الوفاة. الدفن
لم يكن فيودور ميخايلوفيتش، بطبيعته، شخصًا ميالًا للعمل إلا نادرًا. وأتصور أنه لو كان شخصًا ذا ثراء، غير مضطر للسعي وراء المال من أجل أن يعيش؛ لظل، ربما، بلا عمل، ولوجد دائمًا موضوعات للعمل الأدبي الدءوب.
كان لدى فيودور ميخايلوفيتش عادةٌ حميدة تتمثل في إحجامه عن اعتبار نقود الاشتراكات ملكًا خاصًّا له، قبل أن يلبي طلبات المشتركين؛ ولذلك فتح حسابًا في بنك الحكومة باسمي، كنت أضع فيه النقود التي نتسلمها من الاشتراكات، وبفضل ذلك كان لديَّ إمكانية إعادة الأموال للمشتركين على وجه السرعة إذا لزم الأمر.
في النصف الأول من شهر يناير كان فيودور ميخايلوفيتش في صحة جيدة، كان يزور أصدقاءه، بل وافق أيضًا على الاشتراك في المسرحية المنزلية التي اقتُرح تنظيمها في بيت الكونتيسة صوفيا تولستايا في مطلع الشهر التالي. كان الحديث يدور حول عرض مشهدين أو ثلاثة من ثلاثية الأمير ألكسي تولستوي، وقد أخذ فيودور ميخايلوفيتش على عاتقه القيام بدور الراهب في مسرحية «موت إيفان الرهيب».
كان الخامس والعشرين من يناير موافقًا الأحد، وكان لدينا زوار كثيرون. جاء إلينا البروفيسور أوريست وطلب من زوجي أن يقرأ في التاسع والعشرين من يناير، في ذكرى وفاة بوشكين، في الأمسية الأدبية، التي ستقام لصالح الطلاب. وحيث إن زوجي لم يكن يعلم بعدُ بمصير مقاله حول «المجلس المحلي»، وإذا ما كان عليه أن يستبدل بها غيرَها، فقد رفض في البداية الاشتراك في الأمسية. ولكنه وافق فيما بعد. كان فيودور ميخايلوفيتش، كما لاحظ كل ضيوفنا، ممتلئًا بالصحة، مرحًا، ولم يكن هناك أي شيء ينبئ بما حدث له بعد بضع ساعات.
في صباح السادس والعشرين من يناير، استيقظ فيودور ميخايلوفيتش، كعادته، في الساعة الثانية، وعندما دخلت إلى غرفته، حكى لي أن حادثًا صغيرًا قد وقع له في الليل؛ فقد سقطت حاملة ريشة الكتابة على الأرض وتدحرجت تحت المكتبة (وكان شديد الاعتزاز بهذه الحاملة؛ لأنه كان يستخدمها، فضلًا عن الكتابة، لحشو سجائره)؛ وحتى يتمكن من استعادتها، فقد اضطر لتحريك المكتبة جانبًا. كانت المكتبة، بداهة، ثقيلة؛ مما اضطره لأن يبذل جهدًا كانت نتيجته أن اندفع الدم فجأة من الشريان الرئوي ليصعد إلى فمه، وحيث إن كمية الدم لم تكن كبيرة، فإن زوجي لم يولِ الأمر اهتمامًا زائدًا، حتى إنه لم يرغب أن يوقظني في الليل. انزعجت بشدة، ودون أن أخبره بشيء، أرسلت صبيَّنا الصغير بيوتر في طلب الطبيب ياكوف بوجدانوفيتش بريتسل، الذي كان يتولى علاج زوجي بشكل دائم، للحضور على عجل، وللأسف لم يستطع الطبيب الذهاب إلى مرضاه إلا بعد الخامسة.
وعلى الرغم من أن الطبيب راح يؤكد أنه لا يوجد أي خطر، فإنني قمت على تنفيذ رغبة زوجي لأهدئه. كنا نسكن بالقرب من كنيسة فلاديميريسكايا، وقد وصل إلينا الأب ميجورسكي بعد نصف ساعة. استقبل فيودور ميخايلوفيتش القس بكل هدوء وانشراح، واعترف اعترافًا طويلًا وتناول القربان. ما إن غادر القس البيت، حتى دخلت ومعي الأطفال إلى غرفة فيودور ميخايلوفيتش لأهنئه بتناول الأسرار المقدسة، وهنا باركني أنا والأطفال ودعا لهم بحياة آمنة وأن يحب بعضهم بعضًا، وأن يحبوني ويعتنوا بي. وبعد أن صرف فيودور ميخايلوفيتش الأطفال، شكرني على السعادة التي أعطيتُها له، ورجاني أن أسامحه، إذا كان قد أغضبني لسببٍ ما. وقفت أمامه بين الحياة والموت، لا أملك من القوة لأقول له أي شيء. دخل الطبيب وأرقد المريض على الأريكة، ومنعه من إتيان أقل حركة أو الحديث، وطلب أن نبعث في طلب طبيبين، أحدهما من معارفه، أ. أ. بفيفر، والبروفيسور ديمتري كوشلاكوف، الذي كان زوجي يستشيره أحيانًا في مرضه. وما إن أدرك كوشلاكوف من مذكرة الطبيب فون بريتسل، أن حالة المريض سيئة، حتى حضر على الفور. وفي هذه المرة لم يعودا مرةً أخرى لفحص المريض، وقرر كوشلاكوف أنه ما دام النزيف لم يكن حادًّا نسبيًّا (ما يقرب من فنجانين أو ثلاثة)، فمن المحتمل أن يحدث «تخثُّر»، وأن تتحسن حالته. ظل الطبيب فون بريتسل يراقب فيودور ميخايلوفيتش في فراشه طوال الليل، وكان زوجي يبدو أنه ينام في هدوء. أما أنا فقد أخذتني سِنة من النوم عند انبلاج الصبح فقط.
