الأيام الأولى في حياتنا الزوجية
١
كان من الضروري إنهاء الرواية نهايةً طبيعيةً على نحوٍ ما، دون انتحارٍ أو مشاهد مبتذلة. الكاتب لم تُسعفه الأفكار، وراح شعره الطويل يُعاني من ذلك، زِد على ذلك أنه قد تبقَّى يومان فقط على إنهاء الرواية. هنا اقتنع الروائي أن من الأفضل أن يدفع الغرامة وفجأة إذا بالمختزلة، التي كانت تؤدي عملها طوال الوقت في صمت، تُقرِّر أن تنصح الروائي أن يجعل بطلتَهُ تصِل إلى درجة الوعي بأنها تُشارك البطل مشاعره.
لكن المؤلف صاح: لكن هذا أمر غير طبيعي! تذكَّري فقط أن البطل عجوز أعزب، يُشبِّهني، بينما البطلة في قمة الجمال والشباب … مثلك، على سبيل المثال.
أجابت المختزلة في خجل: لأنني كنتُ على موعد مع صديقة بالأمس، وهي تفوقني جمالًا فخشيتُ أن تُؤثِّر في قرارك. شعر الروائي بفرحةٍ عارمة لهذا الاعتراف الساذج، الذي يؤكد أنها تُحبُّه بالفعل.
لاتظنوا، بالمناسبة، أن هذه الرواية انتهت على هذا النحو الذي يُسمُّونه في روسيا بالزواج المدني. على العكس، فقد عُقِد قران هذا الزوج خلال أيام في كنيسة الحي.»
٢
سرعان ما مرت الأيام التي سبقت الصوم الكبير في مرح صاخب: قُمنا «بزيارات الزفاف» سواء إلى أقاربي، أو إلى أقارب ومعارف فيودور ميخايلوفيتش. دعانا أقاربنا على الغداء والأمسيات، وفي كلِّ مكانٍ ذهبنا إليه قدم الجميع الشمبانيا تعبيرًا عن تهانيهم للأزواج «الشبان». على هذا النحو كانت التقاليد في تلك الأيام. يُخيَّل لي أنني لم أحتسِ في حياتي بعد ذلك هذا القدر من كئوس الشمبانيا، مِثلما احتسيتُ من كئوسٍ في هذه الأيام العشرة. كان لهذه التهاني عواقب مُحزنة، فقد كانت سببًا لأول مُصيبة ثقيلة أواجهها في حياتي الزوجية. الأمر تحديدًا أن فيودور ميخايلوفيتش أُصيب بنوبتَين من نوبات الصرع، والمُهم أنهما لم تقعا أثناء نومه، كما كان يحدُث دائمًا تقريبًا، وإنما وقَعَتا نهارًا وهو مُستيقظ. وإليكم ما حدث.
في اليوم الأخير من أيام أعياد الصوم الكبير تناوَلْنا طعام الغداء عند أقاربنا، وفي المساء توجَّهنا لقضاء السهرة عند أختي. تناولنا عشاءنا في جوٍّ يسوده المرح (صاحَب العشاء بعض كئوس الشمبانيا أيضًا، كما حدث في الفترة الأخيرة)، ثم انصرف الضيوف وبقِينا جالِسين. كان فيودور ميخايلوفيتش مُمتلئًا حماسًا وهو يقص على أختي أمرًا ما شيقًا، وفجأة أُرتِج عليه القول، واعتراه الشحوب وقام من مقعده نصف قيام، ثم راح يميل باتجاهي. نظرتُ إلى وجهه في ذهولٍ وقد تغيَّرَت ملامحه. وفجأة دوَّت صرخة مُرعبة وكأنها غير صادرة عن بشر، هي على الأرجح عواء، وأخذ فيودور ميخايلوفيتش يَميل إلى الأمام. وفي نفس الوقت صرخَتْ أُختي عاليًا، وكانت تجلس إلى جوار زوجي. قفزت من مقعدها وفرَّت من الغرفة وقد انتابها بكاءٌ هيستيري، واندفع وراءها صِهري.
فيما بعدُ تسنَّى لي عشرات المرات أن أستمع إلى هذا العواء «غير البشري» المُعتاد لدى مرضَى الصرع في بداية النوبة، ودائمًا ما كنتُ أرتجف من الخوف عند سماعه. غير أنني لم أشعُر في هذه اللحظة آنذاك، ولدهشتي، بالخوف إطلاقًا، على الرغم من أنها كانت المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها نوبة الصرع. أمسكت فيودور ميخايلوفيتش من كتفِهِ وأجلستُهُ بقوةٍ على الأريكة، وكم شعرت بالرعب، عندما رأيت أن جسد زوجي الذي فقد القُدرة على الإحساس، قد بدأ ينزلق من الأريكة، ولم تكن بي القدرة على إيقافه. سمحت لفيودور ميخايلوفيتش بالهبوط إلى الأرض، بعد أن أبعدتُ الكرسي وعليه مصباح مضيء، ورحت أهبط معه بدوري. وطوال الوقت كان التشنُّج يهزُّ رأسه فوق ركبتي. لم يأتِ أحد لمساعَدتي: كانت أختي تُعاني من حالة هيستيرية، بينما صهري والخادمة مُنشغلان بالقرب منِّي.
شيئًا فشيئًا أخذ التشنُّج في التوقُّف وبدأ فيودور ميخايلوفيتش في استعادة وعيه؛ ولكنَّه لم يكن يُدرك بادئ الأمر أين يُوجَد، كما أنه فقد كذلك القدرة على النطق. كان يجِدُّ في أن يقول شيئًا ما، ولكنه كان ينطق بكلمةٍ بدلًا من أخرى، وكان من المُستحيل أن نتبيَّن ما يقول. ربما بعد نصف ساعة فقط نجحنا في إنهاض فيودور ميخايلوفيتش ووضعه على الأريكة. قرَّرنا أن ندَعَه يستريح قبل أن نعود إلى البيت. ولكن للأسف الشديد عاودَتْه نوبة أخرى بعد ساعةٍ، وكانت في هذه المرة من القوة بحيث إنه ظلَّ يصرخ من الألم ما يزيد على ساعتَين بعد أن استردَّ وعيه. كان شيئًا فظيعًا! فيما بعدُ، كانت النوبات المزدوجة تُصيبُهُ بشكلٍ نادر نسبيًّا. وفي هذه المرة شرح لنا الأطباء سبب هذا التوتُّر الشديد بأنه جاء نتيجة احتساء فيودور ميخايلوفيتش للشمبانيا أثناء زيارات الزفاف وولائم الغداء والأمسيات التي أقيمت لتكريم الزوجَين «الشابَّين». كانت الخمر تؤثر تأثيرًا بالِغ السوء على فيودور ميخايلوفيتش ولهذا لم يكن يتناولها إطلاقًا.
اضطُررنا للمبيت عند أختي، إذ إن فيودور ميخايلوفيتش كان خائر القوى، كما أننا خشِينا من وقوع نوبة جديدة. ويا لها من ليلة فظيعة قضيناها آنذاك! لقد رأيتُ هنا وللمرة الأولى أيَّ مرضٍ مُروع يعاني منه فيودور ميخايلوفيتش. كنتُ مقتنعة تمامًا — وأنا أستمع إلى صياحه وأنينه الذي لا ينقطع على مدى ساعات طويلة، وأرى وجهه وقد شوَّهه الألم بحيث يُصبح غير الوجه الذي أعرفه، وأعجز عن فهم كلامه غير المترابط — أن زوجي العزيز فيودور ميخايلوفيتش سوف يُصاب بالجنون، وكانت هذه الفكرة كفيلةً بأن تبثَّ الرعب في أوصالي!
ولكن، حمدًا لله، ها هو فيودور ميخايلوفيتش وقد تعافى بعد أن نام بضعَ ساعات، بحيث استطعنا أن نعود إلى منزلنا. على أنَّ حالةً من الغمِّ والاكتئاب كانت تنتابه بعد النوبة لتستمرَّ معه ما يزيد عن أسبوع. وكان فيودور ميخايلوفيتش يصِف حالته بعد النوبة دائمًا بقوله: «كأنَّني فقدتُ أعز إنسان لدي في هذا العالم، كما لو كنتُ قد واريتُه الثرى. على هذا النحو تكون حالتي.» ظلَّت هذه النوبة المزدوجة ذكرى مُؤلمةً إلى الأبد بالنسبة إلي. وعلى مدى هذا الأسبوع الحزين بدأ أيضًا سوء الفهم والمُنغِّصات التي عكَّرت صفو الأسابيع الأولى من زواجنا ودفعَتْني لأتذكَّر بكل الحزن والأسى «شهر العسل» الذي انقضى.
هناك حقيقة ينبغي ذكرها، فعندما تزوَّجتُ كنتُ ربة بيتٍ بالِغةَ السوء، ولعلَّ السبب في ذلك يرجع إلى أنني قضيتُ سبع سنوات في الثانوية ثُم في التعليم العالي، ثم في دروس الاختزال. من أين لي إذن أن أتعلَّم شئون البيت؟ ولكنني بمجرد أن أصبحتُ زوجة لفيودور ميخايلوفيتش، ولعِلمي بأحواله المادية، عاهدتُه ونفسي على أن أتعلم الشئون المنزلية، وأكدتُ لزوجي، وأنا أضحك، أنني سوف أُعِدُّ له بنفسي الفطائر التي يُحبها. بل إنني أقنعته باستئجار طاهية «باهظة» الأجر، بأسعار ذلك الزمان، تتقاضى اثني عشر روبلًا مقابل أن تُعلمني فن الطهي.
كنت أعود من السوق في الحادية عشرة تقريبًا، ودائمًا ما كنتُ أجد كاتيا دستويفسكايا، ابنة شقيق فيودور ميخايلوفيتش عندنا. كانت فتاةً رائعة تبلُغ من العمر خمسة عشر عامًا، ذات عينَين سوداوين جميلتين وضفيرتَين شقراوَين طويلتَين تنسدلان على ظهرها. كانت أُمها إميليا فيدوروفنا قد حدثتني عدة مراتٍ أن كاتيا تُحبني وأعربت عن رغبتها في أن يكون لي تأثير عليها.
كان أكثر ما يثير اضطرابي أيضًا، هو أنه، بفضل الوجود المستمر للضيوف، لم أعُد أملك الوقت للانشغال بالأعمال التي أُحبها، وكان هذا الأمر يُمثل خسارةً فادحةً بالنسبة لى؛ كنتُ أتذكَّر بأسَى أنني على مدى شهرٍ بأكمله لم أتمكن من قراءة كتاب واحد، ولم أستذكر دروس الاختزال الذي كنت أرغب في إجادة كل تفاصيله الدقيقة.
