مادة متفجِّرة جديدة
جلسَ وزيرُ الحربية الفرنسي في كرسيه الوثير في مكتبِه الرسمي الخاص، وراحَ يفكِّر في أمر خطابٍ كان قد تسلَّمه. ولكونه وزير الحربية، كان الرجل بطبيعة الحال الأكثر دماثة وإنسانية والأقل عدوانية بين أعضاء مجلس الوزراء. يتلقَّى وزير الحربية الكثير من الخطابات التي يكون مصيرها — بالطبع — في سلة المهملات الخاصة به، لكن هذا الخطاب على وجه التحديد نجحَ بطريقة ما أن يجذب انتباهه. وعندما يصير المرءُ وزيرًا للحربية، فإنه يعرف للمرة الأولى أنَّ السواد الأعظم من البشر ينكبُّون على صنع أو اختراع البندقيات والبارود والآلات بكل أنواعها المصمَّمة خصِّيصى لتدمير بقية العالَم.
في صباح ذلك اليوم، كان وزير الحربية قد تلقَّى خطابًا نما إلى عِلمه أنَّ كاتبه قد اخترعَ مادة متفجرة مروعة حتى إنه يتضاءَل أمامها تأثيرُ كل المواد المتفجِّرة المعروفة أمامها. ولكون كاتب الخطاب فرنسيًّا؛ فقد قدَّم عرضَه الأول بخصوص اكتشافه إلى الحكومة الفرنسية. وقال كاتب الخطاب أيضًا إن الوزير لن يخسرَ شيئًا لكي يُجريَ اختبارًا يثبت ادعاءاته المذهلة حول تلك المادة، وإن اللحظة التي سيجري فيها هذا الاختبار هي اللحظة التي سيعرف فيها أيُّ رجلٍ ذكيٍّ حقيقةَ أن الدولة التي تمتلك سر ذلك المركَّب التفجيري ستكون في موقف حصين وسط عالَم متنازع ومتناحِر.
وقد عرض كاتِب الخطاب أن يُحاول بنفسه إثبات صحة ادعاءاته تلك إلى الوزير، شريطة أن يذهبا إلى بقعة بعيدة لا يُمكن لتأثير الانفجار أن يُحدِث أيَّ أذًى، وحيث سيكونون في مأمنٍ من التجسس. واستطرد الكاتب بأن قال بصراحةٍ شديدةٍ إن الوزير إذا استشار عملاء الشرطة فإنهم سيرون في تلك الدعوة من فورهم فخًّا لاحتمال اغتيال الوزير. لكن المخترع تذرَّع بأن الوزير بحسنِ إدراكه وتمييزه للأمور سيعلم أن لا أحد يَرغب في قتله. ذلك أنه لم يُعيَّن في منصبه ذلك إلا حديثًا، وأنه لم يُمضِ وقتًا كافيًا ليصنع له أعداءً. وكانت فرنسا في حالة سِلْم مع العالَم كله، وقد حدث هذا قبل مظاهرات دعاة الفوضوية في باريس. واستكمل كاتب الخطاب حديثه بأنه من المنصف أن يحصل الوزير على ضماناتٍ على حسن نية المخترع. ولذا فقد أعطاه اسمه وعنوانه، وقال بأن الوزير إذا ما استفسر عنه لدى الشرطة، فلن يجد في سجلاتهم شيئًا ضده. كان المخترع طالبًا، ولسنواتٍ طويلة، لم يكن انتباهه منصبًّا على شيء سوى المتفجرات. ولكي يُثبت أكثر أنه لم يكن أنانيًّا في هذا الأمر، أضافَ المخترع بأنه لم تكن لديه أي رغبة في تحقيق ثراء شخصي من وراء اكتشافه. كان للمخترع دخل شخصي يكفي احتياجاته إلى حَدٍّ كبير، وكان ينوي إعطاء سِرِّه هذا إلى فرنسا وليس بيعه لها. وكان الشرط الوحيد الذي وضعه هو أن يُقرَن اسمه باسم ذلك المركَّب المروِّع، الذي قال بأنه سيُؤمِّن السلام الدائم في العالم بأسره؛ ذلك أنَّ أيَّ أمةٍ لن تجرُؤ على محاربة أخرى بعد أن تنتشر خصائص تلك المادة ويذيع صيتها. وقال في خاتمة الخطاب إن الطموح الوحيد الذي يَرنو إليه المخترع هو أن يتصدَّر اسمه قائمة أسماء علماء فرنسا البارزين. أما إذا رفض الوزير التعامل معه فإنه سيقدم عرضه إلى الحكومات الأخرى حتى تأخذه إحداها، لكن الحكومة التي ستَحصُل عليه ستحتلُّ من فورها موقع الصدارة بين بقية الدول. ومن ثمَّ، ناشد الوزير باسم وطنه بأن يُجريَ ولو اختبارًا واحدًا على الأقل لتلك المادة.
