٢
غادرنا برلين إلى درزدن بعد أن قضَينا فيها يومَين. وقد
قرَّرنا أن نعيش فيها شهرًا بعد المجهود الشاق الذي بذلَه زوجي
في عمله الأدبي. كان فيودور ميخايلوفيتش يُحب مدينة درزدن
أساسًا، لوجود متحف الفنون الجميلة الشهير بها ولحدائقها
الرائعة وضواحيها الخلابة، وكان دائمًا ما يمر بها إبَّان
رحلاته إلى هنا، إذ إن هذه المدينة كانت تمتلك عددًا كبيرًا من
المتاحف والكنوز. وحيث إن فيودور ميخايلوفيتش كان يعلم مدى ما
لديَّ من حُب استطلاع فقد أحسَّ أنني سوف أستمتع بالمكان ولن
أشعر بالوحشة تجاه روسيا، الأمر الذي كان يخشاه في الأيام
الأولى لوصولنا.
توقفنا في
Neumarkt، في واحد
من أفضل فنادقها
Stadt Berlin،
وبعد أن استبدلنا ملابسنا، توجَّهنا على الفور إلى متحف الفنون
الجميلة، حيث كان زوجي يودُّ أن يُعرِّفني أولًا على كنوز
المدينة. أكد لي فيودور ميخايلوفيتش أنه يذكر جيدًا طريقًا
مختصرًا يؤدِّي إلى متحف تسفينجر، ولكننا سرعان ما ضللنا
الطريق في الشوارع الضيِّقة، وهنا وقعت لنا هذه الحادثة
الطريفة التي سيُوردها زوجي في أحد خطاباته إليَّ كمثالٍ على
مَيل التفكير الألماني إلى الإتقان والتعقيد بعض الشيء. توجَّه
فيودور ميخايلوفيتش بسؤال إلى سيدٍ يبدو أنه مثقف قائلًا:
٤
– Bitte, gnädiger Herr, wo ist
Gemälde-Gallerie?
–
Gemälde-Gallerie?
– Ja,
Gemälde-Gallerie.
– Königliche
Gemälde-Gallerie.
– Ja, Königliche
Gemälde-Gallerie.
تعجَّبنا من استجوابه لنا
ما دام لا يعرف أين يقع المتحف.
على أية حال فقد وصلنا إلى المتحف سريعًا، وعلى الرغم من أنه
قد بقيت ساعة واحدة على موعد إغلاقه، فقد قرَّرنا الدخول. عبَر
زوجي كل القاعات وهو يقودني إلى المادونَّا السيستينية، وهي
اللوحة التي كان يَعتبرها الظهور الأسمى للعبقرية الإنسانية.
رأيتُ بعد ذلك أنَّ باستطاعة زوجي الوقوف أمام جمال هذه اللوحة
الفاتنة ساعاتٍ طويلة متأثرًا حتى تكاد الدموع تطفر من عينَيه.
٦ أودُّ أن أذكر هنا أن المادونا السيستينية قد تركت
في نفسي انطباعًا هائلًا لدى رؤيتي لها للمرة الأولى: خُيل لي
أن العذراء وهي تحمِل وليدَها على يدَيها كما لو كانت تُحلق في
الفضاء قادمة لاستقبالنا. وقد عشت هذا الانطباع مرةً أخرى فيما
بعد، عندما ذهبتُ لأداء صلاة الليل يوم الأول من أكتوبر. دخلت
إلى الكنيسة وقد راحت تمُوج بالضوء (كنيسة القديس فلاديمير في
كييف)، وهناك رأيت العمل العبقري للفنان فاسنيتسوف.
٧ نفس تأثير العذراء وقد اكتسى وجهها الرباني
بابتسامةٍ رءوم قادمة لاستقبالي لتهز وجداني هزًّا من
الأعماق.