مر السابع والعشرون من يناير هادئًا لا يعكر صفوه شيء، لم يتكرر النزيف، بدا فيودور ميخايلوفيتش هادئًا مرحًا، طلب رؤية الأطفال وتحدث إليهم همسًا. وفي منتصف النهار أعرب عن عدم ارتياحه بشأن «المذكرة»، وقد حضر مُرتِّب الطباعة من مطبعة سوفورين وأحضر معه التصحيح النهائي. وقد اتضح أن هناك ضرورةً لحذف سبعة أسطر حتى تصبح المادة كلها من ملزمتين تامتين. انتاب زوجي القلق، لكنني اقترحت أن نختصر بضعة أسطر من الصفحات الأولى، وهو ما وافق زوجي عليه. وعلى الرغم من أنني احتجزت مرتِّب الطباعة حوالي نصف ساعة، فإن فيودور ميخايلوفيتش رأى بعد تصحيحَين قرأتهما عليه، أن الأمر أصبح على ما يرام. وقد عرَفت من المُرتِّب أن بروفة العدد قد أُرسلت إلى نيكولاي سافيتش أباظة، وأنها أُجيزت، وقد أثلج ذلك صدر فيودور ميخايلوفيتش.
وفي هذه الأثناء انتشر خبر مرض فيودور ميخايلوفيتش في أنحاء المدينة، وبدءًا من الثانية ظهرًا وحتى وقت متأخر من المساء، ظل قرْع الجرس مستمرًّا، حتى اضطررت لربطه. جاء إلى البيت للاطمئنان على صحة فيودور ميخايلوفيتش من يعرفهم ومن لا يعرفهم، جاءوا ومعهم خطابات يعبِّرون فيها عن تعاطفهم معه، وآخرون أرسلوا برقيات. كانت زيارة المريض ممنوعة، وكنت أخرج للزائرين لمدة دقيقتين أو ثلاث لأخبرهم بحالة المريض. كان فيودور ميخايلوفيتش مسرورًا للغاية بهذا الاهتمام والتعاطف العام، وكان يسألني همسًا، ويملي عليَّ أحيانًا بضع كلمات ردًّا على خطابٍ ما مؤثر. وقد حضر البروفيسور كوشلاكوف ووجد أن الحالة الصحية أفضل كثيرًا، وطمأن المريض أنه خلال أسبوع سوف يتمكن من القيام من الفراش، وأنه سيشفى تمامًا في خلال أسبوعين. وأمره أن ينام أكثر قدر استطاعته؛ ولهذا فقد كان بيتنا بمن فيه يركَن للهدوء والنوم مبكرًا للغاية. وحيث إنني قضيت البارحة جالسةً على الكرسي ولم يغمض لي جفن، فقد وضعت في الليلة التالية حشيةً على الأرض، إلى جوار الأريكة التي ينام عليها زوجي، حتى يسهل عليه استدعائي. ولما كنت مرهقة من جراء الأرق الذي عانيته في الليلة السابقة، فقد استغرقت في النوم في الحال. استيقظت بضع مرات، وعلى ضوء القنديل الخافت رأيت زوجي العزيز المريض نائمًا. استيقظت في حوالي السابعة صباحًا لأرى زوجي ناظرًا باتجاهي.
– حسنًا، كيف حالكِ يا عزيزي؟ سألته وقد التفتُّ ناحيته.
– تعرفين يا آنيا — قال فيودور ميخايلوفيتش بصوت خفيض — لم أنم منذ ثلاث ساعات، كنت أفكر طوالها، والآن فقط أدركت بوضوح أنني سأموت اليوم.
– يا عزيزي، لماذا تفكر في ذلك؟ قلت له وأنا في حالة من القلق الشديد. إنك الآن أفضل؛ توقف النزيف، ومن البدهي أن «تخثُّرًا» قد حدث، كما أخبرنا كوشلاكوف. بالله عليك، لا تعذب نفسك بالشكوك، ستعيش طويلًا، أؤكد لك!
– كلا! أنا أعرف، يجب أن أموت اليوم. أشعلي شمعة يا آنيا، وأعطيني الإنجيل!
– هل تسمعين «اسمح الآن»؟ هذا يعني أنني سأموت. قال زوجي ذلك وأغلق الكتاب.
