
صاحَ جو وهو يُربِّت على كتِف موريس: «ابتهج يا رجل! ما خطبُك؟ تعالَ وتناول معي شرابًا. لديَّ المال هنا.»
قال موريس الذي لم يكن يعلم ذلك السكِّير تمام المعرفة ولم يكن يعبأ بتوطيد معرفته به: «لا، أريدُ العمل، لا أريد الجعة.»
«كلٌّ حسب ذوقه. لماذا لا تسأل عن عمل في مصنع الصناديق؟ يُمكنك أن تحصل على وظيفتي وسأكون مُرحِّبًا بذلك. لقد طرَدني رئيس العمَّال للتو، قال بأنني لا أعمل وأنني أصرف انتباه بقية العمال عن العمل. ويعتقد أنني أتحدَّث كثيرًا عن رأس المال وشئون العُمَّال.»
«أتعتقِد أنَّ بإمكاني الحصول على وظيفتك؟»
«من الوارد جدًّا. لن تخسر شيئًا بالمحاولة. وإذا لم يُوظِّفُوك، تعالَ إلى حانة ريد لايون — سأكون هناك — واحتسِ شرابًا. سيُسرِّي ذلك عنك بعض الشيء.»
توسَّل موريس إلى رئيس العمَّال دون جدوى. وقال بأنَّ لديهم الآن فائضًا من العمالة في المصنع. ولذا، ذهبَ موريس إلى حانة ريد لايون، حيث وجدَ هولندز مُستعدًّا للترحيب به. تناوَلا بعض الشراب معًا، وأخبره هولندز بجهود الرابطة الاجتماعية في خط الإصلاح وعن شكوكِه بشأن نجاحهم في نهاية المطاف. كان هولندز فيما يبدو يعتقد أن سيدات الرابطة مَدينات له كثيرًا؛ لأنَّه يُمدُّهم بموضوع جيد بشأن عملية الإصلاح. وفي تلك الليلة وصلت مسيرة جو المهنية إلى أوجها؛ ذلك أن رجال الشرطة الأربعة اضطرُّوا إلى مناشدة المارة المتفرِّجين لمساعدتهم باسم القانون.
ذهبَ جاك موريس إلى منزله دون أن يُساعدَه أحد. فهو لم يَتناول الكثير من الشراب، لكنه كان يعلم أنه كان ينبغي أن يَتجنَّب مُعاقَرة الشراب كليةً؛ ذلك أنه عرفَ تأثيره من خلال تجربة مرَّ بها في شبابه. ومن ثمَّ، كانت حالته المزاجية تَميل إلى النزاع والشجار، وكان على استعدادٍ لأن يُلقيَ باللائمة على أي شخص إلا على نفسه.
وجدَ زوجته تبكي، ورأى السيدة جونسون جالسةً هناك، وكان من الواضح أنها بائسة للغاية.
قال موريس متسائلًا: «ما الأمر؟»
جفَّفت زوجته عينيها، وقالت لا شيء. كانت السيدة جونسون تُعطيها بعض النصائح وكانت هي ممتنَّة لها. حدَّق موريس إلى زائرته.
وسألها بفظاظة ووقاحة: «ما بكِ وشأننا؟» أمسكته زوجته من ذراعِه، لكنه أطاحَ بيدها في غضب، ونهضت السيدة جونسون من مكانها وقد تَملَّكها الخوف.
«ليس لكِ من شأنٍ هنا. لا نُريد أيًّا من نصائحك. دعينا وشئوننا.» ثمَّ أضافَ في نبرةٍ تنمُّ عن نفاد صبره موجهًا حديثه إلى زوجته التي كانت تسعى إلى تهدئته: «اصمتي، هلَّا صمتِّ؟»
كانت السيدة جونسون تَخشى أن يَضربها وهي تمرُّ بجواره متَّجهة نحو الباب، لكن كل ما هنالك أنه وقفَ في مكانه وراحَ يَتبع خروجها مقطِّب الجبين.