في نفس اليوم استأجرنا شقة في
Johannis-Straβe. كانت
مكونة من ثلاث غرف: استقبال ومكتب ونوم، كانت تؤجرها سيدة
فرنسية ترمَّلت منذ فترةٍ غير بعيدة. في اليوم التالي ذهبْنا
لشراء بالطو مطر لي، بدلًا من البالطو البطرسبورجي الذي كنتُ
أرتديه، وقد أصرَّ زوجي على قيامي بتجربة عددٍ من القُبعات بلغ
عددها عشرًا، حتى استقرَّ أخيرًا على إحداها رأى أنها، على
حدِّ تعبيره، «تُلائمني بشكلٍ رائع». ما زلت أذكرها حتى الآن:
كانت مصنوعة من القش الإيطالي، مُزدانة بزهور وشرائط طويلةٍ من
المخمل الأسود تنسدل على كتفي، تُسمَّى حسب الموضة
Suives-moi.
رُحنا نطوف بعد ذلك يومَين أو ثلاثة لشراء ملابس صيفية لي.
وكنتُ مندهشةً كيف أن فيودور ميخايلوفيتش لم يشعر بالسأم من
اختيار وفحص الأشياء التي كنَّا بصدد شرائها، من ناحية جودتِها
ورسومها وطرازها. كانت كلُّ الأشياء التي اختارها لي ذات جودةٍ
عالية، بسيطة وجميلة، بعد ذلك اعتدتُ أن أضع ثقتي كاملةً في
ذوقه.
ما إن استقرَّت أمورنا حتى هبَّت علينا رياح السعادة الآمنة:
لم تكن لدَينا أعباء مالية (لم تظهر هذه الأعباء إلَّا مع قدوم
الخريف)، لم يكن هناك من يَحُول بيني وبين زوجي. كانت الفرصة
مُهيَّأةً تمامًا أمامي لأستمتع بصحبته. إن ذكرياتي عن هذا
الزمن، على الرغم من مرور عشر سنوات، ما تزال حيةً في
أعماقي.
كان فيودور ميخايلوفيتش يُحب النظام في كلِّ شيء، بما في ذلك
تقسيمِه لوقته، ولهذا فسرعان ما انتظمت حياتنا بحيث بات في
استطاعتنا أن نستغلَّ وقتنا كما نشاء دون أن يتعرض أيٌّ مِنَّا
للمضايقة. وحيث إن زوجي كان يعمل ليلًا، فلم يكن يستيقظ قبل
الحادية عشرة صباحًا. كنتُ أتناول معه طعام الإفطار ثم أتوجَّه
على الفور لمشاهدة
Sammlung ما،
٨ وفي هذه الحالة كنت أصِل بفضل ما لديَّ من حُب
استطلاع شابٍّ إلى حالةٍ من الرضا والسرور. أتذكَّر أنني لم
أكن أترك مجموعة واحدة من المجموعات التي لا حصر لها:
botanische mineralgische,
geologische٩ وغيرها، إلا شاهدتها بدقَّةٍ متناهية. بحلول
الساعة الثانية ظهرًا كان عليَّ أن أوجد حتمًا في قاعة اللوحات
(وهي موجودة في متحف تسفينجر ذاته إلى جانب المجموعات
العلمية). كنت أعرف أنه بحلول هذا الوقت يصِل زوجي إلى المتحف
فنبدأ معًا في مشاهدة اللوحات التي يُحبها أيضًا.
فيودور ميخايلوفيتش يضع أعمال رفاييل على قمة فن التصوير،
وكان يرى أن المادونا السيستينية هي رائعة أعماله. كما كان
يُقدِّر موهبة تيتسيان تقديرًا رفيعًا وخاصة لوحته الشهيرة
Der Zinsgroschen، «المسيح
والقطعة النقدية»، وكان يقف طويلًا دون أن يُحوِّل بصره عن هذا
التصوير العبقري للمُخلِّص.