وكما قلت، كان هذا قبل وقوع أحداث انفجارات باريس، ولم يكن الوزراء متشكِّكين حينها كما هم الآن. وقد استفسر الوزير عن ذلك العالِم الذي كان يعيش في ضاحية صغيرة من ضواحي باريس، ووجد أنه لا يوجد شيء ضدَّه في سجلات الشرطة. وأظهر البحث أن كل ما قاله عن ثروته الخاصة كان صحيحًا. ولذا، فقد كتب الوزير إلى المخترع وحدَّد ساعةً سيُقابله فيها في مكتبه الخاص.
حانت الساعة وجاء الرجل. كان الوزير يشكُّ قليلًا في رجاحة عقله، لكن الخطاب كان مكتوبًا على نحو صريح للغاية، وكان مظهر الرجل يُوحي بأنه طبيعي وذكي وهادف للنفع بحيث تبدَّدت كل الشكوك لدى المسئول الرسمي.
قال الوزير: «تفضَّل واجلس. نحن بمفردنا تمامًا، ولن يسمع أحدٌ ما ستقول عداي.»
أجابه المخترع: «أشكرك سيدي الوزير على ثقتك تلك؛ لأنني كنتُ أخشى أن ما قلته في الخطاب بدا غير عادي تمامًا بحيث يجعلك تتردد قبل أن تحدد موعدًا للقائنا.»
ابتسم الوزير وقال: «أفهم ذلك. إنَّه الحماس الذي يشعر به المخترع حين يُحقق النصر، وعلى هذا فقد كنت مُتشكِّكًا بشأن ما ذكرت في خطابك، رغم أنني لا أشك في أنك توصَّلت إلى اكتشافٍ قد يكون ذا فائدةٍ لوزارة الحرب.»
تردَّد المخترع وهو ينظر نظراتٍ جادة إلى المسئول الكبير الجالس أمامه.
ثم قال أخيرًا: «من مُنطلَق ما تقول، أخشى أن خطابي قد ضلَّلك؛ ذلك أنني كنت مضطرًّا على جعل ادعاءاتي دمثةً حتى إنني أخطأتُ في الانتقاص منها بدلًا من المبالغة فيها؛ وذلك كله خشية ألَّا تُصدقها. إنَّ المادة المتفجِّرة هنا في جيبي.»
صاحَ الوزير وقد شحبَ وجهُه وانتفضَ عن كرسيِّه: «آه! كنت أظنُّ أنني قلت لك في رسالتي ألَّا تُحضرها معك.»
«سامِحْني على عدم إطاعتي الأمر. إنها غير ضارَّةٍ تمامًا وهي في حالتها هذه. وهذه هي إحدى الخصائص — المُميِّزة إن جاز لي قول ذلك — لتلك المادة الشديدة الفاعلية. يُمكن التعامل معها بأمان تام، لكن تأثيرها محتوم كالموت.» وبقوله ذلك أخرج من جيبه زجاجة صغيرة ورفعها في الضوء وكانت الزجاجة ممتلئةً بسائل صافٍ لا لون له وكأنه ماء.
قال المخترع: «يُمكنك أن تصبَّ هذا على النار من دون أن يحدث أي شيء سوى أنها ستُطفئها. ويمكنك أن تضعها تحت مطرقة بخارية فتَسحق المطرقة الزجاجة سحقًا، لكن المادة لن تنفجر أيضًا. إنها غير ضارَّةٍ تمامًا في حالتها هذه وكأنها مياه.»
قال الوزير: «إذن كيف تتعامل معها؟»
تردَّد الرجل مرة أخرى.
