التعرُّف على دستويفسكي والزواج منه
١
في الثالث من أكتوبر عام ١٨٦٦م وفي حوالي الساعة السابعة مساءً وصلتُ، كعادتي، إلى ثانوية البنين السادسة، حيث يُلقي ب. م. أولخين، مُدرس الاختزال، محاضرته. لم تكن المحاضرة قد بدأت بعدُ؛ كُنَّا ننتظر الذين تأخروا. جلستُ في مكاني المُعتاد، وما إن هممتُ بترتيب كرَّاساتي حتى اقتربَ مِنِّي أولخين، وبعد أن جلس إلى جواري على المقعد بادَرَني قائلًا:
آنَّا جريجوريفنا، ألا ترغبين في القيام بالعمل بالاختزال؟ لقد عُهِد إليَّ بالبحث عمَّن يقوم بهذا العمل، وقد فكرتُ أنه ربما تُوافِقين على أن تأخُذي على عاتقك هذا الأمر.
أجبت قائلة: أرغب بشدة، إنني أحلم منذ زمنٍ بأن تُتاح لي فرصة العمل. على أنَّ لديَّ شكًّا في كوني أعرف الاختزال بدرجةٍ كافية تُؤهِّلني لتحمُّل هذه المسئولية.
هدَّأ أولخين من روعي. وكانت وجهة نظرِهِ أنَّ العمل المعروض لن يتطلَّب سرعةً كبيرة في الكتابة تتجاوز السرعة التي أمتلكها.
سألتُ وقد أخذ بِيَ الفضول: لدى مَن سأقوم بالاختزال؟
أسرعتُ بالموافقة. كان اسم دستويفسكي معروفًا لي منذُ طفولتي: كان الكاتب المفضل لأبي. وأنا نفسي كنتُ مُعجبةً بأعماله، وكثيرًا ما ذرفتُ الدموع وأنا أقرأ «مذكرات من البيت الميِّت». لم يكن الأمر مجرد التعرُّف على كاتبٍ موهوب، وإنما مُساعدته في عملِهِ هو ما أثارني للغاية؛ فضلًا عن أنه غمرَني بالسرور.
أعطاني أولخين ورقةً صغيرة مَطوية كُتب فيها: «حارة ستوليارني، ناصية شارع مالايا ميشانسكايا، منزل ألونكين، شقة رقم ١٣، السؤال عن دستويفسكي»، ثم أضاف قائلًا:
أرجوكِ الوصول إلى دستويفسكي غدًا، في الحادية عشرة والنصف، «لا قبلَ ذلك ولا بعدَه»، كما حدَّد لي هو نفسه هذا الموعد اليوم. وفي سياق حديثِهِ عبَّر لي أولخين عن رأيه في دستويفسكي وهو ما سأتحدَّث عنه لاحقًا.
ألقى أولخين ببصرِه إلى ساعتِهِ ثم صعد إلى منصَّة الدرس. يجب أن أعترِف أنَّ المحاضرة في هذا اليوم قد ذهبت بالنسبة إلي سُدًى، كنتُ مضطربةً أشدَّ الاضطراب، كما كنت مغمورة بكاملي بإحساسٍ لا يوصف بالسعادة. لقد تحقَّق حلمي المكنون، لقد حصلتُ على عمل! وإذا كان أولخين المتعنِّت الصارم رأى أنني أعرف الاختزال بدرجةٍ كافية وأنني سأكتب بسرعةٍ مُرضية، فإن هذا يعني في الحقيقة أنه لولا ذلك لما قدَّم لي هذا العمل. لقد أسعدَني ذلك بشكلٍ كبير ورفع من قِيمتي أمام نفسي. لقد شعرتُ أنَّني قد بدأتُ طريقًا جديدًا، أستطيع أن أحصل على النقود بجهدي وأن أُصبِحَ مُستقلة. كانت فكرة الاستقلال، بالنسبة لي، ابنة الستينيات، هيَ أغلى وأعز فكرة لدي. ولكن الأكثر بهجةً وأهميةً كان تلك الوظيفة التي قُدِّمَت لي، والتي أتاحت لي العملَ لدى دستويفسكي والتعرُّفَ بهذا الكاتب شخصيًّا.
بعدما عدتُ إلى البيت أخبرتُ أُمي بكلِّ ما حدث تفصيلًا. وقد أسعدَها هذا التوفيق الذي حالَفَني. لقد قضيتُ الليلَ كلَّهُ تقريبًا مُسهَّدة من جراء سعادتي واضطرابي، وبِتُّ لا أتخيَّل سوى دستويفسكي. ولمَّا كنتُ أعتبر أبي معاصرًا لدستويفسكي، فقد رحتُ أفترض أنه رجل عجوز جدًّا، لقد رحتُ أتصوَّره تارة عجوزًا بدينًا أصلع، وتارة طويلًا نحيفًا، ولكنه حتمًا قاسٍ عبوس كما رآه أولخين. أكثر ما كان يُثير فيَّ الاضطراب هو على أيِّ نحو سأحدثه. كان دستويفسكي يبدو لي عالمًا، شديد الذكاء، الأمر الذي كان يُثير فيَّ الخوف عند كل كلمةٍ أنطق بها. ولعلَّ من الأمور التي كانت تُثير كدَري أنني لم أكن أتذكر بدقةٍ أسماء أبطال رواياته وآبائهم، وكنتُ على يقينٍ أنه حتمًا سيأتي على ذِكرهم. وحيث إنني لم ألتقِ في حياتي مُطلقًا، من بين مَن أحاطوني، بأدباء بارزين، لذا كنتُ أتصوَّرُهم كائناتٍ مِن نوع مختلفٍ، على المرء أن يتحدَّث إليهم، إذا لزم الأمر، بأسلوبٍ خاص. عندما أتذكَّر تلك الأوقات أرى كم كنتُ طفلةً صغيرة آنذاك، على الرغم من سنواتِ عُمري العشرين.
٢
الرابع من أكتوبر، في اليوم المشهود للقاء الأول مع زوج المُستقبل، استيقظتُ نشطةً يُخامرني اضطراب لذيذ من جراء فكرة أن اليوم سوف يتحقَّق حلمي الذي ظللتُ طويلًا أُداعبه: أن أتحوَّل من تلميذةٍ ثُم طالبة إلى العمل الذي اخترتُه.
كانت الشقة رقم ١٣ تقع في الدور الثاني. قرعتُ الجرس وعلى الفور فتحت لي الباب خادمة عجوز تضع على كتفَيها شالًا أخضر ذا تربيعات. كنتُ قد أتممتُ منذ فترة غير بعيدة قراءة «الجريمة» الأمر الذي دفعني دون إرادةٍ منِّي لأن أُفكر: أليس هذا الشال هو أصل الشال الجوخ، الذي لعب هذا الدور الكبير في عائلة مارميلادوف.
دعتني الخادمة إلى غرفة تبيَّن أنها غرفة الطعام. كانت مُجهزة على نحوٍ مُتواضعٍ للغاية: وإلى الحائط كان هناك صندوقان مُغطَّيان بالسجاجيد. وإلى جانب النافذة وُضِعَ صوان صغير عليه مِفرش أبيض مُطرَّز. وإلى جانب الحائط الآخر أريكة عُلِّقت فوقها ساعة حائط. لاحظتُ بسرورٍ أنها تُشير في هذه اللحظة إلى الحادية عشرة والنصف تمامًا.
دعتني الخادمة للجلوس بعد أن أخبرَتْني بأن السيد قادم الآن. وبعد دقيقتَين بالفعل ظهر فيودور ميخايلوفيتش، الذي دعاني للدخول إلى غرفة المكتب، ثم غادرها، وكما عرفتُ فيما بعد، ليأمُر بتقديم الشاي لنا.
غرفة مكتب دستويفسكي هي غرفة كبيرة ذات نافذتَين، بدت في هذا اليوم المُشمس وقد شملها ضوء ساطع، ولكنها في الأوقات الأخرى تترك في النفْس انطباعًا ثقيلًا، فهي مُعتِمة يُخيِّم عليها الصمت، يشعر المرء فيها بالانقباض من جرَّاء عتمتِها وصمتِها.
وفي الركن البعيد من الغرفة تُوجَد أريكة وثيرة مُغطاة بقماشٍ بُنِّي قديم وُضِعت أمامها منضدة مستديرة عليها مِفرش من الجوخ الأحمر. وعلى المنضدة أباجورة وألبومان أو ثلاثة؛ وحولها صُفَّت بعض الكراسي وفوتيه. وفوق الأريكة عُلقت صورة لامرأةٍ نحيفة للغاية، في إطارٍ من خشب الجوز، ترتدي ثوبًا أسود وعلى رأسها قلنسوة نسائية خفيفة من نفس اللون، خمَّنتُ أنها «ربما تكون زوجة دستويفسكي» ولم أكن أعلَم آنذاك أيَّ شيء عن وضعِهِ العائلي.
بين النافِذتَين عُلقت مرآة كبيرة ذات إطارٍ أسود. ولمَّا كانت المسافة بين النافذتَين أكبر بشكلٍ ملحوظ من المرآة، فقد وُضِعَت أقرب إلى النافذة اليُمني لتظهر بشكلٍ ملائم، ولكنها كانت تبدو قبيحة للغاية. كانت النوافذ مُزينة بآنيتَين صينيتَين كبيرتَين للزهور رائعتَي الشكل. وبامتداد الحائط وُضِعت أريكة كبيرة من جلد الماعز باللَّون الأخضر، وبالقُرب منها منضدة للكتابة، كنتُ فيما بعد أجلس إليها عندما كان فيودور ميخايلوفيتش يُملي عليَّ روايته. كان أثاث غرفة المكتب متواضعًا للغاية يُشبه الأثاث الذي كنتُ أراه في بيوت العائلات الرقيقة الحال.
جلستُ وقد أرهفتُ السمع. بدا لي أنني سوف أستمع الآن إلى صياح أطفال، أو ضجيج طبلٍ يقرَع عليه طفل، أو سينفتح الباب لتدخُل إلى غرفة المكتب هذه المرأة النحيلة صاحبة الصورة التي رأيتُها.
وأخيرًا دخل فيودور ميخايلوفيتش وسألني، بعد أن اعتذر عن تأخُّرِه، قائلًا: هل تعمَلِين بالاختزال منذ فترة طويلة؟
– منذ نصف عامٍ لا أكثر.
– وهل لدى مُعلمك كثيرٌ من التلاميذ؟
– في البداية بلغ عددُ الراغبين في الدراسة ما يزيدُ على مائة وخمسين شخصًا،
والآن تبقَّى منهم حوالي خمسة وعشرين.
– ولماذا أصبح العدد قليلًا إلى هذا الحد؟
– يعتقد الكثيرون أن الاختزال عمَل سهل التعلُّم، وعندما يرَون أنهم بعد بضعة أيامٍ لا يتحصَّلون على شيء، يتركون الدراسة.
– هذا ما يحدُث عندنا في كل أمر جديد، قال فيودور ميخايلوفيتش، يبدءون بكل حماس، ثم ما يلبث حماسهم أن يفتُر بضعة أيام فيتركون الأمر برمَّته. ينتظرون فإذا بالعمل يتطلَّب منهم جهدًا، ومَن يرغب الآن في بذل الجهد؟!
أضفت هذه الازدواجية على نظرة دستويفسكي شيئًا من الغموض في التعبير، بدا لي وجهُ دستويفسكي الشاحب المريض مألوفًا للغاية، ولعلَّ مرجِع ذلك أنني شاهدتُ صورًا له من قبل. كان يرتدي معطفًا قديما للغاية من الجوخ الأزرق، ولكن قميصه كان ناصِع البياض (الياقة والأساور).
دخلت الخادمة بعد خمس دقائق حاملةً كوبَين من الشاي الثقيل إلى درجة أنَّ لونَهُ كان أسود تقريبًا. وعلى الصينية وُضِعَت قطعتان من الخبز. تناولتُ كوبًا، لم أكن أرغب في احتساء الشاي؛ بالإضافة إلى أن الجوَّ كان حارًّا في الغرفة، ولكنِّي بدأتُ في تناوله حتى لا أبدو مُتكلفة، جلستُ ناحية الحائط المواجه للمنضدة الصغيرة، بينما راح دستويفسكي يجلس تارةً إلى مكتبه، ثم ما يلبث أن يقوم ليذرع الغرفة وهو يُدخن، وكثيرًا ما كان يُطفئ سيجارته ليشرع في إشعال أخرى، وقد عرض عليَّ التدخين فرفضتُ فقال لي: لعلك ترفضين تأدبًا؟
عندئذٍ سارعت بالتأكيد على أنني لا أُدخِّن؛ فضلًا عن أنني لا أُحب رؤية السيدات وهنَّ يدخنَّ.
اتسمَّ حديثنا بالصراحة، زِدْ على ذلك أن دستويفسكي انتقل بالحديث إلى موضوعٍ جديد. كان يبدو مُنكسرًا. افتتح حديثه بعبارةٍ أعلن فيها أنه مريض بالصرع، وأنه أُصيب بنوبةٍ منذ عدة أيام. وقد أدهشتني هذه الصراحة، ثم تحدث دستويفسكي عن عملِنا المُنتَظر على نحوٍ مُبهَم قائلًا: سنرى ماذا سنفعل في هذا الشأن، سنُجرِّب، سنرى، هل يمكن ذلك؟
بدأت أتصوَّر أن عملنا معًا على الأرجح لن تقوم له قائمة. حتى إنه قد جال بخاطري أن دستويفسكي يُساوِرُه الشك في إمكانية ومُلاءمة هذه الطريقة لعملِه، وربما بات مُستعدًّا للتخلِّي عن العمل برمَّته. ولكي أُسهِّل عليه أمر اتخاذه هذا القرار قُلت له:
حسنًا، لنجرب، ولكن، إذا رأيتَ أن مُساعَدَتي لن تساعد على سير العمل على نحوٍ مُلائم لك فأخبرني على الفور، وكنْ على يقينٍ أنني لن أتذمَّر إذا لم أَقُم بالعمل.
أراد دستويفسكي أن يُملي عليَّ نصًّا من صحيفة «البشير الروسي» وطلب منِّي أن أكتب ما اختزلتُه بالطريقة المُعتادة. بدأ في الإملاء بسرعةٍ كبيرة ولكنني استوقفتُه. وطلبتُ منه أن يقرأ بالسرعة التي نَستخدِمُها في الحديث العادي.
أخذتُ بعد ذلك في ترجمة ما دونتُهُ اختزالًا إلى اللغة العادية وقد فعلتُ ذلك بسرعةٍ فائقة. ولكن دستويفسكي تَعجَّلني وانزعج من إعادة الكتابة ببطءٍ شديد.
هدَّأت من روعِهِ قائلة: سوف أُعيد كتابة ما أمليتَهُ عليَّ لا هنا وإنما في البيت. أليس أمر الوقت الذي أستغرقَهُ في ذلك سيَّان بالنسبة لك؟
عندما قام دستويفسكي بمراجعة ما كتبتُ وجد أنني أسقطتُ نقطةً هنا، وأنني وضعتُ علامة تفخيم هناك بشكلٍ غير واضح. وقد أبدى هذه الملاحظات بشكلٍ جاد. كان واضحًا أنه مُضطرب وغير قادر على جمع شتات أفكاره، فتارةً كان يسألني عن اسمي. ثم ينساه على الفور، ثم تارةً يَرُوح يذرع الغرفة جيئةً وذهابًا لمدةٍ طويلة وكأنه قد نسِيَ وجودي كلية. وكنتُ عندئذٍ أجلس دونما حراك خشية أن يقطع عليه ذلك استغراقَهُ في التفكير.
وأخيرًا أخبرني دستويفسكي أن حالته لا تسمح إطلاقًا بأن يُملي عليَّ شيئًا، وسألني إن كان بإمكاني الحضور إليه اليوم في الساعة الثامنة وعندئذٍ سيبدأ في إملائي الرواية. لم يكنِ الحضور ثانيةً يُناسبني بالمرة، ولكنِّي وافقتُ حتى لا يتأجَّل العمل.
قال لي دستويفسكي وهو يُودِّعني: لقد أسعدَني أن أولخين اقترح عليَّ إرسال آنسة مُختزِلة وليس رجلًا، أتعرفين لماذا؟
– لماذا؟
– لأن الرجال، في الأغلب، يُسرِفون في الشراب، وأنت آمُل ألا تكوني مِمَّن يشربون.
كان الأمر مُضحكًا بالنسبة لي، ولكني كتمتُ ضحكتي فأجبتُ بجدية.
– أنا يقينًا ممَّن لا يشربون. كن على ثقة من ذلك.
٣
غادرتُ بيت دستويفسكي في حالةٍ مِن الحزن. لم يُعجِبْني، وترك لديَّ انطباعًا ثقيلًا. فكرتُ أنَّني على الأرجح لن أنجح في العمل معه، وشعرتُ أنَّ أحلامي في الاستقلال مُهدَّدة بأن تذهب أدراج الرياح … وكان أكثر ما آلَمَني هو تلك السعادة التي غمرَتْ أُمِّي ليلة أمس عندما علِمَتْ بحصولي على أول عملٍ في حياتي.
كانت الساعة حوالَي الثانية، عندما تركتُ دستويفسكي. كان بيتُه بعيدًا، فقد كنتُ أسكن بالقرب من سمولني في شارع كوسترومسكايا، في بيت أُمِّي آنَّا نيكولايفنا سنيتكينا. قررتُ الذهاب إلى بعض أقاربي، الذين يعيشون في حارة فونارني فأتناولُ معهم طعام الغداء ثُم أعود إلى دستويفسكي.
أبدى أقاربي اهتمامًا كبيرًا بمعارفي الجُدد، وراحوا يسألون عن كل كبيرةٍ وصغيرة تخصُّ دستويفسكي. مرَّ الوقت سريعًا في الحديث، وما إن اقتربَتِ الساعة الثامنة حتى كانت خُطاي تقودُني إلى منزل آلونكين، وعندما فتحَتْ لي الخادمة الباب سألتُها عن الاسم الأول لسيدها، وكنتُ قد عرفت مِن توقِيعِهِ على رواياته أن اسمَه فيودور، ولكن لم أعرف اسم والده. مرة أخرى طلبَتْ منِّي فيدوسيا (وهذا هو اسم الخادمة) الانتظار في غرفة الطعام ثم ذهبت لتُبلِغَ عن وصولي، وعندما عادت دعَتْني للدخول إلى غرفة المكتب. تبادلتُ التحية مع فيودور ميخايلوفيتش وجلستُ في المكان السابق بالقُرب من المنضدة الصغيرة، لكنَّ ذلك لم يرُق لدستويفسكي ودعاني للانتقال للجلوس إلى مكتبِهِ مؤكدًا أنه سيكون أكثر راحةً لي للكتابة. وأعترف أنني شعرتُ بإغراءٍ لا حدود له لدعوتي للعمل على المكتب الذي كتبَ عليه توًّا عملًا رائعًا مِثل رواية «الجريمة والعقاب».
انتقلتُ للجلوس، بينما شغل فيودور ميخايلوفيتش مكاني بالقُرب من المنضدة الصغيرة. ومرةً أخرى راح يَستفسِر عن اسمي وكُنيتي ثم سألني إن كنتُ أَمتُّ بصِلةِ قرابة لهذا الكاتب الشابِّ الموهوب سنيتكين الذي وافَتْهُ المنيَّةُ منذُ زمنٍ قريب، فذكرتُ له أن الأمر لا يعدو كونَهُ تَشابُهًا في الأسماء، فراح يسألني عن أفراد أُسرتي وأين تعلمتُ وما الذي دفعَني للعمل بالاختزال وهلمَّ جرًّا.