١٠ ومن بين الأعمال الفنية الأخرى التي كان فيودور
ميخايلوفيتش يجد فيها متعةً رفيعة عند مشاهدتها، والتي كان
حريصًا على رؤيتها حتمًا في كل زيارةٍ يأتي فيها إلى هنا،
مُتخطيًا الكنوز الأخرى:
Maria mit den Kind
(«العذراء والطفل») لموريلو،
Die heilige
Nacht (الليلة المقدسة) لكوريدجو،
«المسيح» لأنيبالي كاراتشي،
die büssende
magdlena (ماجدلينا التائبة) لباتوني،
Die Jagd (الصيد)
لرويسدال،
Küstenlandschaft Morgen und
Abend (منظر طبيعي، الصباح والمساء) لكلود
لوران (وقد أطلق زوجي على هذه الأعمال اسم «العصر الذهبي» وكتب
عنها في «مذكرة الكاتب»)،
١١ Rembrandt und seine
Frau (رامبرانت وزوجته) لرامبرانت فان
راين،
Köning Karl I von
England (الملك كارل الأول، ملك إنجلترا)
لأنطون فان ديك؛ ومن بين الأعمال المرسومة بالألوان والباستيل
كان يُقدِّر تقديرًا عظيمًا
Das
Schokolandenmädchen (فتاة الشيكولاتة)
لجان ليوتار.
في الساعة الثالثة ظهرًا أغلقت قاعة الصور الفنية، ذهبنا
بعدها للغداء في أقرب مطعم وكان يُسمى
Italinesh es Dörfchen
(القرية الإيطالية). المطعم عبارة عن قاعة مسقوفة تقع فوق
النهر مباشرة. كانت للمطعم نوافذ كبيرة تُطل على نهر إبا من
الجانبَين، وعندما يكون الجو صافيًا يطيب تناول الغداء فيه
ومراقبة ما يحدث على صفحة النهر. كان الطعام هنا رخيصًا
نسبيًّا ولكنه كان جيدًا. كان فيودور ميخايلوفيتش يواظب
يوميًّا على طلب طبق من Blaus
Aal («سمك الثعبان الأزرق») وكان يُحبه
للغاية، وكان يعرف أن هذا المطعم يُقدِّمه بعد اصطياد السمك
مباشرة. كان زوجي يُحب أيضًا أن يحتسي نبيذ الراين، وكان ثمن
نصف زجاجة منه آنذاك زهيدًا للغاية. وفي المطعم كانت هناك صُحف
عديدة، كان يقرأ من بينها الصحف الفرنسية.
بعد أن استرحْنا بالفندق ذهبنا للنزهة في الحديقة الكبيرة
Grossen Garden، كان
فيودور ميخايلوفيتش مولعًا بهذه الحديقة، وبخاصةٍ بهذا المرج
الرائع على الطراز الإنجليزي، وبهذه النباتات والزهور الفاخرة.
تبلغ المسافة بين الفندق والحديقة، ذهابًا وإيابًا، أقل من
ستة/سبعة فراسخ، وكان زوجي يُحب السير على قدمَيه، ويقدر هذه
النزهة تقديرًا كبيرًا ويحرص على القيام بها حتى في الجوِّ
الممطر ويقول عنها إنها تترك لدَينا أثرًا طيبًا.
في ذلك الزمن كان هناك مطعم في هذه الحديقة يُسمَّى
Zum grossen Wirtschaft،
كانت تُعزف فيه الموسيقى، تارة إحدى الفرق النحاسية العسكرية،
وتارة فرقة موسيقية للآلآت المختلفة. أحيانًا ما يكون البرنامج
معتبرًا. وكان زوجي، ولم يكن آنذاك قد أصبح عليمًا بالموسيقى،
يُحب مؤلَّفات موتسارت
و
Fidelio وبيتهوفن
و
Hochzeitsmarsch («مارش
الزفاف») و
Air du Stabat Noter
لروسيني، وكان يشعر بالسعادة الحقيقية وهو يستمع إلى الأشياء
المُحببة لنفسه، ولم يكن فيودور ميخايلوفيتش يُحب ريتشارد فاجنر.