قصَّت المرأة المرعوبة على مسامع عضوات اللجنة المتعاطفات معها ما مرَّت به. كانت قد تحدَّثت إلى السيدة موريس عن تبذيرها في شراء الكثير من الأشياء غير الضرورية حين كان زوجُها يعمل. ونصحتها بأن تُوفِّر المال. ودافعت السيدة موريس عن إنفاقها المبذِّر ظاهريًّا بأن قالت إنه لم تكن هناك إمكانية لتوفير المال. فقد اشترت أشياءَ مُفيدة، وعندما سُرِّحَ زوجها من العمل استطاعت دائمًا أن تحصل على جزءٍ كبير من قيمتها على سبيل القرض مُقابل رهنها. وشرحت وهي تبكي إلى السيدة جونسون أن مكتب الرهونات هو بنك الفقراء الوحيد. وبالنسبة إلى السيدة جونسون كانت فكرة مكتب الرهونات بوصفه بنكًا وليس بوصفِه مكانًا يُوصَم بالخزي والعار هي فكرة جديدة عليها، لكن قبل أن يُقال المزيد كان الزوج قد جاءَ. وقد أكَّدت لها إحدى عضوات اللجنة التي كانت تعرف بأمر الحي أكثر مما تعرف السيدة جونسون أنَّ ثمة سببًا للقول بأن مكتب الرهونات هو بنك الفقراء. واتفقت اللجنة بالإجماع على أنَّ سلوك موريس كان شائنًا، ولكن على الرغم من الإساءة التي تعرَّضت لها إحدى العضوات، فإنَّ اللجنة لم تكن لتشطب اسم رجل من قوائم العاطلين عن العمل لديها، حتى إنْ كان غير جدير باهتمامها.
انشغلت اللجنة بعد ذلك بانتكاسة جو هولندز المُحزِنة. كانت الغرامة المُقرَّرة عليه قد دُفِعت، وعبَّر هو عن بالغ حزنه إزاء زلَّته. ولو أن رئيس العمَّال كان أقل صرامة معه وأعطاه فرصة، لاختلفت الأمور. فتقرَّر إرسال جو إلى شاطئ البحر لكي يَحظى بفرصة تحفيز جسمِه لمقاومة المغريات. واستمتع جو برحلته إلى البحر. كان يحب دومًا مناوشة مجموعة جديدة من رجال الشرطة غير المعتادين على طرائقه. وقد نشَّط جسمه كثيرًا في اليوم الأول له على الشاطئ، حتى إنه أمضَى الليلة في السجن.
وشيئًا فشيئًا، كانت المُمتلكات والمنقولات في منزل موريس تَختفي وتذهب إلى مكتب الرهونات. وكالعادة، لا تأتي المصائب فُرادى. مرضَ الصبي وبدا موريس نفسُه عاجزًا عن مقاومة إغراءات حانة ريد لايون. وأخذت المرأة التعيسة وَلدها إلى طبيب الأبرشية، الذي كان في غاية الانشغال، لكنه اهتمَّ بحالة الصبي قدر استطاعته. وقال بأن كل ما يحتاجه الصبي هو طعامٌ مُغذٍّ والتعرض لهواء الريف العليل. تنفَّسَت السيدة موريس الصعداء، وقرَّرت أن تأخذ الصبي الصغير إلى المتنَزَّه مراتٍ أكثر، لكن الطريق كان طويلًا، وكان تعبُ الصَّبي ووَهَنه يزداد يومًا بعد يوم.
وفي النهاية نجحت في إقناع زوجها بالانتباه إلى حالة الصبي الصغير. ووافَقَ على أخذ الصبي إلى الطبيب بصحبتها.
قالت السيدة موريس مُتذمِّرة: «لا يبدو أنَّ الطبيب يُلقي بالًا إلى ما أقول. ربما سيُولي الاهتمام إلى رجل مثله.»
لم يكن موريس بطبيعته عَبوسًا نكِد المزاج، لكن خيبة الأمل سرعان ما كانت تُحوِّله إلى ذلك. لم يقل موريس شيئًا، لكنه أخذَ الصبي بين ذراعَيه وذهبَ إلى الطبيب وتبعتْه زوجته.