وقال: «أخشى أن أُخبركَ ذلك، كما أنني إذا لم أَستطِع أن أُبرهِنَ لك بما يُبدِّد أي شكٍّ داخلك على صحة ما أقول، فسيكون ما أقوله ضربًا من الحماقة. إنني إذا أخذتُ هذه الزجاجة وأحدثتُ شقًّا في سدادة الفِلِّين، وسرتُ بها وهي مقلوبة بطول شارع دي إيتالينز، تاركًا السائل ليتساقط قطرة بقطرة على الرصيف، فيمكنني أن أسير بهذه الطريقة وأنا في أمان في كل شوارع باريس. وإذا أمطرت السماء في ذلك اليوم فلن يحدث شيء. وإذا ما أمطرت في اليوم الذي يليه أو ظلَّت تمطر أسبوعًا فلن يحدث أي شيء، لكن في اللحظة التي ستُشرق فيها الشمس وتُجفِّف الرطوبة، فإن أخفَّ خطوة من قدم قطة على أي رصيف مررتُ به سوف تتسبَّب في تدمير باريس كلها وتُحوِّلها إلى أطلال.»
صاحَ الوزير وقد علت وجهه تعابير الذعر: «هذا مُستحيل!»
«كنت أعرف أنك ستقول ذلك. ولذا أطلب منك أن تأتي معي إلى الريف، حيث سأثبت لك حقيقة ما أدعي. إنني أحمل هذه الزجاجة معي بتلك الطريقة المُستهترة على ما يبدو؛ لأنها مسدودة بقطعة من الفِلِّين كما ترى وبإحكام شديد. فلا بد ألَّا تُترَك أي قطرة على قطعة الفِلِّين أو على الزجاجة. لقد مسحتُ الزجاجة وسدادة الفِلِّين بحرصٍ شديد، وحرقت قطعة القماش التي استخدمتها في ذلك. ولا تتسبَّب النار في انفجار تلك المادة حتى ولو كانت جافة، لكن أقل لمسة لها ستتسبب في تفجيرها. يتحتَّم عليَّ أن أكون غاية في الحرص وأنا أُصنِّعها، حتى لا تتسرَّب أيُّ قطرة دون الانتباه إليها في أي مكان يمكن أن تتبخَّر فيه.»
راحَ الوزير يتأمل لبضع دقائق في السقف وقد ضمَّ أطراف أصابعه إلى بعضها، وكان يفكر في تلك الجملة المذهلة التي سمعها.
ثم قال في النهاية: «إذا كان ما تقوله صحيحًا، ألَا تعتقد أن الأكثر إنسانيةً هو أن تمحو كل أثر لكل التجارب التي اكتشفتَ هذه المادة من خلالها وألَّا تبوح بسرها لأحد؟ إنَّ الدمار الذي يُمكن أن تخلفه مثل هذه المادة إذا سقطت في أيدي أشخاصٍ عديمي الضمير يفوق حدود الخيال رعبًا.»
قال المخترع: «لقد فكَّرتُ في ذلك، لكن من المؤكَّد أن شخصًا آخر سيصل إلى ذلك الاكتشاف، وقد يكون ذلك خلال وقتٍ طال أو قصُر. وكما قلتُ في خطابي فإن ما أطمح إليه هو أن يقترن اسمي بهذا الاكتشاف. أريد أن يُطلَق على هذا الاكتشاف اسم متفجرات لامبيل. وسيكون السر في مأمن مع الحكومة الفرنسية.»
ردَّ عليه الوزير: «لست واثقًا تمامًا من هذا. قد يُصبح أحد الرجال العديمي الضمير وزيرًا للحربية وقد يستخدم معرفته لتنصيب نفسه ديكتاتورًا. إن رجلًا عديم الضمير وفي حوزته سرٌّ كهذا سيكون شخصًا لا يُقهر.»