لكن أكثر ما كان يُكدرني هو أنني؛ وبسبب الضيوف الدائمين، لم أكن أجد وقتًا إطلاقًا لكي أنفرد بزوجي العزيز، فإذا ما سنحت الفرصة لي أثناء النهار لكي أقتطع دقيقةً للدخول عليه في غرفة المكتب والجلوس معه، إذا بشخصٍ ما يدخل عليه، أو يدعونني في شأن من شئون المنزل. كان علينا أن ننسى أحاديث المساء الغالية، إذ إننا بحلول الليل، وبسبب أحداث اليوم بما فيها من ارتباك وزيارات عديدة وأحاديث شارك فيها فيودور ميخايلوفيتش، يكون التعب قد أصابنا أنا وهو، فأخلد إلى النوم، بينما يلجأ هو إلى كتاب شيق يجد راحَتَه بين دفَّتَيه.
٣
كان مِن المُمكن أن أتصالح، بمرور الوقت، مع نظام حياتنا، لو أنني نجحتُ في الحصول على بعض الحرية وبعض الوقت لممارسة هواياتي المفضلة، لو لم تتكاتف المُنغِّصات من جانب أقارب فيودور ميخايلوفيتش. كانت زوجة أخيه، إميليا فيدوروفنا دستويفسكايا امرأةً طيبة، لكنها ضيِّقة الأفق. عندما رأت أن فيودور ميخايلوفيتش يشملها برعايته بعد وفاة زوجها، اعتبرت أن هذه الرعاية هي التزام عليه أن يؤدِّيه نحوَها، وقد بُهِتَت بشدة بعدما عرفت أن فيودور ميخايلوفيتش يرغب في الزواج. من هنا كان أسلوبها العدائي تجاهي عندما أصبحتُ خطيبته. لكن إميليا فيدوروفنا استسلمت للواقع بعد زواجنا وأصبحت مُعاملتها لي لطيفةً، وخاصة عندما لاحظَتْ أنني أُولِي أطفالها اهتمامًا كبيرًا. كانت تأتي لزيارتنا كل يوم. وكانت تعتبر نفسها ربةَ بيتٍ متميزة، ومن ثم راحت تَكيل لي النصائح في الشئون المنزلية. كان يمكن أن يحدُث ذلك بنيَّةٍ حسنة وبدافع الرغبة في إفادتي، على أن توجيهاتها دائمًا كانت في حضور زوجي، وهو أمر لم يكن يَسرُّني بالمرة؛ إذ كان يَجعلني أبدو أمام زوجي مُبذِّرةً لا تُحسِن إدارة البيت. لكن الأمر الأكثر إزعاجًا بالنسبة لي، فضلًا عن كل ذلك، أنها راحت تضعني في كل موقفٍ في مقارنة مع زوجة فيودور ميخايلوفيتش الأولى، وهو ما كان يفتقد تمامًا إلى اللياقة من جانبها.
على أنه إذا كانت التوجيهات المستمرة، وبعض الشيء من أسلوب فرض الوصاية، أشياءً سخيفة من جانب إميليا فيدوروفنا، فقد كانت الوقاحة والفظاظة اللتان تجرَّأ بافل ألكسندروفيتش أن يُعاملني بهما أمورًا لا تُحتَمَل.
كان لدى بافل ألكسندروفيتش ألعاب شيطانية صغيرة لا تنفد، فتارة يشرب اللبن عن آخره قبل خروج فيودور ميخايلوفيتش إلى غرفة الطعام، فنُضطر لشراء غيره على عجلٍ من المحل، وبالطبع لا يكون جيدًا، بينما يجلس فيودور ميخايلوفيتش في انتظار قهوته، وتارة قُبَيل الغداء مباشرة يأكل ثمار العليق، وبدلًا من أن يترك ثلاث ثمرات، يترك ثمرتَين وهما لا تكفيان. ومرة أُخرى يختفي الثقاب من كافة أنحاء البيت، على الرغم من أنه كانت هناك بالأمس عدة عُلَب منه. كانت كل هذه الصغائر كفيلةً بأن تُثير غضب فيودور ميخايلوفيتش فيروح يصرخ في فيدوسيا، أما بافل ألكسندروفيتش الذي تسبَّب في كل هذه الفوضى، فيهزُّ كتفَيه ويقول: «حسنًا، بابا، عندما كنتُ أنا الذي يُدير شئون البيت، لم تكن هناك هذه الفوضى!»
وهكذا يبدو الأمر وكأنني أنا المسئولة عن تلك الفوضى، أو، بتعبيرٍ أكثر دقة، أن المسئولية تقع على عدم صلاحيتي لإدارة البيت.
كان لبافل ألكسندروفيتش تكتيكه، ففي وجود فيودور ميخايلوفيتش كان يتصرَّف على نحوٍ شديد المُجاملة ناحيتي، يُناولني الأطباق، يُهرَع لنداء الخادمة، يلتقِط مفرش المائدة إذا سقط منِّي، وهلُمَّ جرًّا. وحتى إن فيودور ميخايلوفيتش قد لاحظ أكثر من مرةٍ أو مرتَين، أن وجود عنصر نسائي، وخاصة في وجودي (مع آل دستويفسكي: كاتيا وإميليا فيودوروفنا كان يُعامِلني معاملة الند للند) يؤثر إيجابًا على بافل ألكسندروفيتش، ويأخذ أسلوبه في الاعتدال شيئًا فشيئًا. ولكن ما إن يخرج فيودور ميخايلوفيتش حتى تتغيَّر معاملة بافل ألكسندروفيتش تجاهي، فتارةً يبدأ في عمل ملاحظات وقِحة بشأن إدارتي للبيت، ويأخذ في التأكيد أن الأمر كان أفضل في السابق، وتارةً يقول إنني أُنفق كثيرًا من النقود، وكأن النقود «مشتركة» بيننا، وتارة يُصور نفسه على أنه ضحية الاستبداد العائلي. كان يبدأ حديثه بالوضع الصعب «لليتيم» الذي كان يعيش سعيدًا في الأسرة وكانوا يَعتبرونه الشخصية الرئيسية، فإذا بشخصٍ غريب (يَعنيني أنا الزوجة) يدخل إلى البيت، ويُخطِّط للحصول على التأثير واحتلال المكانة الأولى في الأسرة. لقد بدأت ربَّة البيت الجديدة تتعقَّب «الابن»، وتُسبِّب له المشاكل، وتُضيِّق عليه حياته، حتى إنه لا يتمكن من تناول غدائه بهدوء؛ إذ إنه يعلم أن وراء كلِّ لقمةٍ يأكلها تُتابِعُه نظرة ربَّة البيت الشكَّاكة الساخطة، وأنه يتذكَّر الأعوام السعيدة الماضية ويأمُل أن تعود، وأنه لن يتخلَّى عن تأثيره على «والده» وهلمَّ جرًّا. لم يستطع آل دستويفسكي الشباب الدفاع عنِّي، أمَّا الكبار منهم فقد علَت ضحكاتهم، واقتصر دفاعهم عنِّي على هذا الضحك.
وحتَّى لا يتخلَّى عن تأثيره على «والده» ضدي، كان بافل ألكسندروفيتش يدخُل كل صباح تقريبًا إلى غرفة مكتب فيودور ميخايلوفيتش عندما يشرع في قراءة صحيفة. كان يحدث أحيانًا أن يسمع على الفور صياح فيودور ميخايلوفيتش، فيخرُج بافل ألكسندروفيتش من الغرفة، مُرتبكًا قليلًا قائلًا إن «الوالد» مشغول وإنه لا يريد أن يُضايقه أحد. وفي أحيان أخرى كان يجلس لدَيه طويلًا، ثم يعود بوجهٍ منتصر؛ وعندئذٍ يبدأ على الفور في إلقاء أوامر ما على فيدوسيا التي ملأها الرعب. وبعد هذه المناقشات كان فيودور ميخايلوفيتش يقول لي: «كفاكِ شجارًا مع باشا، لا تُغضبيه، إنه شابٌّ طيب!» وعندما سألته كيف أغضبت «باشا»؟ ومم كان يشكو؟ أجاب فيودور ميخايلوفيتش قائلًا: «إنها تلك التفاهات التي إذا استمع المرء لها أحس بالخجل»، وإنه يرجوني أن أتسامح مع «باشا».
أحيانًا ما كان البعض يسألني: هل صحيح أنني أستمع كل يوم إلى سفالات ووقاحات بافل ألكسندروفيتش، وأرى معاملته الفظة تجاهي، وأعلم أنه يكيل لي الافتراءات والوشايات عند فيودور ميخايلوفيتش، ومع ذلك فإنني ألتزم الصمت تمامًا، ولا أستطيع أن أوقفه عند حدِّه؟ نعم، كنتُ أصمت ولا أستطيع فعل شيء! يجب ألا ننسى أنني كنتُ قد تخطَّيت آنذاك أعوامي العشرين بقليل. ولكنني كنتُ طفلة تمامًا، قياسًا بخبرتي بالحياة. كنتُ قد قضيتُ سنواتي القليلة من العمر في أسرةٍ طيبة متحابَّة، لم تكن تُعاني من أية مشكلات، وليس بين أفرادها أي صراعٍ من أي نوع. ولهذا كانت تصرفات بافل ألكسندروفيتش المُنحرفة تُصيبني بالدهشة، كانت تُغضبني وتُحزنني، ولكنَّني، في البداية، لم أكن أستطيع أن أفعل أيَّ شيءٍ لتلافيها، وكنتُ أظنُّ أنه سوف يملُّ من مُضايقتي، وأنه سوف يدرك سوء معاملته لي، وإذا لم يفهم بنفسه فسوف يُنبِّهه إلى ذلك أقارب فيودور ميخايلوفيتش.
وهكذا مرت الأسابيع الأولى من زواجنا في هذه الظروف السيئة التي تمثلت في وقاحة بافل ألكسندروفيتش وسفالتِه، وفي تعليمات إميليا فيدوروفنا، والوجود الدائم المُمل لأناسٍ يفتقرون إلى الكياسة، كانوا يَحُولون بيني وبين زوجي؛ بالإضافة إلى القلق الدائم بسبب أحوالنا المُضطربة، ناهيك عن هذا الشعور بالاغتراب، كما بدا لي، بيني وبين فيودور ميخايلوفيتش، بسبب ظروف حياتنا. كل ذلك كان يرهقني ويُعذبني بشدة، وكنتُ أسأل نفسي: متى ينتهي كل ذلك؟ عندما أتذكَّر طبيعتي آنذاك، أرى أن الأمر كان من المُمكن أن ينتهي بكارثة. الحقيقة أنَّني كنتُ أُحب فيودور ميخايلوفيتش حبًّا لا حدود له، ولكنه لم يكن حبًّا جسديًّا، لم يكن شهوة، مثل تلك التي يمكن أن تُوجَد لدى هؤلاء الناس الذين هم في مِثل سِنِّي. كان حُبِّي عقليًّا خالصًا، مثاليًّا، كان على الأصح عبادة، انحناءً أمام إنسانٍ موهوب إلى أبعدِ حد، إنسان يمتلك هذه الخصال النفسية الرفيعة، كانت روحي تتملَّكُها الشفقة نحو هذا الرجل الذي عانى الكثير ولم يعرفِ السعادةَ والسرورَ قط، الرجل الذي أهملَهُ أقرباؤه، الذين كانوا مُلزَمِين أن يُولُوه حُبَّهم ورعايتهم لقاء ما قدَّمَه لهم طوال حياته. لقد استولى على خيالي حُلم أن أكون رفيقة حياته، أن أُشاركه أعمالَه، أن أُخفف من وطأة الحياة عليه وأن أهبَهُ السعادة. لقد أصبح فيودور ميخايلوفيتش هو إلهي ومعبودي، وقد كنتُ على استعدادٍ أن أجثو على رُكبتيَّ أمامه طوال العمر. لكن كل ذلك لم يكن سوى مشاعر ساميةٍ وأحلامٍ كان من المُمكن أن يُحطمها الواقع القاسي الذي حلَّ بنا. لقد حلَّ بي شيئًا فشيئًا زمن الشك وسوء الفهم بفضل تلك الظروف التي أحاطت بي. لقد أحببتُه حقًّا بحرارة، على أن كبريائي لم تكن لتسمح أن أبقى معه لو تأكَّد لي أنه لم يعُد يُحبني، بل لقد تصورتُ أيضًا أن عليَّ أن أُضحي من أجله، أن أتركه ما دامت حياتنا معًا، كما يبدو، صعبة عليه.»
تارة كنتُ أُعرب بحزنٍ مفعَم بالإخلاص عن سخطي على فيودور ميخايلوفيتش، فلماذا، وهو «الخبير العظيم بالقلوب» لا يرى مدى العذاب الذي أُعانِيه؟ ولماذا لا يُحاول أن يُخفِّف من هذا العذاب، بدلًا من أن يفرِض عليَّ أقاربه المُملِّين ويُدافع عن بافل ألكسندروفيتش الذي يتعامَل معي بكراهية سافرة؟
وتارة كنتُ أشعر بالحزن على هذه الأمسيات الرائعة الفاتنة التي قضيناها معًا قُبَيل زواجنا، ولأن هذه الحياة السعيدة التي حلمنا بها لم تتحقَّق، ويبدو أنها لن تتحقق.
أحيانًا كنتُ أشعر بالندم على أيامي الخوالي المليئة بالسكينة في بيت أُسرتي، عندما لم يكن هناك أسًى يُعكر صفوَ حياتي، ولم يتسنَّ لي أن أعرف الحزن أو القلق. خلاصة القول، آنذاك لم يكن يَهزُّني سوى العديدِ من مشاعر الخوف الطفولي والأحزان الساذجة والشكوك التي لا تفسير لها، والتي كانت تُراود عقلي البكر. لم تكن لديَّ آراء صحيحة عن الحياة، ولم تكن شخصيتي قد استقامت بعد، وكان هذا يُنذِر بوقوع كارثة. كان من المُمكن ألا أتحمَّل تلك السخافات المنزلية، أن أغضب وأن أثور على فيودور ميخايلوفيتش مُستندةً إلى حججٍ وشكوكٍ واهية، وأن أُثير غضبه. كان من المُمكن أن يقع بيننا نزاعٌ حقيقيٌّ أتركه بعدَه حفاظًا على كرامتي. جدير بالذكر أنني كنتُ أنتمي لجيل الستينيات، وكنتُ مِثلي مثل جميع النساء آنذاك أضع الاستقلالَ فوق كل شيء. ولم أكن لِأقدِر على الأرجح على اتخاذ خطوةٍ للتصالُح، على الرغم من كل حُبي لفيودور ميخايلوفيتش. كنتُ ما أزال معجبةً بنفسي على نحوٍ طفولي، ولم أكن أُحبُّ أن أتحمَّلَ سخرية بافل ألكسندروفيتش على خطأ ارتكبتُه. ولعل فيودور ميخايلوفيتش لم يكن يُحب أن يتخذ الخطوة الأولى في مُصالحتي، لكنه كان يُحبني آنذاك بنفس القوة التي ظلَّ يُحبني بها بعد ذلك. لعلَّ كبرياءه الجريحة وعزة نفسه؛ فضلًا عن افتراءات بافل ألكسندروفيتش كان من المُمكن أن يَمنعاه عن المصالحة. كان من الممكن، بطبيعة الحال، أن يتصاعد سوء الفهم بيننا، وأن يُصبح الصلح أمرًا مُستحيلًا. وعندما أعود بذاكرتي إلى هذه الحقبة من الزمن، أفكر والخوف يُخيم على قلبي؛ ترى ما الذي كان يمكن أن يحدُث آنذاك، ففيودور ميخايلوفيتش لم يكن باستطاعته أن يُطلقني، فالطلاق في هذا الزمن كان من شأنه أن يُكلِّفه أموالًا باهظة. ولو حدث لَما استطاع أن يَبني مُستقبله، ولا أن تكون لدَيه أسرة وأطفال كما كان يحلم طوال حياته، ولأصبحَتْ حياتي أنا أيضًا تعيسة. كل آمالي في السعادة كانت معقودةً على الاتحاد بفيودور ميخايلوفيتش، وكم مِن المرارة كنتُ سأتجرعها لو أنَّ هذا الحلم الذهبي لم يتحقق؟!
٤
لم يشأ القدر أن يَحرمني أنا وفيودور ميخايلوفيتش هذه السعادة الكبيرة على مدى الأربعة عشر عامًا التالية. ما زلتُ أذكر هذا اليوم، الثلاثاء، من الأسبوع الخامس من أيام الصوم الكبير، عندما وقع هذا التحوُّل الكبير بالنسبة لي على غير انتظارٍ ليأخُذ حياتي في اتجاهٍ آخَر مبشِّرٍ بالخير. بدأ هذا اليوم بالمُنغصات المُعتادة، فقد تم اكتشاف خللٍ ما في أسلوب إدارتي للبيت، جرى الترتيب لحدوثه بخبثٍ بالغٍ على يد بافل ألكسندروفيتش (اختفت الأقلام الرصاص وعلب الثقاب تمامًا من كافة أنحاء البيت) فأثار ذلك غضب فيودور ميخايلوفيتش الذي راح يصرخ في فيدوسيا المسكينة. وفي اليوم نفسه حضر إلينا الضيوف الثقلاء وكان لزامًا عليَّ أن «أُضايفهم» و«أُسلِّيهم»؛ وكالمعتاد وجَّه إليَّ بافل ألكسندروفيتش بعضًا من صغائره، بينما كان فيودور ميخايلوفيتش غارقًا في التفكير مكتئبًا ولم يُبادلني الحديث إطلاقًا مما أحزنَني بشدة.
وفي مساء ذات اليوم دعانا مايكوف لقضاء السهرة في بيتِه. ولمَّا عرف الضيوف بذلك سارعوا بمغادرة البيت بعد الغداء مباشرة. على أنني وبسبب ما لحِق بي من أذًى، ظللتُ طوال اليوم أُعاني من صداع شديد، وكانت أعصابي متوترة إلى حدِّ أنني خشيتُ أن أنفجر في البكاء إذا ما تطرَّق الحديث في بيت مايكوف إلى حياتنا العائلية، ومِن ثم فقد قررتُ أن أبقى في البيت. حاول فيودور ميخايلوفيتش إقناعي بالذهاب، ويبدو أنه لم يكن راضيًا بسبب رفضي. وما إن غادر فيودور ميخايلوفيتش البيت حتى انشقَّت الأرض عن بافل ألكسندروفيتش الذي راح يُلقي باللَّوم عليَّ معتبرًا أنني أُثير اضطراب «والده» بأفعالي الطائشة، وأنه لا يُصدق أنني أعاني من الصداع، وإنما فعلت ذلك بهدف إثارة غضب فيودور ميخايلوفيتش، وقال إن «والده» قد ارتكب «حماقة هائلة» عندما تزوَّجَني، وإنني «ربة بيت» سيئة، وإنني أُسرف في إنفاق «أموالنا المشتركة». وفي الختام أعلن أنه لاحظ أن نوبات الصرع قد زادت عند فيودور ميخايلوفيتش على مدى زواجِنا وأنني المسئولة عن ذلك، ثم راح يكيل لي الافتراءات، ثم اندفع بعدَها مباشرة مغادرًا البيت.
كانت الوقاحة في هذه المرة هي القشَّة التي قصمت ظهر البعير. لم يسبق له إطلاقًا أن أهانني على هذا النحو من القسوة بعد أن ألصق بي حتى تهمةَ اشتداد وطأة المرض على زوجي، وقد أشعرَني ذلك بالإهانة والحُزن إلى أقصى درجة. ازدادت آلام رأسي فارتميتُ على فراشي ورحتُ في بكاءٍ مرير. مرَّت، ربما، حوالي ساعة ونصف، وإذا بفيودور ميخايلوفيتش يعود إلى البيت. يبدو أنه، بعد أن أمضى بعض الوقت لدى مايكوف شعر بالقلق تجاهي فعاد مُسرعًا. وعندما لاحظ أن البيت مُعتم سأل فيدوسيا عنِّي. فأخبرته سِرًّا أنني في فراشي أبكي!
انزعج فيودور ميخايلوفيتش وسألني ما بي؟ أردتُ أن أُخفي عليه ما حدث، لكنه راح يستعطفني ويتحدَّث معي بودٍّ شديدٍ حتى لان قلبي فرحتُ أقصُّ عليه ما حدث وأنا أبكي وأنتحب، حدَّثتُه عن صعوبة الحياة وكيف يُهينونني هنا في بيته، قلتُ له إنني أشعر أنه لم يعُد يُحبني، وأنه لم يعُد يُشاورني في أموره كما كان يفعل من قبل، ووصفتُ له شعوري بالحزن والمُعاناة من كل ذلك وهلمَّ جرًّا. نادرًا ما بكيتُ على هذا النحو، وكلَّما هدَّأ فيودور ميخايلوفيتش من روعي، كلما انهمرَتْ دموعي على نحوٍ أشد. أفضتُ له في الحديث عن كلِّ ما أثقل قلبي وأعربت له عن شكوكي وحيرتي بكل صراحة. راح زوجي المسكين يستمِع إليَّ وهو ينظر إليَّ بذهولٍ بالغ، وعندما رأى الوقاحة المُتناهية لبافل ألكسندروفيتش تجاهي، لم ينْتَبْهُ أيُّ شكٍّ في إمكانية قيامه بإهانتي على هذا النحو. لامَني فيودور ميخايلوفيتش بشكلٍ ودِّي لأنني لم أكن صريحةً معه ولم أشتكِ له ربيبَه، ولأني لم أتَّخذ موقفًا حازمًا تجاهه حتى لا يجرؤ على توجيه أي إهانةٍ لي بعد ذلك. أكد لي حُبَّه الشديد، وتعجَّب كيف تسنَّى لي أن أُفكر أنه كفَّ عن حُبي. وأخيرًا اعترف لي بدوره أن حياتنا المضطربة الآن شديدة الصعوبة. وأن أقاربه الشباب كانوا نادرًا ما يَزورونه إذ إنهم كانوا يشعرون لدَيه بالكآبة؛ أما الآن فإنه يُفسِّر زياراتهم المُتكررة بحُسن معاملتي لهم، وأنهم يشعرون لدَينا بالفرح والسرور، وأنه كان يظنُّ أن مجتمع الشباب بأحاديثهم المرحة وجدلهم سوف يكون أمرًا شيقًا بالنسبة لي. وقال لي فيودور ميخايلوفيتش أنه مُتشوِّق هو أيضًا إلى أحاديثنا السابقة وأنه آسف لأننا لم نعُد نعقد هذه الأحاديث بسبب الضيوف الدائمين.
