١
حديث مع تولستوي
مرة واحدة في حياتي كان لي الشرف فيها أن أرى وأن أتحدث مع
الكونت ليف نيكولايفيتش تولستوي، وحيث إن حديثنا قد دار
تحديدًا حول فيودور ميخايلوفيتش، فقد رأيت أن من الممكن أن أضم
هذا الحديث إلى مذكراتي.
تعرفت على الكونتيسة صوفيا أندرييفنا تولستايا
١ في عام ١٨٨٥م، عندما جاءت إليَّ في واحدة من
زياراتها إلى بطرسبورج، ولم أكن قد تعرفت عليها من قبل، تطلب
نصيحتي بشأن إصدار الكتب. وقد شرحت لي الكونتيسة أن صالايف،
٢ بائع الكتب في موسكو ما يزال يتولى حتى الآن إصدار
مؤلفات زوجها ذائع الصيت، وأنه يدفع مبلغًا متواضعًا نسبيًّا
مقابل حق النشر (خمسة وعشرون ألف روبل، إذا لم أكن مخطئة).
كانت الكونتيسة قد قررت، بعد أن علمت من معارفها أنني أنشر
مؤلفات زوجي بنجاح، أن تحاول بنفسها إصدار أعمال الكونت ليف
نيكولايفيتش، ولهذا جاءت تستفسر مني عما إذا كان إصدار الكتب
أمرًا تكتنفه كثير من المتاعب والصعوبات. لقد تركت الكونتيسة
أثرًا طيبًا في نفسي، وقد قمت بإطلاعها على كل «أسرار» دار
النشر التي أديرها، وأعطيتها نماذج من الكتب التي جرى الاشتراك
لشرائها، وأطلعتها أيضًا على الإعلانات التي أرسلتها بنفسي،
وحذرتها من الوقوع في بعض الأخطاء التي ارتكبتها وما إلى ذلك.
وحيث إننا تعرضنا للحديث عن العديد من التفاصيل، فقد كان عليَّ
أن أقوم بزيارة الكونتيسة في بيت أختها تانيانا كوزمينسكايا،
٣ وقد زارتني الكونتيسة، بدورها، في بيتي مرتين أو
ثلاثًا، لكي تستوضح بعض الأمور التي بدت لها مبهمة.
أتاحت لنا الزيارات والأحاديث المتكررة مع الكونتيسة إمكانية
أن تتعرف كلٌّ منا على الأخرى، وأن يمتد بيننا حبل الصداقة
والألفة، ومن ثَم وصلت إلى اقتناع مفاده أن الكونتيسة صوفيا
أندرييفنا كانت حقيقة ملاكًا حارسًا لزوجها العبقري. كانت
الكونتيسة تحرص على زيارتي عندما تكون في بطرسبورج، وعندما كنت
أذهب إلى موسكو كنت أزورها حتمًا، وقد أتحت لها ولأسرتها أن
يشاهدوا من نوافذ بيتي «المتحف التذكاري لفيودور ميخايلوفيتش
دستويفسكي»، وكذلك نقل جثمان الإمبراطور ألكسندر الثالث في
طريقه إلى كاتدرائية أرخانجلسكي.
كان معظم الوقت الذي أقضيه في موسكو (لزيارة «متحفي») إما في
الربيع أو الخريف، وعندما كنت أعود من القرم وأذهب لزيارة
الكونتيسة لم أكن ألتقي أبدًا بالكونت ليف نيكولايفيتش؛ فإما
يكون قد سافر في بداية الربيع إلى ياسنايا بوليانا،
٤ أو يقضي الخريف هناك. وفي يوم من أيام الشتاء،
وكنت قد ذهبت لزيارة الكونتيسة مساء، عرفت أن الكونت ليف
نيكولايفيتش موجود في موسكو، لكنه مريض ولا يستقبل زوَّارًا.
كنت أتحدث مع الكونتيسة، ثم إذا بها تتركني أتحدث مع أفراد
أسرتها لتذهب إلى زوجها. وما هي إلا دقائق عشر حتى عادت
لتخبرني أن زوجها حين علم بحضوري أصر على رؤيتي ويطلب مقابلتي.
لكنها نبهتني إلى أن الكونت أصيب اليومَ بنوبة من نوبات الكبد،
وأنه يشعر بشيء من الضعف طوالَ اليوم، ولهذا فهي ترجوني ألا
أطيل معه الحديث. ذهبنا أنا والكونتيسة لنعبر من بيت إلى بيت
عبر ردهات على الطراز الموسكوفي الخالص، وكنت طوال السير أشعر
بشيء من عدم الرضا لذهابي إليه. فعلى الرغم من رغبتي الشديدة
في لقاء الكاتب العبقري، الذي طالما أُعجبت برواياته الشاعرية،
فإن شعورًا ما بالخوف كان يكتنفني لأن أمثُلَ أمامه، وقد أحسست
مقدمًا أنني سوف أترك لديه انطباعًا سيئًا؛ الأمر الذي لم أكن
أتمناه على الإطلاق.
دخلنا غرفة فسيحة، لكنها ذات سقف منخفض، حيث جلس الكونت ليف
نيكولايفيتش على أريكة، وقد ارتدى قميصه الرمادي الشهير في
صوره الفوتوغرافية. وما هي إلا لحظة من الزمن حتى انقشع خوفي
عندما صاح في بشاشة وترحاب: يا له من أمر مدهش أن تبلغ زوجات
كتابنا هذه الدرجة من الشبه بأزواجهن!
– وهل أشبه فيودور ميخايلوفيتش؟ سألته وقد غمرني شعور
بالسرور.
– للغاية! لقد تخيلت زوجة دستويفسكي على مثالك
تحديدًا!
بالطبع لم يكن هناك شبه بيني وبين زوجي، على أنه لم يكن
بإمكان تولستوي أن يمنحني سعادةً أكبر، من تلك التي منحها إياي
هذا الكلام البعيد تمامًا عن الحقيقة، حين قال إنني أشبه زوجي
خالد الذكر. لقد أصبح الكونت منذ هذه اللحظة شخصًا قريبًا
وعزيزًا على قلبي.