لم أتمالك نفسي من البكاء، بينما راح فيودور ميخايلوفيتش يهدئ من روعي بكلمات حنونة رقيقة، شكرني على الحياة السعيدة التي عاشها معي، وأوصاني بالأطفال قائلًا إنه يثق فيَّ، ويأمُل أن أظل أحبهم دائمًا، وأن أرعاهم. ثم قال لي كلمات يندُر بين الرجال من يستطيع أن يقولها لزوجته بعد أربعة عشر عامًا من الحياة الزوجية: تذكَّري يا آنيا، لقد أحببتك دائمًا حبًّا شديدًا، ولم أخنكِ أبدًا حتى في أفكاري!
كنت في حالة بالغة من التأثر بكلماته المخلصة، ولكنني كنت أيضًا مضطربة خشية أن يصيبه التأثر بأي ضرر. توسلت إليه ألا يفكر في الموت، وألا يكدرنا بشكوكه، وطلبت منه أن يستريح وأن يخلد للنوم. أطاعني زوجي، توقف عن الحديث، لكن وجهه، وقد كسته السكينة، كان يوحي بوضوح أن فكرة الموت لم تفارقه، وأن انتقاله إلى العالم الآخر أمر لا يخيفه.
وفي حوالي الساعة العاشرة صباحًا، استغرق فيودور ميخايلوفيتش في نوم هادئ وقد تشبث بيدي. جلست لا أحرك ساكنًا خشية أن توقظه فجأةً أيُّ حركة. لكن زوجي استيقظ فجأة. نهض عن الوسادة نصف نهوض، وإذا بالنزيف يعود من جديد. كنت في حالة من الحزن الشديد، على الرغم من أنني حاولت أن أبدو نشيطة. أكدت لزوجي أنه نزف قليلًا من الدم، وسوف يتكون، على الأرجح، تخثر كما حدث قبل ذلك. اكتفى فيودور ميخايلوفيتش بأنْ هزَّ رأسه في أسًى ردًّا على كلماتي المطمئنة، وكان مقتنعًا تمامًا بأن نبوءته عن موته اليوم ستتحقق.
بحلول منتصف النهار بدأ الأقارب والمعارف والغرباء في التوافد، وتلقينا الكثير من الخطابات والبرقيات. وقد حضر أيضًا ربيب فيودور ميخايلوفيتش، وكنت قد أرسلت إليه خطابًا أُخبره فيه بمرض زوجي. أصرَّ بافل ألكسندروفيتش على الدخول إلى المريض، لكن الطبيب لم يسمح له، وعندئذٍ راح ينظر إلى الغرفة من فتحة الباب. انتبه فيودور ميخايلوفيتش إليه وهو يختلس النظر، اضطرب وقال لي: «آنيا، لا تسمحي له بالمجيء إليَّ، إنه يثيرني!»
في هذه الأثناء، ازداد بافل ألكسندروفيتش إيسايف توترًا وراح يحدث الجميع — الذين جاءوا ليتعرفوا على حالة فيودور ميخايلوفيتش، المعارف منهم والغرباء — أن «والده» لم يترك وصية، وأنه يجب إحضار كاتب العقود إلى البيت حتى يستطيع فيودور ميخايلوفيتش أن يوصي بنفسه بما يملكه. عندما علم البروفيسور كوشلاكوف، الذي جاء لمتابعة المريض من الربيب، نيتَه استدعاءَ كاتب العقود، اعترض على ذلك، وأعلن أن من الضروري الحفاظ على قوة المريض بكل وسيلة؛ لأن مثل هذا المشهد العملي، حيث يُطلب منه التوصية والشرح، لا يمكن إلا أن يدفع بفكرة موته السريع إلى الأمام، وأن أي انفعال يمكن أن يقتل المريض.
في حقيقة الأمر، لم تكن هناك حاجة إلى وصية، فالحقوق الأدبية لمؤلفات فيودور ميخايلوفيتش قد أهداها إليَّ زوجي قبل ذلك في عام ١٨٧٣م. وباستثناء خمسة آلاف روبل كانت لدى هيئة تحرير «البشير الروسي»، لم يكن فيودور ميخايلوفيتش يملك أي شيء، أما ورثة هذا المبلغ الصغير فكانوا نحن؛ أي أنا والأطفال.
لم أبتعد دقيقة واحدة طوال اليوم عن زوجي، كان يمسك يدي بيده ويقول لي هامسًا: «مسكينة … عزيزتي … لمن تركتك؟ … مسكينة … كم ستكون حياتك صعبة! …»
رحت أهدئ من روعه وأبعث بالأمل في الشفاء في نفسه، ولكن كان من الواضح أنه لا يملك ذرةً واحدة من الأمل، وكانت فكرة أنه سيترك أسرته دون مورد تقريبًا تعذبه. فلم نكن نملك سوى أربعة أو خمسة آلاف روبل لدى هيئة تحرير «البشير الروسي».
همس لي عدة مرات قائلًا: «نادي على الأطفال.» ناديت … مد زوجي شفاهه إليهم … قبَّلوه، ثم خرجوا على الفور بأمر من الطبيب، أما فيودور ميخايلوفيتش فقد ودعهم بنظرة حزينة، وقبيل وفاته بساعتين، جاء الأطفال إليه بناءً على دعوته، فطلب إعطاء الإنجيل لابنه فيديا.