وقال لي أيضًا إنه كان مشغولًا في الأيام الأخيرة بفكرة السفر إلى موسكو، والآن، وبعد حديثنا هذا، قرَّر تنفيذها بشكلٍ نهائي. وعقًّب قائلًا: «سنذهب معًا بطبيعة الحال، أودُّ أن أُعرِّفك على أقاربي في موسكو. فيروتشكا (أختي) وسونيا (ابنة أختي) الذين يعرفونك من حديثي لهم عنك، كما أودُّ أن تعرفيهم وأن تبادليهم حبًّا بحب. بالإضافة إلى ذلك فقد خطرت لي فكرة أن أطلُب من كاتكوف قرضًا يُمكِّننا من السفر معًا إلى الخارج. هل تذكرين. كان هذا ما حلمنا به معًا! والآن، تُرى هل سيتحقَّق هذا الحلم؟ وبالإضافة إلى ذلك فقد أردتُ أن أتحدَّث مع كاتكوف بشأن روايتي الجديدة. من الصعب أن نتباحث من خلال الرسائل حول هذا الموضوع، الأفضل أن أطرَحَه عليه عند لقائي به شخصيًّا. أما إذا لم ننجح في السفر للخارج، فسوف يكون من السهل علينا على أية حال، أن نضع نظامًا جديدًا لحياتنا بعد عودتنا من موسكو، بحيث لا يسمح بوجود ما يُعكر صفوَنا. إذن، إلى موسكو! موافقة يا عزيزتي أنتيتشكا؟
لم تكن هناك حاجة للسؤال عن موافقتي. كان فيودور ميخايلوفيتش رقيقًا، طيبًا، ودودًا كعهده أيام الخطوبة، وتبدَّدت كل مخاوفي وشكوكي في حُبه كما يتبدَّد الدخان. والآن تسنَّى لنا أن نقضي المساء بطوله وحدَنا في حديثٍ ودِّي حميمي كما لو كنَّا نلتقي للمرة الأولى بعد زواجنا. وقرَّرنا ألَّا نؤجِّل سفرَنا وأن نرحَل غدًا على الفور.
وفي اليوم التالي قُوبِل خبر سفرِنا بكثيرٍ من الامتعاض من جانب الأقارب، وخاصةً بافل ألكسندروفيتش. ولكن، لمَّا كانوا يعرفون أن نقود فيودور ميخايلوفيتش أوشكت على النفاد، فقد افترضوا أنه ذاهب إلى هناك من أجل المال، ومن ثم لم يُحاولوا أن يُثنونا عن عزمِنا. عندما حانت لحظة الوداع لم يبخل على بافل ألكسندروفيتش ببعض كلماتِهِ اللاذعة مُعلنًا أنه «سوف يتولى بنفسه شئون البيت المُهملة، وأنه سوف يُديرها على أفضل ما يكون.» لم أغضب ولم أعترض، كنتُ في غاية السعادة أن أتيحت لي الفرصة ولو مؤقتًا أن أتخلَّص من مُلاحقاته.
شهر العسل
السفر إلى موسكو
وصلنا إلى موسكو في الصباح الباكر من يوم الخميس من الأسبوع الخامس من أيام الصيام الكبير، ونزلْنا في فندق ديوسو، الفندق المُفضل لفيودور ميخايلوفيتش. وحيث إننا كنَّا مُرهقين من السفر فقد قرَّرنا ألا نقوم بأي عملٍ وأن نكتفي بالذهاب لزيارة آل إيفانوف. كانت هذه الزيارة تبعث في نفسي الخوف؛ إذ كان فيودور ميخايلوفيتش يُكِنُّ لأخته فيرا ميخايلوفنا إيفانوفنا ولأسرتها حبًّا خاصًّا من بين أقاربِه جميعًا. وقد أخبرَني ونحن ما نزال في بطرسبورج أنه سوف يكون سعيدًا إذا ما أُعحب بي آل إيفانوف وانعقدَتْ بيني وبينهم أواصر الصداقة. كان ذلك تمامًا ما كنتُ أودُّ أن يحدُث، ولكني كنتُ أتوجَّس خيفةً ألا يكون الانطباع الأول من جانبهم لصالحي. سعيتُ أن أرتدي أزهي ملابسي فاخترتُ ثوبًا أنيقًا بلون البنفسج الفاتح. كان فيودور ميخايلوفيتش مُعجبًا بزينتي وأكَّد لي أنني اليوم أبدو رائعة الجمال. كان ثناءً مُبالغًا فيه بالطبع، لكنَّه أعجبني وأثار في نفسي الحماس.
كان آل إيفانوف يعيشون في معهد تخطيط الأراضي، وحتى نصِل إليهم كان علينا أن نقطع المدينة من طرفها إلى طرفها الآخر، بداية بشارع مياسنيتسكايا ثم بوكروفكا، مارين بالقرب من كنيسة العذراء (في بوكروفكا) وهنا قال فيودور ميخايلوفيتش إننا في المرة القادمة، سوف نُغادر العربة ونقف غير بعيدٍ عنها لنتأمَّلها كاملة. كان فيودور ميخايلوفيتش يُقدِّر عمارة هذه الكنيسة تقديرًا رفيعًا. وعندما يأتي إلى موسكو كان يأتي حتمًا لزيارتها. وبعد يومَين تقريبًا، وكنَّا مارَّيْن بالقرب منها، ذهبنا لرؤيتها من الخارج ودخلنا لنشاهدها أيضًا من الداخل.
كلما اقتربنا من بيت آل إيفانوف، ازداد شعوري بالقلق. كنتُ أسأل نفسي وقد تملَّكني الخوف: «ماذا لو أنني تركتُ لدَيهم انطباعًا سيئًا، ألن يُثير ذلك حزن فيودور ميخايلوفيتش!»
أخبرتنا الخادمة، بعد أن فتحت لنا الباب، أن ألكسندر بافلوفيتش (زوج الأخت) وصوفيا ألكسندروفنا (ابنة الأخت) ليسا بالمنزل، وسوف تُخبر فيرا ميخايلوفنا بحضورنا.
دخلنا إلى صالةٍ فسيحة مفروشة بأثاثٍ عتيق من خشب الماهوجني. تناول فيودور ميخايلوفيتش صحيفة «وقائع موسكو» من على الطاولة، بينما رُحت أتصفَّح ألبومًا وُضِع على نفس الطاولة يضمُّ صورًا. انتظرنا خروج فيرا ميخايلوفنا طويلًا. لعلَّها رأت أنَّ من غير المناسب الخروج لمقابلة قريبةٍ لا تعرفها بملابس البيت؛ ومن ثم راحت تستبدل ملابسها، الأمر الذي استغرق وقتًا طويلًا. مرَّت حوالي نصف ساعة إلى أن فُتِح الباب المؤدي إلى الصالة فجأةً بصوتٍ مرتفع، واندفع عبر الغرفة طفلٌ يبلغ من العمر حوالي عشر سنوات مُحدِثًا جلبة.
صاح فيودور ميخايلوفيتش: فيتيا، فيتيا!، لكن الطفلَ لم يتوقَّف وإنما هُرع إلى الغرفة الثانية صائحًا: شابة، مهندمة لا تضع نظارات!
ارتفعت بعض الهمهمة ثم صمت الصبي. وعلى الفور أدرك فيودور ميخايلوفيتش، الذي يعرف عادات الأسرة، ما وراء ذلك. فابتسم قائلًا: لم يُطيقوا صبرًا! أرسلوا فيتيا لينظر ويُخبِرهم كيف تبدو زوجتي.
وأخيرًا خرجَتْ إلينا فيرًا ميخايلوفنا وقد تعامَلَت معي بكثيرٍ من الود. وبعد أن عانقتني وقبَّلتني رجتني أن أُحبَّ أخاها وأن أُحيطه بالرعاية والاهتمام. ثُمَّ ما لبث أن خرج إلينا زوجها وابنتُها الكبرى سونيتشكا. هنَّأنا ألكسندر بافلوفيتش بعباراتٍ رسمية مُتمنيًا لنا السعادة. مدَّت سونيتشكا يدَها إليَّ، ابتسمت ابتسامةً لطيفة ولكنها التزمت الصمت وراحت تتأمَّلني بشدة.
فتح ألكسندر بافلوفيتش باب الغرفة المجاورة وقال: تعالَوا يا أطفال لتُهنِّئوا عمَّكم وتتعرفوا على عمَّتِكم الجديدة. بدأ آل إيفانوف من الشباب يدخلون الواحد وراء الآخر. كانوا سبعة: سونيتشكا (٢٠ عامًا)، ماشينكا (١٩)، ساشا (١٧)، يولينكا (١٥)، فيتيا وأطفالًا آخرين. توجَّهوا جميعًا بالتحية الحارة إلى فيودور ميخايلوفيتش، ولكنهم عاملوني بجفاء. انحنَوا مُسلِّمين، جلسوا، ثم راحو ينظرون إليَّ بكلِّ اهتمام. وعلى الفور أدركتُ بغريزتي أنَّ الشباب يتَّخِذ موقفًا مُعاديًا منِّي. لم يخِب ظنِّي كما تبيَّن لي بعد ذلك. لقد شكَّلوا ضدي حلفًا. كان آل إيفانوف يُحبُّون عمَّتَهم لأبيهم. يلينا بافلوفنا، حبًّا شديدًا، ولمَّا كان زوجها مريضًا لسنواتٍ طويلة دون أملٍ في الشفاء، فقد قررت الأسرة أن تتزوَّج يلينا بافلوفنا من فيودور ميخايلوفيتش فور وفاة زوجها وأن يعيشَا معًا للأبد في موسكو. لم يكن من العجيب إذن أنَّ هؤلاء الشباب قد نفروا منِّي باعتبار أنني أنا التي أفسدتُ عليهم حُلمهم المكنون. وكذلك لم يَسُرَّهم إسرافه في مديحي عندما كان في زيارتهم في موسكو إبَّان أعياد الميلاد. وعندما علموا أنني أعمل بالاختزال، قرَّروا أنني بلا شك عجوز، عدمية ذات شعرٍ قصير وأضع نظارات. وما إن علموا بوصولنا حتى اتفقوا على السخرية منِّي وأن يُحاصروني، وبذلك يثبتون استقلاليتهم. وعندما لم يَرَوا أمامهم عجوزًا، أو مُختزلة عالمة «عدمية»، وإنما رأوا بدلًا من ذلك امرأة شابة، بل صبية تقريبًا، مُعتدَّة بنفسها، اندهشوا ولم يخفضوا بصرَهم عنِّي. وقد أربكني هذا الاهتمام الفائق. وبعد أن كنتُ قد اعتدتُ التحدُّث ببساطة دون تنميق، أصبحتُ الآن أتحدث بلغةٍ فصحى، مُستخدمة عبارات جميلة، ومن ثم افتقر حديثي إلى اللغة العادية المألوفة، حاولتُ أن أشارك قريباتي حديثهن، لكنهنَّ كنَّ يُجبنَ باقتضاب، وكان واضحًا أنهن لا يردنَ مواصلة الحديث.