أجلسني ليف نيكولايفيتش على كرسي وثير إلى جواره، وراح يشتكي
من سوء صحته، مشيرًا إلى صدره الذي غطته بعض الوسائد الصغيرة
(المحشوة بالشوفان والرماد الدافئ). مضت دقيقة سادها
الصمت.
– لقد حلمت منذ زمن بعيد أن ألتقي بكم ليف نيكولايفيتش، قلت
له، لكي أشكركم من قلبي على هذا الخطاب الرائع، الذي كتبتموه
لستراخوف بشأن وفاة زوجي. لقد أعطاني ستراخوف هذا الخطاب، وأنا
أحفظه باعتباره وثيقة ثمينة.
– لقد كتبت بإخلاص ما أحسست به — قال الكونت ليف نيكولايفيتش
— إنني أشعر بالأسف دائمًا أنني لم أقابل زوجكِ أبدًا.
– وكم أسِف لذلك هو أيضًا! رغم أن الفرصة للقاء قد أتيحت!
حدث ذلك عندما كنتم موجودين في محاضرة فلاديمير سولوفيوف في
مدينة سوليانا. أذكر أن فيودور ميخايلوفيتش قد عاتب ستراخوف؛
لأنه لم يخبره بوجودكم في المحاضرة، وقد قال حينها: «كنت أود
لو شاهدته، ما دمت لم أستطع التحدث معه.»
– معقول؟ وكان زوجك موجودًا في المحاضرة؟ لماذا لم يخبرني
نيكولاي نيكولايفيتش بذلك؟
٥ يا للأسف! لقد كان دستويفسكي إنسانًا عزيزًا لديَّ
٦ ولعله كان الوحيد الذي كان باستطاعتي أن أسأله عن
عديد من الأمور، وهو الذي كان باستطاعته أن يجيب عن العديد
منها!
دخلت الكونتيسة. تذكرت تحذيرها فوقفت متأهبة للخروج، لكن
الكونت استبقاني قائلًا: لا، لا، ابقي قليلًا. أخبريني أي
إنسان كان زوجك؟ على أيِّ نحو ظل في قلبك؛ في ذكرياتك؟
كنت متأثرة أشدَّ التأثر من هذه النبرة الودودة التي تحدث
بها عن فيودور ميخايلوفيتش.
– كان زوجي العزيز — قلت بفرح — مثالًا للإنسان! كانت تتجلى
فيه الخصال الروحية الرفيعة، التي تزين الإنسان في أعلى
درجاتها. لم يكن هناك أحد يضارعه في طيبته ونقاء سريرته وعطفه
وعدله ورقته ورأفته! وكم جلبت له الاستقامة والنزاهة الكثير من
الأعداء! أروني شخصًا واحدًا خرج من عنده دون أن يتلقى منه
نصيحة أو ترضية أو مساعدةً على نحو أو آخر؟ صحيح أن البعض قد
يجده فظًّا بعد نوبة من نوبات المرض، أو عندما يكون منهمكًا في
عمل جاد، لكن هذه الفظاظة سرعان ما تتبدد ليحل مكانها طيبة
بالغة، إذا ما رأى أن أمامه إنسانًا بحاجة إلى المساعدة. وكم
من رقة وحنان كان يبديهما عندئذٍ ليكفر بهما عن حدَّته أو
قسوته. هل تعلم، ليف نيكولايفيتش، أن طبيعة الإنسان لا تتجلى
بوضوح في أي مكان، مثلما تتجلى في حياته العادية، وسط أفراد
عائلته، وها أنا ذا أقول إنني، وبعد أربعة عشر عامًا عشتها
معه، لا أستطيع إلا أن أشعر بالدهشة والحنان، وأنا أرى على أي
نحو كانت تصرفاته، وأدرك إلى أي حد كانت هذه التصرفات غير
عملية في بعض الأحيان، بل وضارة بنا شخصيًّا، وهنا عليَّ أن
أعترف أن زوجي تصرف، على نحو محدد، كما ينبغي أن يتصرف إنسان
نبيل وعادل!
– على هذا النحو كان ظني به دائمًا، هكذا تحدث الكونت ليف
نيكولايفيتش، وقد استغرق في تفكير عميق وتأثر بالغ. لقد كان
دستويفسكي يمثل لي دائمًا إنسانًا ذا عاطفة مسيحية حقيقية.
٧ مرة أخرى دلَفت الكونتيسة إلى الغرفة، عندها نهضت،
صافحت بقوة يد كاتبي المحبوب الممدودة إليَّ، غادرت المكان وقد
غمرني إحساس بالافتنان، هذا الإحساس الذي نادرًا ما جربته.
٨ نعم هذا هو الإنسان الذي يستطيع أن يستولي على
قلوب البشر!
في طريق عودتي إلى المنزل، وقد خلت شوارع موسكو تمامًا، رحت
أختبر هذا الانطباع العميق الذي عشته، وعاهدت نفسي (وقد وفيت
بالعهد) ألا أعود للقاء الكونت ليف نيكولايفيتش مرةً أخرى، على
الرغم من أن الكونتيسة الطيبة قد دعتني عدة مرات للزيارة، بل
واستضافتني في ياسنايا بوليانا. كنت أخشى أن أجد الكونت ليف
نيكولايفيتش في لقائي التالي، مريضًا، ضَجِرًا، أو فاقدًا
لإرادته، أي أن أجد إنسانًا آخر غير الذي التقيته، وعندئذٍ
يختفي بداخلي للأبد هذا الافتنان الذي جربته، والذي أصبح
عزيزًا على نفسي! ولماذا أفقد هذا الكنز الروحي، الذي نادرًا
ما يهبُه القدر لنا في طريق حياتنا؟
٢
رَدِّي على ستراخوف
والآن، وقد اقتربت ساعتي، أرى أن عليَّ أن أدافع عن الذكرى
الوضاءة لزوجي خالد الذكر ضد الافتراءات الشنيعة، التي رماه
بها الإنسان الذي اعتبرناه، زوجي وأنا وكل أسرتنا، صديقنا
المخلص. إنني أتحدث هنا عن خطاب نيكولاي نيكولايفيتش ستراخوف
إلى الكونت ليف نيكولايفيتش تولستوي (المؤرخ الثامن والعشرين
من نوفمبر عام ١٨٨٣م)، والذي نشر في عدد أكتوبر من مجلة
«سوفريمني مير» (العالم الحديث)، الصادر عام ١٩١٣م.