في أثناء اليوم حضر إلينا جمهور من شخصيات مختلفة، لم أخرج لمقابلتهم. جاء أبولون نيكولايفيتش مايكوف وتحدث بعض الوقت مع فيودور ميخايلوفيتش، الذي راح يرد تحيته همسًا.
لكن الله الرحيم أنزل عليَّ السكينة: في هذا المساء الحزين، وفي حوالي الساعة العاشرة، وصل أخي العزيز إيفان جريجوريفيتش سنيتكين. كان قد جاء من الريف في بعض شئونه متجهًا إلى موسكو، وبعد أن عزم أمره على العودة إلى بيته، فكر دون سبب ظاهر، في الذهاب إلى بطرسبورج لمقابلتنا. صحيح أنه كان قد قرأ في إحدى الصحف عن مرض فيودور ميخايلوفيتش، لكنه لم يولِ هذا الخبر أهمية كبري، مفترضًا أن زوجي كثيرًا ما تقع له نوبة صرع مزدوجة. كان قطاره قد تأخر فقرر، بعد أن أقام في أحد الفنادق، أن يأتي لزيارتنا مساء. وبعد أن وصل إلى مدخل بيتنا، لاحظ بدهشة أن جميع نوافذ شقتنا مضاءة بشدة، وأن شخصين مثيرين للشبهة يرتديان ما يشبه القفطان يقفان عند المدخل. أحدهما أسرع خلف أخي على السلَّم وقال له بصوت خفيض: أيها السيد، من فضلك، اطلب منهم أن يكلفونا بالأمر.
– أي أمر؟ سأله أخي دون أن يدرك ما يحدث.
– إننا حانوتيان، جئنا بشأن الدفن.
– ومن الذي مات هنا؟ سألهما إيفان جريجوريفيتش دون تفكير.
– مؤلفٌ ما، لا أتذكر اسمه. هكذا أخبرنا البواب.
أخبرني أخي أن قلبه قد تجمَّد، هُرع إلى أعلى واندفع داخلًا عبر باب الشقة، الذي لم يكن مغلقًا، حيث وقف أمامه عدد من الأشخاص. وبعد أن ألقى بمعطفه، أسرع أخي نحو غرفة المكتب، حيث كان جثمان فيودور ميخايلوفيتش مُسجًّى على الأريكة.
كنت جاثيةً بالقرب من الأريكة، وما إن شاهدت أخي حتى أسرعت نحوه. تعانقنا بشدة، وسألته: «فانيا، من أخبرك أن فيودور ميخايلوفيتش قد توفي؟» كنت قد نسيت تمامًا أن أخي لا يسكن في بطرسبورج، وأنه يعيش في موسكو الآن، ولا يمكن أن يعرف ويصل إلى هنا بمثل هذه السرعة. بداهة، كنت مصدومة من الحزن، ومن الموت المفاجئ (فبالأمس فقط كان البروفيسور كوشلاكوف يؤكد لي الأمل في شفاء زوجي)، حتى إنني فقدت القدرة على تصور أي شيء بوضوح.
بحلول الساعة الواحدة ليلًا كانت الاستعدادات الضرورية كلها قد اتُّخذت. وقد وُضع جثمان العزيز لدينا على منصة الدفن وسط غرفة المكتب. من جهة الرأس كانت المكتبة ذات الأرفف وعليها أيقونة وقنديل مُضاء. كان وجه المرحوم يغمره الهدوء وكأنه ما يزال حيًّا نائمًا يبتسم في حلمه «بالبِر» الذي يعرفه الآن.
بعد منتصف الليل تفرق كلُّ الغرباء. ذهبت لأضع في الفراش أطفالي، الذين أعياهم الحزن على موت أبيهم وبكاؤهم المستمر عليه طوال المساء، بينما ذهبنا — ثلاثتنا (أمي وأخي وأنا) — لنهجع دون إزعاج بالقرب من الجثمان. أتذكر بامتنان بالغ التقدير هذه الليلة الأخيرة، عندما كان زوجي العزيز ما يزال ملكًا خالصًا لأسرته، وكان ما يزال بإمكاننا أن نطلق العِنان للتعبير عن أحزاننا دون شهود، دون خجل ودون تحفُّظ. نبكي بغزارة، نصلي بحرارة ليرحم الله روح الميت ونطلب من الراحل أن يعفو عن الصغائر التي لا مفر منها في الحياة العائلية، التي قد أكون قد ارتكبتها في حق زوجي الحبيب دون وعي أو دون فهم.
وقفت أنا وأخي ثم جلسنا عند نعش الميت حتى الرابعة صباحًا، ثم أصر أخي أن أذهب للنوم، وأقنعني أخيرًا أن عليَّ أن أستجمع قواي لما سوف أواجهه غدًا من اضطرابات لا مفر منها.
