الطفولة والشباب
١
كثير من ذكرياتي الهامة مُرتبط أشد الارتباط بدَير ألكسندر نيفسكي في بطرسبورج؛ ففي الأبرشية الوحيدة، الموجودة بالقرب من بوابة الدخول الرئيسية (أصبَحَتِ الآن ديرًا) جرى تعميد أَبويَّ. أما أنا فقد وُلِدت في الثلاثين من أغسطس، يوم الاحتفال بموكب القديس ألكسندر نيفسكي، في بيتٍ ترجع مِلكيته للدير، وقد أقام الصلاة وعمَّدَني راهب الدير. وقد دُفن زوجي خالد الذكر في جبانة تيخيفينسكي بدير ألكسندر نيفسكي. وإذا شاء القدر، فلعلِّي أجد راحتي الأبدية في جواره، وكأن الظروف جميعها تضافرت لتجعل من دير ألكسندر نيفسكي الموضع الأعز إلى نفسي في هذا العالَم بأسره.
كانت عائلتنا كبيرة العدد، جدتي لأمي وأربعة أبناء، اثنان منهم كانا مُتزوِّجَين ولديهما أبناء. عشنا جميعنا مُتحابِّين، مُحافظين على تقاليد الحفاوة، حتى إن أفراد الأسرة كلِّها، البعيدِين والقريبِين، كانوا يجتمعون في بيت جدَّتِي في أعياد ميلاد أفراد الأسرة وفي عيد الميلاد المجيد وأعياد القِدِّيسين، لنقضي وقتَنا منذُ الصباح وحتى ساعةٍ متأخرة من الليل في جوٍّ يسوده المرح والبهجة. لكن العددَ الأكبر من الضيوف كان كثيرًا ما يلتئم شملُه وخاصة يوم الثلاثين من أغسطس؛ إذ كان اعتدال الجو وروعتُه يسمحان لنا بفتح النوافذ ومشاهدة الموكب في يسر، وكان الجميع يشعرون أنهم في جوٍّ من المرَح والتآلُف. وقد جرى الأمر على هذا النحو تمامًا يوم ٣٠ أغسطس ١٨٤٦م. كانت أمي ومعها باقي أفراد العائلة تستقبل ضيوفها بكلِّ الترحاب وقد بدت مليئةً بالصحة والمرح. وإذا بها تختفي عن الأنظار، بينما كان الجميع على ثقةٍ أن ربة البيت الشابَّة تقوم على تدبير أمور ضيوفها في الغُرَف الداخلية للبيت، وفي الوقت نفسه لم تكن أُمِّي تتوقَّع أن يقع لها هذا «الحدث» بهذه السرعة، والأرجح أنه أتى نتيجة ما بذلَتْه من جهدٍ وما انتابها من قلق؛ الأمر أنها شعرَتْ فجأة بوعكة فاعتزلت في فراشها، بعد أن أرسلَتْ في طلب المرأة الضرورية في مثل هذه الحالات. كانت أمي تتمتع دائمًا بصحةٍ جيدة، وقد مرَّت بتجربة الولادة من قبل، ومن ثم فقد مرَّ الأمر دون أن يُحدِث جلبةً أو اضطرابًا في البيت.
كان والد أمي، نيكولاي ميلتوبيوس، مالكًا لقطعة أرض تقع في محافظة سان ميخيلسكي، وكانت الأسرة كلها تعيش في ضَيعته ما عدا الابن رومان نيكولايفيتش، الذي كان يدرُس في معهد موسكو للمساحة، وعندما أنهى دراستَه حصل على وظيفةٍ في بطرسبورج. وما إن تُوفِّي والدُه حتى باع الضيعة وانتقل هو والأسرة إلى بطرسبورج، وسرعان ما تُوفِّيَت هناك جدَّتي آنَّا؛ ماريا ميلتوبيوس، وبقِيَت أُمي وابنتاها ليعِشنَ في كنف أخيها. كانت أُمي رائعة الجمال، طويلة، نحيلة، ممشوقة القوام، ذات وجهٍ واضح القسمات، كما كانت تتمتَّع بصوتٍ حسن من طبقة السوبرانو، ظلَّت تحتفظ به نقيًّا تقريبًا حتى تقدَّمَ بها العمر. وُلِدَت أمي عام ١٨١٢م، وعندما بلغت من العمر اثني عشر عامًا تمَّت خِطبتها إلى أحد الضباط، لكن القدَر لم يُمهِلْهما حتى الزفاف، إذ ذهب للمشاركة في الحملة المجرية حيث لقي حتفَه. كان حزن أُمي عليه عظيمًا حتى إنها قرَّرَتْ ألا تتزوَّج من بعده. لكن الأعوام ما لبثت أن توالت عامًا بعد الآخر وراحت صدمةُ المُصيبة تتلاشى شيئًا فشيئًا. وفي هذا المجتمع الروسي الذي نشأَتْ فيه أمي، كان هناك من يَهوَيْنَ العمل كخاطبات (كان عملًا يدخل في نطاق العُرف المقبول آنذاك) وها هنَّ يدعون ذات يومٍ شابَّيْن يرغبان في الزواج لحضور أحد اللقاءات العائلية، وقد أُعجِبا بأُمي كثيرًا، لكنها أجابت بالرفض عندما سألوها إذا ما كان أحدُ الخاطِبَين قد حظي بإعجابها قائلة: «كلَّا، إنما أعجبني أكثر هذا «العجوز» الذي يتحدَّث كثيرًا ويبتسِم طوال الوقت.» كانت تتحدَّث عن أبي، وقديمًا كانوا يَعتبرون الرجل الذي بلغ من العمر أربعين عامًا «عجوزًا»، وكان والدي يبلُغُ من العمر آنذاك اثنين وأربعين عامًا (وُلد في عام ١٧٩٩م). وكان أبي يقضي شبابَهُ في مرح وبهجة، لكنه، وبتأثير أُمٍّ صارمة، كان مُتحفظًا في سلوكه، ولهذا كان يبدو، وهو في الثانية والأربعين من عمره، مُتمتعًا بكامل الصحة، قويًّا، مُتورِّدَ الوجه. كانت له عينان زرقاوان جميلتان وأسنان سليمة، وإن كان خفيف شعر الرأس مع انتظامٍ فيه، وإلى أن وافت المَنِيَّة أُمَّه لم يفكر في أن تكون له عائلة، ولهذا كان يتردَّد على المجتمعات باعتباره جارًا مُحببًا، لا باعتباره خاطبًا على الإطلاق. وقد قدَّموه إلى أُمي أيضًا فأُعجِب بها، ولكن ولأنَّ أُمي كانت تتحدث الروسية بصعوبة، وكان هو يتحدث الفرنسية على نحوٍ سيئ، فلم يكن الحديث بينهما يطُول كثيرًا. وعندما أبلَغُوه بما قالَتْه أُمي بشأنه، راقَهُ ما أبدَتْه هذه الآنسة الجميلة نحوَه من اهتمام، وراح يُكثِر من زيارته لهذا البيت؛ حيث يمكن أن يلتقي بها. وانتهى الأمر بأن وقع كل منهما في هوى الآخر. ولكن بقِيَت أمامهما عقبة كئود تمثلت في أن أمِّي كانت تدين بالمذهب اللوثري، بينما، ووفقًا لمفاهيم أسرة أبي الأرثوذوكسية، ينبغي أن تكون الزوجة على مذهب زوجها. وقد وصل الأمر بأبي أنَّهُ قرَّر الوقوف في وجه أُسرته. وعندما علِمَتْ أُمي بذلك خشيت أن تكون سببًا في بذْر الخلاف بين أفراد هذه الأسرة المتحابَّة، وظلَّت طويلًا في حرج بالغ: هل تتحوَّل إلى الأرثوذوكسية أم ترفُض الرجل الذي أحبَّتْه. شيءٌ واحد ترك أثرَه على قرارها. ففي وقتٍ من الليلة، التي كان عليها في اليوم التالي أن تُبلِغ قرارها الحاسم إلى أبي، راحت تُصلي طويلًا راكعةً أمام الصليب ترجو من الله أن يُساعدها، فجأةً وبعد أن رفعت رأسها، إذا بها ترى هالةً ساطعة فوق الصليب غمرت الغرفة كلها بالضوء، ثم ما لبثت أن اختفت. وقد تكرَّرت هذه الظاهرة مَرَّتَين. وقد فهِمَت أُمي ما حدث باعتباره بشارةً سماوية لحلِّ مسألة أبي الصعبة. وفي هذه الليلة ذاتها رأت أُمي في منامها أنها تدخل كنيسة أرثوذوكسية وأنها راحت تُصلي عند الحاجب. وقد عدَّت هذا الحلم أيضًا بشارة من السماء. يُمكن أن تتصوَّر مدى الدهشة التي أصابتها عندما ذهبت بعد مرور أسبوعين إلى كنيسة (سيميونوفسكايا، في شارع سوخوفايا) لعمل طقس المسح بالزيت، فإذا بها ترى أنها قد وقفت عند الحاجب وأن المشهد المُحيط بها هو نفس المشهد الذي رأته في منامها، وقد هدَّأَ هذا من خاطرها. وبعد تحوُّلِها للأرثوذوكسية دأبت أمي على الصلاة في الكنيسة وأداء الصوم والمشاركة في العشاء الرباني، ولكنها كانت تجد صعوبةً في إقامة الصلوات باللغة السلافية؛ ومن ثَم كانت تؤديها من كتاب الصلوات باللغة السويدية، ولم تندم إطلاقًا على أنها غيرت دينَها «وإلا لشعرتُ، كما قالت، أنني بعيدةٌ عن زوجي وأطفالي، وهو أمر مُشين يشقُّ عليَّ.»