أجبت على كل أسئلته بوضوح وجديَّة وبخشونةٍ أحيانًا، كما أكد لي ذلك فيودور ميخايلوفيتش فيما بعد. كنتُ قد قررتُ أنه في حالة ما إذا اضطررتُ للعمل بالاختزال في بيوتٍ خاصة، أن أُحدِّدَ علاقتي منذ الدقيقة الأولى بيني وبين من لا أعرفهم جيدًا على نحوٍ عملي، مع تجنُّب رفع الكُلفة حتى لا تدفع الرغبة أحدًا مِن الناس أن يُوجِّهَ إليَّ كلمةً زائدة أو وقحة، حتى إنني لا أذكُر أنَّني ابتسمتُ مرةً واحدة وأنا أتحدَّث مع فيودور ميخايلوفيتش، وقد أعجبَتْهُ جِدِّيَّتي للغاية. وقد اعترفَ لي فيما بعدُ أنهُ كان يشعر بالسرور إلى حدِّ الدهشة من قُدرتي على التماسُك، ولِمَا كنتُ أتمتَّع به من رزانة. كان دستويفسكي مُعتادًا على مقابلة العدمِيِّين في المجتمع ورؤية سلوكهم الذي كان يبعث بالاستياء في نفسه، وفي الوقت نفسه كان سعيدًا أن يجِدَ في شخصيتي تناقضًا تامًّا مع النموذج السائد للفتيات الشابات آنذاك.
أثناء ذلك كانت فيدوسيا تُعِدُّ الشاي في غرفة المائدة ثم أحضرَتْ لنا كوبَين وكعكتَين وليمونًا. مرة أخرى دعانى فيودور ميخايلوفيتش للتدخين ثم قدَّم لي ثمار الكُمثرى.
بعد تناول الشاي اكتسب حديثُنا منحًى أكثر صراحة وودًّا، وقد خُيل لي فجأة أنني أعرف دستويفسكي منذُ زمنٍ بعيد؛ مما جعلني أشعر بالارتياح والسكينة.
كان يشعر أنه في أمسِّ الحاجة إلى أُناسٍ يُشاركونه أفكاره، أناس يَفترِض فيهم الطيبة والاهتمام. لقد أعجبَتْني الصراحة التي أبداها نحوي في اليوم الأول لمَعرفتي به وتركَتْ لديَّ انطباعًا رائعًا.
كان الحديث ينتقل بنا من موضوعٍ لآخر، ونحن لم نبدأ العمل بعد، وقد أثار هذا الأمر القلقَ في نفسي، تأخَّر الوقت، وعليَّ أن أقطع مسافةً طويلةً للعودة. كنتُ قد وعدتُ أُمِّي أن أعود إلى البيت مباشرةً من عند دستويفسكي. والآن أحسستُ بالخوف لكونِها ستشعُر بالقلق نحوي. تصورتُ أنه قد يكون من غير المناسِب أن أُذكِّر فيودور ميخايلوفيتش بالهدف الذي جئتُ من أجله، وكم كنتُ سعيدة عندما تذكَّرَ هو نفسه ذلك واقترح عليَّ أن نبدأ الإملاء. تأهبتُ للعمل، بينما راح فيودور ميخايلوفيتش يذرع الغرفةَ بخطواتٍ سريعة جدًّا، بشكلٍ عرَضي من الباب إلى المدفأة! بالإضافة إلى ذلك فإنَّهُ ما أن يَصِل إلى المدفأة حتى يَدُقَّ عليها مرَّتَين، وكان أثناء ذلك يُدخن، مستبدلًا سيجارةً جديدة بسيجارتِهِ التي لم يُكمِل تدخينها، بعد أن يضعها في المِطفأة التي كانت موضوعةً على طرف مكتبه.
– نعم، فيودور ميخايلوفيتش، لقد أمليتَ عليَّ هذه الكلمة.
– مُستحيل.
– عفوًا، وهل هناك مدينة في روايتك بهذا الاسم؟
– نعم، الحدث يدور في مدينة للقمار أسمَيتُها روليتنبورج.
إذا كانت الكلمة موجودة فإنك لا شكَّ أمليتَها عليَّ؛ إذ مِن أين لي أن آتي بها؟
هنا تدارَك فيودور ميخايلوفيتش الأمر قائلًا: أنتِ على حق، لقد اختلط الأمر علي.
كنتُ في غاية السرور أنَّ سوء الفهم قد زال. أظنُّ أن فيودور ميخايلوفيتش كان غارقًا بشدةٍ في أفكاره، وأن هذا الخطأ قد وقع، ربما، نتيجةً لإرهاقه الشديد لاستمراره في العمل على مدى يومٍ كامل. بالإضافة إلى ذلك فقد أحسَّ هو نفسُه بذلك، ولهذا أسرع يقول إنه ليس بإمكانه أن يُواصِل الإملاء أكثر من ذلك، وطلب منِّي أن أُحضِر ما أملاه غدًا في الثانية عشرة، وقد وعدْتُهُ أن أُلبِّي طلبه.
دقَّت الحادية عشرة، وعندها تأهبتُ للذهاب، ولمَّا علم فيودور ميخايلوفيتش أنَّني أعيش في بيسكي قال إنه لم يتسنَّ له الذهاب مرةً واحدة إلى هذا الجزء من المدينة، وأنه لا يعلَم أين يقع هذا الحي. فإذا كان بعيدًا فهو على استعدادٍ أن يُرسِل خادمه لتوصيلي، وقد رفضتُ بالطبع فأوصلني فيودور ميخايلوفيتش إلى الباب ودعا فيدوسيا لتُضيء لي السُّلَّم.
عندما عدتُ إلى المنزل أخبرتُ أُمِّي وقد غمرتني السعادة كيف كان دستويفسكي صريحًا معي وفي غاية الطيبة، ولكنني، وحتى لا أُسبِّب لها أي إحساسٍ بالحزن، أخفيتُ عنها هذا الإحساس الثقيل بالهمِّ والذي لم أشعر به في حياتي من قبل، والذي ترك أثرَه في نفسي من جرَّاء كل هذه الأمور التي مرَّت بي اليوم. لقد كان الانطباع الذي ترسَّخ لدي، انطباعًا مؤلمًا تمامًا. فللمرةِ الأولى في حياتي أرى إنسانًا ذكيًّا، دمِثًا، ولكنه تعيس، إنسانًا هجره الجميع، ومِن ثَمَّ تولَّد في قلبي هذا الإحساس بالتعاطُف العميق والأسى البالِغ …
كنتُ مرهقةً للغاية فأسرعتُ على الفور إلى فراشي وطلبتُ أن يَتمَّ إيقاظي مُبكرًا حتى أتمكَّن من إعادة كلِّ ما أُملِيَ عليَّ وتسليمه لفيودور ميخايلوفيتش في الموعد المُحدَّد.
٤
استيقظتُ مبكرةً في اليوم التالي وعلى الفور جلستُ أعمل. كان ما لديَّ من إملاءٍ قليلًا نِسبيًّا، ولكنَّني أردتُ أن أُعيد كتابتَه بوضوح وجمال أكثر، وقد استغرق منِّي هذا وقتًا أطول، وعلى الرغم من أنَّني أسرعتُ بعد ذلك في الذهاب، فقد تأخَّرْتُ عن موعدي نصف ساعة كاملة.
وجدتُ فيودور ميخايلوفيتش في حالةٍ من الاضطراب الشديد.
قال لي مُرحِّبًا: لقد بدأتُ أفكر في أنَّ العمل لديَّ قد بدا لكِ صعبًا، وأنك لن تأتي بعد ذلك مُطلقًا. وفي الوقت نفسِهِ فأنا لم أُسجِّل عنوانك وخشيتُ أن أفقد ما أمليتُه عليك أمس.
أعربتُ عن اعتذاري بقولي: أنا في غاية الخجل لأنني تأخرتُ على هذا النحو، ولكنني أؤكد لك أنه لو اضطررتُ لرفض العمل لكنتُ قد أحطتك عِلمًا، بطبيعة الحال، ولكنتُ قد أعدتُ لك أصلَ ما أمليتَني.
رحت أستفسِر منه عن كل شيءٍ تفصيلًا، بينما راح فيودور ميخايلوفيتش يشرح لي بكلِّ صراحة كيف ساقوه إلى هذه الورطة الفظيعة.
بلغت الديون العاجلة ثلاثة آلاف روبل، أخذ دستويفسكي في البحث عن أموالٍ هنا وهناك دون أن يصِل إلى نتيجةٍ مُرضية. وعندما باءت كل محاولات إقناع الدائنين بالتريُّث بالفشل، ووقع فيودور ميخايلوفيتش في براثن اليأس، ظهر له فجأة فيودور ستيلوفسكي ومعه اقتراح بشراء حقِّ نشر أعماله الكاملة في ثلاثة مجلدات مقابل ثلاثة آلاف روبل؛ فضلًا عن ذلك، كان فيودور ميخايلوفيتش مُلزَمًا أن يكتب روايةً جديدة أيضًا في إطار هذا المبلغ.
كان موقف فيودور ميخايلوفيتش بالِغ الحرج، ومِن ثَم وافق على كافة شروط العقد، حتى يتجنَّب، فحسب، تهديده بالسجن.
في عام ١٨٦٦م كان فيودور ميخايلوفيتش غارقًا في العمل في رواية «الجريمة والعقاب»، وكانت لدَيه الرغبة في إنهائها بحيث تخرج في صورةٍ فنية رائعة. تُرى من أين لهذا الرجل المريض القدرة على كتابة عددٍ آخَرَ من المَلازِم لروايةٍ جديدة؟
عندئذ راح أصدقاؤه ينصحونه بطلب العون من مُختزل. وقد تذكَّر أ. ب. ميليوكوف أنَّ من بين معارفه مدرس للاختزال اسمه ب. م. أولخين، ذهب إليه ميليوكوف وطلب منه مقابلة فيودور ميخايلوفيتش الذي على الرغم من الشكوك التي ساورته بشأن نجاح هذه الطريقة في العمل معه، فقد قرَّر اللجوء إلى مساعَدَة مُختزل نظرًا لاقتراب الموعد.
وعلى الرغم من قلة خبرتي آنذاك بالناس، فإن سلوك ستيلوفسكي قد أثار حفيظتي بشدة.
قدَّموا لنا الشاي، وشرع فيودور ميخايلوفيتش في الإملاء. كان من الواضح أن من الصعب عليه الاندماج في العمل، كان كثيرًا ما يتوقف، ويتأمَّل، ثم يطلب أن أقرأ عليه ما أملاه، وبعد ساعةٍ من العمل أعلن أنه مُتعَب وأنه يرغب في أن ينال قدرًا من الراحة.
بدأنا في تبادُل الحديث، كما فعلنا بالأمس. كان فيودور ميخايلوفيتش قلقًا وراح ينتقِل من موضوعٍ إلى آخر، ثم سألني من جديد عن اسمي لينساه بعد دقيقة. مرةً مرَّتَين عاد ليدعوني للتدخين على الرغم من أنه سمعني أقول له إنني لا أدخن.
رحت أسأله عن كُتَّابنا فانتعش وراح يُجيب على أسئلتي وبدا كأنه ابتعد عن الأفكار التي كانت تُلحُّ عليه بشدة. أخذ يتحدث في هدوء بل وبلهجة يشوبُها المرح. وإليكم بعض ما تذكرته من هذا الحديث.
عدنا للعمل بعد استراحةٍ قصيرة وعاد دستويفسكي من جديدٍ لقلقه واضطرابه. كان من الواضح أن العمل لا يسير معه سيرًا حسنًا. لعلِّي أفسر ذلك بعدم تعوُّده على إملاء عمله على شخصٍ لا يعرفه بعدُ معرفة جيدة.
في حوالي الساعة الرابعة عزمتُ على الذهاب بعد أن وعدتُ بالحضور غدًا في الثانية عشرة بصحبة ما تملَّيتُهُ. ولدى مُغادرتي سلَّمني فيودور ميخايلوفيتش رزمة من ورق البريد السميك، سطوره تظهر بالكاد، كان هذا هو الورق الذي يستخدِمه فيودور ميخايلوفيتش عادة في الكتابة. وقد أشار إلى الأماكن التي ينبغي أن أُحدِّد عندها الهوامش.
٥
على هذا النحو بدأ واستمر عملنا. كنت أحضر إلى فيودور ميخايلوفيتش في حوالي الثانية عشرة لأعمل حتى الرابعة. وفي خلال هذه الفترة من الزمن كان يُملي عليَّ ثلاث مرات، تصِل المرة إلى ما يزيد قليلًا عن نصف الساعة، وبين الإملاء والآخر كنا نتناول الشاي ونتبادل الحديث. أصبحتُ أُلاحظ بسرور أن فيودور ميخايلوفيتش بدأ في الاعتياد على الطريقة الجديدة في العمل، وفي كل مرة كنتُ أحضر فيها كان يزداد هدوءًا. أصبح ذلك ملحوظًا على وجه الخصوص منذُ أصبح باستطاعتي أن أُحدِّد بدقة عدد الصفحات التي أكتُبها من الإملاء في مقابل عدد الصفحات في طبعة ستيلوفسكي. كانت كمية الصفحات التي تُضاف إلى العمل تجد استحسانًا كبيرًا من جانب فيودور ميخايلوفيتش وتبعث في نفسه السرور. كان كثيرًا ما يسألني: كم صفحة كتبنا بالأمس؟ وكم عدد الصفحات التي كتبناها إجمالًا؟ ما رأيك؟ هل سننجح في الانتهاء في الموعد المحدد؟»
في سياق حديثه الودِّي معي، كان، فيودور ميخايلوفيتش يكشف أمامي صورةً حزينةً ما من صور حياته. كان الأسى الشديد يتسرَّب إلى قلبي دون إرادة منِّي، عندما كان يقصُّ عليَّ ظروفه الصعبة والتي لم يستطع، كما يبدو، الخلاص منها مُطلقًا.
في البداية بدا لي أمرًا غريبًا ألا أرى أحدًا من أهل بيته. لم أكن أعرف مِمَّن تتكوَّن عائلته وأين تُوجَد الآن. فرد واحد من العائلة قابلتُه، ربما، في اليوم الرابع من وصولي. فبعد أن أنهيتُ عملي غادرت البيت، وإذا بفتًى في مُقتَبل العمر يستوقفني، رأيت فيه نفس الفتى الذي قابلتُه في بهو الشقة عند زيارتي الأولى لفيودور ميخايلوفيتش. عندما أمعنتُ النظر إليه عن كثب وجدتُهُ أقلَّ وسامةً مما بدا عليه عن بُعد. كان أسمر اللون، يميل وجهه للشحوب. عيناه سوداوان، بياضهما أصفر، كما أنَّ أسنانه كانت صفراء من أثر التدخين.
سألني برعونةٍ دون تكلُّف: ألا تعرفيننى؟ لقد رأيتك عند بابا. لم أشأ الدخول أثناء عملك، يدفعني الفضول أن أعرف حكاية الاختزال هذه، وبخاصة أنني سأبدأ في تعلُّمه بعد أيام. اسمحي لي.
أخذ من يدي الحقيبة بوقاحةٍ وفتحها وراح يتفحَّص ما بها من نصوص في الشارع مباشرة. ارتبكتُ بسبب هذه الوقاحة، حتى إنني لم أتمكن من الاعتراض.
شيءٌ مُضحك، مدَّ يده بإهمال وهو يعيد الحقيبة. قلتُ في نفسي «هل يمكن لإنسانٍ عطوف، دمث الخلق، مثل فيودور ميخايلوفيتش، أن يكون لديه مثل هذا الابن السيئ الخلق؟»
يومًا بعدَ الآخر راح دستويفسكي يُعاملني بلطفٍ ومودَّةٍ أكثر فأكثر. وكان كثيرًا ما يُسمِّيني ﺑ «اليمامة» (أحَبُّ أسماء التدليل إليه)، «آنَّا جريجوريفنا الطيبة»، «عزيزتي»، أما أنا فكنتُ أُرجِع هذه الكلمات لروح التسامح التي كان يُبدِيها تجاهي باعتباري عذراء في ميعة الصبا. وكان أكثر ما يُسعِدني هو أنني أُخفِّف من الجهد الذي يبذله، وكنتُ أرى كيف أن تأكيداتي أنَّ العمل يسير بنجاح وأن باستطاعته إنهاء الرواية في موعدها تُدخِل على قلبه السرور وترفع من روحه المعنوية. كنتُ فخورة للغاية، بيني وبين نفسي، أنني لا أساعد كاتبي المفضل فحسب، وإنما أؤثِّر إيجابًا على مزاجه. كل ذلك رفع من قدري أمام نفسي.
كانت كل حكايات فيودور ميخايلوفيتش مطبوعة بطابع الحزن، حتى إنني لم أتمالك نفسي ذات مرة وسألته: فيودور ميخايلوفيتش، لماذا لا تتذكر سوى الأحداث التعيسة؟ الأفضل أن تحكي لي عن الأوقات التي كنتَ فيها سعيدًا.
ذات مرة، وكان فيودور ميخايلوفيتش يمر بحالةٍ نفسية سيئة، إذا به يُطلعني أنه قد بات عليه الآن أن يسافر إلى الخارج، وأن أمامه ثلاث طرق: إما أن يتَّجه شرقًا، إلى القسطنطينية والقدس، وربما بقي هناك إلى الأبد؛ أو يذهب للخارج لينغمس في لعب القمار، الذي يُمكن أن يستولي على مشاعره كلية؛ وأخيرًا، أن يتزوج ثانية وأن يبحث عن السعادة والسرور والأسرة. كان التوصُّل لقرار في هذه القضايا، التي يَجب أن تُغير حياته الفاشلة رأسًا على عقب، هو الشغل الشاغل لفيودور ميخايلوفيتش، وعندما وجدَني مُهتمةً بأمره على نحوٍ ودِّي طلب منِّي أن أُقدِّم له النصح.
وهنا سألني فيودور ميخايلوفيتش:
هل تظنِّين أن بإمكاني الزواج ثانية؟ وأن هناك من تقبل الزواج منِّي؟ وأي زوجة عليَّ أن أختار: الذكية أم الطيبة؟
الذكية بالطبع.
أبدًا، إذا كان عليَّ أن أختار، فسأختار الطيبة التي تحنو عليَّ وتُحبُّني.
وفي سياق حديثِه عن زواجه المُفترَض، سألني فيودور ميخايلوفيتش لماذا لم أتزوج؟ أجبتُه بأن هناك اثنين قد تقدَّما لخطبتي، وأن كليهما رائعان، وأنني أُكِنُّ لهما كل مشاعر الاحترام، ولكنني لا أشعر بعاطفة الحُب نحو أيٍّ منهما، وأنني أودُّ أن أتزوج عن حب.
حتمًا عن حُب، أيَّدني فيودور ميخايلوفيتش بحماس قائلًا:
الاحترام وحدَه لا يصنع زواجًا سعيدًا.
٦
ذات يومٍ في منتصف شهر أكتوبر، وأثناء عملِنا عند مدخل باب غرفة المكتب، إذا بأبوللون مايكوف يظهر فجأة. كنتُ قد رأيتُ صوَرَهُ من قبل، ولهذا عرفتُه على الفور. داعب فيودور ميخايلوفيتش بقوله: إذن فأنت تعيش وفقًا للتقاليد القديمة. باب الشقة مفتوح على السُّلَّم، والخدم لا أثر لهم وكأنهم غادروا البيت!