١٢
كان زوجي كثيرًا ما يجد في هذه النزهات راحته من عناء
التفكير في الأدب وغيره من الأمور، فخلالها يكون دائمًا في
أفضل حالاته النفسية، فيروح يضحك ويُلقي بالنكات. أذكر أن
برنامج الحفلات كان يضمُّ تنويعات وألحانًا خليطة
pot – pourry من أوبرا
Dichter und Bauer
(«الشاعر والفلاحة») لفرانتس فون زوبي.
١٣ أحبَّ فيودور ميخايلوفيتش هذه المنوعات بفضل
حادثةٍ وقعت لنا: فأثناء إحدى نزهاتنا في
Grossen Garten اختلفنا في
الرأي، وقد عبَّرتُ عن رأيي بشكلٍ حاد. أنهى فيودور
ميخايلوفيتش الحديث وسِرنا بعده صامتَين حتى بلغنا المطعم. كنت
أشعر بالكدَر وأتساءل لماذا أفسدتُ المزاج الطيب الذي كان عليه
زوجي. ولكي أُعيد إليه هذا المزاج قلتُ له، عندما بدءوا في
أداء اللحن الخليط من أوبرا زوبي، إن هذه الأوبرا قد كتبت خاصة
لنا، وأنه يُمثل
Dichter،
بينما أمثل أنا
Bauer، وهكذا
رحتُ شيئًا فشيئًا أُغني دور
Bauer، وقد أُعجب فيودور
ميخايلوفيتش بأدائي وراح بدوره يُغني آريا
١٤ Dichter، وهكذا
أصلح زوبي بيننا. ومنذ ذلك الحين أصبح من عادتنا أن نُصاحب
الموسيقى بصوتٍ خافت ونحن نؤدي دور الثنائي: فزوجي يؤدي دور
Dichter وأنا أؤدي دور
Bauer. لم يكن أحد ليلحظ
غناءنا، إذ كنا دائمًا نُغني ونحن جلوس إلى «شجرة البلوط»
الخاصة بنا. كنَّا ننعم بقدْر كبير من الضحك والمرح، وأكد لي
زوجي أنه قد عاد، بفضل وجوده معي، عدة سنوات إلى الوراء تُعادل
الفارق في العمر بيننا. كانت هناك مواقف طريفة أيضًا وقعت
لنا.
فذات مرة سقط غُصَين من «شجرة البلوط» عليه خنفساء في كوب
البيرة الكبير الخاص بفيودور ميخايلوفيتش، عفَّت نفسُه عن أن
يشرب منه، وكان سريع الشعور بالاشمئزاز، فأعطاه للنادل وأمره
أن يُحضر كوبًا آخر من البيرة. انصرف النادل ولكن زوجي ندم أنه
لم تخطر بباله وقتها أن يطلب منه أولًا كوبًا جديدًا، الآن
ربما يكتفي النادل بإخراج الخنفساء فقط من الكوب ويحضره هو
نفسه مرةً أخرى. عندما عاد النادل سأله فيودور ميخايلوفيتش:
«هل أفرغت ما في الكوب؟» «كيف أفرغتُه، لقد شربتُه!» هكذا أجاب
النادل وقد بدت على وجهه علامات الرضا، حتى إننا تأكدنا أنه لم
يكن ليُضيع الفرصة لأن يشرب كوبًا زائدًا من البيرة.
أعادت إلينا هذه النزهات اليومية ذكرى أمسيات خطوبتنا
الرائعة وعوَّضتنا عنها. كانت نزهات مليئة بالمرح والصراحة
وصفاء النفس.
عُدنا في التاسعة والنصف. شربنا شايًا ثم جلسنا: شرع فيودور
ميخايلوفيتش في قراءة أعمال جيرتسين
١٥ التي اشتراها، بينما رحت أسجل يومياتي. ظللتُ أكتب
هذه اليوميات على مدى عامٍ ونصف/عامَين من الأعوام الأولى
لزواجنا بطريقة الاختزال مع بعض فترات التوقُّف أثناء
مَرَضي.