قال الطبيب مُحاولًا أن يُبرهِن على أنه أولى حالة الصبي اهتمامًا أكبر مما يُخيَّل إلى السيدة موريس: «جاء هذا الصبي هنا من قبل. وقد ساءت حالته كثيرًا. عليك أن تأخُذه إلى الريف وإلا فسيموت.»
سأله موريس مُتجهِّمًا: «كيف يُمكنني أن أنقله إلى الريف؟ أنا عاطل عن العمل منذ عدة شهور.»
«ألديك أصدقاء في الريف؟»
«لا.»
«أليس لدى زوجتك أي أصدقاء في الريف يُمكنهم أن يَستقبلوها والصبي لشَهر أو نحوه؟»
«لا.»
«ألديك أي شيءٍ لترهنه؟»
«القليل جدًّا.»
«أنصحك إذن أن تَرهن كلَّ ما تملك، أو بِعهُ إذا أمكنك، وخذ الصَّبي على ظهرك واذهب به إلى الريف ولو سيرًا. من المحتمَل أن يكون حصولك على وظيفة هناك أسهل منه في المدينة هنا. وإليك عشرة شلناتٍ على سبيل المساعَدة.»
قال موريس بنبرة صارمة: «لا أريد مالَك، إنما أريد عملًا.»
«ليس لديَّ فرصة عمل لك؛ ولذا أعطيك ما معي من مالٍ. وليس لديَّ الكثير منه. لا تكن أحمق وترفض ما يأتيك من رزق.»
ومن دون أن يُجيبه موريس، أخذ ابنه بين ذراعَيه ورحل.
قال الطبيب إلى السيدة موريس: «إليكِ زجاجة دواء مُقوٍّ من أجل الصغير.»
ووضعَ قطعة النقود التي تساوي عشرة شلنات على الزجاجة بينما كان يُعطيها إياها. شكرته في صمتٍ بعينيها الدامعتَين، آملةً أن يأتي الوقت الذي تستطيع فيه أن تردَّ إليه ماله. كان لدى الطبيب ما يكفي من الخبرة لكي يُصنِّفهما ضمن زائريه غير الاعتياديين. ولم يكن من عادته أن يَمنح العملات الذهبية جزافًا.
كانت رحلة كئيبة وحزينة، وكان الزوجان قد قضَيا وقتًا طويلًا يَنفُضان عن نفسَيهما أغلال المدينة الكبيرة التي كانت تلفُّهما وكأنَّها أقدام أخطبوط، والتي كانت في كل عام تمتدُّ أكثر وأكثر وتزحف على الريف، وكأن المدينة كانت تعيش على استهلاك الحقول الخضراء وإبادتها. مضى موريس والصبي على ظهره، وتبعته زوجته. لم يتحدَّث أيٌّ منهما ولم يتذمَّر الصبي المريض. وبينما كانا يقتربان من إحدى القرى، تدلَّت رأسُ الصبي على كتفِ أبيه. أسرعت الأم في مشيتها حتى اقتربت منهما وراحت تقلِّب رأس ابنها النائم. وفجأة، أطلقت صرخة مكتومة وأخذت الصبي بين ذراعيها.
سألها موريس وهو يَلتفِت نحوَها: «ما الأمر؟»
لم تجبه، لكنها جلست على جانب الطريق وابنُها على حجرها، وراحت تؤرجِح جسدها ذهابًا وإيابًا على الصبي، وكانت في أثناء ذلك تعول وتنوح. لم يكن موريس في حاجة إلى ردِّها. وقفَ على الطريق وقد تجمَّدت ملامحه، ونظرَ إلى زوجته وابنه من دون أن ينبس ببنت شفة.
تدبَّر أهالي القرية الكرماء أمرَ جنازة الصغير، وحين انتهَت وقفَ جاك موريس وزوجته مرة أخرى على الطريق.
فتوسَّلت إليه قائلة: «جاك، يا عزيزي. لا تعُد إلى ذلك المكان المريع. نحن ننتمي إلى الريف، والمدينة قاسية ومتحجِّرة.»