كان من الواضح أن فيودور ميخايلوفيتش قد سُرَّ لحضور مايكوف فسارع لتعريف كلٍّ مِنَّا بالآخر، مُقدمًا إيَّايَ له باعتباري «مساعدته الغيورة»، مما أدخل السعادة على قلبي. وما إن سمع أبوللون نيكولايفيتش باسم عائلتي حتى استفسر منِّي إن كنتُ أمتُّ بصِلةِ قرابة بالكاتب سنيتكين، الذي تُوفِّي منذ أمدٍ قريب (وهو السؤال الذي اعتدتُ سماعه كلَّما قابلتُ أحدًا من الكُتَّاب). سرعان ما عبَّر مايكوف عن رغبته في الرحيل مشيرًا إلى أنه لا يريد أن يتسبب في تعطيل عملِنا. اقترحتُ أن نأخذ قسطًا من الراحة، وعندئذٍ قاده فيودور ميخايلوفيتش إلى حجرةٍ جانبية وراحا يتبادلان الحديث حوالَي عشرين دقيقة، بينما رحتُ أُعيد كتابة ما أملى عليَّ.
عاد مايكوف إلى غرفة المكتب ليودعني ثم طلب من فيودور ميخايلوفيتش أن يُملي عليَّ شيئًا. فأجابه إلى طلبِه وقام بإملائي نصف صفحةٍ من الرواية، وبعدها مباشرة قمتُ بقراءة ما كتبتُه جهرًا! راح مايكوف يتفحص باهتمامٍ النصَّ المُختزَل مُكرِّرًا:
لا أكاد أفهم شيئًا هنا بالمرة!
أعجبني أبوللون نيكولايفيتش كثيرًا، وكنتُ قد أحببتُه قبل ذلك بصفته شاعرًا، أما مديح فيودور ميخايلوفيتش ووصفه له دائمًا بالإنسان الطيب الرائع فقد أكَّد على انطباعي الجيد عنه.
كلما مرَّ الوقت، اندمج دستويفسكي في العمل، لم يعُد يُملي عليَّ شفاهة وهو يؤلف مباشرة، وإنما راح يعمل ليلًا ثم يُملي عليَّ من مخطوطته. كان كثيرًا ما ينجح في كتابة العديد من الصفحات، إلى حدِّ أنَّني كنتُ أُضطر للجلوس إلى أن يتجاوز الوقت منتصف الليل في إعادة كتابة ما أملاه، ثم أُعلن عليه في اليوم التالي بنبرة الانتصار عددَ الأوراق التي أُضيفت! كم كانت سعادتي عندما كنتُ أرى ابتسامة السرور على وجه فيودور ميخايلوفيتش استجابةً لتأكيداتي أن العمل يمضي بنجاحٍ وأنه سينتهي، بلا أدنى شك، في الموعد المحدد.
اندمجنا كلانا في حياة أبطال الرواية الجديدة، وأصبح لي، مثلما أصبح لفيودور ميخايلوفيتش، أصدقاء منهم وأعداء. حازت الجدة، التي خسرت ثروتها على إعجابي، كما حاز عليه أيضًا مستر أستلي. أما احتقاري فكان من نصيب بالينا وبطل الرواية نفسه والذي لم أستطع العفوَ عنه لقلَّةِ عزيمته وولعِهِ الفائق بالمقامرة.
أحيانًا ما كنت أعجب لنفسي على جرأتي في التعبير عن وجهاتِ نظري في الرواية، لكنَّ أكثر ما كان يُدهشني هو هذا القدر الكبير من التسامُح الذي كان يستمع به كاتبٌ موهوب إلى ملاحظاتي وآرائي الطفولية تقريبًا. بعد هذه الأسابيع الثلاثة من العمل المُشترك تراجعَتِ اهتماماتي القديمة كلها لتُصبِح اهتماماتٍ ثانوية. لم أعُد أتردَّد على محاضرات الاختزال، وكان ذلك بموافقة أولخين، ولم أعد أذهب لزيارة أو رؤية معارفي إلا نادرًا، وانصبَّ جلُّ اهتمامي على العمل وعلى تلك المناقشات الرفيعة في أعلى صورها، والتي كانت تدور أثناء أوقات الراحة التي كانت تتخلَّل الإملاء. رحتُ دون إرادةٍ منِّي أعقد المقارنة بين فيودور ميخايلوفيتش وغيره من الشباب الذين تصادف أنِ التقيتُ بهم في المحيط الذي أعيش فيه. وكم بدَتْ لي أحاديثهم عندئذٍ فارغة وتافهة مقارنة بتلك الأحاديث الجديدة والآراء الأصيلة لكاتبي المُفضَّل.
كنتُ أتركه وقد طبعت أفكاره الجديدة أثرَها عليَّ، كان وجودي في البيت يبعث في نفسي الملل، كنتُ أجلس به في انتظار لقائي في الغد بفيودور ميخايلوفيتش، وكانت مشاعر الحزن تنتابني كلَّما اقترب العمل من نهايته، واكتنفني شعور بأن صداقتنا قد آنَ لها أن تنتهي. وكم أدهشني وأسعدني في الوقت نفسِه أن فيودور ميخايلوفيتش قد عبَّر لي عن الفكرة التي جاش بها صدري وكانت وراء قلقي.
أجبتُهُ وأنا في حالةٍ من الإحباط: حسنًا، فيودور ميخايلوفيتش «مصير الحي يتلاقى». على أية حال فليس من الصعب أن يلتقي الناس بعضهم ببعض.
– ولكن أين؟
– في أي مكان، في مجتمع، في مسرح، في حفل …
– تعرفين أنني لا أرتاد المجتمعات أو المسارح إلا نادرًا. ثم ما جدوى هذه اللقاءات إذا لم يستطع المرء أن يقول أحيانًا ما يريد. لماذا لا تدعينني لزيارة أُسرتك.
– تفضل، سوف يسرُّنا حضورك، لكنِّي أخشي أن نكون أنا وأمي صحبة غير مُسلِّية لك.
– متى أستطيع الحضور؟
– سوف نتَّفِق على ذلك عندما نُنهي العمل، الأمر الأساسي بالنسبة لنا الآن هو إنهاء روايتك.
اقترب الأول من نوفمبر، موعد تسليم الرواية لستيلوفسكي، وهنا ظهر الخوف من أن يُفكر هذا الرجل في خدعةٍ يستخدمها لرفض تسلُّم المخطوطة ليحصل على الغرامة. هدَّأتُ من روع فيودور ميخايلوفيتش قدْر استطاعتي ووعدتُهُ أن أستعلم عما يجِب عليه أن يصنعه في حالة إذا ما تحقَّقَت شكوكه.
وفي مساء نفس اليوم طلبتُ من أمي أن تذهب إلى أحدِ معارفنا الذي يعمل بالمحاماة. وقد نصحَنا المحامي أن نُسلِّم المخطوطة إما إلى مُوثِّق العقود، وإما إلى قسم شرطة المنطقة التي يقطن فيها ستيلوفسكي، على أن يتم ذلك، بطبيعة الحال، مصحوبًا بتوقيع شخصيةٍ ذات صفة رسمية. نفس النصيحة قدَّمَها له القاضي العالمي فريمان (شقيق رفيقه في المدرسة) الذي كان فيودور ميخايلوفيتش قد توجَّهَ إليه لاستشارته.
٧
كان التاسع والعشرون من أكتوبر موعدًا لآخِر إملاءٍ لنا. كانت رواية «المقامر» قد اكتملت. ستة وعشرون يومًا من الرابع إلى التاسع والعشرين من أكتوبر كُتِبَت خلالها هذه الرواية. كتَبَها فيودور ميخايلوفيتش في سبع ملازم على عمودَين من القطع الكبير، أي ما يُعادل عشر ملازم من القطع العادي. كان فيودور ميخايلوفيتش سعيدًا للغاية بذلك وأخبرَني أنَّه وبعد أن يُسلِّم المخطوطة بسلام، ينوي أن يُقيم مأدبة غداء لأصدقائه (مايكوف، وميلبوكوف، وغيرهم) وأنه يدعوني مقدمًا للمشاركة في هذه المأدبة.
– هل ذهبتِ إلى أحد المطاعم من قبل؟
– لا، مطلقًا.
– حسنًا، فستأتين إذن إلى غدائي! أودُّ أن أشرب نخب صحة مُساعِدتي العزيزة!، فبدون دعمك لم أكن لأنهي الرواية في موعدها. إذن ستأتين؟
أجبتُه بأنني سأستشير أمي، وكنت قد قررتُ بيني وبين نفسي ألا أذهب. كنتُ أعلم أنه إذا تغلَّب عليَّ الحياء فسوف يبدو وجهي كئيبًا وقد أُفسِد عندئذٍ على الجمع بهجته.
في اليوم التالي، الثلاثين من أكتوبر، أحضرتُ لفيودور ميخايلوفيتش ما كتبناه بالأمس بعد صياغته. قابلني بترحاب خاص، حتى إن حُمرةً ما اندفعت في وجهه عندما دخلت. قرأنا معًا كالمُعتاد الأوراق المكتوبة وفرِحنا أنها بدَتْ أكثرَ عددًا مما توقَّعناه. أخبرني فيودور ميخايلوفيتش أنه سيُعيد اليوم قراءة الرواية فيُصلح بها ما ينبغي إصلاحه ثم يذهب بها غدًا إلى ستيلوفسكي. وهنا تحديدًا أعطاني الخمسين روبلًا وهو الأجر الذي تم تحديدُه. شدَّ على يدي بقوة وشكرَني بحرارة على تعاوني.
كنتُ أعلم أن الثلاثين من أكتوبر هو عيد ميلاد فيودور ميخايلوفيتش، ولهذا قررتُ أن أستبدل بثوبي الجوخ الأسود المعتاد ثوبًا من الحرير البنفسجي. كان فيودور ميخايلوفيتش، الذي طالَما رآني في ملابس الحِداد، مسرورًا لِما أبديتُه من اهتمام، وقد أثنى على ثوبي ووجد أن اللون البنفسجي ملائم تمامًا لي، وأنني أبدو أطول وأكثر رشاقة في هذا الثوب الطويل. راقَني أن أسمع ثناءَه، ولكن وصول أرملة أخي فيودور ميخايلوفيتش، إيميليا فيدوروفنا، التي جاءت لتهنئته، أفسد مُتعتي. قام فيودور ميخايلوفيتش بتعريف كلٍّ منَّا بالآخر وشرح لزوجة أخيه أنه بفضل مُساعدتي فقد تمكَّن من إنهاء الرواية في موعدها، وهو ما جنَّبه المُصيبة التي كانت تُهدِّده. وعلى الرغم من هذه الكلمات فقد عاملتني بجفاءٍ وتعالٍ، الأمر الذي أدهشني وحزَّ في نفسي. لم يرتح فيودور ميخايلوفيتش لهذا الجفاء الذي أبدَتْه زوجة أخيه، ومن ثم راح يُعاملني بودٍّ وترحاب زائدين. وبعد أن عرض عليها أوراقًا ما، دخل أبوللون نيكولايفيتش مايكوف. انحنى مُسلِّمًا ولكنه، كما يبدو، لم يتعرَّف عليَّ. وبعد أن توجَّه إلى فيودور ميخايلوفيتش سأله كيف تسير الأمور مع الرواية. لم يُجبْه فيودور ميخايلوفيتش، الذي لم يسمعه على الأرجح، إذ كان منشغلًا بالحديث مع زوجة أخيه. عندئذٍ قررتُ أن أجيب نيابة عن فيودور ميخايلوفيتش فأخبرتُه أن الرواية اكتملت بالأمس، وأنني أحضرتُ لتوِّي الفصل الأخير بعد إعادة كتابته. اقترب مايكوف ناحيتي على عجلٍ مادًّا يدَه إليَّ معتذرًا لأنه لم يعرفني للوهلة الأولى، وعزا ذلك إلى قصر نظره ولأنني كنتُ أبدو أقصر قامة في ثوبي الأسود.
راح يستفسر عن الرواية وسألني عن رأيي فيها. رحتُ أدلي بآرائي بفرحٍ عن العمل الجديد الذي أصبح عزيزًا علي، وأخبرتُه أنها تضمُّ بين ثناياها عددًا من الشخصيات الناجحة، المليئة بالحياة (الجدة، مستر أستلي، والجنرال العاشق). ذهبنا نثرثر حوالي عشرين دقيقة وكنت أتحدَّث على سَجيَّتي مع هذا الإنسان الرقيق الودود. كانت إميليا فيدوروفنا مندهشةً بل مصدومة بعض الشيء من اهتمام مايكوف بي، ولكنها لم تُغير من لهجتها الجافة معتبرة، على الأرجح، أنه من غير الجدير بها أن تُبدي بعض الودِّ تجاه … مُختزِلة.
سرعان ما غَادَرَنا مايكوف، فحذوت حذوه، رافضةً تحمُّل الصلَف الذي تُعاملني به إميليا فيدوروفنا، وقد حاول فيودور ميخايلوفيتش بشدة أن يُقنعني بالبقاء محاولًا بكلِّ الطرُق أن يُخفِّف من فظاظة زوجة أخيه. أوصلَني حتى المدخل وذكَّرني بوعدي بدعوته لزيارتنا، فأكدتُ له الدعوة.
– متى أستطيع الحضور؟ غدًا؟
– لا، لن أكون بالبيت غدًا، أنا مدعوة لزيارة صديقة في الثانوية.
– بعد غدٍ؟
– بعد غدٍ لديَّ محاضرة في الاختزال.
– إذن، الثاني من نوفمبر؟
– يوم الأربعاء سأذهب، على الأرجح، إلى المسرح.
– يا إلهي! كل أيامك مشغولة! أتدرين يا آنَّا جريجوريفنا، يُخيَّل لي أنكِ تتعمَّدين ذلك. الأمر ببساطة أنك لا ترغبين في زيارتي. أخبريني بالحقيقة!
– إطلاقًا، أؤكد لك! سوف تُسعِدنا رؤيتك عندنا. تعالَ في الثالث من نوفمبر، الخميس مساءً، الساعة السابعة.
– الخميس فقط؟ يا له من زمن طويل! سوف أفتقدك بشدة!
بالطبع لم آخُذ هذه الكلمات على محمل الجد.
٨
وهكذا ذهبَت سريعًا أيام الصفاء، وجاءت أيام الشقاء. كنتُ قد اعتدتُ طوال هذا الشهر أن أسرع الخطوَ بمرحٍ وسعادة لنبدأ العمل، مسرورةً بلقاء فيودور ميخايلوفيتش، أشعر بالحيوية والحماس في الحديث معه، حتى أصبح هذا الأمر حاجةً مُلحة بالنسبة لي. كل مشاغلي واهتماماتي العادية السابقة فقدَتْ معناها وبدت لي أمورًا فارغة لا حاجة لي بها. حتى زيارة فيودور ميخايلوفيتش المُرتقبة لم تعُد تُسعدني؛ بل إنها أصبحت مصدرًا لتعاستي. كنتُ أُدرك أنه لا أنا ولا أمي الطيبة يُمكن أن نكون جليسَين مؤنِسَين لهذا الإنسان الذكي الموهوب. وإذا كانت الأحاديث التي دارت بيني وبين فيودور ميخايلوفيتش أحاديثَ مُمتعة (هكذا كنتُ أفكر) فمردُّ ذلك فقط لأنها كانت تتناول موضوعًا مهمًّا لكلينا. أما الآن فسيأتي فيودور ميخايلوفيتش إلى بيتنا باعتباره ضيفًا، علينا أن «نُسلِّيه». رحتُ أفكر في الموضوعات التي يمكن أن تكون محورًا لحديثنا، وعذَّبَتني فكرة الانطباع الذي ستتركه الرحلة الطويلة الشاقة إلى البقعة النائية التي نسكن فيها، وعن الأمسية المُملَّة التي سيقضيها والتي سوف تمحو لدى فيودور ميخايلوفيتش، باعتباره إنسانًا مُرهف الشعور، ذكريات لقاءاتنا السابقة، وسوف يأسف على قبولِهِ الدعوة إلى هذه الصحبة المُملَّة.
وباعتباري إنسانًا مُحبًّا للحياة، حاولتُ أن أُسلِّي نفسي وأن أُزيل حَزَني، أو خوفي، إن شئنا الدقة. ذهبتُ لزيارة صديقة لي، وفي اليوم التالي ذهبتُ لمحاضرة الاختزال. قابلَني أولخين مهنئًا بانتهاء عملي بنجاح. كان فيودور ميخايلوفيتش قد كتب إليه يُخبره بذلك ويَشكُره على التوصية بمختزل، استطاع بفضلِه الوصول بروايته إلى نهايةٍ موفَّقة. وأضاف فيودور ميخايلوفيتش أن الطريقة الجديدة في العمل بدَت له مناسبة، وأنه قد عقد العزم على استخدامها في المستقبل.
وفي يوم الخميس، الثالث من نوفمبر، بدأتُ منذ الصباح في الإعداد لاستقبال فيودور ميخايلوفيتش. خرجتُ لشراء كمثرى من النوع الذي يُحبه وبعض الهدايا الصغيرة مثل تلك التي كان أحيانًا ما يُقدِّمها لى. كنتُ أشعر طوال اليوم بالقلق، وبحلول السابعة مساءً كان قلقي قد بلغ ذروته. دقَّت السابعة والنصف، ثم الثامنة، ولم يصل. عندئذٍ قررتُ أنه قد عدل عن رأيه في الحضور، أو ربما نسي وعده. وأخيرًا دق جرس الباب بعد طول انتظار وكانت الساعة قد بلغت الثامنة والنصف. أسرعت للقاء فيودور ميخايلوفيتش وسألته: كيف استطعت العثور علي، فيودور ميخايلوفيتش؟
دخلت أُمي فأسرعتُ بتقديمها إلى فيودور ميخايلوفيتش فقبَّل يدَها بظرفٍ وقال إنه مَدين لي بالمساعدة في العمل. شرعت أمي تصبُّ الشاي، بينما راح فيودور ميخايلوفيتش يحكي لي أثناء ذلك قدْر الخوف الذي عاناه حتى سلَّم المخطوطة إلى ستيلوفسكي، وكما تنبَّأنا فقد لجأ ستيلوفسكي إلى أسلوب التحايُل والمُخاتلة. سافر إلى الريف وأعلنت خادمته أنها لا تعلَم متى سيعود. عندئذٍ توجَّه فيودور ميخايلوفيتش إلى مكتب دار نشر ستيلوفسكي وحاول تسليم المخطوطة لرئيس المكتب، لكن هذا رفض قبولَها رفضًا باتًّا قائلًا إنه غير مُفوَّض بذلك من قِبل ربِّ العمل. تأخَّر فيودور ميخايلوفيتش في الوصول إلى مُوثِّق العقود، في الوقت نفسه لم يكن هناك أحد من رئاسة إدارة الحي موجودًا نهارًا فطلبوا منه المرور مساء. قضى فيودور ميخايلوفيتش النهار بأكملِه في خوف عظيم، وفي العاشرة مساء فقط نجح في تسليم المخطوطة في مكتب شرطة حي (ﻧ … سكي) وتسلَّم إيصالًا من المشرف.
جلسنا نتناول الشاي ونتبادل الحديث دون كلفةٍ وفي جوٍّ تسوده البهجة والمرح. كما كنَّا دائمًا. واضطررتُ لتنحيةِ الموضوعات التي كنتُ أفكر في طرحها جانبًا؛ إذ ظهرت هناك موضوعات جديدة مشوِّقة. سلب فيودور ميخايلوفيتش لبَّ أُمي، وهي التي كانت مضطربة بعض الشيء لزيارة كاتب «كبير» لبيتِنا. كانت لفيودور ميخايلوفيتش جاذبية آسرة، وكثيرًا ما تسنَّى لي فيما بعد أن أُلاحظ كيف أن بعضًا من الناس، الذين كانت لديهم آراء مُسبقة ضدَّه، سرعان ما ينبهرون به.
أخبرني فيودور ميخايلوفيتش، عرضًا، أنه يريد أن يستريح أسبوعًا ثم يبدأ في العمل في الجزء الأخير من «الجريمة والعقاب».