فكرتُ في كتابة يومياتي لأسبابٍ عديدة: فمع كثرة الانطباعات
الجديدة خشيتُ أن أنسى التفاصيل. وبالإضافة إلى ذلك كانت
الممارسة اليومية للاختزال هي الوسيلة المضمونة لكي لا أنسى
هذا الفن، بل ولأبلُغ فيه مبلَغ الإجادة. لكن السبب الرئيسي في
الحقيقة كان أمرًا آخر: لقد بدا لي زوجي شخصًا مثيرًا
للاهتمام، شخصًا غامضًا للغاية، وقد تصورتُ أنه سيكون من
الأسهل بالنسبة لي، لكي أعرفه وأكشف مكنونه، أن أبدأ في تسجيل
أفكاره وما يُبديه من ملاحظات. وبالإضافة إلى ذلك فقد كنت أشعر
بأنني وحيدة تمامًا في الخارج، ليس هناك من أحدٍ أشاركه آرائي،
وأحيانًا ما تنتابني الشكوك والهواجس، فلا أجد صديقًا أستأمِنه
على أفكاري وآمالي ومخاوفي كلها سوى يومياتي.
أثارت يومياتي اهتمام زوجي وكثيرًا ما قال لي: «أدفع أغلى ما
عندي لأعرف يا أنيتشكا ما الذي تعنينَه بصنانيرك هذه التي
تخُطِّينها؛ لعلك تشتمينني!»
– الأمر يتوقف عليك: إما مدح، وإما ذم، هكذا كنت أجيب، ستأخذ
ما تستحقُّه. وعلى أية حال، كيف لي أن أذمَّك؟ وهل من كانت له
نفس مثل نفسك يمكن أن تلحَق به أي مذمَّة؟ بمثل هذا السؤال
المُمازح كنتُ أنهي حديثي، وكان عندئذٍ يرجوني ألا
أُعاتبه.
كان من أسباب خلافاتنا الفكرية ما كان يعرف «بقضية المرأة»،
ولمَّا كنتُ معاصرة للستينيات، فقد كنت منافحةً عن حقوق
واستقلال النساء، وكنتُ أغضب من زوجي لموقفه غير العادل
تجاههن. بل كنت أرى في مثل هذا الموقف إهانةً شخصية لي،
وأحيانًا ما كنتُ أعبر عن ذلك لزوجي. أذكر بالمناسبة أنه سألني
وقد رآني غاضبة: آنيتشكا، ماذا دهاك؟ إنني لم أوجِّه إليك أيَّ
إهانة؟
– بل فعلت، لقد كنا نتحدَّث منذ قليل عن العدميات، وقد رحت
تشتمهن بقسوة.
– صحيح، بيد أنك لستِ عدمية، فما الذي أغضبك؟
– لست عدمية حقًّا، ولكني امرأة، ويؤسفني أن أراك تشتم
امرأة!
– أي امرأة أنت إذن؟ قال زوجي.
– كيف أي امرأة؟ قلت غاضبة.
– أنت أنيتشكا الرائعة المُدهشة، التي لا مثيل لها في
العالم، والتي لا تُشبه أي امرأة!
ونظرًا لأنني كنتُ ما أزال في سنوات الشباب فقد كنت أرفض
أحيانًا ثناءه اللطيف عليَّ وأغضب لأنه لا يَعتبرني امرأةً على
النحو الذي كنتُ أتصوَّره عن نفسي آنذاك.
بالمناسبة، لم يكن فيودور ميخايلوفيتش يُحب عدميات ذلك
الزمن. كان رفضهن لكافة مظاهر الأنوثة وميلهن للإهمال
والقذارة، والخشونة المتعمدة في السلوك تُثير انزعاجه. وكان
يُقدِّر فيَّ تحديدًا صفاتي المخالفة. لكن موقف فيودور
ميخايلوفيتش اختلف بعد ذلك في السبعينيات عندما خرج من بينهن
نساء ذكيَّات مُتعلمات، ينظرن للحياة نظرةً جادة. عندئذٍ كتب
زوجي في «مذكرة الكاتب» أنه يتوقع الكثير من المرأة الروسية.