فردَّ عليه المخترع: «إن ما تقول حقيقي بلا أدنى شك، لكنَّني عازم على أن يُسجِّل التاريخ اسم لامبيل مقترنًا بأكثر الاختراعات التي عرفها أو سيعرفها العالَم تدميرًا. وإذا ما شيَّدت لي الحكومة الفرنسية بناءً حجريًّا منيعًا كالحصن فسأحتفظ بالسر، لكنَّني سأملأ ذلك البناء بزجاجاتٍ كهذه، وحينها …»
قال الوزير: «لا أرى أن هذا سيُقلِّل الخطر إذا امتلك ذلك الرجل العديم الضمير الذي أتحدث عنه مفاتيح ذلك المكان؛ وبالإضافة إلى ذلك، فإن حقيقة أن سرًّا كهذا كان موجودًا بالفعل من شأنها أن تجعل مخترعين آخرين يسلُكُون الدرب نفسه، ولا شك أن أحدًا ممَّن هم أقل حبًّا للخير منك سيتوصَّل إلى الاكتشاف. لقد اعترفتَ بنفسك قبل قليل أنه من الوارد جدًّا أن يَنجح أحد العلماء المستقبليين في الوصول إلى التركيبة الصحيحة، حتى من دون أن يعرف أن مثل هذه المادة المدمرة كانت موجودة بالفعل. فانظر كيف سيكون ذلك باعثًا ومحفِّزًا إلى المخترعين في كل أرجاء العالم، إذا عُرِف أن فرنسا تمتلك في حوزتها مادة مدمِّرة كهذه! إنَّ أي حكومة لم تنجح من قبلُ حتى الآن في إخفاء سر المسدس أو البارود.»
قال لامبيل: «ما تقول حقيقي وصحيح بكل تأكيد، لكن من الوارد أيضًا بكل تأكيد أن يكون كلُّ ما قلتَ قد قيل إلى مُخترِع البارود؛ ذلك أن البارود حينها كان رائعًا على غرار هذا الآن.»
ضحك الوزير فجأةً بصوتٍ مرتفع.
وصاح قائلًا: «إنني أتحدث عن هذا الأمر معك بجدية وكأنَّني أُصدِّق فيه فعلًا. يمكنني بالطبع أن أقول إنني لا أصدِّق ذلك بتاتًا. أعتقدُ أنك قد سيطرت عليَّ بعينَيكَ الهادئتين فصرتُ كالمنوَّم مغناطيسيًّا؛ ومن ثمَّ أقنعتني بتصديق حديثك ولو للحظاتٍ قليلة.»
قال المخترع في هدوء: «يمكنك التأكد من صدق كل ما أقول غدًا. حدِّد لي موعدًا في الريف، وإذا تصادف أن كان الجو هادئًا ومُشمسًا فلن تشكَّ بعد ذلك فيما ستراه عيناك من أدلة.»
فسأله الوزير: «أين تريد أن تتم التجربة؟»
«لا بد أن تُجرى في منطقة نائية مُقفرة، ويُفضَّل أن تكون على قمة تل. وينبغي أن توجد بها إما أشجار وإما مبانٍ قديمة يُمكن تدميرها، وإلا فلن نستطيع تقدير تأثير الدمار كاملًا.»
قال الوزير: «لديَّ مكانٌ في الريف ناءٍ ومُقفِر وغير ذي جدوى. وهناك بعض المباني الحجرية العديمة النفع، وهو ليس على قمة تل، ولكنه على حافة محجر لا يَعمل منذ سنوات طويلة. ولا يوجد عمران أو سكان على مدى بضعة أميال حوله. فهل ستكون مثل هذه البقعة ملائمة؟»
«ستكون ملائمة تمامًا. ما الوقت المناسب للذهاب إلى هناك؟»
قال الوزير: «سنرحل معًا الليلة، ويُمكنُنا أن نُمضيَ اليوم كله غدًا في إجراء التجارب.»
أجابه لامبيل وهو ينهض: «جيد جدًّا.» وذلك بعد أن حدَّد الوزير محطة القطار التي سيلتقيان فيها وساعة ذلك.
وفي مساء ذلك اليوم، وبينما كان الوزير يقود عربته باتجاه المحطة في موعد القطار، وجد لامبيل ينتظره ويمسك بسلسلة مقيَّد بها كلبان يبدو عليهما الحزن.
فسأله الوزير: «أتسافر بهذين الكلبَيْن؟»
قال لامبيل والندم بادٍ في صوته: «وجود الكَلبَيْن البائسَيْن ضروريٌّ لتجاربنا. وسيكونان قد تحوَّلا إلى ذرَّاتٍ بحلول هذا الوقت غدًا.»
وُضِع الكلبان في شاحنة القطار، وأحضر المُخترع معه حقيبة سفره إلى العربة الخاصة المحجوزة للوزير.