– أودُّ يا آنَّا جريجوريفنا الطيبة أن تُساعديني. لقد كان العمل معك يمضي في يُسر، وأودُّ في المستقبل أن أقوم بالإملاء وآمُل ألا ترفُضي أن تكوني زميلتي في العمل.
أجبتُ بقولى: أودُّ بكل سرور أن أساعدك، ولكني لا أعرف رأي أولخين في ذلك. ربما يُعيِّن لهذا العمل الجديد أحدَ تلاميذه أو إحدى تلميذاته.
– لقد اعتدتُ على طريقة العمل معك وأنا راضٍ عنها تمام الرِّضا. ربما كان الأمر سيُصبح غريبًا، لو أن أولخين أوصى بمختزلٍ آخر، كان من المُمكن ألا يسير عملُنا على نحوٍ حسن. بالمناسبة، ربما لا تكونين أنتِ نفسك راغبةً في العمل معي أكثر من ذلك؟ في هذه الحال، لن أكون لحوحًا بالطبع.
كان واضحًا أن كدرًا قد أصابَه، حاولتُ أن أُحفِّف عنه فقلتُ له إن الأرجح أن أولخين لن تكون لدَيه أسباب للاعتراض على العمل الجديد، وإن عليَّ، على أية حال، أن أُراجعه في ذلك.
في حوالي الحادية عشرة مساءً اعتزم فيودور ميخايلوفيتش الرحيل، ولدى مُغادرته البيت، أخذ عليَّ عهدًا أن أتفاوض مع أولخين عند لقائي به في أول محاضرة وأن أكتُب له. افترَقْنا على نحوٍ ودِّي خالص؛ وسارعتُ بالعودة إلى غرفة المائدة وقد شملتني السعادة من أثر حديثنا الحماسي. وقبل أن تمضي عشر دقائق إذا بالخادمة تدخل لتقصَّ علينا كيفَ أن شخصًا ما قد سرَق في الظلام، من الحوذي الذي أحضر فيودور ميخايلوفيتش، المخدَّة التي يضعها على مقعد العربة. كان الحوذي يائسًا ولم يُهدِّئ من روعه سوى الوعد الذي بذله فيودور ميخايلوفيتش له، بأن يُجزل له العطاء تعويضًا عن الخسارة التي حاقت به.
كنتُ ما أزال فتاةً غضَّة، وقد أصابني هذا الموقف بالجزع الشديد، وتصوَّرتُ أن مثل هذا الحدث سوف يؤثر على علاقة فيودور ميخايلوفيتش بنا، وأنه سوف يكفُّ عن زيارتنا في هذه البقعة النائية المُوحِشة، حيث يمكن أن يسطو عليه لصٌّ كما سطا على الحوذي. شعرت بالأسى حتى انهمرتِ الدموع من عيني من جراء إحساسي بأن هذا الحادث المؤسِف قد أفسد الانطباع الذي تركَتْه هذه الأمسية الرائعة التي قضيناها.
٩
اعترضتُ بشدة وقلتُ إنني لست «معجبة» على الإطلاق بدستويفسكي، وإنني لا «أحلم» بشيء، كل ما في الأمر أنني كنتُ سعيدة بتبادل الحديث مع شخصٍ ذكي وموهوب، وإنني مَدينة له لِما أبداه نحوِي من اهتمامٍ ومودة دائمة.
على أنَّ كلمات أختي قد كدَّرت صفوي، وما إن عدتُ إلى المنزل حتى رحتُ أسأل نفسي: هل ماشا أختي على حق؟ وهل أنا «مغرمة» فعلًا بفيودور ميخايلوفيتش؟ أليست هذه فعلًا بداية الحُب الذي لم أُجرِّبه بعد؟ يا له من حلمٍ مجنون من جانبي! وهل هذا مُمكن؟ وإذا كانت هذه بداية الحُب، فما الذي عليَّ أن أفعله؟ أليس من الأفضل أن أرفض اقتراحَه بالعمل بعُذرٍ لائق، وأن أنقطِع عن التفكير فيه، وأن أحاول نسيانَهُ شيئًا فشيئًا، وأن أعود إلى سكينتي السابقة التي كنتُ أنعم بها وأُقدِّرها دائمًا بعد أن انشغِل عنه بعملٍ ما؟ ولكن، أليس من الجائز أن تكون ماشا مخطئة، وأن لا خوف هناك من أي تهديدٍ لعواطفي؟ لماذا أفقد، في ظروف مثل ظروفي، عملي بالاختزال؛ هذا العمل الذي كنت أحلم به، وأفقد معه هذه الأحاديث الودودة الشيِّقة التي كانت تُصاحب هذا العمل؟
بالإضافة إلى ذلك، فمن المؤسف بشدة أن أترك فيودور ميخايلوفيتش دون عَون من مُختزل، إذ إنه تأقلم على هذا الأسلوب في العمل، وبخاصة أنني لا أعرف أحدًا، من بين تلاميذ أولخين أو تلميذاته (باستثناء اثنين يعملان بالفعل بانتظام) أستطيع أن أعهد إليه كليةً بالعمل بدلًا منِّي، سواء من ناحية سرعة الكتابة، أو الدقة في تسليم ما أُملِيَ عليه.
طافت كل هذه الأفكار برأسي وانتابني همٌّ شديد.
جاء يوم الأحد، السادس من نوفمبر؛ في هذا اليوم كنتُ قد عقدتُ العزم على الذهاب لتهنئة إشبينتي بعيد ملادها، لم أكن على صلةٍ حميمة بها، وإنما كنتُ أزورها في أيام الأعياد فحسب. مِن المتوقَّع أن يكون لدَيها اليوم ضيوف كثيرون. وكنتُ أتطلَّع إلى إزالة هذا الشعور المُضني، الذي لم يُفارقني طيلةَ الأيام الماضية. كانت هذه السيدة تعيش بعيدًا، بالقُرب من جسر الأرتشين، وكنتُ قد قررتُ زيارتها في ضوء النهار. جلستُ أعزف على البيانو، ريثما يرسلون أحدًا في طلَب حوذي. وبسبب صوت الموسيقى، لم أنتبه لجرس الباب، وإذا بوقْع أقدامِ رجل، حانت منِّي الْتفاتة، ولدهشتي وسروري، إذا بي أرى فيودور ميخايلوفيتش مقبلًا ناحيتي.
صافحَني فيودور ميخايلوفيتش ضاغطًا على يدي في قوة وهو يقول: انظُري يا آنَّا جريجوريفنا ماذا صنعت؟ لقد كنتُ أشعر بالوحشة طوال الأيام الماضية، ثم رحتُ أفكر اليوم منذُ الصباح، هل آتي إليك أم لا؟ وهل سيكون هذا لائقًا؟ ألن تبدو لك ولوالدتك زيارة مُتعجلة، إذ كنتُ هنا لتوِّي يوم الخميس فإذا بي أظهر ثانيةً يوم الأحد! عندئذٍ قررتُ ألَّا آتي مهما كلَّفَني الأمر، ثم ها أنا أمامك كما ترين!
– ما الذي تقول، فيودور ميخايلوفيتش! إنه لمن دواعي سرورنا أن نراك بيننا!
وعلى الرغم من تأكيدي على الترحيب به، فإننا لم نتمكَّن من مباشرة الحديث على النحو الذي تعوَّدْناه. لم يكن بمقدوري التغلُّب على اضطرابي فاكتفيتُ بالإجابة على أسئلة فيودور ميخايلوفيتش، حتى إنني لم أتوجَّه تقريبًا بأي سؤالٍ له. كان هناك أيضًا سبب آخر ظاهري راح يؤرِّقني، فلم نكن قد أعددْنا العدةَ لتدفئة صالتنا الرحبة حيث كنَّا نجلس، ومن ثم كانت البرودة تسودُها، وهو ما لاحظَه فيودور ميخايلوفيتش فقال: المكان لدَيكم بارد، وأنت نفسك باردة! وعندما لاحظ أنني أرتدي ثوبًا رماديًّا فاتحًا سألني إن كنتُ أعتزم الخروج.
عندما عرف أن عليَّ الذهاب الآن إلى إشبينتي، أعلن فيودور ميخايلوفيتش أنه لا يرغب في تعطيلي واقترح تَوصيلي بعربتِهِ حيث إنه سيسلُك نفس الطريق. وافقتُ وانطلقنا، وعند أحد المنعطفات الحادة أراد فيودور ميخايلوفيتش أن يُمسِكني من خصري، ولكنني، باعتباري فتاة من فتيات الستينيات، كان لديَّ تحذير من أي نوعٍ من أنواع إبداء الاهتمام من قبيلِ تقبيل اليد وإمساك السيدات من خصورهن وهلمَّ جرًّا. قلت له: من فضلك، لا تقلق، لن أسقط!
بدا أن فيودور ميخايلوفيتش قد أغضبَتْه كلماتي فقال: كم أودُّ الآن لو أنك سقطتِ خارج العربة!
انفجرتُ ضاحكةً وسرعان ما ساد السلام بيننا، ورُحنا نثرثر في مرحٍ ما تبقَّى من الطريق، وإذا بالهموم التي أثقلت روحي تنقشِع بعيدًا. عند فراقنا شدَّ فيودور ميخايلوفيتش على يدي وأخذ منِّي عهدًا أن أزورَه بعد يومٍ للاتفاق على العمل في رواية «الجريمة والعقاب».
١٠
الثامن من نوفمبر من عام ١٨٦٦م أحد أهم الأيام في حياتي. في هذا اليوم أخبرني فيودور ميخايلوفيتش أنه يُحبني وطلَب منِّي أن أكون زوجتَه. نصف قرنٍ مرَّ على هذا اليوم وما تزال تفاصيلُه واضحةً في ذاكرتي وكأنها حدثت منذ شهرٍ مضى.
كان يومًا صافيًا قارس البرودة. ذهبتُ إلى فيودور ميخايلوفيتش سيرًا على الأقدام، ولهذا تأخَّرتُ نصف ساعةٍ عن الموعد المُحدد. كان من الواضح أن فيودور ميخايلوفيتش كان ينتظرني منذ فترةٍ طويلة، وما إن سمع وقْع خطواتي حتى خرج مسرعًا إلى غرفة الاستقبال وقال بفرحٍ وهو يُساعدني على خلع غطاء رأسي ومعطفي: أخيرًا جئت!
دخلْنا معًا إلى غرفة المكتب. كانت الغرفة في هذه المرة مضاءةً أكثر مِن المعتاد. وقد لاحظتُ بدهشةٍ أن فيودور ميخايلوفيتش كان مضطربًا لأمرٍ ما. كان هناك تعبير على وجهه يشي بالتوتُّر والحماس، مما جعلَه يبدو أكثر شبابًا.
بدا فيودور ميخايلوفيتش حديثَه بقوله: كم أنا سعيد أنكِ جئت! كنتُ خائفًا أن تنسَي موعدنا.
– ولماذا ظننتَ ذلك؟ عندما أعد فإنني دائمًا ما أوفي بوعدي.
– سامحيني، أعلم أنك إذا عاهدتِ أوفيت. كم أنا سعيد لرؤيتك من جديد!
– وأنا أيضًا سعيدة لرؤيتك، فيودور ميخايلوفيتش، وبخاصة وأنت على هذه الحال من البهجة والسرور. لعلَّ أمرًا مُفرحًا قد حدث لك.
– نعم، حدث! لقد رأيتُ الليلة حلمًا رائعًا.
ضحكت قائلة: لهذا السبب فقط!
– من فضلك لا تضحكي. إن للأحلام أهميةً كبرى لدي. عندما أرى أخي المرحوم ميشا، وعندما أحلم بأبي على الأخص، أعلم أن مصيبةً تتهدَّدني.
– إذن اقصص رؤياك علي!
– وماذا فعلت بها؟
– ما يُحزنني أنني لا أكاد أتذكَّر! لقد راحت الأحلام تترى، ولم أعد أتذكَّر ماذا حدث لها. لكنه كان حلمًا رائعًا!
– يبدو لي أن الأحلام عادةً ما تفسَّر على العكس. أبديتُ ملاحظتي وندمتُ على ما قلت، وسرعان ما تبدَّل وجه فيودور ميخايلوفيتش واعتراه الشحوب.
هنا علَّق فيودور ميخايلوفيتش على كلامي بنبرةٍ حزينة قائلًا: إذن أنت تعتقدِين أن السعادة لن تطرُق بابي؟ وإن هو إلا أمل كاذب؟ أجبت: لا أستطيع أن أفسِّر الأحلام، كما أني لا أومِن بها إطلاقًا.
أسفتُ للغاية لضياع المزاج المرح لدى فيودور ميخايلوفيتش، حاولتُ أن أعيد إليه مرحَه فأجبتُ على سؤاله عن أحلامي، كيف أراها، بأسلوب ساخر.
– أكثر ما أراه في أحلامي هو مديرة المدرسة الثانوية، وهي امرأة بدينة، تعقص شعرها على فَوْدَيها على الطريقة القديمة، وكانت دائمًا ما تُعاقبني على أتفهِ الأمور. حلمتُ أيضًا أنني أرى قطًّا أشقر، قفز فوقي فجأةً ذات مرة من خلف سياج حديقتنا ليُثير في قلبي الرعب.
– يا لكِ من طفلة، طفلة! راح فيودور ميخايلوفيتش يُكرر هذه الكلمة مُبتسمًا وهو ينظر إليَّ في حنان، ويا لها من أحلام! ثم سألني: حسنًا، وما الذي أسعدك في عيد ميلاد إشبينتك؟
– قضَينا وقتًا طيبًا للغاية. بعد الغداء راح الكبار يلعبون الورق، أما نحن، الشباب، فقد اجتمعنا في غرفة مكتب ربِّ البيت ورُحنا نثرثر جميعًا بحماس. وكان هناك طالبان لطيفان مرحان.
من جديد اكفهرَّ وجه فيودور ميخايلوفيتش. أصابتْني الدهشة هذه المرة لسرعة تغيُّر مزاج فيودور ميخايلوفيتش. فكرت، ولم أكن على علمٍ بخصائص الصرَع، ترى هل تُنبئ هذه التغيُّرات في المزاج بقُرب وقوع النوبة، عند ذلك شعرت بالرعب …
اعتدْنا منذ زمنٍ بعيد، أن يحكي لي فيودور ميخايلوفيتش، عندما أحضر إليه للاختزال، عما فعله خلال الساعات التي لم نتقابَل فيها. أسرعتُ عندئذٍ فسألته كيف قضى أيامَه السابقة، فأجاب: كنت أُفكر في روايتي الجديدة.
– حقًّا؟ وهل هي رواية شيقة؟
رحتُ بفخرٍ أستعدُّ لمساعدة الكاتب الموهوب.
– ومن هو بطل روايتك؟
– فنان، تجاوز مرحلة الشباب، حسنًا، باختصار، في مثل عمري.
– احكِ، احكِ، تفضل. سألته وقد ازداد اهتمامي بالرواية الجديدة.
واستجابةً لطلَبي بدأ الارتجال الرائع في الانسياب، لم أسمع من فيودور ميخايلوفيتش على الإطلاق، لا مِن قبلُ ولا من بعد، هذا القصَّ المُفعم بالإلهام، مثلما سمعتُه في هذه المرة. وكلما استمرَّ في حديثه، كلَّما بدا لي على نحوٍ أوضح أن فيودور ميخايلوفيتش إنما يحكي حياته الشخصية، مُغيِّرًا، الشخصيات والظروف فحسب. كل ما حكاه هنا هو نفس ما حكاه لي من قبلُ على نحوٍ عابر، أو مُختصر. الآن فإن ما يقولُه على نحوٍ مُتصِل ومُفصَّل، إنما يُفسِّر لي الكثير من علاقته بزوجه الراحلة وبأقاربه.
احتوت الرواية الجديدة أيضًا على طفولةٍ قاسية، الفقد المُبكر للأب، الظروف القهرية (المرض الشديد)، التي أقصت الفنان عشر سنواتٍ عن الحياة وعن فنِّه المُفضَّل. العودة إلى الحياة (شفاء الفنان)، اللقاء بالمرأة التي أحبَّها، الشقاء الذي أورثه هذا الحُب للفنان، وفاة الزوجة والأقارب الأعزاء (الأخت الحبيبة)، الفقر، الديون …
الحالة النفسية للبطل، الإحساس بالوحدة، خيبة الأمل في ذوي القُربى، تعطُّشه لحياةٍ جديدة، حاجته للحُب، رغبتُه الملحة في العثور على السعادة، ثم تصويرها على هذا النحو من الحيوية والموهبة، حتى بات واضحًا أنها أمور تعكس في مُجملِها معاناة المؤلِّف ذاته، وأنها ليست ثمرةً من ثمرات خياله الفني فحسب.
عندما رأيتُ فيودور ميخايلوفيتش مُتجسدًا أمامي في بطلِه، لم أستطع أن أتمالك مشاعري حتى لا أُقاطعه بكلماتي: ولكن فيودور ميخايلوفيتش، لماذا تُهين بطلك على هذا النحو؟
– أرى أنه ليس شخصًا لطيفًا بالنسبة لك؟
– بالعكس، إنه لطيف للغاية، إن لدَيه قلبًا رائعًا، انظر، كم من التعاسة خصَّه القدَر بها، وكيف أنه احتملَها راضيًا! ولو أن أحدًا غيره عانى في حياته قدْر هذا الحزن لقسَتْ مشاعره على الأقل، أما بطلُك فما يزال يحبُّ الناس ويساعدهم. أبدًا، لقد صممتَ على ظُلمه.
– نعم، موافق، لدَيه بالفعل قلب طيب مُحب، وكم أنا سعيد أنكِ فهمتِه!
واصل فيودور ميخايلوفيتش قَصَّه قائلًا: وهكذا، وفي هذه الفترة المصيرىة الحاسمة من حياته، يلتقي الفنان في طريقِه فتاةً شابةً في مثل سنِّك أو أكبر بعامٍ أو عامَين، سنُسميها آنيا، بدلًا من أن نُسميها البطلة، هذا الاسم أفضل …
لقد رُسِمت صورة البطلة هنا بحيث تختلف في صفاتها عن سمات البطل، فعلى حدِّ قول الكاتب، كانت آنَّا وديعة، ذكية، طيبة، مُحبة للحياة، وكانت تمتلك القدرة على التعامُل بلباقةٍ مع الناس. ولمَّا كنتُ أُولي الجمال الأنثوي في تلك السنوات قدرًا كبيرًا من الأهمية، فإنني لم أتمالك نفسي وسألته: وهل كانت بطلتُك على درجةٍ كبيرة من الجمال؟
– لم تكن بالطبع رائعة الجمال، ولكنها لم تكن قبيحة، وأنا أحبُّ وجهها.
تصورتُ أن فيودور ميخايلوفيتش قد باح بسرٍّ من أسراره، فانقبض قلبي. شعور بغيض راودني تجاه كورفين-كروكوفسكايا فقلت: على أية حال، فيودور ميخايلوفيتش، لقد جعلتَ من صاحبتِك آنَّا هذه نموذجًا مثاليًّا للغاية. هل هي فعلًا كذلك؟
– هي بالضبط كذلك! لقد خبرتها جيدًا!
ثم واصل فيودور ميخايلوفيتش قصته قائلًا: كان الفنان يلتقي بآنيا في الحلقات الفنية، وكلما زادت رؤيتُه لها، ازداد إعجابًا بها، وقوي إيمانُه بأنه يمكن أن يجد سعادته بالقُرب منها. على أنَّ حلمه بدا له مُستحيلًا. في الواقع ما الذي يستطيع أن يُقدمه رجل كهل مثله، مريض، مُثقل بالديون، لهذه الفتاة التي تفيض بالعافية والشباب وحُب الحياة؟ ألا يُعدُّ حُبها للفنان تضحيةً فظيعة من جانب فتاةٍ شابة، ألن تعضَّ إصبع الندم بعد ذلك إن هي ربطت مصيرها به؟ هل من الممكن، عمومًا، أن تكون هناك فتاة شابة، مُختلفة من حيث شخصيتها، فتاة في مثل عمرها، أن تُحِب الفنان الذي أبدعَتْه قريحتي، أليس في ذلك خطأ نفسي؟ هذا ما أردتُ أن أعرف رأيك بشأنه آنَّا جريجوريفنا.