«سأعود أنا، ولكِ أن تفعلي ما تشائين.» ثم أضافَ بعد أن لانَ قليلًا: «لم أجلب لكِ الكثير من حسن الحظ يا فتاتي.»
كانت تعلم أنَّ زوجها رجل عنيد، وانطلقَ هو في طريقه؛ ولذا من دون أن تُبديَ اعتراضًا، تبعته عائدةً كما كانت قد تبعته خارجة، وتعثَّرت مرارًا؛ ذلك أنَّ عينَيها لم تكونا تُبصران الطريقَ في كثيرٍ من الأحيان. وهكذا عاد الزوجان إلى منزلهما الخاوي.
ذهبَ جاك موريس للبحث عن عمل في حانة ريد لايون. وهناك التقى برفيقِه الكريم جو هولندز، الذي كان قد صَلُح حاله، كما كان قد ارتدَّ عن الطريق القويم مرتَيْن منذ تقابَل هو وجاك من قبل. ولكن كان من المُنصِف أن يعترف جو أنه لم يكن متفائلًا يومًا بشأن صَلاح أمره، لكن بما أنه كان رجلًا محبًّا للمساعَدة حتى حين كان غير ثملٍ، فقد كان على استعداد لأن يُعطيَ الرابطة الاجتماعية كلَّ فرصة مُمكنة. وكان جاك شديد الحزن على وفاة ولده، رغم أنه لم ينطق بكلمة لزوجته تُظهِر مدى حزنه. ومن ثمَّ، تطلب الأمر أن يعاقر كمية شراب أكثر من المعتاد ليصل إلى درجة الثمالة التي تسيطر على كل رفقائه في حانة ريد لايون. وحين غادر موريس وجُو الحانة في تلك الليلة، كان الأمر يتطلَّب خبيرًا لتحديد أيهما أكثر ثمالة من الآخر. كان الرجلان في حالة متأهبة للشجار، وفي حالة مزاجية دفعتهما إلى الدعابة والعربدة في الشارع. أما رجال الشرطة الذين اعتقدوا أن جو كان وحده، فقد تفاجئوا بوجود عنصر جديد في الشجار، الأمر الذي لم يُفسِد حساباتهم العددية فحسب، وإنما أصابهم أيضًا بالانزعاج. وكان انتصار الثملَيْن مجيدًا، وعندما لاذا بالفرار في أحد الشوارع الجانبية، حثَّ موريس هولندز لكي يأتيَ معه؛ ذلك أنَّ مُمثلي القانون والنظام دائمًا يتلقون تعزيزات من شأنها غالبًا أن تُحوِّل النصر إلى هزيمة نكراء.
قال هولندز وهو يلهث: «لا يُمكنني أن آتيَ معك. لقد آذاني أولئك الأوغاد.»
«تعالَ معي، أعرفُ مكانًا حيث سنكون آمنين.»
ورغم كونه في غاية الثمالة، استطاع جاك أن يجد فجوةً في الجدار جعلته يعبر إلى بقعة شاغرة خلف مصنع الصناديق. ورقدَ هولندز في مكانه وهو يتأوَّه، وهناك غطَّ موريس في النوم لِما كان عليه من ثمالة. وفي النهاية، ثأرت الشرطة لنفسها أخيرًا.
حين استيقظَ موريس على ضوء النهار الباهت وإدراكُه مُشوَّش لا يعرف أين يكون، وجدَ رفيقه ميتًا بجواره. كان يغشاه خوف من أن يُحاكَم بتهمة القتل، لكن لم يحدث ذلك. فمنذ اللحظة التي سقطَ فيها هولندز وضربَ رأسه على الرصيف، تخلَّت عنه العناية الإلهية التي تَعتني بالسكارى.
ولكن حدث شيءٌ جيد على إثر هذه الحادثة، وهو أنها جذبت انتباه الرابطة الاجتماعية إلى جاك موريس، وهم يُحاولون الآن إصلاحه.
وسواءٌ نجحوا في ذلك أم لا، فإنَّ جاك موريس كان رجلًا في حاجة بكل تأكيد إلى الإنقاذ.