في التاسع والعشرين من يناير، في الساعة الحادية عشرة، جاء إليَّ شخص مَهيب من وزارة الداخلية آنذاك، الأمير لوريس ميليكوف. وبعد أن أعرب لي عن تعازيه بشأن مصابي، قال الموظف إن لديه مبلغًا يود أن يسلمه لي لنفقات دفن المتوفى. لم أكن أعرف مقدار هذا المبلغ، ولكنني لم أرغب في أخذه، كنت أعرف بالطبع أن لدى كل الوزارات تقليدًا يقضي بإعطاء الأسرة التي فقدت عائلها مساعدةً من أجل دفن المتوفى من أفرادها، وأن هذه المساعدة لا تعد عيبًا، لكنني كنت أشعر بالإهانة من هذا العرض. طلبت من الموظف أن يبلِغ شكري العميق للأمير لوريس ميليكوف للمساعدة التي قدمها، لكنني أعلنت أنني لا أستطيع قَبولها، لأنني أرى أن من واجبي الأخلاقي أن أدفن زوجي من أمواله التي اكتسبها. وعلاوة على ذلك، فقد أخبرني الموظف، نيابةً عن الأمير، أن أطفالي سوف يتلقون تعليمهم في المؤسسات العلمية التي أرغب في التحاقهم بها، وذلك على نفقة الحكومة. طلبت من الموظف أن يبلغ الأمير امتناني القلبي لعرضه الكريم، ولكنني قررت في نفسي أن أطفالي لا بد أن يتلقوا تعليمهم لا على نفقة الحكومة، وإنما من أعمال والدهم، ثم أعمال أمهم. ولسعادتي الكبرى، فقد نجحت في إنجاز التزامي، وقد تعلم أولادي فيما بعد من الأموال التي حصَّلتها من إصدار الأعمال الكاملة لوالدهم. كنت على قناعة عميقة أنني برفضي قَبولَ المساعدة في الدفن وتعليم الأولاد، فقد تصرفت تمامًا كما كان سيتصرف زوجي خالد الذكر.
منذ الحادية عشرة صباحًا توافد المعارف والغرباء، بعد أن علموا من الصحف بموت فيودور ميخايلوفيتش، لحضور القدَّاس على جثمانه، وقد كانوا من الكثرة بحيث امتلأت بهم سريعًا حجرات المنزل الخمس، وبحلول لحظة القداس كنت مضطرة، أنا والأطفال، أن نشق طريقنا بصعوبة لكي نقف إلى جوار النعش.
لن أستمر في تعداد أسماء هذه الشخصيات التي حضرت القداس عند قبر زوجي. هنا وقف أبرز ممثلي أدبنا، الذين تعاطفوا مع فيودور ميخايلوفيتش وقدَّروا موهبته؛ وكذلك الذين ناصبوه العداء الصريح، والذين أدركوا، بعد وفاته، مدى الخسارة الفادحة التي لحقت بالأدب الروسي، والذين أرادوا أن يعبِّروا عن احترامهم لواحد من أنبل ممثلي هذا الأدب. وقد حضر إلى أحد القداسات التي أقيمت مساءً الأميرُ العظيم، الذي كان في مقتبل العمر آنذاك، ديمتري قنسطنطينوفيتش؛ الأمر الذي أثار دهشة الحضور.
وطوال اليوم، التاسع والعشرين من يناير، سألني كثير من الناس أين سيُدفن فيودور ميخايلوفيتش؟ تذكرت أن فيودور ميخايلوفيتش قد أعرب عن إعجابه بجبانة دير نوفوديفيتشي، أثناء دفن نكراسوف، وقد قررت أن يُدفن هناك. طلبت من صهري بافل جريجوريفيتش سفاتكوفسكي أن يقوم بالاتفاق بشأن المقبرة، وفوضت ابنتي ليليا في اختيار مكانها، وأرسلتها مع صهري إلى نوفوديفيتشي، وكان هدفي الرئيسي من ذلك أن تتمكن الفتاة من المرور عبر المدينة وتتنفس هواءً نقيًّا. (يا لهم من أطفال مساكين! ثلاثة أيام على التوالي، قبيل الدفن، لم يغادروا البيت، جالسين في حجراتهم، المكتظة بالناس الذين جاءوا ليحضروا كل القداسات التي أقيمت.) وكانت ليليا توزع الزهور من الأكاليل، الموضوعة على المتوفى، على المعجبين بموهبة أبيها؛ للذكرى.
جدير بالذكر أنني دائمًا ما أستعيد ذكرى هذين اليومين ونصف اليوم، التي ظل فيها جثمان زوجي خالد الذكر موجودًا في البيت، بشيء من الخوف. كان أكثر ما يعذبني آنذاك، أن شقتنا لم تكن تخلو ولو لساعة واحدة من الغرباء: تيار كثيف من الناس يمشي في خطوات استعراضية، وتيار آخر يأتي من المدخل الخلفي ليقطع الشقة كلها، ليتوقفوا جميعًا في غرفة المكتب، حتى لا يبقى هناك بمرور الوقت سوى قليل من الهواء، حتى إن القناديل والشموع الكبيرة المحيطة بالنعش كانت تنطفئ. لم تكن وجوه الغرباء موجودة لدينا في أثناء النهار فقط، وإنما في الليل أيضًا، كانت هناك أناس يريدون قضاء الليل بجوار نعش فيودور ميخايلوفيتش، وآخرون كانوا يريدون قراءة المزامير، وقد راحوا يقرءونها على مدى ساعات طويلة. أذكر أن الياور الأمير نيكولاي فيودوروفيتش جايدن، الذي كان يقدِّر بعمق موهبةَ فيودور ميخايلوفيتش، ظل يقرأ المزامير في الليلة الأخيرة إلى جوار النعش قبل إخراج الجثمان من البيت.