– وما الذي يجعله مستحيلًا؟ إذا كانت آنيا التي أبدعْتَها كما تقول، ليست لعوبًا فارغة، وإنما تمتلك قلبًا طيبًا عطوفًا، فلماذا لا تُحبُّ فنانك؟ أما كونه مريضًا وفقيرًا، فهل يمكن أن يُحِبَّ المرء لمجرد المظهر والثروة؟ ثم أين هي التضحية من جانبها، إذا كانت تُحِبه، فسوف تكون هي أيضًا سعيدة، ولن تندَم أبدًا!
كنتُ أتحدث بحماس وحمية، بينما راح فيودور ميخايلوفيتش ينظر إليَّ بقلق.
– وهل تؤمنين بحقٍّ أن باستطاعتها أن تُحبه بإخلاصٍ طول العمر؟
ثم صمت برهة وكأنه مُتردِّد، ثم نطق بصوتٍ متهدج: ضعي نفسك دقيقة مكانها، تصوَّري أنني أنا هو هذا الفنان، وأنني اعترفتُ لك بحبي، وسألتك أن تكوني زوجتي. أخبريني بماذا كنتِ تُجيبين؟
علا وجه فيودور ميخايلوفيتش تعبيرٌ يشي بالقلق وعذاب القلب، فأدركتُ أخيرًا أن حديثنا ليس بالحديث المُتعلِّق بالأدب، وأنني سوف أهوي بضربة قاصمة تُصيبه في عزة نفسه وكبريائه، إذا ما جاءت إجابتي مراوغة. تأملتُ وجه فيودور ميخايلوفيتش العزيز إلى نفسي وقد غشِيَهُ الاضطراب ثم قلتُ له: كنتُ سأجيبك أنني أُحبك وسوف أُحبك مدى الحياة!
لن أنقل لكم هذه الكلمات الرقيقة المليئة بالحب، التي قالها لي فيودور ميخايلوفيتش في هذه اللحظات التي لا تُنسى، كانت هذه الكلمات بالنسبة لي كلمات مقدسة …
كنتُ مذهولة، واقعة تحت ضغط سعادتي الهائلة، ولفترةٍ طويلة لم يكن باستطاعتي أن أُصدِّقها. أذكر أن فيودور ميخايلوفيتش، بعد مرور ساعة، راح يُخبرني بخطط مستقبلنا ثم يطلُب رأيي فيها، وقد أجبته: وهل باستطاعتي الآن أن أناقش أمرًا من الأمور؟! إنني الآن في غاية السعادة!
وحيث إننا لم نكن نعرف على أي نحوٍ سوف تسير أمورنا، ومتى يمكن أن نعقد قراننا، فقد قرَّرنا ألا نُخبر أحدًا مؤقتًا، بهذا الأمر، باستثناء أُمِّي. وعدَني فيودور ميخايلوفيتش بالحضور لمنزلنا غدًا لقضاء السهرة معنا، وأخبرَني أنه سينتظر لقاءنا على أحَرِّ من الجمر.
صحِبني فيودور ميخايلوفيتش حتى المدخل، ثم ألبسني غطاء الرأس بعناية. كنتُ قد تهيأتُ للخروج، عندما استوقفَني بقوله: آنَّا جريجوريفنا، أعرف الآن لمن ذهبت الماسة.
– أما زلتَ تتذكَّر الحلم؟
– كلَّا، أنا لا أتذكَّر الحلم. ولكنني وجدتُه في النهاية، وقد عقدتُ النية على الاحتفاظ به طول العمر.
ابتسمتُ قائلة: أنت مخطئ، فيودور ميخايلوفيتش! أنت لم تعثر على ماسة، وإنما على حصاة عادية.
– لا، أنا على يقين، أنني لم أخطئ هذه المرة. أجابني فيودور ميخايلوفيتش بكل جدية وهو يُودِّعني.
١١
كان الفرح يملأ روحي، عندما عدتُ من عند فيودور ميخايلوفيتش، أذكر أنَّني كنتُ أهتف، تقريبًا بصوت مرتفع، طوال الطريق، غير عابئةٍ بالمارة: يا إلهي، يا لها من سعادة! هل هي حقيقة؟ هل هو حلم؟ معقول أنه سيُصبح زوجي؟!
لم يُعِدْني إلى صوابي سوى ضجيج المارة في الطريق، وتذكرتُ أنني كنتُ مدعوة على الغداء عند أقاربي، الذين كانوا يحتفلون بعيد ميلاد ابن عمِّي ميخائيل نيكولايفيتش سنيتكين. عرَّجت على محلِّ الخبز (كانت محال الحلوى قليلة آنذاك) لشراء كعكة للمُحتفَى به. كنت سعيدة للغاية، كلُّ الناس بدَوا لي طيبين، ودودين، كنتُ أودُّ لو قلتُ لهم شيئًا ما سارًّا. لم أتمالك نفسي فأبديتُ ملاحظة للسيد الألماني، الذي باعَني الكعكة: يبدو لون بشرتك رائعًا، وكذلك تسريحة شعرك!
وجدت ضيوفًا كثيرين لدى أقاربي، ولم تكن أُمِّي بينهم، على الرغم من أنها وعدت بحضور الغداء. وقد أحزنني عدَم حضورها، كنتُ أودُّ بشدة أن أُخبرها على وجه السرعة بفرحتي.
كان الغداء يُحيطه جوٌّ من المرح، ولكنني كنتُ أتصرَّف بشيءٍ من الغرابة، كنتُ أبتسم للجميع، تارة أستغرق في التفكير فلا أسمع شيئًا مما يُقال لي، وتارة أُجيب كيفما اتفق، بل إنني ناديتُ أحدهم باسم فيودور ميخايلوفيتش. راح الجميع يسخرون منِّي، فتعلَّلتُ بأنني مُصابة بصداع نصفي.
وأخيرًا وصلت أُمي الرءوم. انطلقتُ مُسرعةً نحوها عند المدخل، احتضنتُها وهمستُ في أذنها: هنئيني، أنا عروس!
لم أتمكَّن من أن أضيف شيئًا، حيث أسرع أهل البيت في استقبالها. أذكر أنَّ أُمِّي ظلت طوال الأمسية تتطلَّع إلى في فضول، دون أن تعلَم، على الأرجح، أيٌّ من الحضور المُعجَبين بي سوف يكون زوجي. عندما رجعْنا للمنزل فقط، استطعتُ أن أشرح لها أنني سأتزوج من دستويفسكي. لا أدري، هل كانت أُمِّي سعيدة بذلك، لا أظن. وكإنسانٍ خَبَرَ الحياة، عاش طويلًا في هذه الدنيا، لم يكن من المُمكن لأُمي إلا أن تتنبَّأ بأنني بسبب هذه الزيجة، سوف يكون عليَّ تحمُّل العديد من أشكال العذاب والحزن، سواء بسبب المرَض اللعين الذي يُعاني منه زوج المستقبل، أو بسبب نقص الموارد المالية. ولكنها لم تُحاول أن تثنيني عن عزمي (وهو ما فعله كثيرون فيما بعد) وإنني لمَدينة لها بذلك. ومن هو الذي كان بإمكانه أن يُقنعني برفض هذه السعادة الكبرى التي تنتظرني، والتي بدت لي، فيما بعد، سعادة حقيقيةً واقعية، على الرغم من العديد من الصعوبات التي واجهناها في حياتنا المُشتركة (مرض زوجي وديونه).
اليوم التالي، التاسع من نوفمبر، كان يومًا طويلًا أصابني بالضجر لم أستطع أن أشغل نفسي بشيءٍ ورحت أتذكر كافة تفاصيل حديث الأمس، بل إنني قمتُ بتسجيله في دفتر اختزالي.
وصل فيودور ميخايلوفيتش في الساعة السادسة والنصف، بادر بالاعتذار لوصوله قبل الموعِد المُحدَّد بنصف ساعة.
– لكنني لم أُطق صبرًا، لقد أردتُ أن ألتقي بكم بأسرع ما يمكن!
– لم أفعل شيئًا طوال اليوم، ظللتُ أُفكر فيكَ وكم أنا سعيدة لحضورك!
سرعان ما استرعى انتباهَ فيودور ميخايلوفيتش أنني أرتدي ثوبًا فاتح اللون.
– وهل يُمكن أن يكون الأمر على نحوٍ آخر وفي قلبي كل هذه السعادة! بطبيعة الحال سوف أظلُّ أرتدي ملابس الحداد في المجتمع، إلى أن نُعلن قراننا، أما في البيت فسأرتدي لك الملابس الزاهية.
قال فيودور ميخايلوفيتش: إن اللون الوردي مُناسب لك تمامًا، إنك تبدين فيه أكثر شبابًا كما لو كنتِ صبيةً صغيرة.
كان من الواضح أن ملامح الشباب تُثير قلق فيودور ميخايلوفيتش. رحتُ أضحك مؤكدةً له أنني سرعان ما أُصبح عجوزًا. وعلى الرغم من أن هذا الوعد كان على سبيل المزاح، إلا أنه سرعان ما تحقَّق في حياتي على نحوٍ كبير من السرعة، بفضل ظروفٍ كثيرة؛ أي أنني، إن شئنا الدقة، لم أهرم، وإنما انعكسَتِ الأحداث على مظهري، وصارت أحاديثي تتَّسِم بالوقار الشديد، إلى حد أن الفارق بيني وبين زوجي بدا غير ملحوظٍ تقريبًا.
دخلت أُمي، فقبَّل فيودور ميخايلوفيتش يدَها قائلًا: تعلمين، بطبيعة الحال، أنني طلبت يد ابنتك. وقد وافقَتْ أن تكون زوجة لي، وأنا سعيدٌ للغاية بذلك. ولكنني أودُّ لو أنك باركت هذا الاختيار. لقد حدَّثَتْني آنَّا جريجوريفنا عنك كثيرًا، حتى إنني تعودت على احترامك. أعدك أنني سأفعل الممكن والمُستحيل لكي تكوني سعيدة. وسوف أكون أكثر الناس لك إخلاصًا ومحبة.
وإحقاقًا للحق فعلى مدى أربعة عشر عامًا، هي عمر زواجنا، كان فيودور ميخايلوفيتش على عهده ودودًا محترمًا في علاقته بأمي، أحبها بإخلاص وتقدير.
ألقى فيودور ميخايلوفيتش خطابه القصير بحماسٍ ولكن على نحو متقطع قليلًا، وهو ما تحدث عنه فيما بعد. كانت أُمي في غاية التأثر، عانقَتْه وطلبت منه أن يُحبَّني وأن يشملني برعايته، حتى إنها انخرطت في البكاء.
سارعتُ بوقف هذا المشهد، الذي ربما كان مُربكًا لفيودور ميخايلوفيتش قائلة: ماما الحبيبة، هيا أسرعي بتقديم الشاي! إن فيودور ميخايلوفيتش يكادُ يتجمَّد من البرد!
جيء لنا بالشاي، أخذْنا مجلسنا على المقاعد اللَّيِّنة القديمة، وقد أمسكنا بالأكواب ورحنا نتحدَّث بكلِّ حماس وحيوية.
مرَّت حوالي ساعة، وإذا بجرس الباب يدقُّ وتُبلِغنا الخادمة بوصول اثنَين من الشباب، اعتادا زيارتنا. وفي هذه المرة أزعجَتْني بشدة هذه الزيارة، التي جاءت دون موعدٍ مُسبق، فطلبتُ من أُمي: من فضلك، اخرُجي إليهم وأخبريهم، أنني أعتذر عن استقبالهم حيث أشكو من الصداع.
قاطعني فيودور ميخايلوفيتش قائلًا: من فضلك، آنَّا نيكولايفنا، لا ترفُضي حضورهم، ثم توجَّهَ بالحديث إليَّ بصوتٍ منخفض: أودُّ أن أراك وسط صحبةٍ من الشباب. إذ إنني لم أركِ حتى الآن إلَّا بصحبتنا، بصحبة الكبار.
ابتسمت وطلبت دعوة الضيوف، قدَّمَتْهم إلى فيودور ميخايلوفيتش وذكرت له أسماءهم. أحسَّ الشابَّان بشيءٍ من الحرَج لهذا التعارف المفاجئ مع الروائي الشهير، ولكي أشرح لهما سبب الاحتفال الذي وجداه لدَينا، قلتُ للضيفَين إنهما جاءا في مناسبة الاحتفال بانتهاء عملِنا المشترك في الرواية الجديدة. كنتُ أودُّ لو لم أُشارك في الحديث المُشترَك، وأن أدفع إليه فيودور ميخايلوفيتش.
انتهزتُ فرصة السؤال الذي وجَّهَه لي أحد الشَّابَّين، بشأن ما إذا كان الصداع النصفي الذي انتابني بالأمس قد زال فقلت له: أنت المذنب في هذا الصداع، لقد كنتَ تُدخِّن بشراهة، أليس صحيحًا، فيودور ميخايلوفيتش، أنه لا ينبغي التمادي في التدخين؟
– إن شهادتي مجروحة، فأنا نفسي أُدخن كثيرًا.
– لكن هذا أمرٌ ضار بالصحة، أليس كذلك؟
– بالطبع، ضار، لكنه عادة يصعب التخلُّص منها.
شرحتُ لهما بلطف، ولكن بصورة حاسمة، أنَّني لن أذهب إلى الأوبرا، إذ إنني سوف أبدأ على الفور في مذاكرة الاختزال، حتى ألحق برفاقي.
– حسنًا، وهل ستذهبين إلى الحفل الذي سيُقام في الخامس عشر من نوفمبر؟
– لن أذهب أيضًا إلى الحفل ولنفس السبب.
– لكنكِ كنتِ سعيدة للغاية في هذا الحفل في العام الماضي، قال الشابان.
– لقد حدث ذلك في العام الماضي! ومنذ ذلك الحين جرَتْ في النهر مياه كثيرة، قلتُ ذلك وكأني أُلقي موعظة.
أحسَّ الشابَّان أنهما ضيفان غير مرغوبٍ فيهما فنهضا للانصراف، فلم أعرض عليهما البقاء.
سألتُ فيودور ميخايلوفيتش بعد ذهاب الضيوف.
– حسنًا، هل أنت راضٍ عني؟
– كنتِ تُزقزقين كالعصفور. المؤسِف فقط، أنك أسأتِ إلى شعور مُعجَبِيك برفضك القاطع لكلِّ ما كان مَحلًّا لاهتمامك من قبل.
– ليكن! لستُ بحاجة لأحدٍ منهم الآن! أنا بحاجةٍ لشخصٍ واحدٍ فقط، الرائع، الحبيب، العزيز لديَّ، فيودور ميخايلوفيتش!
– إذن فأنا الحبيب والعزيز عليك؟ قالها فيودور ميخايلوفيتش، ومن جديد بدأ حديثُنا الودِّي الصريح، الذي استمرَّ طوال المساء.
كان زمنًا سعيدًا وعن هذا الزمن سوف أحكي ذكرياتي بامتنانٍ عميقٍ لمشيئة القدر.
١٢
لم يستمر قرار كتمان نبأ خطبتنا عن أقاربنا ومعارفنا أكثر من أسبوع. فقد انكشف سِرُّنا على نحو مفاجئ تمامًا.
كان فيودور ميخايلوفيتش قد استأجر حُوذيًّا بالساعة، من السابعة إلى العاشرة. ولمَّا كان يُحب البسطاء، فقد راح يتحدَّث مع الحُوذي بشكلٍ عادي إبان الطريق الطويل إلينا والعودة. ولشعوره بالحاجة إلى مَن يُشاركه سعادته، فقد أخبره عن زواجه المُرتقَب. إلا أنه، وبعد عودته من عندنا إلى بيته، اكتشف أنه لا يحمِل نقودًا في جيبه، فأخبر الحوذي أنه سيُرسِل له النقود مع الخادمة. عندما خرجت الخادمة، وجدت ثلاثةً من الحُوذية يقفون لدى الباب، فلم تعرِف لمن منهم عليها أن تدفع الأجرة، فسألت مَن منهم أحضر الآن «السيد الكبير»؟
– العريس؟ أنا أحضرتُه.
– أي عريس؟! السيد الذي عندنا ليس عريسًا.
– لا، بل عريس! هو نفسه أخبرني أنه عريس. وقد رأيتُ عروسه، عندما فتحوا له الباب. خرجَتْ لتُودِّعَه وهي فتاةٌ مرحة، كانت تبتسم طوال الوقت!
– وأنت من أين أحضرتَ السيد؟
– أحضرتُه من سمولني.
كانت فيدوسيا تعرف عنواني، ومن ثم حزرت مَن هي عروس سيدها، فأسرعت بالخبر إلى بافل ألكسندروفيتش.
وطلب من «أبيه» أن يتذكَّر أنه قد أصبح «عجوزًا»، وأن لا سِنُّهُ ولا صحتُهُ يَسمحان له بأن يبدأ حياة جديدة؛ وذكَّره أن عليه التزاماتٍ أخرى وهلمَّ جرًّا.
كان بافل ألكسندروفيتش يتحدث، على حدِّ قول فيودور ميخايلوفيتش «مزهوًّا بنفسه، بتعالٍ وبلهجة الواعظ». وقد أثار هذا الأسلوب حفيظة فيودور ميخايلوفيتش فصاح فيه وطرَدَه من غرفة المكتب.
عندما ذهبتُ إلى فيودور ميخايلوفيتش بعد يومَين (وكنتُ قد علمتُ أنه أُصيب بنوبةٍ من نوبات الصرع)، لم يأتِ ربيبُه إلينا. كان ينقل شيئًا ما إلى غرفة الطعام مُحدثًا جلبةً عالية، صارخًا بغضب في الخادمة، حتى يُشعِرَني بوجوده في البيت. وفي الزيارة التالية لي (بعد أسبوع) دخل بافل ألكسندروفيتش إلى غرفة المكتب فهنَّأَني بجفاءٍ وبطريقةٍ رسمية، نتيجة لعقاب زوج أُمِّه له على الأرجح، ثم جلس صامتًا ما يقرُب من عشر دقائق، وكانت الإهانة والغضب واضحَين على وجهه. لكن فيودور ميخايلوفيتش كان يبدو في هذا اليوم في حالة نفسية رائعة، وكنت أنا أيضًا مسرورة؛ كِلانا كان سعيدًا لأننا لم نُعطِ أيَّ اهتمامٍ لأسلوب بافل ألكسندروفيتش الفظ المُتحفظ. وعندما لاحظ، فيما بعد، أنَّ مظهره القاسي لا أثر له علينا، وإنما يُثير عليه غضب فيودور ميخايلوفيتش، تحوَّل سخطه إلى رقةٍ، وراح يتحدَّث معي بأدبٍ ولطف، متحينًا الفرصة، مع ذلك، ليوجه إليَّ قولًا ما لاذعًا.
١٣
كنت أرى أن حرصه على زيارتي يوميًّا، فيه تضحية كبيرة. وإشفاقًا عليه، حاولت، على عكس رغبته، أن يأتي يومًا بعدَ يوم. لكن فيودور ميخايلوفيتش أكَّد لي أن حضوره إليَّ هو متعة كبيرة بالنسبة له، وأنه يشعر بالحيوية والسكينة النفسية عندما يكون بصُحبتي، ولكنه سوف يَمتنِع عن الحضور يوميًّا إذا ما طلبتُ منه ذلك، ما دامت الزيارات تُضجِرني. كان يقول ذلك من قبيلِ المزاح؛ إذ كان يعلم كم كانت تُسعدني دائمًا.