٩
في نوفمبر من ذلك العام، وبعد أن عدت بعد صيف قضيته في
بطرسبورج، التقيت فيه بأصدقائي ومعارفي، أثارت دهشتي بعضَ
الشيء تلك الأسئلةُ التي كان يطرحها عليَّ كلُّ من قابلوني
تقريبًا. كانوا يسألونني ما إذا كنت قد قرأت خطاب ستراخوف إلى
الكونت تولستوي؟ وعندما كنت أسألهم بدوري عن المكان الذي نشر
فيه الخطاب، كانوا يجيبونني بأنهم قرءوه في إحدى الصحف، ولكنهم
لا يتذكرون في أي صحيفة تحديدًا. لم أكن ألتفت إلى نسيانهم أو
أبدي اهتمامًا خاصًّا بالخبر، لأن نيكولاي ستراخوف، على أية
حال، لن يكتب عن زوجي (هكذا كنت أظن) إلا كل ما هو خير، وهو
الذي طالما اعتبره كاتبًا بارزًا، وكان يثني على نشاطه ويقترح
عليه موضوعاتٍ وأفكارًا لعمله. وقد خمنت فيما بعدُ فقط، أن
أصدقائي ومعارفي، «شديدو النسيان»، تحاشوا إغضابي بشكل مميت،
مثلما فعل صديقنا الزائف بخطابه. لم أقرأ هذا الخطاب المشئوم
إلا في صيف ١٩١٤م، عندما رحت أرتب عددًا هائلًا من القصاصات من
الصحف والمجلات، وفرتها لي إحدى الوكالات لأزود بها «المتحف
التذكاري لفيودور ميخايلوفيتش دستويفسكي» في موسكو.
«أكتب إليكم، ليف نيكولايفيتش العزيز، هذا الخطاب الموجز،
على الرغم من أن الموضوع الذي أعرضه غاية في الثراء. ولكن،
وبسبب مرضي، فقد كان عليَّ أن أقضي وقتًا طويلًا من أجل
تطويره. من المؤكد أنكم تسلمتم الآن كتاب «السيرة» الذي كتبته
عن دستويفسكي،
١٠ أرجو منكم أن تولوه اهتمامكم وأن تتفضلوا بإبلاغي
برأيكم فيه. وبهذه المناسبة أيضًا، فإنني أود أن أعترف لكم
بأنني كنت في صراع دائم طوال الكتابة. كنت أصارع شعوري بالنفور
الذي راح يتصاعد بداخلي. وقد حاولت أن أكبح في نفسي هذا الشعور
البغيض. وإني لأرجوكم أن تساعدوني على أن أجد لديكم منه
مخرجًا. إنني لا أستطيع أن أعتبر دستويفسكي إنسانًا سيئًا،
بائسًا (وهي صفات تنطبق عليه في واقع الأمر). لقد كان شريرًا،
وحسودًا، وكريهًا، وقد قضى حياته كلها في اضطراب وتشوش جعلا
منه كائنًا بائسًا، وربما مضحكًا، لولا أنه في هذا الأمر كان
شريرًا وذكيًّا إلى حد كبير. كان يرى نفسه مثل روسو، أفضل
الناس وأكثرهم سعادة. وبمناسبة كتابة سيرته، فقد استعدت بوضوح
شديدٍ كلَّ هذه السمات. فعندما كنا في سويسرا وجدته يعامل
النادل بمنتهى التعسف؛ الأمر الذي دفع بالرجل لأن يصيح به
قائلًا: «أنا أيضًا إنسان!» أذكر أن هذا القول قد أدهشني إذ
يُوجَّه إلى المبشر بالإنسانية، وأنهم هنا يتحدثون عن سويسرا
الحرة وعن حقوق الإنسان.»
لقد تكررت هذه المشاهد كثيرًا في حضوري، ولم يكن باستطاعته
أن يتحكم إزاءها في شراسته. لقد التزمت الصمت مرارًا أمام
نزواته التي كان يرتكبها بأسلوب نسائي، أي على نحو مفاجئ
وبصورة غير مباشرة، وقد تسنى لي أن أوجِّه له مرتين أو ثلاثًا
كلامًا قاسيًا، ولكنه كان، بطبيعة الحال، متفوقًا في سلاطة
اللسان، على وجه العموم، على العاديين من الناس، والأسوأ من
ذلك أنه كان يجد في ذلك لذة، حتى إنه لم يندم مرةً واحدة على
كل ما ارتكبه من دناءات. كان منجذبًا نحو الدناءات، وكان
يتباهى بارتكابها. وقد حكى لي فيسكوفانوف
١١ كيف راح دستويفسكي يتفاخر بأنه … في أحد الحمامات
العامة مع فتاة صغيرة أحضرتها له إحدى المربيات، لاحظوا في
ذلك، ليف نيكولايفيتش، أنه عندما كان يمارس هذه الشهوة
الحيوانية، لم يكن لديه أي ذوق، وأي إحساس بالجمال الأنثوي أو
بالبهجة، وهو ما يتضح جليًّا في رواياته. إن بطل رواية «مذكرات
من العالم السفلي»، وسفيدريجايلوف في «الجريمة والعقاب»،
وستافروجين في «الشياطين»؛ هم جميعًا شخوص على شاكلته تمامًا.
لقد رفض كاتكوف نشر أحد المشاهد الخاصة بستافروجين (مشهد إطلاق
الرصاص وغيره)،
١٢ وقد راح دستويفسكي يقرأ هذا المشهد هنا وهناك أمام
كثير من الناس.