كل ذلك يدل، بطبيعة الحال، على الحزن الصادق لدى محبِّي موهبة فيودور ميخايلوفيتش، وعن الاحترام العميق لذكرى الراحل. وليس بمقدوري سوى أن أشعر وأن أعبر عن خالص امتناني لهؤلاء الذين تعاطفوا مع زوجي.
ولكن في سياق امتناني القلبي ذاته، كنت أشعر في نفسي بشيء من «الغصة»؛ لأن المجتمع قد انتزع مني زوجي العزيز، وأن الذين أحاطوه، وإن كانوا يكنُّون له مشاعر الحب، فإنني، أقرب مخلوق إليه، لم أستطع أن أكون معه على انفراد، لم أستطع كذلك أن أقبِّل وجهه ويديه مراتٍ ومرات؛ أن أضع رأسي فوق صدره كما فعلت في الليلة الأولى لوفاته. إن وجود الغرباء اضطرني لأن أتحفظ في إبداء مشاعري؛ خوفًا من أن يقوم مندوب صحيفة نكرة في اليوم التالي بوصف حزني بتعبيرات سخيفة. لم يكن أمامي سوى تلك الغرفة الصغيرة، التي أستضيف فيها أمي، لأهرب إليها؛ حتى أتمكن من الاستسلام لحزني. كنت ألجأ إلى أمي عندما أشعر بضعفي؛ أختبئ؛ ألقي بنفسي فوق فراشها، وأحاول أن أفسر لنفسي قدر ما أستطيع ماذا حدث. لكن أحدًا لا يريد أن يتركني في هدوء وفي عزلة: يطرقون الباب ويقولون إن وفدًا قد وصل من مؤسسة كذا ويود أن يعبر بصفة شخصية عن تعازيه. كنت أخرج إليهم، فيقوم مندوب الوفد، الذي يكون قد أَعد مسبَّقًا خطابًا بليغًا في الحديث عن الأهمية التي كان يشغلها زوجي المرحوم في الأدب الروسي، وكيف طرح تلك الأفكار السامية التي كان ينادي بها، ثم يروح يتحدث عن «الخسارة الفادحة التي مُنيت بها روسيا من جراء موته»، كنت أستمع في صمت، ثم أشكره بحرارة وأصافحه، ثم أعود راجعة إلى أمي. وبعد برهة، وفد جديد، يرغب حتمًا في لقائي والتعبير عن تعازيه لي شخصيًّا، فأخرج وأستمع إلى خطاب عن أهمية زوجي، وعن «الرجل الذي فقدته روسيا»، بقيت أستمع على مدى ثلاثة أيام إلى خطب العزاء، وفي النهاية وصلت إلى حال من القنوط، فقلت في نفسي: «ما لي الآن و«روسيا»! تذكَّروا يا ناس من الذي فقدته أنا! لقد فقدت أفضل إنسان في العالم، الإنسان الذي وهبني السرور والفخر والسعادة في حياتي، شمسي، إلهي! ارحموني، ارحموني أنا شخصيًّا ولا تُحدِّثوني عن خسارة روسيا في هذه اللحظة!»
عندما يأتي إليَّ شخص واحد من أعضاء الوفود العديدة يريد أن يعبر عن أسفه من أجلي، لا من أجل روسيا، فهذا هو الذي سيترك حقًّا أثرًا في نفسي، وسوف أمسك بيد هذا الغريب وأقبِّلها.
كنت مقتنعة تمامًا أن أفكاري في هذه الأيام مضطربة وغير طبيعية؛ الأمر الذي ساعد عليه أيضًا أنني كنت، بالمناسبة، أعاني من سوء حالتي الصحية: مرت خمسة أيام (٢٦–٣١ يناير) لم أغادر فيها الغرف الخانقة، ولم أكن أتغذى فيها إلا على الخبز والشاي. كان أقربائي الطيبون يأخذون الأطفال للنزهة، وإلى منازلهم، ليتناولوا طعام الغداء لديهم؛ لأن الزحام الذي كان يملأ شقتنا، ودخول الضيوف من بابها الخلفي، لم يكن ليمكن الطاهية من إعداد الطعام، فكنا جميعًا نتناول طعامًا جافًّا.