كنا نجلس بعد احتساء الشاي في مقاعدنا القديمة، وعلى المائدة الصغيرة التي كانت تفصل بيننا أنواع مختلفة من الحلوى. كان فيودور ميخايلوفيتش يأتي كل مساءٍ بالحلوى من Ballet (محل الحلوى المُفضَّل لدَيه). ولمَّا كنت على علم بظروفه المادية، فقد حاولتُ إقناعه بألا يحضر معه أي حلوى، ولكنه كان يرى أن هدايا الخطيب إلى خطيبتِهِ هي عادة قديمة حسنة ينبغي الحفاظ عليها.
وبدوري كنتُ أحرص على توفير الأصناف التي كان فيودور ميخايلوفيتش يُحبها مثل الكمثرى والزبيب والتمر والمشمش المُجفَّف والباستلا، وجميعها بكمياتٍ قليلة، ولكنها دائمًا طازجة وشهية. كنت أذهب بنفسي إلى المحلات بحثًا عن شيءٍ أُدخل به السرور على قلب فيودور ميخايلوفيتش، فكان يُعبِّر عن دهشته ويؤكد أن أحدًا لا يُمكِنه أن يعثر على مثل هذه الأشياء اللذيذة، إلا هذه الفتاة النهمة. وكنتُ أذكر أنه هو الشَّرِه، وهكذا لم نستطع أن نجزم من فينا في هذا الشأن يتغلَّب على الآخر.
عندما اقتربتِ الساعة من العاشرة بدأتُ أحثُّ فيودور ميخايلوفيتش على العودة إلى منزله. كانت البقعة التي يُوجَد بها بيت أمي موحشة، وكنتُ أخشى أن يقع له مكروه. في الأيام الأولى كنتُ أقترح على فيودور ميخايلوفيتش أن يقوم البواب بتوصيلِه، ولكنه كان يرفض الاستماع إلى ذلك، فكنت آمر البواب أن يتبعه سرًّا على مسافة خمس عشرة أو عشرين خطوة، حتى يصِل إلى المنعطف المؤدي إلى شارع سلونوفايا، حيث يزدحم بالحركة.
في بعض الأحيان، لم يكن فيودور ميخايلوفيتش يتمكَّن من الحضور إلي، إما لأنه يُشارك بالحديث في الأمسيات الأدبية، أو يكون مدعوًّا على الغداء. وفي مثل هذه الحالات كنَّا نتفق ليلَتَها على أن أقوم أنا بزيارته في حوالي الساعة الواحدة وحتى الخامسة. أتذكَّر بكلِّ حنانٍ كيف كان يسعى لإقناعي بالبقاء «عشر دقائق أخرى، ربع ساعة» ثم يقول مُتشكِّيًا: فَكِّري يا آنيا، سوف يمرُّ يوم وليلة لن أراك فيها!
أحيانًا ما كان يأتي إلينا في التاسعة أو التاسعة والنصف من مساء نفس اليوم، بعد أن ينسلَّ من بين الضيوف، أو بعد أن يقرأ محاضرته، ثُم يقول لنا بفرحٍ عارم: هربت، كما يهرب التلميذ! لنجلس معًا ولو نصف ساعة! بالطبع كنتُ أشعر بسعادةٍ طاغية لرؤيته مرةً أخرى في نفس اليوم.
فابتسمتُ قائلة: حسنًا، تصوَّر ماذا قال لي بافل ماتتفيفيتش (أولخين) عنك؟ «أعرض عليك العمل لدى الكاتب دستويفسكي، لكنِّي لا أعرف كيف ستتعامَلين معه، لقد بدا لي رجلًا كئيبًا عبوسًا!» وها أنت الآن تقول عنه نفس ما قاله عنك! والحقيقة أن كليكما بعيدٌ كلَّ البُعد عن الكآبة والعبوس، وإن بدَوْتُما فقط على هذا النحو.
– وبماذا أجبتِ على أولخين آنذاك؟ سألني فيودور ميخايلوفيتش بفضولٍ شديد.
– قلت له: ولماذا ينبغي عليَّ التعامُل مع دستويفسكي؟ سوف أسعى جاهدة أن أقوم بالعمل الذي كلَّفَني به على خير وجه، أما دستويفسكي نفسه فإنني أُكِنُّ له احترامًا كبيرًا، بل إنني أخافه!
– إذن، وعلى الرغم من تحذير أولخين، فقد سارت أمورنا على أفضل وجه، وإلى أبد الدهر، أليس كذلك ياعزيزتي أنيتشكا؟ سألني فيودور ميخايلوفيتش وهو يُربِّت عليَّ برقة.
وإذا كان فيودور ميخايلوفيتش يأتي إلينا بنفس راضية، فقد كنتُ أستقبله بكثيرٍ من المرح والعبث والثرثرة. كان صوتي يصلصل كالجرس، أنفجر بالضحك لأبسط دُعابة، وعندئذٍ كان فيودور ميخايلوفيتش يضرب كفَّيه ثم يصيح متعجبًا بطريقة ساخرة: حسنًا، كيف سأتصرَّف مع هذا الطفل، أخبريني من فضلك؟ وأين ذهبت آنَّا جريجوريفنا الرزينة، الصارمة أحيانًا، حتى تكاد أن تكون قاسية، آنَّا التي كانت تأتي إليَّ لنقوم بالاختزال؟ أكاد أجزم أنهم استبدلوها خلسة!
عندئذٍ اتَّخذتُ على الفور مظهر الأهمية، وبدأتُ أتحدث معه بلهجة شديدة الجدية. وسرعان ما انتهى الأمر بأن انفجرنا معًا بالضحك.
وبالمناسبة، فأنا لم أكن دائمًا مرحة. كان السخط الشديد ينتابني، عندما يقوم فيودور ميخايلوفيتش بدور «العجوز المُتصابي». كان باستطاعته أن يتحدَّث ساعاتٍ طويلة بلسان وأفكار بطلِه، الأمير العجوز من قصة «حلم العم». كان يُصرح بأفكارٍ مبتكرة ومفاجئة للغاية، يتحدث بمرح وعبقرية، لكن هذه القصص، بلهجة المُتصابي، والتي لا تليق إطلاقًا بعجوز، صدمَتْني، فَرُحْتُ أنتقل بالحديث إلى موضوع آخر.
ما الذي لم نتحدث فيه في هذه الشهور السعيدة! لقد رحت أسأله تفصيلًا عن طفولته، عن شبابه، عن كلية الهندسة، عن نشاطه السياسي، عن المنفى في سيبيريا، وعن عودته من هناك …
قلت له: أودُّ أن أعرف كل شيء عنك، أن أرى ماضيك بوضوح، أن أُدرك روحك بأسرها!
أما ذكرياته عن خطيبته آنَّا فاسيليفنا كورفين-كروكوفسكايا فقد تحدَّث عنها برِضًا أكثر نسبيًّا. وعن سؤالي حول سبب فسخ خطبتهما، أجاب: آنَّا فاسيليفنا واحدة من أفضل النساء اللاتي قابلتهنَّ في حياتي. كانت شديدة الذكاء، ناضجة، تمتلك ثقافةً أدبية واسعة، وكان لدَيها قلب طيب ورائع. كانت فتاة تمتلك خصالًا خُلقية رفيعة؛ على أن أفكارنا كانت على طرفَي نقيض، وكان من المستحيل أن تتراجع عن أفكارها، بل كانت مُتمسكة بها بشدة. ولهذا كان من الأرجح ألا ينجح زواجنا. أحللتُها من وعدها، وتمنيتُ لها، مُخلصًا، أن تقابل الرجل الذي يُشاركها أفكارها وأن تجد سعادتها معه!
ظلَّ فيودور ميخايلوفيتش طوال عمره على علاقةٍ طيبة بآنَّا فاسيليفنا، وكان يَعتبرها صديقًا مخلصًا. وعندما تعرَّفتُ على آنَّا فاسيليفنا، بعد مرور ستة أعوامٍ من زواجي، انعقدَتْ أواصر الصداقة بيننا وأصبح كلٌّ منَّا يُكنُّ مشاعر الحب والمودة للآخر. وقد تبيَّن لي أن ما قاله فيودور ميخايلوفيتش عن عقلها النابه وقلبها الطيب وخصالها الأخلاقية الرفيعة صحيح تمامًا. وقد كان مُحقًّا أيضًا، وبنفس القدر، فيما يتعلق باستحالة أن يعيشا معًا في وئام. كانت آنَّا فاسيليفنا تفتقِر إلى السماحة اللازمة لاستمرار الحياة الزوجية الهادئة. وبخاصة إذا ما قُدر لها أن تتزوَّج من رجل مريض، سريع الغضب، على النحو الذي يكون عليه أحيانًا فيودور ميخايلوفيتش نتيجة لمرضه. بالإضافة إلى ذلك كانت آنَّا فاسيليفنا منشغلةً تمامًا آنذاك بصراع الأحزاب السياسية، بحيث لا يتبقَّى لديها وقت كبير لرعاية الأسرة. وقد تغيَّرت بمرور الزمن. وأذكُر أنَّني رأيتها زوجة رائعة وأمًّا رءومًا.
١٤
في واحد من أحاديث المساء سألني فيودور ميخايلوفيتش: آنيا، أخبريني، هل تتذكَّرين هذا اليوم، عندما أدركتُ للمرة الأولى أنك تُحبينني؟
أجبت بقولي: هل تعلم يا عزيزي أنني أعرف اسم دستويفسكي منذ طفولتي، لقد أحببتُك، وإن شئت الدقة، أحببتُ أحد أبطالك منذ أن كان عمري خمسة عشر عامًا.
ابتسم فيودور ميخايلوفيتش دون أن يأخذ كلماتي على محمل الجد.
قال فيودور ميخايلوفيتش ملاحظًا: لم أعُد أتذكَّرهم، وعمومًا فإنني أتذكر موضوع الرواية بشكلٍ غير واضح.
أجبت بذهول: هل حقًّا نسيتَهم؟! يا له من أمرٍ مؤسِف! لقد كنتُ مُتيَّمة بإيفان بتروفيتش، الذي كانت أحداث القصة تدور على لِسانه. ورفضتُ أن أفهم، كيف استطاعت ناتاشا أن تُفضل أليوشا التافه على ذلك الرجل الرائع، وكنت أقول في نفسي وأنا أقرأ «إنها تستحق ما هي فيه من تعاسة، لأنها رفضت حُب إيفان بتروفيتش، الذي كنتُ أتعاطف معه، مع مؤلِّف الرواية. كنتُ أتصوَّر أنه هو نفسه دستويفسكي، الذي يحكي القصة الحزينة لحُبِّه الفاشل … إذا كنتَ قد نسيت، فإن عليك حتمًا أن تُعيد قراءة هذه الرواية الرائعة. ثم واصلت القول: بالمناسبة، أتذكَّر أنك سألتني، ذات مرة، في بداية تعارفنا: هل وقعتِ في الحب؟ فأجبتُك: «لم أُحب شخصًا بعينه، ولكني أحببتُ أحد أبطال روايتك وكان عمري خمسة عشر عامًا. فسألتني: «أية رواية؟» وهنا أسرعت بتغيير دفة الحديث: أحسستُ أنه من غير اللائق أن أُسمِّي بطل روايتك. بإمكانك أن تأخذ ذلك باعتباره نوعًا من دلال الآنسات اللائي يرغبن في الظهور بمظهر العليمات بالأدب. كنتُ أودُّ أن أكون مُستقلة تمامًا.
كم من الدموع ذرفتُ وأنا أقرأ «مذكرات من البيت الميت»! كان قلبي مليئًا بالتعاطُف والأسف على دستويفسكي، الذي تحمَّل هذه الحياة القاسية في المُعتقل. لقد جئتُ للعمل معك بدافع هذه الأحاسيس التي ذكرتُها لك. كنتُ أودُّ بشدة أن أُقدم لك يد العون ولو بشيءٍ ما يخفف عن إنسان متاعبه، إنسان أُعجِبت بأعماله إعجابًا كبيرًا وقد حمدت الله أن أولخين اختارني للعمل معك ولم يختر أحدًا آخر.
في مساء اليوم التالي، طرحت على فيودور ميخايلوفيتش بدوري، السؤال الذي كان يشغلني منذ فترة طويلة، والذي كنتُ أخجل من طرحه: متى أحسَّ أنه يُحبني، ومتى قرَّر أن يخطبنى؟
راح فيودور ميخايلوفيتش يستعيد ذكرياته، وقد أثار حزني أنه اعترف لي، أنه لم يلاحظ إطلاقًا ملامح وجهي في الأسبوع الأول لتعارفنا.
تعجبت قائلة: كيف لم تلاحظ؟ ما معنى هذا؟
– إذا قام أحدهم بتعريفك بشخصٍ جديد، فقلتِ له بضع عبارات تقليدية، فهل من المعقول أن تتذكَّري وجهه؟ كلَّا بالطبع! وأنا بطبعي دائم النسيان. وهو ما حدث أيضًا في هذه المرة: تحدَّثتُ معك، رأيتُ وجهك، وما إن خرجتُ حتى نسيته، ولم أكن لأتذكر إذا ما سألني سائل إن كنتِ شقراء أو سمراء. ولم أنتبِه إلى جمال عينَيك الرماديَّتَين وابتسامتك الطيبة الصافية إلا في نهاية شهر أكتوبر. ثم رحتُ بعد ذلك أُعجَب بوجهك كله، وكلما مرَّ الوقت، ازددتُ بك إعجابًا! أما الآن فلا أرى في الدنيا وجهًا أجمل من وجهك! ثم أضاف بسذاجة: جميلة في عيون الجميع. استمرَّ فيودور ميخايلوفيتش في ذكرياته قائلًا: أذهلتني، عند زيارتك الأولى، مدى اللباقة التي تتمتَّعِين بها، وكذلك تعامُلك الجاد، والذي يصِل إلى حد الخشونة تقريبًا. قلت لنفسي: يا له من نموذجٍ لفتاة رزينة وعملية! وكم كانت سعادتي أنَّ لدَينا في مجتمعنا هذا النموذج. أذكر أنني ذات مرة قلتُ لفظًا أخرقَ دون قصد، فنظرتِ إليَّ نظرةً أصبحتُ بعدها أزن كلامي خوفًا من أن أُغضبك، بعد ذلك أدهشني وشدَّ انتباهي سلامة النية التي تتدخَّلين بها في شئوني الخاصة، وهذا التعاطف الذي تُبدِينه تجاه المصائب التي تتهدَّدني. كنتُ أظن أن أقاربي وأصدقائي يُحبونني، وأنهم مُتحمِّسون، يشتعلون غيظًا، لأنني يمكن أن أفقد حقوقي الأدبية، كانوا ساخطين على ستيلوفسكي، مُستائين، يُلومونني لأنني وقَّعتُ على هذا العقد (كما لو كان بإمكاني ألا أُوَقِّع عليه!) ينهالون عليَّ بالنصائح، يُواسونني. أما أنا فكنت أشعر أن كلَّ ذلك ما هو إلا «كلام، كلام، كلام» وأن لا أحد منهم أعطى الأمر أُذنًا صاغية، وأنني إذا فقدت حقوقي، فإنني أفقد بذلك آخِر ما أملك … وهذه الفتاة الغريبة، التي عرفتها للتو، راحت، منذ اللحظة الأولى التي اطَّلَعَت فيها على أوضاعي، تُساعدني بالعمل لا بالكلام، دون أن تتنهَّد أسفًا، أو تصرخ، أو تبدي أساها. وعندما استقرَّ عملُنا بعد عدة أيام. انتعشت الآمال في روحي، التي كانت مسكونةً باليأس التامِّ تقريبًا، وقلتُ لنفسي «لعلَّني أستطيع أن أُسلِّم العمل في موعده، إذا ما استمرَّ العمل على هذا النحو!» كانت تأكيداتك، أنَّنا حتمًا سننجح (تذكرين، كيف كنَّا نحسب معًا عدد الأوراق التي كتبتِها)، مؤكدة هذا الأمل، واهبةً لي القوة على مواصلة العمل. وكثيرًا ما كنتُ أحدث نفسي، مُتحدثًا معك: «يا له من قلبٍ طيب لدى هذه الفتاة! إنها لا تكتفي بالحديث، وإنما تشعر فعلًا بالأسى تجاهي، وتودُّ أن تُخرِجني من الكرب الذي أنا فيه.» كنتُ أشعر بوحدةٍ موحشة، حتى إنني ما إن وجدتُ إنسانًا يتعاطف معي بإخلاص حتى شعرتُ بالسعادة الكبرى.
ثم واصل فيودور ميخايلوفيتش حديثه قائلًا: أظنُّ أن حُبي لك بدأ منذ هذه اللحظة، بعد ذلك أعجبني وجهك الحبيب. أحيانًا كنتُ أضبطني مُتلبسًا بالتفكير فيك؛ ولكن عندما انتهينا فقط من «المقامر»، وتنبَّهتُ إلى أننا لن نلتقي يوميًّا، وأدركتُ أنني لا أستطيع العيش بدونك. عندئذٍ قررتُ أن أتقدَّم لخطبتك.
سألته باهتمام: ولكن لماذا لم تتقدَّم لخطبتي ببساطة كما يفعل الآخرون، وإنما اخترعتَ هذه الرواية المُثيرة؟
أجاب فيودور ميخايلوفيتش وقد أخذه التأثُّر: تعلمين يا يمامتي آنيا، أنني عندما أدركتُ مكانتك عندي، انتابني إحساسٌ عميق باليأس، وبدت لي نِيَّتي الزواج منك جنونًا مُطبقًا! انظري كم نحن مختلفان! يكفي الفارق في العمر! فأنا في الواقع لستُ سوى عجوز، وأنت لستِ سوى طفلة. أنا مريض ومرضي لا براءَ منه، عبوس وعصبي؛ وأنت مليئةٌ بالصحة والعافية، نشيطة ومُحبة للحياة. أنا عشت زمني تقريبًا، عانيتُ في حياتي الكثير من الحزن. وأنت عشتِ دائمًا حياةً رغدة، وما يزال المستقبل أمامك. وأخيرًا، فأنا فقير ومُثقل بالديون. ما الذي تنتظرينه من جراء عدم التكافؤ هذا؟ إما أن نكون تعساء، أو ننفصِل بعد أن نُمضي معًا بضع سنوات من العذاب، أو نتآلف ما تبقى لنا من العمر ونُصبح سعداء.
كنتُ أشعر بالألَم وأنا أستمع إلى فيودور ميخايلوفيتش وهو يحطُّ من قدر نفسه، فانبريتُ مُعترضةً بحدة: يا عزيزي، إنك تُهوِّل الأمور! إن عدم التكافؤ الذي تفترضه بيننا غير موجود. إذا أحب كلٌّ منَّا الآخر بقوة، فسنصبح أصدقاء وسوف نكون سعداء أبد الدهر. إن ما يُخيفني شيء آخر، حسنًا، كيف لمن هو مثلك، موهوب، ذكي، مُثقف، أن يتَّخِذ لنفسه فتاةً بلهاء رفيقًا في الحياة، فتاة تمتلك قدرًا مُتواضعًا من العلم مقارنة بك، على الرغم من أنني حصلتُ في الثانوية على الميدالية الفضية الكبرى (كنت أفتخر كثيرًا بهذه الميدالية آنذاك)، وعلى أيِّ حال فأنا لم أبلغ هذا القدْر من الثقافة، الذي يؤهلني أن أقف إلى جانبك على قدَم المساواة. أخشى ما أخشاه أن تكتشِف سريعًا ما بي من نقص، فتشعر بالملل ثم تأسف على أنني غير قادرة على فهم أفكارك. هذا هو عدم التكافؤ، الذي هو أسوا من كل تعاسة!