كان المكان — كما قال وزير الحربية — مقفرًا ونائيًا بما يكفي. وكانت المباني الحجرية الموجودة بالقرب من حافة المحجر المهجور سميكة وقوية، رغم أنها كانت خربة بصورة جزئية.
قال لامبيل: «لديَّ هنا في حقيبتي سلك كهربائي طوله بضع مئات من الأمتار. سأربط أحد الكَلبَيْن بهذا الطوق وسنُحرِّره منه من بعيد عن طريق الضغط على هذا الزر الكهربائي. وفي اللحظة التي سيهرب فيها الكلب سيفجِّر المادة بلا أدنى شك.»
مُدَّ السلك المعزول على الأرض على ارتفاع بعيد. ورُبِط الكلب بالطوق الكهربائي، وسُلسِل إلى عمود باب أحد البنايات. ثم أزال لامبيل وبكل حذر سدادة الزجاجة، وأمسك بها على طول ذراعه. ونظر الوزير باهتمام بالغ بينما كان لامبيل يُقطِّر السائل من الزجاجة في شكل خطٍّ شبه دائري حول الكلب المربوط. ثم أعاد المخترع السدادة بحذر إلى الزجاجة ومسحها بعناية بقطعة قماش كانت معه ثم ألقى بتلك القطعة في أحد المنازل المهجورة.
وانتظرا بالقرب من المكان حتى جفت البقع التي تسبَّب بها السائل على الرصيف أمام المنزل واختفت.
قال لامبيل: «بحُلول الوقت الذي سنصل فيه إلى التل، سيكون السائل قد جفَّ تمامًا تحت هذه الشمس الملتهبة.»
وحيث كانا يُغادران باتجاه التل، عوى الكلب البائس حزنًا، وكأنه كان يشعر بمصيره.
قال المخترع حين وصلا إلى الجهاز الكهربائي: «أعتقد أنَّ علينا الانتظار لمدة نصف ساعة حتى نتأكَّد تمامًا من جفاف السائل.»
أشعلَ الوزير سيجاره وراحَ يدخِّن في صمت، وكانت تدور في عقله رَحى معركة غريبة. وجد الوزير نفسه يُصدِّق المزاعم الغريبة التي يقولها المخترع، وراحَ يُفكِّر في الاحتمالات المرعبة التي يمكن أن تتسبب بها تلك المادة المتفجِّرة.
سأله لامبيل بنبرة هادئة: «هلا ضغطت على الذراع الكهربائية؟ تذكَّر أنك بهذا تفتح أبواب حقبة جديدة.»
ضغط الوزير على المفتاح، ثم وضع نظارته الميدانية على عينيه ورأى أن الكلب قد تحرَّر، لكن الكلب جلس في مكانه يحكُّ أذنَيه بيده. ثم بعد أن أدرك الكلب أنه قد تحرَّر، راح يشم السلسلة قليلًا. وفي النهاية، رفع الكلب رأسه وجعل ينبح، رغم أن المسافة بينه وبينهما كانت بعيدة بحيث لا يستطيعان سماع صوت نباحه. ثم جرى الكلب في الاتجاه نفسه الذي سلكه الرجلان، لكن قبل أن يخطو ثلاث خطوات، ارتاع الوزير لرؤية المباني وهي تتفتت إلى تراب، ثم بعد لحظات قليلة، جاءهم هدير الأحجار المتساقطة في المحجر المهجور. لقد سقطت الحافة كلها وطُرِحت أرضًا في الصدع. ولم يكن هناك دخان، لكن كانت هناك غيمة من الغبار تعلو البقعة.
صاحَ الوزير: «يا إلهي! هذا فظيع!»
قال لامبيل بنبرةٍ هادئة: «أجل، لقد وضعتُ على الرصيف أكثر مما كان ينبغي. كانت بضع قطرات قليلة ستكفي، لكنني كنت أريد أن أتأكَّد تمامًا، وأنتَ كنتَ مُتشككًا للغاية.»
نظر الوزير إليه وقال: «أتوسَّل إليك أيها السيد لامبيل، لا تَبُح بالسر إلى الحكومة الفرنسية أو إلى أي حكومة أخرى. لنُجازف بفكرة أن يُكتشَف السر في المستقبَل. ألتمس منك أن تُعيد التفكير في مقصدك من هذا. إذا كنت تريد المال، فسأَحرص على أن تحصل على ما تريد من الصناديق السرية.»