في اليوم الأخير (الثلاثين من يناير) راحت تنتابني حالات هيستيرية؛ وفي واحدة منها وقع لي حادث كان من الممكن أن يوديَ بحياتي: فبعد انتهاء أحد القداسات، أحسست بضيق عصبي في حلقي، فطلبت من أحد القريبين مني أن يُحضر لي نقطة من دواء الفاليريان. بدأ الواقفون بالقرب من غرفة الاستقبال يصيحون على الخادمة قائلين: «أحضروا فاليريان، فاليريان! أين فاليريان؟» ولما كان هناك اسم «فاليريان»، فقد خطرت على رأسي المضطرب فكرة مشوشة: أرملة تبكي والجميع ينادون على فاليريان ما ليساعدها. وبسبب هذه الفكرة السخيفة رحت أضحك بغيظ، وأصيح «فاليريان! فاليريان!» وحتى المحيطون دخلوا في هيستيريا شديدة. لسوء الحظ، لم تعثر الخادمة على قنينة الفاليريان القطَّارة، فأرسلوها على الفور إلى الصيدلية، بعد أن طلبوا منها بالمرة إحضار روح النشادر أيضًا، في حالة إذا ما دعت الحاجة له لإفاقتي. بعد عشر دقائق تم إحضار الدواءين، وكنت ما أزال أواصل الضحك الهيستيري، وأخبط على أيدي النساء اللائي كن يُحطنني. هنا قامت إحدى السيدات الفضليات، صوفيا فيكتوروفنا أفيركييفا — وهي سيدة تتميز بالحزم — بوضع ثلاثين نقطة، وربما أكثر، في إحدى الكئوس من سائلٍ ما، وعلى الرغم من مقاومتي، فقد أرغمتني على شربه. لكنني شعرت بلذعة حارقة في لساني، فأخرجت منديلي وبصقت فيه ما تجرعته. وقد تبين أن صوفيا فيكتوروفنا خلطت، من فرط تسرُّعها، بين قنينتَي الدواء، فأعطتني ما يزيد على ثلاثين نقطة من روح النشادر، بدلًا من نقطة الفاليريان. راحت دموعي تنساب طوال الليل على جلدي، وكنت أشعر بالألم في فمي ولساني، وقد استمر الأمر لمدة أسبوع بعد ذلك، ولو أنني شربت ما في الكأس لحدث حرق في المريء والمعدة، وربما هدد ذلك حياتي، أو أصابني بمرض خطير.
خرج موكب الدفن من البيت في الساعة الحادية عشرة ليصل إلى دير ألكسندر نيفسكي بعد الثانية ظهرًا. كنت أسير بجوار ابني وابنتي، لا تفارقني الأفكار الحزينة؛ كيف سأقوم على تربية أطفالي دون والدهم الذي كان يحبهم بشدة؟ يا لها من مسئولية جسيمة وقعت على كاهلي؛ بدءًا من هذه اللحظة أمام ذكرى زوجي! ترى هل أستطيع أن أقوم بجدارة بإنجاز واجباتي؟ أقسمت، وأنا أسير خلف نعش فيودور ميخايلوفيتش، أن أكرِّس حياتي لأطفالنا، وقطعت عهدًا على نفسي أن أكرس ما تبقَّى لي من عمر في بذل كل ما لديَّ من قوة لإحياء ذكري زوجي خالد الذكر، وعلى نشر أفكاره السامية. والآن، وأنا أقترب من نهاية حياتي، أضع يدي على قلبي، بعد أن حققت كل الوعود التي بذلتها في تلك الساعات الصعبة وأنا أودع جثمانه، بقدر جهدي وطاقتي.
في تلك الليلة، في الثلاثين من يناير، وفي كنيسة دوخوفسكي — الملحقة بدير ألكسندر نيفسكي، حيث وُضع نعش فيودور ميخايلوفيتش — أقيمت صلاة ليلية احتفالية. وصلت إلى الصلاة بصحبة أطفالي. كانت الكنيسة تغص بالمصلين، وكان أغلبهم من الشباب والطلاب من شتى المؤسسات التعليمية العليا والمنتسبين والأكاديمية اللاهوتية. وقد قضى أكثرهم الليل بطوله في الكنيسة يتبادلون تلاوة المزامير عند نعش دستويفسكي. وقد أخبرني البعض بملحوظة لها مغزاها، وتتلخص تحديدًا في أنه عند حضور الحراس لتنظيف الكنيسة، لم يجدوا عقب سيجارة واحدًا؛ الأمر الذي أدهش القساوسة؛ فمن المعتاد، عندما تطول الصلاة، أن يقوم البعض سرًّا بالتدخين في الكنيسة وإلقاء الأعقاب، أما هنا فلم يلجأ أيٌّ من الحضور إلى التدخين؛ احترامًا لذكرى المتوفى.
في اليوم الأول من فبراير ١٨٨١م أقيم في الكنيسة الملحقة بدير القديس ألكسندر نيفسكي قداسٌ جنائزي. كان مظهر الكنيسة رائعًا: وُضع النعش في وسط المعبد مغطًّى بالعديد من باقات الزهور، أما باقي الأكاليل فقد صُفَّت وهي مزدانة بالشرائط العريضة، وقد بدت عليها كتابات مفضَّضة وأخرى مذهَّبة، بامتداد حوائط المعبد، مستندة على ركائز مرتفعة، وهو ما أضفى على المكان جمالًا خاصًّا.