وقد فوضها الشباب مهمة إخراجي عن وقاري ووضعي في موقف مُثير للضحك أمام زوجي. بدءوا اللعب. كان على كل لاعبٍ أن يشكل (بالكلمات بطبيعة الحال) باقة تصف مواقف مختلفة من مواقف الحياة: العجوز— في عيد ميلاده الثمانين — الآنسة — في أول حفل لها. كان عليَّ أن أُشكل باقةً من كلمات عن أزهار الحقول، لم أذكر سوى زهرة الخشخاش والعنبر وسن الأسد وغيرها، ولهذا رفض الجميع بالإجماع، وهم على حق، باقتي.
اقترحوا عليَّ أن أُكوِّن باقة أخرى، ولكنِّي شعرتُ أنَّ التوفيق لن يُحالفني فرفضت بقولي: لا داعي، اسمحوا لي بالانسحاب! ابتسمتُ وأضفت: أرى أنه ليست لديَّ أي مهارة. ليس لدَينا شك في ذلك، هكذا أجابت ماريا سيرجييفنا، لقد أثبتِّ ذلك بشكلٍ رائع منذ زمنٍ طويل!
وفي أثناء ذلك نظرت نظرةً ذات مغزى إلى الجهة التي كان يجلس فيها إلى جواري فيودور ميخايلوفيتش، الذي كان يستمع إلى الألعاب الصغيرة. قالت هذه الكلمات بطريقة لاذعة وفي الوقت نفسه بذكاء شديد، الأمر الذي جعل الجميع دون استثناء، بما فيهم أنا وفيودور ميخايلوفيتش، ينفجرون في الضحك. أذاب الضحك العام جليد النفور وانتهت السهرة في جوٍّ من السرور أفضل مما بدأت عليه.
في طريق عودتنا للبيت، سألني فيودور ميخايلوفيتش عن انطباعاتي. قلت له إن فيرا ميخايلوفنا وسونيتشكا أعجباني للغاية، أما باقي أفراد العائلة فإنني لم أتعرف عليهم بعد. وعندما رأى فيودور ميخايلوفيتش الحزن مرتسمًا على وجهي قال لي مُواسيا: عزيزتي آنيا، لقد مزَّقوك إربًا يا مسكينة! لكنك أنت المُذنبة، كان عليك أن تدرئي عنك ضرباتهم، عندئذ كانوا سيلجمون ألسنتهم عنك! يجب أن تكوني أكثر شجاعةً يا صديقتي! لقد أعجبت بك أختي وكذلك سونيتشكا، كما كنتِ متألقة طوال اليوم حتى إنني لم أستطع إلا أن أظل أحملق فيك!
هدَّأت هذه الكلمات من روعي كثيرًا، على أنني على أية حالٍ لم أستطع الخلود إلى النوم في تلك الليلة، فتارة رحتُ ألوم نفسي لعدم قُدرتي على التواؤم مع الحياة، وتارة كنت أفكر لماذا عاملني هؤلاء الشباب والشابات على لطفهم ورِقتهم بمِثل هذا العداء. بخصوص خيبة أملهم في الجمع بين عمِّهم المحبوب وعمَّتِهم المحبوبة بسببي فقد عرفت بذلك فيما بعد.
اعتاد آل إيفانوف دعوتنا لزيارتهم لقضاء اليوم بطوله، لكننا قررنا زيارتهم في اليوم التالي، الجمعة، في المساء فقط. توجه فيودور ميخايلوفيتش ظهرًا إلى كاتكوف، ولكنه لم يجده في البيت. تناولنا طعام الغداء معًا في الفندق ثم توجَّهنا إلى آل إيفانوف. كان الجمعة هو اليوم المُحدَّد لاستقبال الضيوف، ومن ثم كان المنزل يغصُّ بهم. انقسم الحضور إلى جماعات، فالكبار احتلوا غرفة الاستقبال والمكتب وجلسوا يلعبون الورق، بينما بقي الشباب، وكنت بينهم. في الصالة، حيث راحوا يلعبون لعبةً مثيرة من ألعاب الورق الحديثة. جلس إلى جواري أحد الرفاق من الشباب هو ساشا إيفانوف. وعندما وجدتُ أنه لا يشارك الآخرين تحامُلهم عليَّ رحت أثرثر معه وأنا أضحك، وخاصة أنه بدا شابًّا ذكيًّا مرحًا.
أثناء لعب الورق وقع حادث مُضحك. في الستينيات لم تكن العملات الفضية منتشرة، وإنما كان التعامُل يتم أكثر بالعملات النحاسية. أرسل آل إيفانوف من يستبدل عشرة أو اثني عشر روبلًا، وقد حصلوا في المقابل على كمية ثقيلة من العملات من فئة الخمسة كوبيكات. من بين اللاعبين كانت هناك سيدة شابة تبلغ من العمر أربعين عامًا، ترتدي ثوبًا من قماش رقيق بلون وردي فاتح ذي عقد على الرأس والأكتاف والصدر. بعد عددٍ من الأدوار بدأت تشتكي من الخسائر. كما اشتكى أيضًا آخرون، أما نحن فقد بقِينا طويلًا عاجزين عن أن نُخمن من منَّا الذي كسب. وفي الساعة الحادية عشرة دعونا لتناول طعام العشاء. قُمنا من مقاعدنا وفجأة إذا بنا نسمع صوت رنين العملات وهي تتساقط على الأرض، ثم صراخ صاحبة الثوب الوردي؛ بداهة فإن جيبها لم يتحمَّل ثقل النقود. اندفعنا نلتقط النقود التي راحت تتناثر على الأرض هنا وهناك، وهنا انحنت السيدة الشابة على الأرض، بعد أن ضمَّت ثوبها الواسع على ما كسبته ثم صرخت: لا، لا، لا تمسُّوها! أنا سأجمعها بنفسي!
كان مظهرها مضحكًا للغاية، رُعبها من أن نأخذ لأنفسنا هذه العملات، كان أمرًا سخيفًا حتى إننا رحنا نضحك من قلوبنا، وكنت أنا، على ما أظن، أكثرهم ضحكًا.
كان فيودور ميخايلوفيتش يلعب الورق في غرفة المكتب، وكان يخرج بين الحين والآخر ليُلقي بنظرة علينا، وقد خُيِّل لي أنه أصبح أكثر جديةً وحزنًا، وقد عزوت ذلك للإرهاق. تناولت عشائي وقد جلس إلى جواري شريكي في لعب الورق، بينما جلس فيودور ميخايلوفيتش قبالتنا وظلَّ ينظر إليَّ دون أن يُحول بصرَه عنِّي وكان يُحاول أن ينصت لحديثنا. كنت في حالة من المرح والسرور البالغ. تبادلت الحديث عدة مرات مع زوجي مُحاوِلةً إشراكه في حديثنا لكنني لم أنجح في ذلك.
غادرنا المكان بعد العشاء مباشرة إلى بيتنا. التزم فيودور ميخايلوفيتش الصمت طوال الطريق الطويل ولم يُجب على أسئلتي. وبعد أن وصلْنا إلى شقتنا، راح يذرع الغرفة ذهابًا وجيئةً وكان مِن الواضح أنَّ شيئًا ما يُقلقه بشدة. أزعجني الأمر فاقتربتُ منه ورحتُ أُلاطفه وأُسرِّي عنه. أعرض فيودور ميخايلوفيتش بجانبه وأشاح يدي عنه ونظر إليَّ نظرةً تخلو من الطيبة وتمتلِئ بالقسوة والغضب، هذه النظرة التي جمَّدت الدَّمَ في عروقي.
سألته في وجل: فيديا، هل أنت غاضب منِّي؟ ما الذي أغضبك؟
عندما ألقيت عليه هذا السؤال، ثارت ثورته وأغلظ لي في القول. ومن بين ما قاله أنني كنتُ لعوبًا لا إحساس لديها، وأنني قضيتُ المساء كله أتصرَّف بدلالٍ مع جاري بهدف تعذيب زوجي. رحتُ أختلق الأعذار وأسُوق المُبررات، لكن هذا كان كمن يصبُّ الزيت على النار. اشتاط فيودور ميخايلوفيتش غضبًا وراح يصيح بأعلى صوته، وقد نسي تمامًا أننا في فندق. أحسستُ بالإهانة لِما تعرضتُ له من ظلم فادح، لمعرفتي بأن هذه الاتهامات محض افتراءات طائشة لا أساس لها. أخافني صراخُه والتعبيرات التي ارتسمت على وجهه، وخُيل إليَّ أن فيودور ميخايلوفيتش سوف يُصاب الآن بنوبةٍ من نوبات الصرع، أو أنه سيقتلني. فجأة يثوب فيودور ميخايلوفيتش إلى رُشده ويروح يُهدئ من روعي ويطلب مني العفو. أخذ يُقبل يديَّ ويبكي وهو يسبُّ نفسه على المشهد الذي حدث، ثم قال: لقد عانيتُ بشدة طوال الليل، وأنا أراك مُبتهجة بالحديث مع هذا الشاب. خُيِّل إليَّ أنك قد وقعت في حبه، وقد شعرتُ بالغيرة تحتدِم في نفسي تجاهه وكنتُ على استعدادٍ أن أوجِّه له أقذع الشتائم، والآن أرى كم كنت ظالمًا!
كان فيودور ميخايلوفيتش مخلصًا في ندمه ورجاني أن أنسى إساءاته ووعدَني ألا يقع في براثن الغيرة بعد ذلك إطلاقًا. كان الألَم الشديد يكسو وجهه. أصبحتُ أشعر بالأسى العميق تجاه زوجي المسكين، فقضيتُ ما تبقَّى من الليل جالسةً إلى جواره أواسيه وأهدئ خاطره. وضع صليل أجراس الكنيسة، مُعلنًا الساعة الأولى من الصباح، حدًّا لنقاشِنا. خلدنا للنوم، ولكننا لم نستطع النوم قبل مرور وقتٍ طويل.
استيقظت في الساعة الواحدة ظهر اليوم التالي. كان فيودور ميخايلوفيتش قد استيقظ قبلي وظل جالسًا ساعتَين دون أن تصدر عنه أي جلبة مخافة أن يُوقظني. اشتكى بطريقةٍ ساخرة أنني أوشكتُ أن أُميته جوعًا، فقد كان خائفًا أن يُوقظني ومن ثمَّ لم يرن الجرس ولم يطلُب لنفسه قهوة. كان شديد الرقة آنذاك في معاملتِه لي.