رجل هذا طبعه، كان ميالًا للعاطفة الشهوانية، إلى الأحلام
السامية والخصال الإنسانية الرفيعة، وقد كانت الأحلام هي
توجُّهه، هي إلهامه وطريقه. بالمناسبة، فإن رواياته كلها تمثل،
في واقع الأمر، ذريعة لإثبات أن الرذائل على اختلافها يمكن أن
تتعايش مع الخير داخل الإنسان.
من الصعب عليَّ أن أنفصل عن هذه الأفكار، حتى إنني لا أجد
نقاطًا للتصالح! فهل أنا شرير؟ هل أحسده؟ هل أتمنى له سوءًا؟
إطلاقًا، إنني لا أمتلك إلا البكاء؛ لأن هذه الذكريات، التي
كان من الممكن أن تكون مشرقة، لا تفعل شيئًا سوى أن تعتصر
قلبي!
أتذكر كلماتكم التي تقول إن الناس الذين يعرفوننا جيدًا، لا
يحبوننا بطبيعة الحال. لكن الأمر يجري على نحو آخر أيضًا، فمن
الممكن أن نعرف، في سياق اقترابنا الشديد من إنسانٍ ما، خصلةً
تجعلنا نصفح عن كل أفعاله فيما بعد؛ شيء من الطيبة الحقيقية،
شرارة الدفء الودي، بل إن دقيقة من إبداء التوبة النصوح يمكن
أن تكفر عن كل شيء؛ ولو أنني تذكرت شيئًا من هذا لدى
دستويفسكي، لسامحته ولسُرِرت به، لكنه يدَّعي أنه إنسان رائع،
وأنه يقدم فقط أدبًا إنسانيًّا تقدميًّا.
لقد كان حقًّا رجلًا تعيسًا وسيئًا. كان يتصور نفسه سعيدًا،
بطلًا، ولم يكن يحب سوى نفسه فقط. وحيث إنني أعلم عن نفسي أنني
أستطيع أن أثير الاشمئزاز، وأنني قد تعلمت أن أفهم وأن أسامح
هذا الشعور في الآخرين، فقد ظننت أنني سوف أجد مخرجًا في
علاقتي بدستويفسكي. لكنني لم أجد ولن أجد.
وها هو تعليق صغير على السيرة التي كتبتها، قد كان بإمكاني
أن أكتب وأن أقص أيضًا هذا الجانب من حياة دستويفسكي، وقد
تراءت لي العديد من الأحداث على نحو أكثر حيويةً مما صورتها،
وكان من الممكن أن يأتي القص عندئذٍ أكثر صدقًا، ولكن ليذهب
هذا الصدق إلى الجحيم، ولنكتفي بالتباهي بالجانب الظاهري
للحياة، كما نفعل في كل مكان، ومع كل شيء!
… لقد أرسلت إليكم مُؤلَّفَين آخرين (نسخة ثانية)، أنا نفسي
أحبهما، وكأنا في حوزتك من قبل، وكما لاحظت، فقد عبرتم عن
إعجابكما بهما. الأول كتبه
Pressensé،
١٣ وهو كتاب رائع، ينم عن سعة اطلاع من طراز رفيع،
١٤ أما كتاب
Joly١٥ فهو بالطبع فهو بالطبع أفضل ترجمة لماركوس
أوريليوس، أسعدتني حرفيتها الرفيعة.
١٦
وإليكم رد الكونت ليف نيكولايفيتش تولستوي:
«قرأت كتاب بريسانسي أيضًا الذي أرسلته إليَّ، لكن
سعة الاطلاع التي وصفتها ضاعت بسبب ما به من صعوبات.
هناك جياد جميلة، جياد قوية، يبلغ سعر الواحد منها ألف
روبل، وفجأةً يصطدم الجواد بكبوة، فيصبح سعر هذا
الجواد الجميل بضع قروش. كلما تقدمت في العمر، قدَّرت
الناس أكثر دون كبواتهم. قلت لي إنك تصالحت مع
تورجينيف، وأنا أحبه جدًّا، ومن المضحك أنني أحبه؛
لأنه دون كبوة، وهو قادر على توصيلك، أما الآخر
(بريسانسي) فهو جواد خابٍ، لا يمكن أن يوصلك إلى أي
مكان، هذا إذا لم يُلقِ بك في خندق أو مصرف. إن ذهب
فكره وقلبه عبثًا، سيدوم تورجينيف أطول من دستويفسكي،
لا بسبب ميزاته الفنية، وإنما لأنه بلا كبوة.»
١٧
وإليكم أيضًا رد ستراخوف المؤرخ ١٢ ديسمبر ١٨٨٣م:
«إذا كان الأمر كذلك، فاكتب لي، ليف نيكولايفيتش
العزيز، عن تورجينيف. كم أنا متعطش لأقرأ شيئًا ما
يتميز بالعمق، على النحو الذي تتميزون به! وإلا أصبح
ما نكتبه مجرد هزل نتلهَّى به، أو كوميديا نؤديها
للآخرين. لقد اعتمدت كلية في كتابة المذكرات على
الجانب الأدبي للقضية، لقد أردت أن أسجل صفحة من تاريخ
الأدب، ولكنني لم أستطع أن أتغلب على نحو تام على
لامبالاتي. حاولت شخصيًّا أن أطرح فضائل دستويفسكي
فحسب، لكنني لم أكن لأنسُب إليه خصالًا لم يكن
يمتلكها. إن ما حكيته عن القضايا الأدبية قد شغلك، على
الأرجح، بعضَ الشيء. هلَّا حدثتكم، مع ذلك، دون
مواربة؟ إن تعريفكم لدستويفسكي على الرغم من أنه أضاء
أمامي أمورًا كثيرة، فإنه كان كلامًا دمِثًا بالنسبة
إليه. كيف يمكن للإنسان أن يتغير، عندما يصبح من
المستحيل أن تتغلغل في روحه خصلة معروفة؟ أقول لا شيء؛
بكل ما في الكلمة من معنًى. هكذا أتصور روحه. أوه! يا
لنا من مخلوقات تعيسة وبائسة! إنما يكمن خلاصنا في شيء
واحد؛ أن ننفصل عن أرواحنا.»