عاش والدايَ معًا في وفاق حوالي خمسة وعشرين عامًا، فقد كانت طباعهما متآلفة. كانت أمي رأس البيت، امرأة ذات إرادة قوية، وقد رضخ أبي لهذه الإرادة عن طِيب خاطر واكتفى بشيءٍ واحد، هو التنقيب والبحث وشراء الأشياء النادرة والتُّحف من سوق أبراكسين وغيره من الأسواق (كانت العاديات آنذاك تملأ الأسواق)، وكان مُهتمًّا على وجه الخصوص بالخزف الثمين وكان على درايةٍ كبيرة في هذا المضمار.
قضى والدايَ سنوات زواجهما الأولى في كنف جدَّتي وكذلك عدد كبير آخر من أفراد العائلة، وعندما ماتت جدَّتي بعد خمس سنوات وتفرَّق شمل الأسرة، أقنعت أُمي أبي بأن يشتري البيت الواقع بالقُرب من مُستشفى نيكولايفسكي سوخوبوتني، وهو بيت مُلحق به حديقة كبيرة (تبلُغ مساحتها هكتارين)، مكانها الآن شارعا ياروسلافسكايا وكوسترومسكايا، وكان يطل على شارع مالايا بولوتنايا وحتى مصنع شتيجليتس.
من الأحداث الأولى التي تفتَّحت عليها ذاكرتي، هذه الحادثة التي وقعت في شهر أبريل ١٨٤٩م، أي عندما كنت أبلغ من العمر عامَين وثمانية أشهر، كانت هناك سقيفة قديمة في فناء بيتنا، قرَّرت أُمي أن تُزيلها وأن تبني سقيفةً جديدة. اجتمع العمَّال وأقاموا البناء المطلوب، ولم يتبقَّ سوى تسوية السقيفة القديمة بالأرض. خرجت أُمي إلى الشرفة لكي تُشاهد من بعيد كيف سيتم الأمر، وقد سارت من خلفها مُربِّيتي الفضولية وقد حملتْني على يدَيها. ولسوء الحظِّ تباطأ الحوذية، الذين كانوا يعيشون في عُمق الفناء، عن الخروج، فصاح بهم الحضور أن يسرعوا في مغادرة المكان، فراحوا يخرجون في طابورٍ طويل. بدا أنهم جميعًا قد غادروا المكان، ولكن ما إن بدأ العُمَّال في جمع قواهم لهدم السقيفة حتى ظهر أحد الحوذية كان قد تأخَّر هناك. أدرك الجميع أنه إذا لم يُسارع بالخروج فإن السقيفة المنهارة سوف تقتُلُه هو وحصانه. وهنا دوَّى صوتُ فرقعة شديدٌ ناتج عن انهيار السقيفة صاحَبَه صراخ رعبٍ من الموجودين وتصاعدت أعمدة الغبار، وفي بادئ الأمر كان من المُستحيل تَبيُّن الأمور؛ هل وقعت المصيبة يا ترى؟ لحُسن الحظ خرج الجميع سالمين، لكن صرخات أمي ومُربِّيتِي المُلتاعَتَيْن، تركت أثرًا كبيرًا عليَّ، فرحتُ أصيح بأعلى صوتي. وعندما استفسرتُ فيما بعدُ متى حدث ذلك، أكد لي أبي، بعد أن راجع دفاتر الحسابات، أن بناء السقيفة الجديدة تم في ربيع عام ١٨٤٩م.
الذكرى الثانية التي ما زلت أَعِيها تعود إلى مرضٍ ألمَّ بي عندما كنتُ في الثالثة من عمري. لا أعرف اسم هذا المرض، لكن الطبيب أمر بوضع عددٍ من الديدان على صدري. أتذكَّر جيدًا كم كانت هذه الديدان الماصَّة مُقززة، وكيف أحسستُ بالخوف منها، وكيف حاولتُ أن أنزعها عن صدري، أتذكَّر بوضوح أيضًا كيف اصطحبَتْني أُمي للعشاء الرباني والصلاة أمام الأيقونة العجيبة التي تُصوِّر أم الإله الملهوفة (في شارع شباليرنايا). وعندما رأيتُ أُمي والمُربية تُصلِّيان وتبكِيان رسمتُ علامة الصليب وذرفتُ دمعًا سخينًا. وفي اليوم التالي للصلاة التي تلت الأزمة، أخذتُ في التعافي سريعًا. عمومًا فإن الأطفال في عائلتنا نادرًا ما يمرَضون. كانوا بطبيعة الحال يتعرَّضون للسعال ونزلات البرد، لكنَّ كلَّ أمراضِهم كان يتمُّ علاجها بالوسائل المنزلية، وكان كثيرٌ من هذه الوعكات يمرُّ سريعًا بسلام.