١٦
العام ١٨٦٧م الجدل يتواصل
كان أكثر ما يُثير غضبي من زوجي أنه كان في جدله معي،
يُنكر امتلاك النساء من جيلي الهمَّة والسعي الدءوب نحو
تحقيق الهدف المنشود. على سبيل المثال، قال لي ذات مرة:
إليك هذا الأمر البسيط، حسنًا، أيها أختار؟ لِنقُل جمع
طوابع البريد (كنَّا بالصدفة نمرُّ أمام نافذة أحد المحال
الذي كان يعرِض مجموعةً كبيرة منها في مكان بارز). إن
الرجل إذا اتخذ من هذا الأمر هوايةً له بشكلٍ منظَّم فسوف
يجمع ويحفظ، فإذا لم يجد لهذه الهواية وقتًا كبيرًا
كافيًا، وإذا ما فترت رغبتُه في الجمع، فإنه على أية حالٍ
لن يلقي بها وإنما سيحتفظ بما جمعَه زمنًا طويلًا، ربما
إلى نهاية حياتِه باعتبارها ذكريات ولَع الشباب. أما
المرأة! فإنها تشتعل أولًا بالرغبة في جمع الطوابع؛ فتشتري
ألبومًا فاخرًا وتروح تضجر أقاربها ومعارفها بطلَب
الطوابع، كما أنها تُنفق على شرائها أموالًا كثيرًا، ثم
إذا بهذه الرغبة تذوي ويتمزَّق الألبوم الفاخر وتتفرَّق
صفحاته فوق الأرفف هنا وهناك، وفي النهاية يتمُّ الإلقاء
به باعتباره شيئًا مُملًّا لا نفع من ورائه. وهكذا يتكرَّر
الشيء نفسه مع أمورٍ أخرى بعضها تافِه والآخر جاد. في كل
الأحوال لن تَجِدي سوى عزيمة واهنة، حماس مُلتهب في
البداية لكنه لا يجد إطلاقًا القوة والجهد القادرَين على
استمراره والإصرار على تحقيق نتائج ملموسة للهدف
المرجو.
لا أعرف لماذا أثار هذا الجدل حمِيَّتي فأعلنتُ زوجي
أنني سأُثبت له، ضاربةً المثل بنفسي، أنَّ المرأة تستطيع
أن تحافظ لأعوامٍ طويلة على الفكرة التي جذبت اهتمامها.
قلت له: «وحيث إنني في اللحظة الراهنة لا أراني مشغولةً
بأي مهام، فسوف أبدأ ولو بهوايةٍ تافهة، هي نفسها التي
أشرتَ أنت إليها لتوِّك، ومنذ اليوم سأبدأ في جمع طوابع
البريد.»
أسرعتُ بتحويل القول إلى فعلٍ فاصطحبتُ فيودور
ميخايلوفيتش على الفور إلى أول محلٍّ صادفنا للأدوات
المكتبية، حيث اشتريت (من مالي الخاص) ألبومًا رخيصًا
لأُلصق فيه الطوابع. وعندما عُدنا رحتُ على الفور أُلصق
فيه الطوابع الموجودة على الخطابات التي تسلَّمناها من
روسيا؛ وبذلك وضعتُ اللبنة الأولى لمجموعتي. وعندما علِمَت
صاحبة النزل بنيَّتي راحت تُفتش في خطاباتٍ قديمة لدَيها
وأعطتني عددًا منها لم يُستدَل على عنوان أصحابها وعلى بعض
طوابع مملكة سكسونيا. هكذا بدأتُ في جمع مجموعة الطوابع
الخاصة بي، وقد استمرَّ الأمر معي زهاء تسعةٍ وأربعين
عامًا. بالطبع لم أبذل على الإطلاق أي جهد لترتيبها في
مجموعات، وإنما كنت أُراكمها فقط، وفي الوقت الحالي فإنني
أمتلك منها
١٧ … من بينها أعداد تمثل مجموعةً نادرة. وأؤكد
هنا أنني لم أشترِ واحدًا منها، فهي إما كانت على خطابات
تسلَّمتُها، وإما أُهدِيَت إليَّ، وقد أدرك المُقربون
منِّي هذا الضعف، فكانت ابنتي، على سبيل المثال، تُرسِل
إليَّ خطابات عليها طوابع من فئاتٍ مالية مختلفة. ومن حينٍ
لآخر كنت أتباهى أمام زوجي بكمية الطوابع التي تجمَّعَت
لديَّ. فكان يضحك أحيانًا من ضعفي.