١٨
لقد أحبطني خطاب نيكولاي ستراخوف حتى أعماق روحي. هذا
الإنسان الذي كان يزور أسرتنا على مدى عشرات السنين، والذي
عامله زوجي بكل مودة، يتضح الآن أنه كاذب، يسمح لنفسه أن يلقي
عليه بكل هذه الافتراءات البشعة! لقد كان أمرًا مسيئًا له؛
لِما أولينا إياه من ثقة؛ لكوننا، أنا وزوجي، قد خُدعنا في هذا
الإنسان غير الجدير بالثقة.
إن ما أدهشني في خطاب ستراخوف أنه كان يحاول، «طوال فترة
كتابته (للمذكرات) أن يصارع هذه البشاعة التي راحت تتصاعد
بداخله.» إذن لماذا لم يتخلَّ عن هذا العمل الملقى على عاتقه،
ما دام كان يشعر بكل هذه الكراهية، بداهة، نحو الإنسان الذي
يكتب سيرته، كما كان سيفعل كلُّ إنسان يحترم نفسه لو كان في
مكانه؟ أليس لأنه لم يرغب في أن يضعني — أنا الناشرة — في وضع
صعب بخصوص البحث عن كاتب للسيرة؟ لكن ها هو أوريست ميلر يتولى
مسئولية كتابة السيرة، وكذلك فعل أدباء آخرون (أفيركييف
وسلوتشيفسكي)، اللذان كتباها لنشرها في طبعات لاحقة.
١٩
لقد كتب ستراخوف في خطابه يقول إن دستويفسكي كان شريرًا،
وحتى يثبت ذلك، أورد الواقعة الغبية التي حدثت له مع النادل،
الذي قد يكون زوجي قد «تعسف» معه. إن زوجي، بسبب مرضه، يكون
أحيانًا سريع الغضب، ومن المحتمل أنه صاح في الخادم، لتأخره في
تقديم الطعام الذي طلبه (وما الذي يمكن أن يجعل النادل يعبر عن
شعوره «بالعسف» غير ذلك؟) لكن هذا لم يكن يعني أنه شرير، وإنما
كان يعكس نفاد الصبر، وفي سويسرا يتميز البسطاء من الناس
بخشونة الطبع، حتى إن الخادم لا يكتفي بالشكوى ردًّا على
الإهانة، وإنما يستطيع، وقد يتجاسر على الرد بوقاحة متناهية،
مطمئنًا تمامًا إلى أنه لن ينال أي عقاب.
لا أستطيع أن أفهم كيف جرؤ ستراخوف أن يكتب بيده أن فيودور
ميخايلوفيتش كان «شريرًا» و«أنه لم يحب سوى نفسه»؟ فستراخوف
نفسه كان شاهدًا على الوضع بالغ الصعوبة، الذي وضع فيه هو نفسه
الأخوين دستويفسكي بسبب منع مجلتهما «الزمن»، والذي جاء نتيجة
مقالة «القضية الحرجة»، التي كتبها ستراخوف بطريقة خرقاء،
٢٠ فلو أن ستراخوف لم يكتب هذه المقالة الغامضة،
لواصلت المجلة وجودها، ولحققت أيضًا أرباحًا، ولَمَا وقع على
كاهل زوجي بعد وفاة أخيه ميخائيل دستويفسكي كل ديون المجلة،
ولَمَا تكبد طوال عمره هذا العناء بسبب سداد مستحقات المجلة.
والحقيقة أنه يمكن القول إن ستراخوف كان العبقرية الشريرة
لزوجي، ليس فقط إبان حياته، وإنما بعد وفاته كذلك، كما اتضح
الآن. كان ستراخوف أيضًا شاهد عيان على أن فيودور ميخايلوفيتش
ظل زمنًا طويلًا يساعد عائلة أخيه المتوفى ميخائيل
ميخايلوفيتش، وأخيه المريض نيكولاي ميخايلوفيتش، وربيبه بافل
ألكسندروفيتش إيسايف، ولو أنه كان إنسانًا سيئ القلب، لا يحب
سوى نفسه، لَمَا حمل على عاتقه هذه المسئوليات المالية التي
يصعب الوفاء بسدادها، ولما تحمل عبء الاهتمام بمصير أقاربه؛
ومن ثَم فأن يقول ستراخوف عن فيودور ميخايلوفيتش — وهو الذي
يعرف أدق تفاصيل حياته — إنه «شرير» لا يحب سوى نفسه، فهذا ينم
عن منتهى سوء النية. ومن جانبي، فإنني أرى أن من واجبي أن أشهد
أن زوجي، وقد عشت في كنفه أربعة عشر عامًا، كان إنسانًا طيبًا
إلى أبعد الحدود، وقد أظهر هذه الطيبة ليس فقط تجاه القريبين
منه، وإنما تجاه الجميع، الذين تسنى له أن يستمع إلى تعاستهم،
أو فشلهم، أو مصائبهم. لم يكن بحاجة إلى أن يسأله الناس، وإنما
كان يسارع بنفسه إلى تقديم العون لهم. كان له أصدقاء من ذوي
النفوذ (قنسطنطين بوبيدونستسيف، تيرتي فيليبوف، إيفان فيشنجرادسكي).
٢١ كان زوجي يستخدم نفوذهم لكي يساعد الآخرين في
مصائبهم. كم من العجائز، رجالًا ونساء، أنزلهم في الملاجئ! كم
من أطفال أرسلهم إلى دور الأيتام! كم من الفاشلين دلَّهم على
أماكن للعمل! وكم من مرة بات يقرأ ويصحح مخطوطات لأعمال مؤلفين
آخرين! كم من مرة استمع إلى اعترافات صريحة وأعطى لأصحابها
نصائح في أمور حميمة للغاية! لم يبخل بوقته أو جهده، إذا ما
رأى أن باستطاعته أن يقدم لقريب أي مساعدة. كان يساعد بالمال،
فإذا لم يجد مالًا، وقَّع له على كمبيالات، وقد حدث أن قام هو
نفسه بسدادها من ماله بعد ذلك.