لقد ترك هذا المشهد الليلي انطباعًا عميقًا في نفسي إلى الأبد، مما دفعني أن أُطيل التفكير في النحو الذي ينبغي أن تكون عليه علاقتنا في المستقبل. لقد أدركتُ مدى الألم العميق الذي تتركه الغيرة على فيودور ميخايلوفيتش. ومن يومِها أخذتُ عهدًا على نفسي أن أُحافظ على زوجي وأن أُجنِّبه مثل هذه المؤثرات الثقيلة.
٦
ما إن وصلتُ إلى موسكو حتى كتبتُ إليه أطلُبُ منه زيارتنا في أي يوم يراه، على أن يكون مبكرًا في الحادية عشرة صباحًا، فإذا لم يجدنا فإنَّ عليه انتظارنا في قاعة المطالَعة بالفندق. تلقَّى أخي الخطاب يوم الجمعة وفي الساعة الحادية عشرة من اليوم التالي حضر إلينا. ولمَّا عرف من عامل الفندق أننا لم نستيقظ بعد، ذهب ليعود مريضًا من أصدقائه، وإذ طالت زيارته له فقد عاد ليَجِدنا قد غادرنا المكان. ظنَّ أخي أننا سرعان ما نعود فأخذ ينتظرنا حتى الغروب في الفندق، وعند مُغادرته ترك لنا خطابًا يُخبرنا فيه أنه سيعود إلينا يوم الاثنين. كنا قد قرَّرنا أنا وزوجي أن نسافر إلى بطرسبورج مساء الأحد إذا لم تنجح مَساعينا لدى كاتكوف، وبهذا أكون قد خاطرتُ بألا أرى أخي. رحت أرجو فيودور ميخايلوفيتش أن يسمح لي أن أقوم بنفسي بزيارة أخي. ومن ثمَّ فقد استأجر لي حوذيًّا ليُوصلني إلى أكاديمية بتروفسكايا وكتب له رقم المبنى. غادرتُ الفندق قرب الواحدة ظهرًا بعد أن وعدتُه أن أعود حوالي الرابعة ومعي أخي.
كنتُ في حالة نفسية رائعة: كان فيودور ميخايلوفيتش طوال الصباح رقيقًا ودودًا معي للغاية؛ كان من الواضح أن خِلافنا السابق قد مرَّ دون أن يترك في أعماقه أي انطباع كريه. كان الجو بديعًا رائقًا، وكان الطريق رائعًا وكنتُ أشعر بالسعادة لأنني سألتقي بأخي الحبيب.
كان يوم أحد، ولم يكن بالأكاديمية سوى قليلٍ من الطلاب نسبيًّا، هم في الأغلب الطلاب الذين يقيمون بها بصفة دائمة. دلفت عبر مدخلٍ رحب وسألت أول طالبٍ قابَلَني إن كان باستطاعتي أن أرى أخي، الطالب سينتكين. كان جميع من يعيشون في الأكاديمية يعرفون أن أخت سنيتكين قد تزوَّجَت قريبًا، ففي يوم زفافي، شارك أخي للمرة الأولى في حياته في حفلٍ تبادل الجميع فيه الأنخاب، وظلَّ يحتسي الخمر حتى سَكِر، وراح يبكي طوال السهرة بينما راح أصدقاؤه يُهدِّئونه وهو يقول: انتهى كل شيءٍ بالطبع! لن تكون لي أختٌ بعد الآن. لقد ماتت بالنسبة لي!
شيئًا فشيئًا بدأ زملاء فانيا يتوافدون إليه (ومن بينهم بعض المُعجبين بزوجي) على أمل أن يروا زوجة كاتبهم المفضل دستويفسكي. تجمع في الغرفة ما يقرب من تسعة أشخاص، منهم من جلس على كرسي ومنهم من جلس على السرير أو على حافة النافذة.
قدمت لهم الشاي. وهنا سارع خادم الدور في إحضار سماور ثالث؛ لعلَّه شعر أن السماور الأول قد فترت مياهه. هذا العدد من السماورات على مائدتنا أثار ضحك الجميع وأتاح الفرصة أمام الطلاب لتبادُل الحديث والدعابة بعد أن كانوا يشعرون بالخجل في وجودي.
تطرق الحديث إلى الأدب، وهنا انقسم الطلاب إلى فريقين: مُحبي فيودور ميخايلوفيتش وخصومه. أحد الخصوم راح يُثبت بحماس أن دستويفسكي باختياره راسكولنيكوف بطلًا «للجريمة والعقاب» فقد ألقى بافتراءاته على جيل الشباب، وإذا بالجدل بين الشباب يحتدم، عندما لم يُوافق أحدٌ على ما قاله هذا الطالب وراح كلٌّ من الحضور يُدلي برأيه في هذه المسألة. وفي سَورة النقاش لم ينتبه أحدٌ منَّا لمرور الوقت، وبدلًا من أن أقضي ساعةً واحدة في ضيافة أخي قضيتُ ما يزيد على ساعتَين. تعجلت العودة وعلى الفور قام الشباب من الفريقَين لتَوصِيلي حتى مدخل البناية. هيهات، لقد اختفي الحُوذي الذي أحضرني حتى دون أن أدفع له أجره. اندفع الطلاب كلٌّ في اتجاهٍ بحثًا عنه ثم عادوا ليُخبروني أن السائق انتظرني ما يزيد على ساعة ثم ذهب بأحد الأساتذة إلى المدينة.
ما العمل؟ أحد الطلاب أخذ على عاتقه السير بنا عبر أقصر الطرق باتجاه بوتيركا حيث يمكن دائمًا العثور على حُوذي. سِرنا جماعة، لكن تبيَّن، كما يحدث دائمًا، أن أقصر الطرق هو أطولها. اضطُرِرنا للسير عبر ركام من الثلج ساخت أقدامُنا فيه. راح الجميع يضحكون، بينما كان قلبي يقرصني كلما خطر ببالي القلق الذي لا بد أن يكون عليه الآن زوجي المسكين.
وصلْنا أخيرًا بعد ساعةٍ تقريبًا إلى بوتيركا لنبحث طويلًا عن حُوذي. ثم ها نحن نصل، أنا وأخي، إلى فندق ديوسو في السادسة والنصف. كان الظلام قد حل. أسرعت نحو المدخل وسألت البواب إن كان السيد في الداخل؟ فأجاب: إنهم يقفون عند تقاطُع الطرق منذ ثلاث ساعات بأكملها، وقد تردَّدوا أكثر من مرة على الفندق يسألون إن كنتِ قد عدتِ أم لا.
خرجتُ إلى الطريق وشاهدت فيودور ميخايلوفيتش، الذي كان بالفعل يقف عند زاوية الشارع يحملق في المارة. انتابَني الخوف وقد رأيت كم كان شاحبًا، قلقًا.
يا عزيزي فيديا، لقد عدت، هيا إلى البيت. نطقتُ بهذه الكلمات وأنا أقترب منه.
فرح فيودور ميخايلوفيتش بشدة وأمسك بيدي وقد بدت على وجهه علامات من كان يائسًا أن يراني ثانية. أخذتُهُ نحو مدخل الفندق وقدمتُ له أخي. أعترف أنني كنتُ خائفة للغاية من أن يَصُبَّ فيودور ميخايلوفيتش جام غضبِه على فانيا الذي لا ذنب له وأن ينهار حلمي أن يُحِب أخي. ولحُسن الحظ لم يحدث ذلك، لقد عامَلَه زوجي بمودة شديدة.
تناولنا غداءنا في جوٍّ من البهجة. قصَّ عليَّ فيودور ميخايلوفيتش كلَّ ما حدث له، أما أنا فوصفت له ضاحكةً مغامراتي. ونظرًا لتأخر الوقت فقد انصرف أخي بعد الغداء مباشرة لنقضِيَ أنا وزوجي معًا أمسيةً رائعة ذكرتني بأمسياتنا المدهشة التي قضيناها قبل الزواج. سألتُه وقد خلت نفوسنا من كل كدَر: حسنًا، قل لي بصراحة، هل راودَتْك الظنون أنني قد أكون قد هربتُ اليوم مع شخص ما؟
– إذن هذه واحدة من اختراعاتك! أجاب فيودور ميخايلوفيتش، لكن عيناه نظرتا إليَّ مُعبِّرتَين عن إحساسٍ بالذنب، فأدركتُ عندئذٍ أن حدسي كان صحيحًا بعض الشيء.
٧
أخيرًا وافقت مجلة «البشير الروسي» على تقديم قرضٍ جديد مُقدَّمًا إلى فيودور ميخايلوفيتش قدرُه ألف روبل. وقد علِمنا بالأمر يوم الجمعة، وفي اليوم التالي مباشرة سافرنا إلى بطرسبورج. أذكر أن قطارنا قد توقَّف لسببٍ ما لمدة ساعةٍ في محطة كلين. كانت الساعة حوالي السابعة مساءً وكانت صلاة الليل تقام بمناسبة سبت السعف في القاعة العامة. كان الجميع يقفون وقد أمسكوا بالشموع المُضاءة وبأغصان الصفصاف. انضمَمْنا إلى المُصلِّين، وما زلت أذكر كيف رُحتُ أُصلِّي بحرارةٍ وأنا أقف إلى جوار زوجي العزيز، وكيف توجَّهتُ إلى الله بالشكر الخالص للسعادة التي وهبَها إياي! كانت لحظاتٍ من العمر لا تُنسى!
٨
عُدنا إلى بطرسبورج، ومن جديدٍ عادت الحياة المُملَّة مسيرتها الأولى. على مائدة الإفطار ظهر ضيوفنا المُعتادون، تلاهم تجمُّع باقي الأقارب. الذين بلغَهم نبأ وصولنا يوم الأحد عن طريق ربيب زوجي. كان من نصيبي مرةً أخرى واجب «رعاية» و«ضيافة» الأقارب. وقد فعلتُ ذلك بكلِّ رضًا واقتناع، على أمَل أنَّ كلَّ شيءٍ سوف يتغير قريبًا. كان فيودور ميخايلوفيتش قد غادر البيت لأمرٍ ما، أما أنا فقد حزمتُ أمري على ألَّا أتحدَّث لأحدٍ بشأن سفرنا المُحتمَل إلى الخارج تجنبًا لأيةِ مشاحنات. لم يأت ذكر السفر إلَّا ونحن جلوس نتحدَّث على الغداء، الذي تجمَّع حوله جميع الأقارب بمن فيهم أُمي. تحدث الجمع عن الطقس الربيعي الرائع الذي استمر طوال الأسبوع، وهنا اقترحَت إميليا فيدوروفنا فكرة أنه ربما أصبح من الضروري استغلال صفاء الجوِّ للبحث عن «داتشا» (بيت صيفي) وإلا فإن البيوت الجيدة سوف يتم شراؤها، وأضافت قائلةً إنها تعرف بيتًا ذا حديقةٍ واسعة، وهو كبير بحيث يُمكن أن يضم، بخلافنا، آل دستويفسكي جميعهم.
– لا حاجة بنا لداتشا، سوف نسافر أنا وآنَّا للخارج.