وخلال وجودنا في درزدن إبان تلك الأسابيع وقعت حادثة
ذكَّرتني بسمةٍ لم تكن تروقني في شخصية فيودور
ميخايلوفيتش، وهي بالتحديد غيرتُه التي كانت تشتعِل على
نحوٍ لا مُبرِّرَ له. المسألة أن الأستاذ أولخين، أستاذ
الاختزال، عندما علم بنِيَّتنا البقاء بعض الوقت في درزدن،
أرسل معي خطابًا لأُسلِّمَه إلى البروفيسور تسايبج
Zeibig، نائب رئيس
حلقة أتباع مدرسة هابلسبرجر للاختزال، التي تتبنى نفس نظام
الاختزال الذي تعلمتُ على أساسه.
١٨ وقد أكد لي أولخين أن تسايبج شخص ممتاز يمكننا
الاعتماد عليه في رؤية المتاحف وغيرها. عند وصولنا لم أذهب
مباشرة لتسايبج، وبعد مرور فترة طويلة من الوقت رأيتُ أنه
من غير اللائق ألَّا أُسلِّمه الخطاب فقررت، أخيرًا، أن
أذهب إليه. لم يكن تسايبج في منزله فتركتُ له الخطاب؛ وفي
اليوم التالي أرسل بطاقته، وحيث إن كِلَينا كنَّا بالبيت
فقد اقترح علينا أن نحضر الاجتماع التالي لحلقتهم.
وافقنا، لكن زوجي قرَّر مؤخرًا أن أذهب وحدي مع تسايبج
بعد أن أحسَّ أنه سوف يكون أمرًا مُملًّا له أن يحضر
اجتماعًا متخصِّصًا.
على هذا النحو سار الأمر. كانت حلقة المُختزلين تعقد
اجتماعاتها في …
Hotel١٩ في
Wildrüfer
straβe. بدأ الاجتماع وراح أحد
الأساتذة القدامي في قراءة أحد التقارير. ومع أن تسايبج
دعاني للجلوس بالقُرب منه، إلَّا أنني فضلتُ الجلوس
بعيدًا، نصف ساعة مرَّت في ضجرٍ شديد، وحين حلَّ موعد
الاستراحة قادني الأستاذ نحو الرئيس وأعلن للجميع أنني
حضرتُ من روسيا بخطابٍ من شخصيةٍ مُتخصصة في الاختزال
هناك. حيَّاني رئيس الجلسة وقد شعرتُ بالارتباك في بادئ
الأمر حتى إنني لم أنتبِه لردِّ تحيتِه وإنما اكتفيتُ
بالانحناء. انتهت قراءة التقارير والتفَّ جميع أعضاء
الحلقة حول طاولة طويلة، راحوا يشربون البيرة ويتحدثون.