كتب ستراخوف أن دستويفسكي كان «حسودًا»، من ذا الذي حسده
دستويفسكي؟! إن جميع المهتمين بالأدب الروسي يعلمون أن فيودور
ميخايلوفيتش كان يقدِّر عبقرية بوشكين، وكانت أفضل مقالة أشادت
بالشاعر العظيم هي خطابه عن بوشكين، الذي ألقاه في موسكو، عند
افتتاح تمثاله هناك.
من الصعب أن نفترض أن فيودور ميخايلوفيتش كان يكنُّ مشاعر
الحسد تجاه الكونت ليف تولستوي، إذا ما تذكرنا ما قاله زوجي
عنه في مقالاته المنشورة في «مذكرة الكاتب». على سبيل المثال
«المذكرة» عن عام ١٨٧٧م؛ ففي عدد يناير عبَّر فيودور
ميخايلوفيتش، في معرض حديثه عن بطل «الطفولة والشباب»، أن هذا
العمل هو «دراسة فنية شديدة الجدية عن روح الطفولة، كتبت على
نحو رائع.»
٢٢ وفي عدد فبراير وصف زوجي تولستوي بأنه «فنان من
طراز رفيع.»
٢٣ وفي «المذكرة» عن شهرَي يوليو-أغسطس، قدَّم فيودور
ميخايلوفيتش «آنَّا كارنينا» باعتبارها «حقيقة ذات مغزًى خاص،
يمكن أن تمثل ردَّنا على أوروبا، إنها تمثل أيضًا الحقيقة التي
نستطيع أن نلفت انتباه أوروبا إليها.»
٢٤ ثم يقول بعد ذلك (في نفس العدد): «لقد رسمها
بعبقرية الشاعر في هذا المشهد العبقري في الرواية، مشهد المرض
المميت للبطلة.»
٢٥ وفي ختام مقالته يقول زوجي: «هؤلاء الناس، من
أمثال مؤلِّف آنَّا كارنينا، هم جوهر مُعلم المجتمع، هم
معلمونا، وما نحن سوى تلاميذ لديهم.»
٢٦
كان فيودور ميخايلوفيتش يقدِّر الروائي الشهير جونتشاروف،
ويعتبره «عقلًا كبيرًا»؛
٢٧ فضلًا عن أنه كان يضع موهبته في منزلة رفيعة، وقد
أحبه بإخلاص واعتبره كاتبه المفضل.
٢٨،٢٩
كانت علاقة زوجي بتورجينيف في مرحلة الشباب علاقة رائعة. وفي
خطابه إلى أخيه، المؤرخ ١٦ فبراير ١٨٤٥م، كتب فيودور
ميخايلوفيتش عن تورجينيف يقول: «يا له يا أخي من إنسان! أنا
أيضًا أحبه. إنه شاعر، صاحب موهبة، أرستقراطي، بهي الطلعة،
واسع الثراء، ذكي، مثقف، يبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا، لا
أعرف إن كانت الطبيعة حرمته شيئًا ما! في النهاية فهو شخص
مستقيم لأبعد الحدود، شخص رائع، تلقَّى تعليمه في مدرسة جيدة.»
٣٠ فيما بعد اختلف فيودور ميخايلوفيتش مع تورجينيف في
آرائهما ومعتقداتهما، لكن تورجينيف في خطابه المؤرخ ٨ مارس (٩
أبريل بالتقويم القديم) ١٨٧٧م، كتب يقول: «لقد حرَصت على كتابة
هذا الخطاب إليكم، رغم ما نشِب بيننا من سوء فَهم؛ الأمر الذي
ترتَّب عليه انقطاع علاقتنا. وإنني لعلى يقين تام أن الشك لن
يتطرق إليكم، في أن سوء الفَهم بيننا لا يمكنه أن يؤثر قِيدَ
أنملة على رأيي في موهبتكم، التي أعُدُّها موهبة من الطراز
الرفيع، ولا على المكانة السامية التي تشغلونها عن جدارة في أدبنا.»
٣١ وفي عام ١٨٨٠م، وفي الاحتفال الذي جرى في موسكو،
تحدث فيودور ميخايلوفيتش عن تاتيانا بطلة بوشكين بقوله: «إن
هذا النموذج للجمال الإيجابي للمرأة الروسية، لم يتكرر تقريبًا
في أدبنا، اللهم إلا في نموذج ليزا في رواية «عش النبلاء» عند تورجينيف.
٣٢ وهل لي أن أتحدث عن علاقة فيودور ميخايلوفيتش
بالشاعر نكراسوف، الذي كان عزيزًا على قلب زوجي، كما ورد في
مذكرات الشباب، وقد وصفه زوجي بأنه الشاعر العظيم، الذي ألَّف
قصيدة فلاس؟»
٣٣ وقد كتب فيودور ميخايلوفيتش في مقالته بخصوص وفاة
نكراسوف يقول: «إن نكراسوف ينبغي أن يأخذ مكانه، وهو الشاعر
(الذي جاء «بكلمة جديدة»)، بعد بوشكين وليرمنتوف مباشرة.»
٣٤ وتعتبر هذه المقالة، باعتراف علماء الأدب الروسي،
واحدة من أفضل المقالات التي كُتبت بمناسبة وفاة
الشاعر.
على هذا النحو كانت علاقات زوجي بمواهب وأعمال كتَّابنا
البارزين، أما كلمات ستراخوف حول أن دستويفسكي كان حسودًا، فهي
كلمات تفيض ظلمًا وقسوةً تجاهه.