أسرع فيودور ميخايلوفيتش في تهدئة خاطري. ظلَّ يمدحني كثيرًا. ثم عُدنا إلى الحديث المفضل لدي، الحديث عن الخطوبة.
قال فيودور ميخايلوفيتش: تردَّدتُ كثيرًا كيف أخبرك. عجوز يفتقد الوسامة يتقدَّم لخطبة فتاةٍ شابَّة فلا يجد قبولًا. أمر يمكن أن يُثير الضحك، ولم أكن أرغب في أن أكون مُضحكًا في نظرك. قد تقولين لي فجأة إنك مُغرمة بشخصٍ آخر، فيخلق رفضك فتورًا بيننا، وإذا بعلاقة الودِّ السابقة تصبح أمرًا لا يُحتَمل، وعندئذٍ أَفقِدُك كصديق، ويضيع منِّي الشخص الوحيد الذي عاملني بإخلاصٍ طوال العامَين الآخيرين. أقول لك مرةً أخرى إنني كنتُ أشعر بوحدة مُوحشة، ولو أنني فقدتُ صداقتك ومساعدتك، لأصبح الأمر قاسيًا على نفسي. ومِن ثم فكرتُ أن أعرف مشاعرك، بعد أن أقصَّ عليك خطة رواية جديدة. كان من الأسهل عليَّ أن أتحمَّل رفضك؛ إذ كنتُ سأعتبر أن الحديث يدور هنا حول أبطال الرواية وليس عنَّا.
وبدوري، رحتُ أحكي له كم عانيتُ كثيرًا أثناء هذه الخطوبة الأدبية، بسبب عدم فهمي، وغيرتي، وحسدي لآنَّا فاسيليفنا وهلمَّ جرًّا.
أخذَتِ الدهشة فيودور ميخايلوفيتش الذي قال: إذن فقد أخذتُكِ بغتةً وحصلتُ على موافقتكِ قسرًا! بالمناسبة، في رأيي أن الرواية التي قصصتُها عليك آنذاك، هي من أفضل القصص التي كتبتُها على الإطلاق، إذ حققت على الفور نجاحًا كبيرًا وحققت التأثير المطلوب!
١٥
في نشوة انطباعتنا السعيدة الجديدة نسينا، أنا وفيودور ميخايلوفيتش، العمل على إنهاء «الجريمة والعقاب»، في الوقت الذي كان قد تبقَّى كتابة الجزء الثالث من الرواية بأكمله. تذكَّر فيودور ميخايلوفيتش هذا الأمر في نهاية نوفمبر، عندما طلبت هيئة تحرير مجلة «البشير الروسي» تكمِلة الرواية. ولحُسن الحظ، فإن المجلَّات في تلك السنوات كانت نادرًا ما تصدُر في موعدها، بل إن «البشير الروسي» ذاتها كانت مشهورة بتأخُّرها في الصدور، فعدد نوفمبر يصدُر في نهاية ديسمبر، وعدد ديسمبر يصدر في مطلع فبراير وهلم جرًّا، ولهذا كان أمامنا مُتَّسع من الوقت.
أحضر إليَّ فيودور ميخايلوفيتش خطاب هيئة التحرير وطلب منِّي النصيحة. اقترحتُ عليه أن يغلق عليه بابه أمام الضيوف، وأن يعمل نهارًا من الثانية وحتى الخامسة، وبعدها يقوم بإملائي من مخطوطته عندما يحضر إلينا.
هكذا قُمنا بتنظيم عملنا، فبعد أن نتحدَّث حوالي ساعة في شتَّى المواضيع، أجلس إلى المكتب، بينما يجلس فيودور ميخايلوفيتش إلى جوارى ويبدأ في الإملاء، الذي يقطعه أحيانًا بعض الحديث وإطلاق النكات والضحك. سار عملُنا على أكمل وجه، وتمَّت كتابة الجزء الثالث من «الجريمة والعقاب» والمكوَّن من سبع ملازم في خلال أربعة أسابيع. وقد أكَّد لي فيودور ميخايلوفيتش أنه لم يحدُث له إطلاقًا أن عمل على هذا النحو من السهولة، وعزا هذا النجاح إلى مساعِدته.
انعكس المزاج النشيط والمرح لفيودور ميخايلوفيتش في تلك الفترة إيجابيًّا أيضًا على صحته. فقُبَيل زفافنا بثلاثة أشهر لم تُهاجمه نوبات الصرع سوى ثلاث أو أربع مرات. وقد أسعدَني هذا الأمر كثيرًا وبثَّ في روحي الأمل في أنه كلما كانت الحياة أكثر هدوءًا وسعادة، خفَّت حدة المرض، راحت النوبات الأسبوعية تقلُّ عامًا بعد الآخَر مع انخفاض حدَّتِها. بالطبع فإنَّ الشفاء التامَّ من الصرع كان أمرًا مُستبعدًا، وبخاصة أن فيودور ميخايلوفيتش لم يسعَ للعلاج؛ مُعتبرًا أن مرضَه لا براء منه. ولكننا اعتبرْنا أن تراجُع عدد النوبات وانخفاض حدتها هو هبة إلهية، فقد جنَّبَه ذلك في الحقيقة المزاج الرديء والاكتئاب، اللذَين كانا يستمران أحيانًا أسبوعًا كاملًا كنتيجةٍ حتمية للنوبة؛ فضلًا عن الدموع والمُعاناة التي كنتُ أعيشها في أثناء وجودي عند ظهور نوبات هذا المرض الفظيع.
كانت أُمسياتنا تمضي دائمًا في سكينةٍ ومرَح، لكن إحداها مرَّت بنا، فجأة، على نحو عاصف.
حدث ذلك في نهاية شهر نوفمبر. جاء فيودور ميخايلوفيتش، كعادته، في الساعة السابعة، وفي هذه المرة كان يرتجِف بشدة من البرد. وبعد أن تناول كوبًا من الشاي الساخن، سألَني إن كان لدَينا كونياك أجبتُ بالنفي، ولكنني أخبرتُهُ بوجود خمر الشيري الجيد. وعلى الفور قمتُ بإحضاره فعبَّ منه ثلاث أو أربع كئوس كبيرة دفعةً واحدة، شرِب بعدها كوبًا من الشاي الساخن، وعندئذٍ فقط سرى في جسده الدفء. تعجبتُ كيف نال البرد القارس من فيودور ميخايلوفيتش على هذا النحو، ولم أعرف تفسيرًا لذلك. على أنني سرعان ما أدركتُ السبب. فعند مروري بمدخل البيت لقضاء أمرٍ ما، لاحظتُ أن فيودور ميخايلوفيتش يضع على المِشجَب بالطو خريفيًّا من القطن، بدلًا من البالطو الشتوي ذي الفراء، الذي اعتاد أن يرتدِيَه. عدتُ أدراجي على الفور إلى غرفة الاستقبال وسألته: ألم تكن ترتدي البالطو الفراء عند مجيئك اليوم؟
– لا … بالطو الخريف. أجاب فيودور ميخايلوفيتش محاولًا التهوين من الأمر.
– الآن فهمتُ لماذا كنتَ ترتجف من البرد. سأُرسل سيميون الآن بهذا البالطو ليحضر لك الفراء.
– لا داعي! من فضلك، لا داعي! سارع فيودور ميخايلوفيتش بالإجابة.
– كيف لا داعي عزيزي؟ سوف تُصاب بنزلة بردٍ في طريق العودة، سوف يكون الجوُّ أكثر برودةً بحلول الليل.
صمت فيودور ميخايلوفيتش، بينما واصلتُ الإصرار، وفي النهاية اعترف قائلًا: ليس لدي بالطو فرو …
– كيف؟ هل سُرقت؟
– لا، لم يَسرقني أحد، ولكن اضطررتُ لرهنِه.
اندهشت، ومن ثَمَّ رحتُ أتحرى منه الحقيقة بشدة، حتى راح فيودور ميخايلوفيتش يحكي لي، كُرهًا، ربما، أن إميليا فيدوروفنا حضرت إليه هذا الصباح وطلبتْ منه أن يُنقِذَها من المصيبة، بأن يدفع عنها دينًا عاجلًا مِقداره خمسين روبلًا. وكذلك طلب ربيبه مبلغًا من المال يحتاجُه أخوه نيكولاي ميخايلوفيتش، الذي أرسل خطابًا له بهذا الشأن. لم يكن لدى فيودور ميخايلوفيتش نقود، فقرَّروا أن يرهنوا البالطو الفرو عند أقرب محلِّ رهونات مؤكِّدين لفيودور ميخايلوفيتش أن ذوبان الثلوج مستمرٌّ وأن الجو دافئ وأنه يستطيع أن يقضيَ بضعة أيامٍ مُرتديًا بالطو الخريف حتى يحصل على نقود من مجلة «البشير الروسي».
كنت في حالة شديدة من الإحباط والاستياء من جراء قسوة المشاعر لدى أقارب فيودور ميخايلوفيتش. قلتُ له إنني أُقدر رغبته في مساعدة أقاربه، ولكنَّني أرى أن من المُستحيل أن يُضَحُّوا بصحته وربما بحياته أيضًا.
بدأتُ حديثي بهدوء، لكن غضبي وحُزني راحا يتصاعدان مع كل كلمة من كلامي؛ فقدتُ السيطرة على مشاعري ورحتُ أتحدَّث كمن فقد عقله، دون أن أتخيَّر تعبيراتي، رحتُ أؤكد له أن عليه التزامات نحوي، فأنا عروسه، وأنني لن أتحمَّل صدمة موته، أجهشتُ بالبكاء، وأخذتني حالة هيستيرىة منَ النحيب والصراخ. كان فيودور ميخايلوفيتش حزينًا للغاية، عانَقَني وقبَّل يديَّ ورجاني أن أهدأ. سمِعَتْ أمي بكائي. شعرتُ بالخجل فاعتذرتُ لفيودور ميخايلوفيتش. وفي معرض شرحه لِما حدث، أخبرَني أنه اضطُرَّ في الشتاء الماضي لرهن البالطو الفرو خمسَ أو ستَّ مرات. وكان يسير مُرتديًا بالطو الخريف.
أكد لي فيودور ميخايلوفيتش وهو في حالةٍ شديدة من الخجل والارتباك قائلًا: لقد تعودتُ على مثل هذه الرهونات، ولهذا لم أُولِ أيَّ أهميةٍ لهذا الأمر هذه المرة أيضًا. لو كنتُ أعلم أنك ستأخُذين هذا الأمر على نحوٍ مأسوي، لَما كنتُ قد سمحت لباشا، مهما حدث، أن يأخذ البالطو لرهنه.
انتهزتُ فرصة ندم فيودور ميخايلوفيتش وأخذتُ عهدًا عليه ألا يتكرَّر هذا الأمر مرةً أخرى. وهنا عرضتُ عليه ثمانين روبلًا لاستعادة البالطو، ولكنَّهُ رفض رفضًا باتًّا.
عندئذٍ رحتُ أتوسَّل إليه أن يبقى في البيت وألا يُغادره إلى أن تصِل النقود من موسكو. وافق فيودور ميخايلوفيتش على «الحبس المنزلي» بعد أن أخذ عهدًا عليَّ أن أزوره كلَّ يومٍ في الواحدة وأبقى لدَيه حتى موعد الغداء.
لدى وداعي لفيودور ميخايلوفيتش، طلبتُ منه مُجددًا أن يَصفح عنِّي على هذا «المشهد المسرحي» الذي قمتُ به أمامه اليوم.
أجاب فيودور ميخايلوفيتش قائلًا: رُبَّ ضارة نافعة! الآن تأكد لي إلى أي حدٍّ تُحبينني، لم يكن باستطاعتك البكاء على هذا النحو، لو لم أكن عزيزًا عليك!
أحطتُ رقبة فيودور ميخايلوفيتش بشالي الأبيض وأرغمتُهُ أن يُطلِقَه على كتفَيه. قضيتُ بقيةَ المساء تُعذِّبني فكرة أن فيودور ميخايلوفيتش قد يَهجرني، إذا ما عرف أنَّني قادرة على أداء مثل هذه «المشاهد» أو أفزع من أن يُصاب بنزلة بردٍ في الطريق، أو يُصاب بمرضٍ خطير، لم أنم تقريبًا، استيقظتُ مبكرًا وفي الساعة العاشرة هاتفتُ منزل فيودور ميخايلوفيتش تليفونيًّا. طمأنَتْني الخادمة وأخبرتْني أن السيد قد استيقظ من نومه وأنه لم يشتكِ من أي مرضٍ بالليل.
أستطيع القول إن هذه الأمسية، كانت الوحيدة «العاصفة» قبيل زفافنا بثلاثة أشهر.
«آنَّا جريجوريفنا!» … كان يُغني بصوتٍ حسَن من طبقة التينور خافِتٍ بعضَ الشيء. بعد أن انتهت الأغنية، اقترب فيودور ميخايلوفيتش من كوة النافذة وقذف بعُملة من خلالها، وسرعان ما اختفى عازف الأرغن. أجاب فيودور ميخايلوفيتش على استفساري بقوله إن عازف الأرغن لاحظ، بداهة، بعد أي أغنية تحديدًا يُلقون عليه بالنقود، وها هو يأتي كل يومٍ ليقف أسفل النافذة ليعزف فقط هذه الأغنية من «ريجوليتو». ثم أردف قائلًا: أما أنا فأسير دائمًا وأنا أترنَّم باسمك العزيز على موسيقى هذه الأغنية!
ضحكتُ وتظاهرتُ بالغضب لأن فيودور ميخايلوفيتش وضع اسمي مكان الكلمات الساذجة، ولكني رحتُ أؤكد أن الاستقرار والثبات من طباعي، فإذا ما أحببت، فإنني أحبُّ إلى الأبد. ضحك فيودور ميخايلوفيتش وقال: سنرى، سنرى!
استمعتُ إلى هذه الأغنية من الأرغن ومن فيودور ميخايلوفيتش في اليومَين التاليين، واندهشتُ لدقة التطابُق بين غنائه وبين اللحن. بداهة فقد كانت لدَيه أذن موسيقية جيدة.
«لقد وهبك الله إياي، حتى لا يضيع سُدًى شيء من فطرتك وثراء روحك وقلبك، وإنما على العكس من ذلك، ليزداد ثراءً وبهاءً؛ وهبني إياك لكي أتطهَّر بك من خطاياي العظيمة، بعد أن أُقدمك إلى الله وقد أصبحتِ ناضجة، تعرفين طريقك، طاهرة مُصانة من كل دناءة من شأنها أن تُميت الروح.»
وفي جميع الأحوال فقد وضع فيودور ميخايلوفيتش نصب عينَيه أن يَحميني من كل الانطباعات المسيئة. أذكر ذات مرة، وكنتُ في إحدى زياراتي له أنني رحتُ أتصفَّح رواية باللغة الفرنسية، كانت موضوعة على مكتبه. اقترب منِّي وسحب الرواية بهدوءٍ من بين يديَّ. قلت له: إنَّني أفهم اللغة الفرنسية. دع لي هذه الرواية لأقرأها.
فأجاب: ليست هذه الرواية! ما الداعي لتلويث مخيلتك؟!
وحتى بعد زفافنا، كان فيودور ميخايلوفيتش يتخيَّر لي بنفسه الكتب، ولم يكن يسمح مُطلقًا أن أقرأ الروايات العابثة، تحدوه الرغبة أن يأخذ بيدي في طريق تطويري أدبيًّا. كان هذا التحكُّم يُغضبني أحيانًا، وكنتُ أحتجُّ عليه بقولي: ولماذا تقرؤها أنت نفسك؟ ولماذا تلوِّث مخيلتك؟ فكان يجيب: أنا رجل لديَّ مناعة. هذه الكتب ضرورية لي باعتبارها مادة لعملي. على الكاتب أن يعرف كل شيء وأن يفحص كلَّ شيء. ولكنني أؤكد لك أنني لا أتلذَّذ بالمشاهد الماجنة، بل إنها كثيرًا ما تُثير في نفسي النفور.
لم تكن هذه عبارات إنشائية يقولها، وإنما كانت الحقيقة.
بهذا الشعور بالنفور كان فيودور ميخايلوفيتش ينظُر إلى الأوبيرتات التي كانت سائدةً في هذا العصر. لم يكن يذهب إلى المسرحيات الهزلية، ولم يكن يسمح لي بمشاهدتها. كان يقول لى: إذا الظروف سمحت لنا أن نذهب إلى المسرح، فينبغي علينا أن نتخيَّر المسرحية، التي يمكن أن تترك لدى المشاهد انطباعًا راقيًا نبيلًا، وإلا فإنها ستُلوث روحه بالتفاهات!
١٦
كان الموضوع الرئيسي والأعز علينا، أنا وفيودور ميخايلوفيتش، بطبيعة الحال، هو مُستقبل حياتنا الزوجية.
كنتُ أفكر، في غضبٍ، في هؤلاء العاطلين، إذ أرى أنَّ هموم فيودور ميخايلوفيتش الدائمة بشأن النقود كانت تُفسِد مزاجه الطيب وتؤثر تأثيرًا ضارًّا في صحته. كانت أعصابه تتوتَّر بشدة من جرَّاء الضغوط المستمرة؛ ومن ثم كانت نوبات الصرع تزداد. كان ذلك قبل ظهوري في حياته، بعدَها تغيَّر الأمر بعض الوقت. لكنِّي كنتُ أحلم أن يتعافي تمامًا عندما نعيش حياتنا معًا في المستقبل، وأن يظلَّ مُحتفظًا بنشاطٍ ومزاج حسن.
كنت أشعر بالأسف على الوضع المالي الصعب الذي يُعاني منه خطيبي، فرحتُ أطمْئِن نفسي بفكرة أنَّني في المستقبل القريب، بعد عام، سوف يُصبح بإمكاني مُساعدته بشكلٍ جذري، وذلك بعد أن أتسلَّم يوم بلوغي سنَّ الرشد، البيت الذي تركَه لي والدي حسب وصيَّته.
كان والداي يَمتلكان، منذ نهاية الأربعينيات، قطعتَي أرض كبيرتَين. (حوالي هكتارين)، يقعان في شارِعَي ياروسلافسكايا وكوسترومسكايا، يُوجَد في قطعةٍ منهما بيتان من الحجر، كل منهما من طابقَين، نُقيم فيهما، وثلاثة بيوت خشبية مُلحقة بهما. وفي قطعة الأرض الأخرى بيتان من الخشب، أحدهما أُعطِيَ لأختي ضمن جهاز زفافها، والآخر خُصِّص لي. يمكن بعد بيعه أن نَحصُل على ما يزيد على عشرة آلاف روبل، كنتُ أريد أن أُسدِّد منها جزءًا من ديون فيودور ميخايلوفيتش، لكن وللأسف الشديد، لم يكن بإمكاني أن أفعل ذلك قُبَيل بلوغي سنَّ الرشد. حاوَلَتْ أمي إقناع فيودور ميخايلوفيتش أن يُصبِح وصيًّا علي، ولكنَّه رفض ذلك الأمر بإصرار قائلًا: هذا البيت بيت آنَّا، لتأخُذه في الخريف عندما تبلُغ الحادي والعشرين من العمر. لا أريد أن أتدخَّل في شئونها المالية.
كان خطيبي فيودور ميخايلوفيتش يرفض دائمًا مساعداتي المالية، وكنتُ أقول له إننا ما دُمنا نُحب بعضنا البعض، فإنَّ كلَّ شيء ينبغي أن يكون مُشتركًا بيننا فكان يُجيب: بالطبع، هذا ما سيكون عندما نتزوج، أما الآن فأنا لا أريد أنا آخُذ منك روبلًا واحدًا.