كان أخي قد اصطحب ابنتي إلى دير نيفسكي يوم القداس الجنائزي، بينما ذهبت أنا وابنتي في عربة يوليا دنيسوفنا زاسيتسكايا (ابنة الفدائي دافيدوف)، وكانت من أشد المعجبات بموهبة زوجي، بناءً على دعوتها لاصطحابنا إلى هناك. انطلقنا في الساعة العاشرة، وقبل أن نصل إلى الدير ببضعة أمتار، سارت عربتنا بمحاذاة عربة كان يستقلها أحد عقداء الجيش. حيَّاها الرجل فأشارت له زايتسكايا ردًّا على تحيته. وفي الميدان كان هناك حشد هائل من بضعة آلاف من الناس، وكان الاقتراب من باب الكنيسة أمرًا بالغ الصعوبة. اضطررنا للوقوف وسط الميدان. نزلت ومعي ابنتي من العربة متوجهة إلى الباب، بينما وقفت زايتسكايا في العربة في انتظار وصول العقيد، وأخبرتني أنه سيصطحبها إلى الدير. مررنا بصعوبة وسط الحشود، لكنهم أوقفونا طالبين منا بطاقاتِ الدخول. بطبيعة الحال كنت قد نسيت، في غمرة الحزن والارتباك، أن أحضر معي البطاقات، متصورة أنهم سيسمحون لنا بالدخول بدونها. أجبت بأنني «أرملة المتوفى، وهذه ابنته.»
– هنا العديد من أرامل دستويفسكي، سواء بمفردهم، أو مع أطفالهن. كان هذا هو الرد الذي تلقيته.
– لكنك ترى أنني أرتدي ملابس حداد كاملة.
– هن أيضًا كن يضعن خُمُرًا. من فضلكِ أظهري بطاقة الدعوة.
غلبني اليأس، ناهيك عما يمكن أن يقوله الناس الذين لا يعرفونني جيدًا، إذا لم يروني في الصلاة الليلية على زوجي، علاوة على أنني كنت أرغب إلى حدٍّ لا يوصف أن أودعه في اللحظة الأخيرة، أصلي من أجله، أبكي عند قبره، لم أكن أعرف ما الذي ينبغي أن أفعله، كنت أظن أن زايتسكايا قد نجحت بالفعل في الدخول ولن يكون بمقدورها أن تنتشلني من محنتي. ولحسن الحظ لم يحدث ذلك: استخدم مرافقها سلطته وأكد على شخصيتي، وعندها سمحوا لنا بالمرور، أسرعت أنا وابنتي نحو الكنيسة، ولحسن الحظ كانت الصلاة قد بدأت لتوها.
كان لكلمات الإنجيل التي فُتحت أمام فيودور ميخايلوفيتش معنًى ومغزًى عميقان في حياتنا. لعله كان من الممكن أن يبرَأ زوجي من مرضه بعد فترة من الوقت، لكن بُرأَه لم يكن ليستمر طويلًا؛ ومن المعروف أن العمل الإجرامي الذي وقع في أول مارس،⋆ كان من شأنه دون شك أن يهز فيودور ميخايلوفيتش بقوة، وكان يحب القيصر؛ محرر الفلاحين؛ وربما انفجر آنذاك شريانه الرئوي الهش، ولو وافته المنية. بالطبع فقد كان من المتوقع أن تترك وفاته في هذا الوقت العصيب أثرًا كبيرًا، ولكنه لم يكن ليصبح ذا أثر هائل كالذي حدث له بعد وفاته بالفعل (في يناير. المترجم): كانت أفكار المجتمع كلها ستصبح مشغولة بالتفكير في هذا العمل الوحشي، وفي النتائج الوخيمة التي يمكن أن تنشأ في تلك اللحظة المأسوية من حياة الدولة. في يناير ١٨٨١م، عندما بدا أن كل شيء هادئ، تأتي وفاة زوجي باعتبارها «حدثًا اجتماعيًّا»؛ لقد بكاه أناس من مختلف الاتجاهات السياسية، أناس من كل طبقات المجتمع. وقد حظي بموكب جنائزي استثنائي، ودُفن في احتفال مَهيب اجتذب جمهورًا عريضًا من القراء والمعجبين، وحتى من بين الذين كانوا من غير المهتمين بالأدب الروسي.
وهكذا اكتسبت الأفكار السامية لزوجي انتشارًا أوسع وحظيت بتقدير رفيع يليق بموهبته.
بعد وفاة القيصر، المحرر الرحيم، كان من الممكن ألا تحظى أسرتنا بالعطف السامي الإمبراطوري، الذي تحقَّق بفضله حلمُ زوجي الدائم بأن ينال أطفالنا تعليمًا جيدًا، ليتمكنوا في النهاية أن يصبحوا خدمًا مفيدين للقيصر وللوطن (ملاحظة لآنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا).
⋆ في الأول من مارس عام ١٨٨١م تم اغتيال ألكسندر الثاني على يد أحد أعضاء جماعة إرادة الشعب.