على أن هناك ظلمًا أشدَّ مضاضةً في كلمات ستراخوف، عندما وصف
زوجي بأنه كان «فاجرًا»، وأنه «كان منجذبًا إلى الدناءات، وأنه
كان يفتخر بفعلها.» ويسوق ستراخوف دليله على ذلك من أحد
المشاهد من رواية «الشياطين»، الذي «رفض كاتكوف أن يطبعه، لكن
دستويفسكي راح يقرؤه هنا وهناك أمام كثير من الناس». ومن أجل
تقديم صورة فنية لنيكولاي ستافروجين، بطل روايته، كان على
فيودور ميخايلوفيتش أن يضيف إلى بطله شيئًا ما ليفضح النزعة
الإجرامية لديه، وقد رفض كاتكوف بالفعل نشْر هذا الفصل، وطلب
من المؤلف تعديله. وقد أحزن هذا الرفض فيودور ميخايلوفيتش فراح
يقرؤه على أصدقائه قنسطنطين بوبيدونوستسيف وأبولون مايكوف
ونيكولاي ستراخوف وغيرهم، ليختبر بواسطتهم صحة انطباع كاتكوف،
وليس بهدف التباهي، كما ذكر ستراخوف، وإنما ليطلب رأيهم
وليحكموا بينه وبين الناشر. وعندما وجد الجميع أن المشهد
«واقعي للغاية»، راح زوجي يفكر في شكل جديد لهذا الوصف الفني
لستافروجين، لأنه كان يرى أنه أمر ضروري. كان هناك عدد من
الخيارات الفنية أمام زوجي. من بينها المشهد الذي تجري أحداثه
في أحد الحمامات العامة (وهي حادثة حقيقية حكاها أحدهم لزوجي).
٣٥ وفي هذا المشهد تقوم «المربية» بالمشاركة في
الجريمة؛ ونتيجة لذلك فقد أعرب الأشخاص، الذين قرأ عليهم زوجي
هذا الخيار (ومن بينهم ستراخوف) طالبًا منهم النصح، أعربوا عن
رأيهم في أن هذا المشهد، على هذا النحو، يمكن أن يجلب باللائمة
على فيودور ميخايلوفيتش من جانب القراء، كما لو كان يتهم هنا
«المربية» بارتكاب هذا الجرم الشنيع، فيسير الأمر على هذا
النحو باعتباره تشهيرًا ﺑ «قضية المرأة»، تمامًا كما حدث من
قبل، عندما وجهوا اللوم لدستويفسكي عندما جعل من الطالب
راسكولنيكوف قاتلًا، وكأنه بذلك يتهم جيلنا الشاب من الطلاب
بارتكاب جرائم مشابهة.
وهكذا، فإن ستراخوف لم يتردد، في غمرة حقده، أن يلصق هذا
المشهد من الرواية — هذا الدور المشين الذي قام به ستافروجين —
بفيودور ميخايلوفيتش نفسه، ناسيًا أن القيام بهذا الفعل الدنيء
يتطلب نفقاتٍ باهظةً لا تتوفر إلا لدى الأثرياء، وقد عاش زوجي
طوال حياته في عسر مادي شديد. إن استشهاد ستراخوف بكلام قيل
على لسان البروفيسور فيسكوفانوف أمرٌ مدهش تمامًا لي،
فالبروفيسور لم يزرنا قط؛ بل إن معرفة فيودور ميخايلوفيتش به
كانت سطحيةً للغاية، وهو ما يؤكده ما ورد في خطابه إلى أبولون
مايكوف، حيث يذكر لقاءه في درزدن بأحد الروس،
٣٦ من جانبي، فإنني أستطيع أن أشهد أن زوجي ظل طوال
حياته بعيدًا عن «الفجور»، على الرغم من الوصف الواقعي للغاية
للتصرفات الوضيعة لأبطال أعماله أحيانًا. ومن البدهي أن الفنان
الكبير غير مضطر، بفضل موهبته، لأن يقوم بارتكاب الجرائم التي
يرتكبها أبطاله، وإلا لكان علينا أن نعترف أن دستويفسكي قتل
شخصًا ما، وقد نجح، على هذا النحو الفني المحكم، في وصف جريمة
قتل امرأتين على يد راسكولنيكوف.
أتذكر بكل العرفان بالجميل حُسن معاملة فيودور ميخايلوفيتش
لي؛ حرصه الشديد ألا أقرأ الروايات الفاحشة، قلقه البالغ،
عندما كنت أنقل له، في سنوات الشباب، مزحةً بذيئة سمعتها من
أحدٍ ما. كان زوجي شديد التحفظ دائمًا في أحاديثه، ولم يكن
يسمح باستخدام العبارات السوقية. والأرجح أن كل من يذكرونه
سيوافقونني على ذلك.
بعد أن انتهيت من قراءة خطاب ستراخوف المليء بالافتراءات،
قررت أن أعبر عن احتجاجي عليه. ولكن، على أي نحو كان علي أن
أفعل ذلك؟ كان زمنٌ طويل قد انقضى للاعتراض على الخطاب، فقد
ظهر الخطاب في أكتوبر عام ١٩١٣م، ولم أعلم به إلا بعد عام
تقريبًا. ثم ما الذي يعنيه اعتراض منشور في الصحف؟ سوف يضيع
وسط الأنباء المتدفقة، سيُهمَل، ثم كم من الناس سيقرءونه؟ رحت
ألتمس المشورة لدى أصدقائي ومعارفي، الذين كانوا على معرفة
بزوجي الراحل. تفرقت آراؤهم؛ البعض ذكر أنه ينبغي التعامل مع
هذه الافتراءات الدنيئة بكل الاحتقار الذي تستحقه. والبعض
الآخر قال إن قيمة فيودور ميخايلوفيتش معروفة في الأدبَين
الروسي والعالمي بالسمو والرفعة، بحيث لن يكون لهذه الافتراءات
أيُّ أثر على ذكراه المضيئة؛ وأشاروا إلى أن ظهور الخطاب لم
يكن له أي رد فعل في الأدب الراهن، حتى إن أغلبية الكتَّاب
كانوا يعرفون جيدًا أن الأمر لا يعدو كونه وشاية، كما أنهم
يدركون من هو الواشي. حلا بينما رأى البعض الأمر على نحو مخالف؛ إذ
أكدوا ضرورة قيامي بالتعبير عن احتجاجي، مذكِّرين إياي بالمثل
الذي يقول: Calomniez, caomniez, il en reste
toujoure quelque chosel (العيار اللي ما
يصيبش يدوش)، وأضافوا، أنه نتيجة لهذا الظرف — وهو أنني المرأة
التي كرست حياتها لخدمة زوجها وذكراه — لم أجد ما أدحض به
الوشاية، وعندئذٍ سيستنتجون أن بها ولو جزءًا يسيرًا من
الحقيقة؛ وهنا يظهر صمتي كما لو كان تأكيدًا لها.