أعتقد أن فيودور ميخايلوفيتش كان يدرك جيدًا زيف مطالب أقاربه في بعض الأحيان، ولكنه، على الرغم من أنه لم يكن قادرًا على رفض طلباتهم، لم يكن يوافق إطلاقًا على تلبية هذه المطالب من مالي الخاص. وحتى الألفا روبل اللذان خصَّصَهما والداي لتجهيزي رفض المساس بها وأقنعني بشراء كل ما أرغب في شرائه لبيت المستقبل. أتذكر بكل الحنين كيف راح فيودور ميخايلوفيتش ينظر إلى السكاكين والملاعق الفضية التي اشتريتُها لتوِّي ثم راح يَرصُّها في عُلَبِها، ودائمًا ما كان يُثني على اختيارى. كان يعلم أن مديحَه يجعلني أتهلَّل وأنتشي من السعادة.
كان يحب النظر إلى ثيابي الجديدة بصفةٍ خاصة، وعندما كانوا يُحضرونها من عند الخياطة كان يُرغمني على قياسها وأن أستعرِضَها أمامه. وكان يُعجَب ببعض الفساتين (على سبيل المثال ذات اللون الأحمر الداكن) إلى حدِّ أنه كان يَطلُب منِّي أن أظلَّ بها طوال السهرة.
كان فيودور ميخايلوفيتش يصر أيضًا على أن أجرب ارتداء قبعاتي، وكان يرى أنها تُلائمني تمامًا. كان يحاول دائمًا أن يقول كلامًا طيبًا ودودًا وكان ذلك يبعث في نفسي السرور. كم كان قلبه المحب مفعمًا بالحنان والإخلاص!
١٧
سرعان ما دارت الأيام واقتربت أعياد الميلاد. كان فيودور ميخايلوفيتش في الأعوام الأخيرة يقضي الأعياد دائمًا وسط أسرة أخته الحبيبة فارفارا ميخايلوفنا إيفانوفا، وفي هذا العام أيضًا قرَّر السفر إلى موسكو. كان الهدف الرئيسي من السفر، بطبيعة الحال، نيَّتَهُ أن يعرِض على كاتكوف روايتَه الجديدة وأن يأخذ النقود اللازمة لزفافنا.
كان فيودور ميخايلوفيتش يشعر بالحُزن الشديد قُبَيل سفره، كان يُحبني وكان فراقه عنِّي أمرًا صعبًا. وأنا أيضًا كنتُ حزينة للغاية، ولا أعرف لماذا تصورتُ أنني لن أراه بعد ذلك. حاولتُ أن أبدوَ مُبتهجةً وأن أُخفي حزني، حتى لا أزيد من قلقِه. كان حزينًا بوجهٍ خاص في محطة القطارات عندما وصلتُ لتوديعه. نظر إلي بحنان بالغٍ وشدَّ على يدي وهو يُصافحني وراح يكرر القول: سأسافر إلى موسكو ومعي آمال كبيرة، وسوف نلتقي ثانيةً على أي حال يا عزيزتي آنيتشكا، سنلتقي على أي حال!
وقد ازدادت حالتُه النفسية سوءًا بسبب التصرُّفات الصبيانية السخيفة لبافل ألكسندروفيتش، الذي جاء إلى المحطة أيضًا بصحبة أبناء شقيق فيودور ميخايلوفيتش. صعِدنا جميعًا إلى عربة القطار لنرى كيف سيجلس فيودور ميخايلوفيتش، وإذا ببافل ألكسندروفيتش يُعبِّر عن «اهتمامه» نحو أبيه على غير انتظارٍ ليقول بأعلى صوته: بابا، لا تُفكر في النوم في السرير العلوي، حتى لا تسقط على الأرض إذا ما هاجمَتْك النوبة، فعندئذٍ لن نستطيع أن نُلملِم عظامك!
لكُم أن تتخيلوا أثر هذه الكلمات على فيودور ميخايلوفيتش وعلينا، وعلى جميع الحضور. عندئذٍ طلبَتْ إحدى المسافرات، يبدو أنها شديدة العصبية، من أحد الحمَّالين، الذي كان يمرُّ داخل العربة، أن ينقل أمتعتها إلى غرفة السيدات بدعوى أنهم «على ما يبدو سوف يُدخِّنون هنا» (كانت العربة مُخصَّصة لغير المدخنين).
لقد كدَّرَت هذه الحادثة من صفو فيودور ميخايلوفيتش، الذي كان يكرَهُ الحديث عن مرضه الفظيع وسط الناس. ونحن أيضًا، الذين ذهبنا لتوديعه كنَّا في حالةٍ شديدةٍ من الحرج والاضطراب، عاجزين عن الحديث، وقد سُرِرْنا عندما دقَّ الجرس الثاني مُؤْذنًا بضرورة مغادرة العربة. لم أتمالك نفسي من جرَّاء التصرُّف الصبياني لبافل ألكسندروفيتش وقد شعرتُ بالاستياء فقلت له: لماذا أغضبتَ فيودور ميخايلوفيتش المسكين؟ فأجاب: لا يُهمُّني إطلاقًا، إن كان قد غضب أم لا، إنني أهتمُّ بصحته، وعليه أن يَشكُرني لذلك!
على هذا النحو دائمًا كان «اهتمام» بافل ألكسندروفيتش، وبطبيعة الحال، لم يكن هذا الاهتمام إلا ليُثير اضطراب زوج أُمِّه.
قضى فيودور ميخايلوفيتش اثني عشر يومًا في موسكو نجحَ خلالها في إنهاء مُباحثاته مع هيئة تحرير «البشير الروسي». وعندما علِم كاتكوف بنِيَّة فيودور ميخايلوفيتش في الزواج، هنَّأه بحرارةٍ وتمنَّى له السعادة ووعدَه بارسال الألفي روبل التي طلَبَها كدفعةٍ مقدمًا على دفعتَين أو ثلاثٍ خلال شهر يناير القادم. وهكذا جاءتنا الفرصة لإتمام زواجِنا قُبَيل الصوم الكبير.
سرعان ما تمَّ توزيع السبعمائة روبل التي أُرسِلت من موسكو على الأقارب والدائنين. كان فيودور ميخايلوفيتش يتحدَّث كل مساء بأسًى عن أن النقود التي يحصُل عليها «تذوب» على الفور. وقد بدأ هذا الأمر يُثير القلق في نفسي، وعندما تسلَّم السبعمائة روبل الثانية رجَوتُه أن يستبقيَ شيئًا منها لنفقات زواجنا.
أمسك فيودور ميخايلوفيتش في يدِه بقلم رصاص وراح يحسب مصروفات الكنيسة وإعداد الحفل الذي يلي الإكليل (وقد رفض رفضًا باتًّا أن تتحمَّل أُمِّي أي نفقات) كان الأمر يتطلَّب حوالي أربعمائة روبل أو خمسمائة. ولكن كيف لنا أن نُحافظ على هذا المبلغ، في الوقت الذي تظهر فيه كلَّ يومٍ طلبات جديدة لدى أقاربه الذين لا حصر لهم؟
آنيا، هلَّا احتفظتِ به لديك، قال لي فيودور ميخايلوفيتش، وقد سرَّه أن وجد هذا العُذر المُناسِب أمام أقاربه، عندما يبدءون في طلب النقود، وفي اليوم الثاني أحضر لي خمسمائة روبل. قال لي بلهجةٍ ساخرة منتصرة: حسنًا، آنيا، حافظي عليها بقوة، فعَلَيها يتوقف زواجنا!
وجد لنا فيودور ميخايلوفيتش شقةً في شارع فوزنيسينسكي في بيت توليا (حاليًّا المنزل رقم ٢٧)، ويقع أمام كنيسة الصعود. كان المدخل داخل الفناء، وكانت النوافذ تطلُّ على حارة فوزنيسينسكي. كانت الشقة تقع في الطابق الثاني وتتكوَّن من خمس غرف: غرفة الاستقبال، وغرفة المكتب، وغرفتَين للطعام والنوم، وغرفة لبافل ألكسندروفيتش. كان علينا الانتظار حتى يتمَّ تشطيب الشقة، ثم نقْل أشياء فيودور ميخايلوفيتش إليها وكذلك جهازي وهلمَّ جرًّا. عندما أصبح كلُّ شيءٍ مُعدًّا، حدَّدْنا موعد الزفاف يوم الأربعاء قُبيل أحد الرماد، الخامس عشر من فبراير، وقُمنا بتوزيع الدعوات على الأصدقاء والمعارف.
١٨
عشية الزفاف ذهبت إلى فيودور ميخايلوفيتش ظهرًا لأراه ولأُخبره أن أختي ماريا جيورجيفنا سفاتكوفسكايا ستحضر إليه في السابعة مساءً لكي تضع أشيائي في أماكنها، وهي موضوعة في صناديق وأدراج وكراتين، وتُنظم كل الأشياء المنزلية من أجل استقبال الضيوف غدًا. قصَّت عليَّ أختي بعد ذلك كيف استقبلها فيودور ميخايلوفيتش بترحابٍ بالغ، كيف ساعدها في فتح الصناديق وترتيب الأشياء، وقام بواجب الضيافة وأدخل على قلبها السرور، وقد أخبرَتْني أنها تتفق معي في الرأي أن زوج المُستقبل إنسان شديد الرقة واللطف.
كنتُ قد عزمتُ على قضاء المساء كله على انفرادٍ مع أمي. كنتُ مشفقةً من كل قلبي على هذه الأم المسكينة، التي عاشت طوال حياتها مُحاطةً بالأسرة، والآن تُوفِّي أبي، وسافر أخي إلى موسكو وأنا أيضًا سوف أترك البيت، وكنتُ أُدرك مدى الحزن الذي سينتابها من جراء بقائها وحيدة.
رُحنا طوال المساء نتذكَّر كم كانت حياتنا معًا سعيدة. وطلبتُ منها وأنا معها الآن وحدي، أن تُبارك حياتي الجديدة. فقد لاحظتُ من تجارب صديقاتي أنَّ مباركة العرائس قُبَيل الذهاب إلى الكنيسة، أمام الشهود وفي ضجيج حفل الزفاف تكون رسميةً إلى حدٍّ كبير أكثر منها قلبية. باركَتْني أُمِّي ورُحنا معًا في بكاءٍ طويل. على أننا تعاهدنا ألا نَبكي غدًا عندما تحين لحظة الفراق، إذ لا حاجة بي أن أذهب إلى الكنيسة بوجهٍ مُنتفخٍ من الدموع وعيون احمرَّت بسببه.
في الخامس عشر من فبراير استيقظتُ عند أول ضوءٍ وتوجَّهتُ إلى كنيسة سمولني لألحق بأول صلاة، وبمجرد انتهائها مررتُ على رجل الدين، القمص الأب فيليب سبيرانسكي، الذي يَعرفني منذ طفولتي، فبارَكَني وتمنَّى لي السعادة. بعدها ذهبتُ للصلاة عند قبر والدي في مقبرة بولشوي أوختينسكي.
مرَّ اليوم سريعًا، وعندما اقتربَتِ الساعة من الخامسة كنتُ قد أتممتُ تصفيفَ شعري وارتديتُ ثوب الزفاف المصنوع من الحرير الأبيض وله ذيل طويل. كان الفستان وتصفيفة الشعر مُلائِمَين لوجهي، وكنتُ أشعر بالرِّضا التامِّ عنهما.
كان موعد الزفاف في السابعة، وكان على ابن شقيق فيودور ميخايلوفيتش — فيودور ميخايلوفيتش الصغير، الذي اختاره عريسي وكيلًا عنه — أن يمرَّ عليَّ في السادسة.
في السادسة تجمَّع أقاربي، كان الجمع مُستعدًّا، لكنَّ الوكيل لم يصل، كما لم يحضر أيضًا ابن ب. م. أولخين، الذي عليه أن يحمِل أمامي الأيقونة. بدأتُ أشعر بالقلق بشدة، تصورتُ أن فيودور ميخايلوفيتش قد تعرَّض لوعكةٍ صحية، وشعرتُ بالأسف أنَّني لم أبعث بأحدٍ إليه نهارًا لأطمئنَّ عليه.
وأخيرًا، وفي السابعة وصل فيودور ميخايلوفيتش الصغير، دخل إلى الغرفة مُسرعًا وتعجَّلَني بقوله: آنَّا جريجوريفنا، مستعدة، هيا بنا! أرجوك أسرعي! عمِّي في الكنيسة قلِقٌ للغاية على حضورك. لقد استغرق حضورنا إليك ما يزيد عن ساعة، وسوف نحتاجُ لا أقل من ذلك في العودة. تصوَّري كم من العذاب سيُعاني فيودور ميخايلوفيتش على مدى هاتَين الساعتَين. قلت له: لكنهم لم يُحضِروا الصبيَّ بعد.
– لنذهب بدونه، لنُسرع لطمأنة فيودور ميخايلوفيتش فحسب.
بارَكني الجمع، تعانقنا أنا وأمي، وضعوا على كتفي بالطو الفراء. وفي الدقيقة الأخيرة وصل الطفل الرائع كوستيا، مُرتديًا الملابس الروسية.
خرجنا، على السُّلَّم تجمَّع العديد من الناس. كلهم من سكان البيوت حولنا جاءوا ليُودِّعوني. بعضهم قبَّلني، والبعض الآخر صافحني، وجميعهم تمنَّى لي السعادة، ومن أعلى راح أحدُهم ينثر عليَّ حشيشة الدينار تيمنًا «بحياة ثرية» لي. كنتُ متأثرةً للغاية من هذه المشاعر القلبية الفيَّاضة. جلسنا في العربة وانطلقنا مُسرعين. وبعد عدة دقائق فقط لاحظنا أنا وأختي، أنَّ الصبيَّ كوستيا يجلس دون بالطو فرو ودون غطاء رأس. خِفنا أن يُصاب الصبيُّ بالبرد. فغطَّيتُهُ بسُترتي الواسعة، وبعد فترةٍ قصيرة استغرق في نومٍ عميق.
عندما أصبَحْنا على مقربةٍ من كنيسة إسماعيلوفسكي، لفَّ وكيل العريس كوستيا النائم بمعطفه الثقيل وحمله صاعدًا به السُّلَّم المؤدي إلى الكنيسة. نزلتُ من العربة بمساعدة الخادم بعد أن غطيتُ صورة الأيقونة بطرحة الزفاف ودخلتُ إلى الكنيسة. ما إن رآني فيودور ميخايلوفيتش حتى اقترب منِّي مُسرعًا وأمسك بيدي بقوة وقال لي: أخيرًا، وجدتُك بعد طول انتظار! من الآن فصاعدًا لن أتركك تذهبين بعيدًا عنِّي!
أردتُ أن أُجيبَه بأنني لم أكن لأتركه، ولكنني أحسستُ بالخوف عندما نظرتُ إلى وجهه وقد كساه الشحوب. لم يترك لي فرصة الحديث وأسرع يقودني إلى المنصة، حيث بدأت مراسم عقد القران.
كانت الكنيسة مضاءةً على نحوٍ مُبهر، وراحت الجوقة الرائعة تترنَّم بأغانٍ صدَّاحة، اجتمع عدد كبير من الضيوف في أبهى حلة، كل هذا عرفتُه بعد ذلك من الحكايات التي قصُّوها علي؛ إذ كنتُ أسبح وقتها وحتى انقضاء النصف الأول من الطقوس في ضبابٍ ما، رسمتُ علامة الصليب بشكلٍ آلي، وكنتُ أجيب عن أسئلة القس وأنا أسمعها بالكاد، وبعد تناول القُربان فقط بدأت أعي ما حولي فَرُحْتُ أُصلِّي بحرارة. بعد الإكليل وصلاة الشكر بدأتِ التهاني وأخذني زوجي لنُوقِّع في دفترٍ ما.
وفي هذه المرة ألبس «الطفل حامل الأيقونة» جيدًا وانطلَقْنا إلى شقَّتِنا الجديدة. لم ينَمْ كوستيا طوال الطريق، ولكنَّه حكى فيما بعدُ في غضبٍ أن «عمِّي وعمَّتي كانا يتبادلان القُبلات طوال الطريق».
عندما وصلنا كان الضيوف كلهم مُجتمعين. باركَتْني أُمِّي هي وأبي الروحي بفرحٍ عظيم. وهنا بدأت التهاني بكئوس الشمبانيا، وقد تعجَّب كل الذين حضروا الزفاف، وحتى الذين لا يَعرفونني، عندما رأوا فتاةً شابةً متوردةَ الوجهِ مقبلةً على الحياة تفيض بالسعادة، بدلًا من تلك الفتاة الصارمة الشاحبة التي رأوها لتوِّهِم في الكنيسة، وكذلك كان فيودور ميخايلوفيتش يتهلَّل فرحًا وقد راح يُقدِّم لي أصدقاءه وعرَّفني بهم قائلًا: انظروا كم هي رائعة! إنها بالنسبة لي كائن بديع! إن لدَيها قلبًا من ذهب! وراح يَكيل لي ألوانًا من الثناء الذي أربكَني بشدة، ثم قدم إليَّ السيدات، وكان في غاية الرِّضا عندما كنتُ أقول لكلٍّ منهن بضع كلماتٍ لطيفة، الأمر الذي أُعجِبنَ به.
رحتُ بدوري أقدم زوجي إلى أصدقائي وأقاربي وكنتُ سعيدة وأنا أُلاحظ الانتباه الأخَّاذ الذي تركه زوجي عليهم.
كان فيودور ميخايلوفيتش يُحب أن يُظهر كرم الضيافة، ولهذا كانت الشمبانيا والحلوى والفاكهة متوافرة بشكل كبير.
في الثانية عشرة فقط تفرَّق الضيوف وجلسنا معًا نتذكَّر كل تفاصيل هذا اليوم الرائع في حياتنا.
⋆ الملاحظة السابقة غير صحيحة، فمذكرات أ. ب. ميليوكوفا نُشرت في البداية في «البشير التاريخي» ثم في «روسكايا ستارينا» (الماضي الروسي)، ٨٨١م، الأعداد ٥، ٣، ثم ظهرت في كتاب ميليوكوف «لقاءات وصداقات أدبية»، سان بطرسبورج ١٨٩٠م، ص١٦٧–٢٤٩. وفي هذه المذكرات يُورد ميليوكوف هذا الحوار الذي دار بينه وبين دستويفسكي:
ألا تودُّ أن نقوم بعملٍ ما؟ اجمع الآن عددًا من رفاقنا؛ قُصَّ علينا موضوع الرواية، ثم سنقوم نحن بتقسيمها، نُقسِّمها إلى فصول، ثم نكتُبها معًا. أنا على ثقةٍ أن أحدًا منَّا لن يعترِض. بعد ذلك تقوم أنت بمراجعتها وتهذيبها أو إزاحة ما يبدو مُتنافرًا، يُمكننا بالتعاون معًا أن ننجح في إتمام العمل في موعده. سوف تُسلِّم الرواية لستيلوفسكي وتنجو من الحبس. فإذا كنت تُشفق على قصَّتِك من هذه التضحية، فلنُفكر في شيءٍ آخر جديد.
⋆ الأرجح أن آنَّا جريجوريفنا تقصد خطاب دستويفسكي إلى فرانجيل المؤرَّخ ١٨ فبراير ١٨٦٦م، إذ إن الخطاب المؤرَّخ نهاية ١٨٦٦م غير معروف، أما الخطاب المؤرَّخ ١٨ فبراير ١٨٦٦م فقد ورد في «السيرة الذاتية» صفحة ٢٨٨. يقول دستويفسكي فيه لفرانجيل: «أنت، على الأقل، سعيد في حياتك العائلية، أما آنَّا فقد حرمني القدَر من السعادة الإنسانية الوحيدة …» (الخطابات، المجلد الأول، ص٣٤٢).
⋆ الخطابات، المجلد الثاني، ص٥-٦.