استقبل الأقارب كلهم هذه الكلمات باعتبارها نكتة، ولكنهم بدءوا يؤمِنون أنها حقيقة عندما بدأ زوجي يطرح عليهم خطة السفر بالتفصيل. بداهةً كانوا ساخطين وفجأة التزموا الصمت على نحوٍ ما. حاولت أن أبثَّ الحيوية في الحديث، فأخذتُ أتحدَّث عن آل إيفانوف وعن جولاتنا في موسكو، لكن أحدًا لم يُعرني اهتمامًا.
قدمتُ القهوة بعدما قام فيودور ميخايلوفيتش إلى غرفة مكتبه غاضبًا من هذا الاحتجاج الصامت. تبعَتْهُ بعد برهة إميليا فيدوروفنا، أما باقي الأقارب فقد انتقلوا إلى غرفة الاستقبال ولم يبقَ في غرفة الطعام سواي وبافل ألكسندروفيتش الذي بادأني بالقول، وقد احتدم غضبه: أرى جيدًا أن هذا الأمر من ألاعيبك، آنَّا جريجوريفنا!
– أية ألاعيب؟
– أحقًّا لا تفهمين؟! هذه الرحلة السخيفة إلى الخارج! لكن، فلتعلمي أن حساباتك خاطئة تمامًا. إذا كنتُ قد «سمحت» لكما بالسفر إلى موسكو، فقد كان ذلك فقط لأن بابا سافر ليتسلَّم نقودًا. لكنَّ السفر إلى الخارج إنما هو نزوة من نزواتك، آنَّا جريجوريفنا، ولن أسمح بها بأي حالٍ من الأحوال.
شعرتُ بالغضب الشديد من لهجته، لكنني لم أرغب في الدخول معه في شجارٍ فقلت له ساخرة: ربما تشعر بالشفقة نحوَنا؟
– لا تعتمدي على ذلك. إن هذه النزوة باهظة التكاليف، ولستِ وحدك التي تحتاجين إلى نقود، وإنما الأسرة كلها؛ النقود هنا ملك الجميع.
هذا الكلام يَصدر عن شخصٍ مدين بكلِّ شيءٍ لزوج أمِّه الطيب. شخص لا يعرف كيف يكسب قرشًا واحدًا! وعلى الفور غادرتُ المكان حتى لا أوَبِّخه على وقاحتِه.
مضت نصف ساعة، خرجَت بعدها إميليا فيدوروفنا من غرفة المكتب غاضبة، أمرَت بناتها بالتأهُّب للعودة إلى البيت، ثم غادرَتِ البيت بعد أن ودَّعَتْني بجفاء. بعدها دخل نيكولاي ميخايلوفيتش، الأخ الأصغر لفيودور ميخايلوفيتش، ثم بدأ باقي الأقارب في المغادرة. وبعد أن غادر الجميع، جاء دور بافل ألكسندروفيتش في الدخول. وكعادته بدأ يتحدَّث بانفعالٍ حادٍّ وبأسلوبٍ وعظي، عندئذٍ لم يتمالك فيودور ميخايلوفيتش نفسه وطردَه من غرفة المكتب، وعلى الفور خرج مُتجهًا إلى مكانٍ ما.
بعد أن انصرف الجميع دخلتُ إلى المكتب لأجد زوجي وقد اشتدَّ به الغضب والاستياء. قال إن جميع الأقارب يُعارضون السفر للخارج، وفي حالة إذا ما تمَّ فإنهم «يطلبون» أن يترك لهم مالًا يكفيهم لعدة أشهُر مقدمًا. سألته: ما مقدار هذا المبلغ؟
– لقد وعدت إميليا فيدوروفنا أن تتحدث مع الأولاد وأن تردَّ عليَّ غدًا؛ أجاب فيودور ميخايلوفيتش.
وها هي هواجسي الكئيبة تتحقَّق. في صباح اليوم التالي حضرَت إميليا فيدوروفنا وأعلنت أنها بحاجةٍ إلى خمسمائة روبل لأُسرتها ومائتين لمعاش ربيبه إبَّان غيابنا. حاول فيودور ميخايلوفيتش أن يُقنعها بأن توافق على قبول ثلاثمائة روبل (لأُسرتها ولربيبه)، أما باقي المبلغ فوعد أن يُعطيها إيَّاه بعد شهرين، لكن إميليا فيدوروفنا رفضت هذا العرض، ولم يكن فيودور ميخايلوفيتش يمتلك القوة على الرفض: لقد اعتاد على تحقيق كلِّ مطالب أُسرته منذ وفاة أخيه.
كان فيودور ميخايلوفيتش مذهولًا من هذا الطلَب الذي جاء على غير موعد، ولكنَّه وعد، أمام إلحاح رايسمان، أن يدفع لها غدًا ثلاثمائة روبل.
في نفس اليوم تسلَّمنا خطابات من الأقارب اتضح من خلالها أن على فيودور ميخايلوفيتش أن يدفع لهم ألفًا ومائة روبل، إلى جانب الثلاثمائة التي سيدفعها إلى رايسمان، بينما كان كل ما في أيدينا هو ألف روبل!
بصراحة، فقد بدا لي أن هذا الطلب المُفاجئ فيه شيء من شبهة التواطؤ بين الدائنين، لكنَّني لم أُفصح عن فكرتي لزوجي.
في وقتٍ متأخر من المساء قال لي فيودور ميخايلوفيتش، بعد أن أحصى نفقاتنا المُنتظرة: إن القدَر يُعاندنا يا عزيزتي أنيتشكا، ها أنت ترَين بنفسك: إذا سافرنا للخارج الآن، في الربيع، فلسوف نحتاج إلى ألفي روبل، وليس لدَينا حتى ألف واحدة. وإذا ما بقِينا في روسيا فإننا نستطيع العيش بما لدَينا في هدوءٍ شهرَين كاملَين، وربما استأجرنا الداتشا التي اقترحَتْها إميليا فيدوروفنا. وهناك سوف أشرع في العمل، وعندئذٍ يُصبح من المُمكن أن نحصل في الخريف على قدْرٍ من المال، وعندها نسافر إلى الخارج لمدة شهرين. لو تعلمين يا يَمامتي الغالية مقدار أسفي لأن هذا الأمر لن يتحقَّق الآن! كم حلمتُ بهذه الرحلة، وكم هي ضرورية لكِلَينا!
حاولتُ أن أخفي حُزني عن زوجي وأنا أرى مقدار الإحباط الذي أصابه فقلت له بحماس: حسنًا يا عزيزي، فلتطِبْ نفسًا. سننتظر حتى الخريف! لعل وعسى أن يكون لنا نصيب من السعادة!
تعللت بالصداع وأسرعتُ في مغادرة غرفة المكتب خشية أن أنفجر في البكاء فأزيد من حُزن زوجي. كان الألَم يعتصر قلبي. راودتْني الأفكار الكئيبة وراحت الشكوك والهواجس تُنشب مَخالبها في صدري، كنتُ قد تخلصتُ من كل ذلك أثناء رحلتنا إلى موسكو، والآن ها أنا أسقط في مهاوي اليأس وأنا أُشاهد الحلم الذي أخذ ينأى عن أن يصير واقعًا.
رحتُ أفكر في أن هذه العلاقة الروحية الدائمة مع زوجي، والتي أدركتُ قيمتها في أسابيع الصفاء التي سبقت زواجنا، والتي أضْفَتِ الجمال على حياتنا في موسكو، هي وحدَها التي بإمكانها أن تبني الأسرة القوية المُتحابَّة التي حلمتُ بها أنا وفيودور ميخايلوفيتش، وأننا إذا كنَّا نرغب في إنقاذ حُبنا، فإن من الضروري لنا أن نخلوَ لأنفسنا ولو لمدة شهرين أو ثلاثة، وأن أستشعِر الهدوء والسكينة، بعيدًا عن الاضطراب والأذى الذي عانيتُه. كنت على يقينٍ لا يتزعزع أننا عندئذٍ سوف نتآلف أنا وزوجي إلى الأبد، وأن أحدًا، أيًّا كان، لن يكون بإمكانه أن يفصم ما بيننا من عُرًى. رحتُ أفكر: من أين لنا المال الضروري الذي نحتاجه لرحلتنا هذه؟ وبغتةً خطرت ببالي فكرة: «ولماذا لا أُضحِّي بجهاز العروس الذي أملِكه من أجل هذه الرحلة، وبهذا أكون قد أنقذتُ سعادتي؟» راحت هذه الفكرة شيئًا فشيئًا تستحوِذ على مشاعري، على الرغم من أن تنفيذها كانت تكتنِفُه صعوبات كثيرة، وعلى رأسها أنني أنا نفسي لم أكن لأجسر على الإقدام على تقديم هذه التضحية بمِثل هذه السهولة. وقد ذكرتُ من قبل أنني، على الرغم من سنواتي العشرين، فقد كنتُ طفلةً في جوانب كثيرة من شخصيتي، وفي مرحلة الشباب تكون أشياء، مثل الأثاث والملابس، ذات قيمةٍ كبيرة. كنتُ مُعجبةً أشدَّ الإعجاب بالبيانو الذي أملكه وبالمائدة والمناضد الصغيرة والدواليب ذات الأرفف؛ بالإضافة إلى الأدوات واللوازم الأخرى التي اشتريتُها. كان من المؤسِف أن أفقد كل هذا وأن أُخاطر بألَّا أسترجِعه أبدًا مرةً أخرى وقد اشترت أُمِّي جزءًا كبيرًا من جهاز العروس من مالها. أخذتُ أفكر: «ماذا لو أنَّ أمي اتهمت زوجي بتحيُّزه الزائد لأقاربه وبدأت تشكُّ في مدى حُبه لي؟ كم من العذاب ستُقاسي، وهي التي كانت كثيرًا ما تضع دومًا سعادة أطفالها فوق سعادتها الشخصية»؟!