أتذكَّر طفولتي كلها وشبابي بمشاعر الرضا والسعادة الغامرة، كان والدايَ يُغدقان علينا من حُبهما ولم يُعاقبانا إطلاقًا هباءً. كانت الحياة داخلَ الأسرة تمضي في جوٍّ من الطمأنينة والسكينة والاتزان، دون مشاجرات أو تقلبات أو كوارث. كانا يُشبعاننا ويأخذاننا للتريُّض والنزهة يوميًّا، كنا نجلس في الحديقة صيفًا من الصباح إلى المساء؛ وفي الشتاء كنا نتزلَّج على الجليد في أطباقٍ كبيرة في أماكن أُعدت لذلك. لم يُدَلِّلونا باللُّعب، ولهذا كنا نُقدر قِيمتها ونحافظ عليها. لم يكن لدَينا كتُب للأطفال على الإطلاق، فلم يُفكر أحد في «تطويرنا» كان الجميع يَحكون لنا الحكايات وبخاصة أبي؛ فبعد أن يعودَ مِن العمل ويتناول غداءه، يرقُد على الأريكة ثُمَّ يُنادي إليه الأطفال ويأخُذ في إطلاق الحكايات. كانت لدَيه حكاية وحيدة، حكاية إيفان العبيط، لكن تنويعاته على هذه الحكاية كانت بلا حدود، وكنَّا أنا وأخي، دائمًا ما نُعبِّر عن دهشتنا، ولماذا يُسمُّون إيفان بالعبيط ما دام قادرًا على التخلُّص من كل هذه المصائب بهذا القدْر من الذكاء. كانت مُتَعُنا قليلة: شجرة عيد الميلاد التي كانت تُضاء كل مساء، استبدال الملابس المنزلية، دعوتنا للذهاب إلى السرادقات وركوب «الحلزوناية» يوم عيد الصوم الكبير، ذهابنا إلى المسرح، وبخاصة الأوبرا أو الباليه مَرَّتَين في العام قُبَيل عيد الميلاد وعيد القديسين، ولكنَّنا كنَّا نُثمِّن كل هذه المُتَع للغاية، وكنَّا نظلُّ شهورًا طويلة مُستمتِعِين بمسرحيةٍ شاهدناها.
٢
في الثامن والعشرين من أبريل من عام ١٨٦٦م تُوفي والدي. وكان هذا هو أول حدثٍ سيئٍ أمرُّ به في حياتي. وقد عبرتُ عن حزني بانفعالٍ شديد، فقد بكيتُ كثيرًا، وقضيتُ أيامًا بطولِها عند قبر أبي في بولشايا أوختا، ولم أستطع أن أتصالح مع هذه الخسارة الفادحة. كانت أُمي شديدة القلق على حالتي الصحية، ورَجَتْني أن أنشغل بعملٍ ما. وللأسف فقد كانت دروس الاختزال قد توقفت، لكنَّ مُدرِّسَنا الطيب ب. م. أولخين، عندما سمع بمُصابي وانقطاعي عن كثيرٍ من الدروس، اقترح عليَّ أن أُعوِّض ما فاتني من دروس الاختزال عن طريق المراسلة. كان عليَّ أن أُرسل إليه مرتَين في الأسبوع صفحتَين أو ثلاثًا من كتابٍ يُحدِّده، أُرسِلها إليه مكتوبةً اختزالًا. وكان أولخين يُعيد إليَّ النصوص بعد أن يُصحِّح ما بها من أخطاء، بالإضافة إلى ملاحظاته. وبفضل هذه المراسلات، التي استمرَّت طوال أشهر الصيف الثلاثة، نجحتُ في الاختزال وبخاصة أنَّ أخي، الذي حضر إلينا في الإجازة الصيفية، راح يُملي عليَّ يوميًّا لمدة ساعةٍ أو أكثر. وهكذا رحتُ شيئًا فشيئًا أمتلك ناصية الاختزال كتابة؛ فضلًا عن تقدُّمي في السرعة كذلك. هذا هو السبب الذي حدا بألوخين أنْ يعهَدَ إليَّ، عند افتتاح الدراسة في سبتمبر عام ١٨٦٦م، بالعمل الأدبي، بعد أن أصبحتُ التلميذة الوحيدة لدَيه التي أولاها ثقتَهُ فأوصى بها لتقوم بهذا العمل …