هزَّ لامبيل كتفيه.
وقال: «ليس لديَّ رغبةٌ في المال، لكن ما رأيت يُبرهِن لك أنني سأكون أشهر عالِم في هذا القرن من الزمان. سيُخلَّد اسم لامبيل حتى نهاية العالَم.»
قال الوزير: «لكن، يا إلهي يا رجل! ستحلُّ نهاية العالَم في اللحظة التي سيعرف فيها أحد غيري وغيرك بأمر سرِّك هذا. سيكون هذا السر بمأمن معك ومعي، لكن مَنْ يعرف فيمَ سيُفكِّر مَنْ يخلفوننا؟ أنت تضع قوى القدير بين أيدي البشر.»
احمرَّ وجه لامبيل فخرًا حين قال الوزير الشاحبُ الوجه كلامه هذا.
وصاحَ قائلًا: «أنت تقول الحقيقة! هذه هي القدرة المُطلَقة.»
توسَّل إليه الوزير قائلًا: «إذن، أعِد التفكير في قرارك.»
قال لامبيل: «لقد عملت بجهد ولفترة طويلة ولن يُمكنني أن أُضيِّع فرصة انتصاري ونجاحي. أرى أنك اقتنعتَ في النهاية. والآن إذن أخبرني: بصفتك وزيرًا في الحكومة الفرنسية، هل ستؤمن لبلدك هذا الاختراع الأعظم؟»
أجابَ الوزير: «أجل، يجبُ ألَّا تحصل أي قوةٍ أخرى على هذا السر. هل دوَّنت أسماء مكونات هذه المادة؟»
فأجابه لامبيل: «أبدًا.»
«أليس من الممكن لأي أحدٍ أن يشكَّ في حقيقة الاختبارات التي كنت تجريها؟ إذا دخل إلى معملك أحد — عالِمٌ ما — ألَا يُمكن أن يحصل على السر مما قد يراه؟»
قال لامبيل: «سيكون هذا مستحيلًا. كنتُ حريصًا للغاية أن أحافظ على هذا الشرف لنفسي، فلم أترك أيَّ أثرٍ يمكن أن يشير ولو من بعيد إلى ما كنت أعكف عليه.»
قال الوزير وهو يتنهَّد تنهيدة عميقة: «كنتَ حصيفًا في فعلك هذا، والآن لنذهب وننظر في الحطام.»
وبينما كانا يقتربان من البقعة المدمَّرة، كان اندهاش المسئول الرسمي وذهوله يتضاعفان أكثر وأكثر. كانت الصخور متصدِّعة ومُتشقِّقة وكأنه من فعلِ زلزال؛ وذلك على امتداد مئات الياردات.
قال الوزير: «أنت تقول إن هذا السائل آمن تمامًا حتى يتبخَّر.»
أجابه لامبيل: «تمامًا، وكما قلت لك، ينبغي على المرء بالطبع أن يكون حريصًا في التعامل معه. لا بد وألَّا تُسقط أي قطرة على ملابسك، أو تتركها في أي مكانٍ خارج الزجاجة لكيلا تتبخَّر.»
«دعني أرَ هذه المادة.»
أعطاه لامبيل الزجاجة.
«هل لديك المزيد من هذا في معملك؟»
«ولا قطرة واحدة حتى.»
«إذا أردت أن تتخلَّص من هذه الزجاجة، فكيف ستفعل ذلك؟»
«سأفرِغ محتوياتها في نهر السين. وسيتدفَّق ماء النهر في البحر، ولن يتسبَّب ذلك في أيِّ ضررٍ.»
قال الوزير: «انظر إن كان هناك أيُّ أثر للكلب. وسأنزل أنا عن الحافة إلى المحجر وسأنظر هناك.»
قال لامبيل في ثقة: «لن تجد شيئًا.»