على أن عديدًا من الناس، الذين كدَّرهم خطاب ستراخوف، وجدوا
أن دحض الوشاية أيضًا ليس كافيًا، وأن على الأصدقاء والشخصيات،
الذين يذكرون فيودور ميخايلوفيتش بأحاسيسَ طيبة، عليهم أن
يكتبوا احتجاجًا ضد هذا الافتراء الذي رماه به ستراخوف. كما أن
هناك أشخاصًا آخرين أرادوا أن يعبروا عن سخطهم بخطابات منفصلة،
بينما رأى العديد من أصدقائي أنه قد يكون من الضروري، من أجل
الرد على هذا الافتراء، إضافةُ مقالات الاحتجاج (إلى
المذكرات)، والتي نُشرت على فترات مختلفة في المجلات، والتي
تصور فيودور ميخايلوفيتش باعتباره إنسانًا محترمًا ومستقيمًا
على نحو استثنائي. وقد استجبت لنصائح أصدقائي فأرفقت كلًّا من
الاحتجاج والمقالات بمذكراتي.
وفي معرض حديثي مع كثير من الأشخاص بشأن هذا الخطاب الشرير،
الذي كدَّر صفو سنواتي الأخيرة، سألتهم عن رأيهم في السبب الذي
دفع ستراخوف لأن يكتب هذا الخطاب؛ مالت الأغلبية للقول إن
السبب يرجع إلى ما يُعرف بالغيرة المهنية
Jalousie de métier، وهو
أمر شائع في عالم الأدب، وأن فيودور ميخايلوفيتش يمكن أن يكون،
على الأرجح، قد أغضب ستراخوف (وهو ما ذكره الأخير)؛ إما بحسن
نية، أو بسبب حدَّته؛ ومن ثم جاءت رغبة ستراخوف في الانتقام
منه، حتى ولو لم يكن على قيد الحياة. لم يكن بوسع ستراخوف أن
يعبر عن رأيه كتابة؛ إذ كان يعلم أنه سوف يثير ضده عددًا
كبيرًا من المدافعين عن ذكرى دستويفسكي، ولم يكن من طبيعة
ستراخوف الدخول في معارك مباشرة مع الناس. وقد عبَّر لي أحد
الأشخاص، الذين عرفوا ستراخوف عن قرب، عن فكرة أن ستراخوف كان
يسعى من وراء خطابه لأن «يشهِّر بدستويفسكي وأن يقلل من شأنه»
في عيون تولستوي. وعندما أعربت عن شكوكي حول هذا الافتراض، راح
محدثي يعبر عن رأيه في ستراخوف على نحو مبتكر تمامًا: «من هو
ستراخوف في واقع الأمر؟ إنه نموذج «للنبيل الطفيلي»، وهو نموذج
اختفى في الوقت الحالي، لكنه كان منتشرًا في الزمن القديم.
تذكَّري أنه كان يحل ضيفًا لشهور طويلة على تولستوي وفت
ودانيلوفسكي، وكان يذهب في فصول الشتاء لتناول طعام الغداء في
أيام بعينها لدى معارفه، ثم يروح ينقل الشائعاتِ والفتنَ من
بيت إلى بيت. لم يكن يحظى بأهمية خاصة باعتباره
كاتبًا/فيلسوفًا، ولكنه كان ضيفًا مرغوبًا في كل مكان، إذ كان
باستطاعته دائمًا أن يحكي شيئًا ما جديدًا عن تولستوي، الذي
كان يعتبره صديقه. كان ستراخوف يُعلي من قيمة صداقته بتولستوي
بشدة، وانطلاقًا من غروره، فقد يكون من الممكن أن يكون قد رأى
في نفسه «سندًا» لتولستوي. أي إحباط إذن يمكن أن يكون قد أصاب
ستراخوف، عندما وصف تولستوي دستويفسكي، بعد أن عرَف بموته، أنه
كان يعُدُّه «سنده»، وعبَّر عن أسفه الصادق أنه لم يلتقِ به أبدًا.»
٣٧ ومن الجائز أن تولستوي قد عبر في مناسبات كثيرة عن
إعجابه بموهبة دستويفسكي، ولعله كان يتحدث عنه هنا وهناك، وهو
ما كدَّر ستراخوف، وحتى يضع حدًّا لهذا الإعجاب، قرر أن ينال
من دستويفسكي مُطلِقًا هذه الافتراءاتِ والوشايات؛ لكي يلطخ
بها صورة دستويفسكي المتألقة في عيون تولستوي.
وربما كانت لدى ستراخوف فكرة أن ينتقم من دستويفسكي، الذي
وجَّه إليه يومًا ما إهانة؛ لذلك من خلال النَّيل منه أمام
الأجيال القادمة، وحيث إنه، وقد رأى أيَّ تألق يتمتع به صديقه
العبقري، فقد افترض أنه بعد خطابه هذا لتولستوي ومراسلاته
الأخرى، سوف تُنشر جميعًا ولو بعد العديد العديد من السنوات،
وعندها تتحقق فكرته الشريرة.
سوف أُنهي هذا الحادث العرضي الصعب من حياتي، دون أن أتفق مع
هذا الرأي الاستثنائي الذي ذكره لي محدثي، بكلمات وردت في خطاب
ستراخوف تقول: «يمكن لكل الرذائل أن تتواءمَ مع النُّبل في شخص واحد.»
٣٨