على هذه الحال من التردُّد والشك قضيتُ ليلتي مسهدة. وفي الساعة الخامسة صباحًا دقَّتِ الأجراس معلنةً عن قداس الصباح، فقررت الذهاب للصلاة في كنيسة الصعود القائمة قبالة بيتنا. كانت الصلاة دائمًا ما تؤثر فيَّ بقوة: رحت أصلي لله وأبكي بكل خشوعٍ وحمية، ثم غادرت الكنيسة وقد ترسَّخ في نفسي القرار. لم أرجع من الكنيسة إلى البيت، وإنما توجَّهت مباشرةً إلى أمِّي. انزعجَتْ أمي المسكينة لهذه الزيارة في هذه الساعة المبكرة، ناهيك عن أثر البكاء في عيوني. كانت الوحيدة من بين كلِّ القريبين منِّي التي كانت تعرف أن حياتي العائلية تفتقر إلى التوفيق. كانت كثيرًا ما تزجُرني لعدَم قُدرتي على إجبار بافل ألكسندروفيتش على احترامي وتغيير المناخ المُحيط بي. وأعربَتْ أُمي أيضًا عن استيائها من أنني أقضي أيامًا بطولها لا أفعل شيئًا ذا قيمة، سوى ضيافة أناسٍ مُملِّين بينما كنت في الماضي مشغولةً دائمًا، أبحث في العمل عن مُتعتي الروحية. كانت أمِّي امرأة سويدية، تنظر إلى الحياة بنظرةٍ غربية أكثر ثقافة، وكانت تخشى من تبدُّل العادات الطيبة التي غرسَتْها في نفسي بسبب حياتي على الطريقة الروسية وما فيها من كرَم الضيافة الفوضوي. ولأنها كانت تُدرك أنني لا أملك الشكيمة ولا الذكاء الاجتماعي لكي أضع كلَّ شيءٍ في نصابه، فقد كانت تُعوِّل بشدة على سفرنا إلى الخارج. رأت أُمِّي أن تقترح على فيودور ميخايلوفيتش أن يأتي ليسكن في بيتها، بعد عودتنا، وسوف نُعطِيَه شقةً جيدة بلا مُقابل، وعندئذٍ لن يعود بإمكان أقاربنا أن يأتوا لزيارتنا كلَّ يومٍ بسبب بُعد المسافة. كما أن بافل ألكسندروفيتش لن تراوِدُه الرغبة في السكن في «الأدغال» كما كان يُسمِّي منطقتنا باحتقار، وسوف يُفضل بالطبع البقاء لدى إميليا فيدوروفنا. وعلى هذا النحو فإن الانفصال عن بافل ألكسندروفيتش لن يبدو نوعًا من الخصام العائلي، بقدْر ما سيقع بناءً على رغبته الشخصية.
بعد أن عرفَت أُمي أن رحلتنا إلى الخارج قد آلت إلى الفشل، وأنه سيتحتَّم عليَّ قضاء الصيف في داتشا تضمُّ آل دستويفسكي جميعهم أصابها الذُّعر. كانت تعلم طبيعتي المُستقلة وصلابة الطبع التي تُميِّز الشباب، وكان أكثر ما تخشاه أن تنفلِت أعصابي فتقع الكارثة.
كانت خُطتي تتمثَّل في أن أرهن كل أشيائي، وكم كانت سعادتي عظيمةً عندما استحسنَتْ أُمِّي هذه الخطة! وعندما سألتُها إن كانت آسفةً على ما اشترتْهُ من أثاثٍ وأشياء أخرى أجابت: بالطبع آسفة، ولكن ما العمل، أليست سعادتك في خطر؟ أنت وفيودور ميخايلوفيتش شخصان مُختلفان إلى حدٍّ كبير، فإذا لم تتآلَفا، الأمر الذي ينبغي حدوثه الآن، فإنكما، بطبيعة الحال، لن تتآلفَا أبدًا. عليكما أن تسافِرَا، وبأقصى سرعة، قبل الأعياد، وقبل أن تظهر مُشكلات جديدة. سألتها: ولكن، هل سيكون باستطاعتنا أن نرهن أشياءنا ونحصل على النقود قبل الأعياد؟
لحُسن الحظ كانت أُمِّي تعرف أحد مديري شركة «المنقولات الكبرى» ووعدتني بسرعة الذهاب لمُقابلته لكي يُرسِل إلينا بالمُثمِّن غدًا. كان موعد إيجار شقتنا يحين في الأول من مايو، وكان من الممكن نقل الأثاث إلى المخازن بعد العيد. سعت أُمِّي جاهدةً أن تُعطي أقارب فيودور ميخايلوفيتش المبالِغَ التي حدَّدَها لكلِّ شخصٍ منهم. أما فيما يتعلق بالأشياء الذهبية والفضية وأوراق اليانصيب والبلاطي الفرو، فكان من الممكن رهنُها قُبَيل سفرنا.
كنتُ سعيدةً أن وصلتُ إلى البيت قبل أن يستيقظ فيودور ميخايلوفيتش من نومِه. كان بافل ألكسندروفيتش مُهتمًّا بشدة أن يعرف أين كنتُ طوال الصباح. جاء مُسرعًا إلى غرفة الطعام، حيث كنتُ أقوم بإعداد القهوة لزوجي، وكعادته راح في إلقاء التلميحات اللاذعة. بدأ بقوله: يُسعدني أن أُقرر أنك، آنَّا جريجوريفنا، امرأة مُتدينة، إلى حدِّ أنك تحرصين ليس فقط على أداء قداس الصباح، كما علمت بذلك من فيدوسيا، بل وعلى قدَّاس الظهر أيضًا.
– نعم كنتُ في الكنيسة، أجبتُه باقتضاب.
– ولكن، لماذا أنتِ شاردة اليوم؟! اسمحي لي أن أعرِف إلى أي أجواءٍ بعيدة يُحلِّق بك خيالك؟
– بعيدًا، ما دُمنا، كما تعلم، لن نسافر إلى الخارج.
– ألم أقل لكِ؟ لدَيك من الخبرة الآن، أن تعرفي أن باستطاعتي ذلك، وأنني لن أسمح بالسفر إلى الخارج!
– حسنًا، حقًّا، أعرف، أعرف أنك قُلتَ ذلك! أجبتُه راغبةً عن الدخول في جدلٍ معه، على الرغم من أنَّني كنتُ في حالة شديدة من الاستياء لوقاحتِهِ.
لم تبقَ سوى مهمة واحدة كبيرة. أن أُقنِع فيودور ميخايلوفيتش بالمُوافقة على الخطة التي وضعتُها. كان الحديث معه حول هذا الأمر في البيت مُستحيلًا؛ كان من المُمكن أن يُقاطعنا أحدٌ ما في كل دقيقة، وقد تشبَّث بافل ألكسندروفيتش بالبقاء في البيت منتظرًا وصول آل دستويفسكي الشباب، ضيوفنا الصباحِيِّين المُعتادِين. ولحُسن الحظ، كان على زوجي الخروج لشأنٍ ما. دعوتُهُ لأن أذهب برفقته إلى أقرب صيدلية. ما إن خرجنا من البيت حتى اقترحتُ عليه أن نذهب إلى كنيسة الصعود. صلَّينا معًا أمام أيقونة العذراء، ثم مشَينا معًا عبر شارع فوزنيسينسكايا ثم عبر كورنيش مويكا. كنتُ في أشدِّ حالات الاضطراب ولم أكن أعرف كيف أبدأ الحديث. ساعدني فيودور ميخايلوفيتش على الكلام، عندما لاحظ ما أنا عليه من نشاطٍ قائلًا: كم أنا سعيد يا آنيا أنكِ قبلت، بصدرٍ رحب، قرار إلغاء السفر للخارج الذي حلمنا به!
أذكر مدى السعادة التي غمرَتْني في هذا اليوم! وحتى مُضايقات بافل ألكسندروفيتش السخيفة لم تُغضبني: كنتُ أعلم أن نهايتها قد اقتربت. في هذا اليوم لم نُخبر أحدًا عن سفرنا، باستثناء أُمي التي حضرت إلينا في المساء وأحضرت معها الأشياء الذهبية والفضية وأوراق اليانصيب لتُرسِل بها في الغد لرهنها.
في اليوم التالي، الأربعاء، حضر إلينا مُثمِّن الشركة وحدَّد المبلغ الذي نستطيع أن نتقاضاه مُقابل الأثاث. وفي نفس اليوم، بعد الظهر، عندما اجتمعنا على الغداء، كان جميع الأقارب موجودين، عندما أعلن فيودور ميخايلوفيتش أننا سنُسافر إلى الخارج بعد غد. هنا قاطعَه بافل ألكسندروفيتش الذي كان يحتدِم غيظًا بقوله: اسمح لي بابا أن أُبدي لك ملاحظة.
– لا ملاحظات! صاح فيودور ميخايلوفيتش غضبًا، كلٌّ منكم سيأخذ ما حددناه، لا قرش واحدًا زيادة.
– لكن هذا غير معقول! لقد نسيتُ أن أُخبرك أن معطفي الصيفي لم يعُد على المودة من فترةٍ طويلة، ويلزمني معطف جديد، إلى جانب مصروفاتي الأخرى … هكذا بدأ بافل ألكسندروفيتش حديثَه.
– زيادة على ما تحدَّد، لن تأخُذ شيئًا. سنسافر إلى الخارج بنقود آنَّا جريجوريفنا، وهي نقود لا أملك التصرُّف فيها.
حاول بافل ألكسندروفيتش أن يُقدِّم طلباتٍ أخرى مرةً واثنتَين وثلاثًا، لكن فيودور ميخايلوفيتش لم يُعِرْه اهتمامًا.
بعد الغداء راح الأقارب يدلفون إلى غرفة مكتب زوجي واحدًا بعد الآخر. وهناك أخذ فيودور ميخايلوفيتش يُعطي كلَّ واحدٍ منهم جزءًا من المال. واستبقى الإيصالات المؤجَّلة إلى الأول من مايو التي ستدفَع أُمي قيمتَها من النقود التي تسلَّمناها مقابل الأشياء المرهونة.
حاولتُ إقناع فيودور ميخايلوفيتش أن يُعطي بافل ألكسندروفيتش نقودًا ليشتري بها معطفًا صيفيًّا حتى لا يُسبِّب لنا مشاكل. لكن هذه التضحية لم تُلِن قلب باشا، الذي قال لي عند الوداع: إن هذه الفعلة الخبيثة (يقصد سفرنا إلى الخارج) لن تمرَّ مرور الكرام، وإنه عندما يحلُّ الخريف «سوف نتصارع، ومن يدري، لمن تكون الغلبة».
كنتُ سعيدة، حتى إنني لم أُلقِ انتباهًا لكلماته اللاذعة التي كان ينهال بها عليَّ من كل جانب.
رتَّبنا أمتعتنا على عجل، ولمَّا كنا نظن أننا لن نبقى في الخارج سوى فترةٍ قصيرة، فإننا لم نأخذ معنا سوى الأشياء الضرورية بعد أن تركنا رهن أثاثنا لدى أُمي، كما تركنا باقي أدواتنا لتحتفظ بها عندها. وثب بافل ألكسندروفيتش ناحيتَها ليُساعدها، ولكنه، أعاق عملَها بدلًا من أن يُخفِّف عنها. جزء كبير من محتويات غرفة فيودور ميخايلوفيتش ومكتبته نقلَها بافل ألكسندروفيتش إلى غرفتِه بدعوى أنه يُريد أن يُطالِع الكتب ليزيد من تعليمه.
سافرنا إلى الخارج لمدة ثلاثة شهور، لكننا عُدنا إلى روسيا بعد أربعة أعوامٍ وبضعة شهور. خلال هذه الفترة وقعت أحداث كثيرة سارَّة في حياتنا، وسوف أظلُّ أتوجَّه بالشكر لله الذي أمدَّني بالقوة في اتخاذ قرار السفر إلى الخارج. هناك بدأت حياتنا الجديدة والسعيدة معًا، وازدادت صداقتنا وحُبنا قوة، هذه الصداقة وهذا الحُب اللذان استمرَّا حتى اليوم الأخير من حياة زوجي.