ولم يكن هناك سوى ممرٍّ واحد يُمكن النزول منه إلى أسفل المحجر. ونزل عليه الوزير حتى غاب عن أنظار الرجل في الأعلى، ثم سرعان ما أزال سدادة الزجاجة، وترك السائل يتقطر على أكثر المناطق ضيقًا في الممر والتي كانت في مواجهة الشمس المستعرة. ثم أعاد السدادة إلى الزجاجة، ومسحها بحرص بالغ بمنديله ثم كوَّره وألقى به في المحجر. ثم عاد إلى السطح مرة أخرى وقال إلى العالِم الدمث المحب للخير: «لا يمكنني أن أجد أيَّ أثرٍ للكلب.»
قال لامبيل: «ولا أنا أيضًا، بالطبع حين لا تجد أي علامة على وجود المبنى فلا يُمكن أن تتوقَّع أن تجد أي أثر للكلب.»
قال الوزير: «لنذهب إذن إلى التل ونتناول الغداء.»
«هل ترغب في إجراء تجربةٍ أخرى؟»
«أودُّ أن أجريَ تجربة أخرى ولكن بعد أن نتناول شيئًا من الطعام. كيف سيكون الأثر حين تُفرِغ الزجاجة كلَّها في المحجر وتُفجِّرها؟»
صاحَ لامبيل: «أوه، سيتعذَّر تخيُّل ذلك! سيتحوَّل هذا الجزء من الريف بأكمله إلى فتات. وفي الواقع، لست واثقًا من أن الهزة الأرضية الناتجة عن ذلك لن تصل إلى باريس. يُمكنني أن أدمر المحجر كاملًا باستخدام قطراتٍ قليلة فقط.»
«حسنٌ إذن، سنُجرِّب ذلك بعد تناول الغداء. لدينا كلب آخر لا يزال هنا.»
وحين مرَّت ساعة، كان لامبيل يتوق إلى تجربة تدمير المحجر.
وقال: «بعد حين لن تكون الشمس ساطعة على المحجر، وسنكون حينها قد تأخَّرنا كثيرًا.»
«يُمكننا أن ننتظر حتى يوم غد، إلا إذا كنت في عجلة من أمرك.»
فردَّ عليه المخترع: «لست في عجلة من أمري. كنتُ أعتقد أنك كذلك، فهناك الكثير لتفعله.»
قال المسئول الرسمي: «كلا، لا شيءَ أقوم به خلال فترة وزارتي أكثر أهمية من هذا.»
فأجابه لامبيل: «يسرُّني سماعُ ذلك منك، وإذا ما أعدت الزجاجة إليَّ فسأُسقِط بضع قطراتٍ على الجزء المشمس من المحجر.»
فأعطاه الوزير الزجاجة، وكان مُترددًا في ذلك على ما يبدو.
وقال: «لا زلت أعتقد أنه سيكون من الأفضل كثيرًا أن تترك هذا السر يموت. لا أحد يعرفه حتى الآن سواك. وسيكون هذا السر في مأمن معك أو معي كما قلتُ، لكن فكِّر في الاحتمالات المريعة التي يمكن أن تحدث إذا ما أُفشيَ أمره.»
قال لامبيل بنبرة صارمة: «لكل اختراع عظيم مَخاطرُه. ولن يُثنيَني شيء عن التمتُّع بثمرة عمل حياتي. لا يُمكن لأي إنسان أن يتحمَّل ذلك.»
قال الوزير: «حسنٌ، لنتأكَّد إذن من الحقائق. أريد أن أرى أثر هذه المادة المُدمِّرة على المحجر.»
قال لامبيل وهو يرحل عنه: «ستفعل.»
قال الوزير: «سأنتظرك هنا وسأشعل سيجارة لأدخنها.»
وحين وصَل المُخترع إلى المحجر والكلب أمامه، ارتعشت يد الوزير بحيث لم يَعُد قادرًا على الإمساك بنظارته الميدانية. واختفى لامبيل أسفل المَمر. وفي اللحظة التالية اهتزَّت الأرض حتى في البقعة التي كان الوزير يَجلس فيها، وارتفعت كومة من الغبار فوق المحجر المدمَّر.
مرَّت لحظات كان الوزير الشاحِب الوجه يُراقب فيها أثر الدمار على المحجر، لكن لم يكن هناك أثرٌ لأي بشر في تلك البقعة عداه.
فغمغم في نفسه قائلًا: «لم يَسعني أن أفعل سوى ذلك. كان التهديد بالغ الخطورة ولا يُمكن المجازفة بالتنفيذ.»