وقد جاء الأعضاء ليتعرفوا عليَّ ويُعرِّفوني بأنفسهم
واحدًا وراء الآخر. تمالكتُ نفسي بل ورحتُ أُثرثر على
سجيتي. كنتُ أتحدث بالألمانية مع بعض الأخطاء وبشيءٍ من
الحماس. وسرعان «ما استمَلتُ بحديثي المُعجبين» من أعضاء
الحلقة كبارهم وشبابهم (وهو ما عاتبني عليه زوجي فيما
بعد). رفع الجميع نخب صحتي، قدموا لي فاكهةً وفطائر. وفي
التاسعة اقترح عليَّ تسايبج أن يُوصلني للبيت، نجحت في أن
ألقي خطابًا قصيرًا بالألمانية توجهتُ فيه للجميع بالشكر
على الاستقبال الطيب، ودعوت مَن لدَيه الرغبة في السفر إلى
بطرسبورج. مؤكدة أن أتباع مدرسة هابلسبرجر سوف يَلْقَون
نفس الترحيب الحار من جانب الروس. خلاصة القول، إنني كنت
في حالة من السعادة من جراء انتصاري، وبخاصة أنني قرأت بعد
يوم في صحيفة
Dresdener
Nachrichen «أنباء درزدن» خبرًا
تضمَّن ما يلي …
٢٠،٢١
لكن فيودور ميخايلوفيتش تعامل مع «انتصاري» على نحوٍ
مختلف. فعندما قصصتُ عليه كل تفاصيل حفل الاستقبال، لاحظتُ
في وجه زوجي تعبيرًا لا ينمُّ عن الرضا. وظل باقي المساء
حزينًا للغاية؛ وبعد مرور يومَين/ثلاثة قابلْنا في إحدى
نزهاتنا واحدًا من أعضاء الحلقة، شابًّا مُتورِّد الوجه
مُمتلئ البدن مثل خنزير، انحنى مُسلمًا، بعدها قدم فيودور
ميخايلوفيتش لي «مشهدا» أقام فيه الدنيا ولم يُقعدها، لم
أرغب بعدَها في التردُّد على تلك النزهات الاجتماعية في
أطراف المدينة التي دعانا إليها وزوجي السيد تسايبج. هذه
الخصلة القاسية والمُهينة التي ظهرت مرة أخرى في طباع زوجي
دفعتني أن أكون أكثر حذرًا وأن أتجنَّب مثل هذه
المشكلات.
وقد وقعَتْ لنا إبَّان وجودنا في درزدن حادثة أثارت
اضطرابنا إلى حدٍّ بعيد. فقد نما إلى علم زوجي، من شخصٍ
ما، أن هناك شائعة تنتشِر في المدينة مفادها أنه قد جرى
إطلاق الرصاص على إمبراطورنا الذي يزور باريس في الوقت
الحالي (محاولة بيريزوفسكي)
٢٢ وأن هذا العمل الشرير قد حقَّق الغرض منه.
٢٣ يمكن أن نتصور مدى الاضطراب الذي كان عليه
زوجي! كان زوجي شديد الإعجاب بالإمبراطور ألكسندر الثاني
الذي قام بتحرير الفلاحين وللإصلاحات التي قام بها لاحقًا.
٢٤ وبالإضافة إلى ذلك كان فيودور ميخايلوفيتش يرى
أن الإمبراطور صاحب فضلٍ عليه؛ فقد تم إعادة النبالة
الوراثية، التي كان يعتز بها أشد الاعتزاز، إلى زوجي
بمناسبة تتويج ألكسندر الثاني. كما سمح له أيضًا بالعودة
من سيبيرىا إلى بطرسبورج؛
٢٥ ومن ثم فقد أعطى ذلك له الفرصة من جديد ليعود
للعمل بالأدب، أقرب الأمور إلى قلبه.
قرَّرنا التوجُّه على الفور إلى قنصليتنا. كان وجه
فيودور ميخايلوفيتش، كما يقولون، «مخطوفًا»، كان في شدة
القلق والاضطراب وكان ينهب الطريق نهبًا، أما أنا فقد كنتُ
أفرق خوفًا أن تُداهِمه النوبة سريعًا (وهو ما وقع له في
نفس الليلة). وكم كانت سعادتنا بالِغةً أنَّ قلقَنا كان
مُبالغًا فيه، فقد هدَّأ من روعنا الخبر الذي أحاطونا به
علمًا في القنصلية من أن هذه الجريمة لم تنجح. وعندئذٍ
سارَعْنا بطلب السماح لنا بأن نُسجِّل أسماءنا في عِداد
الشخصيات التي حضرت إلى القنصلية لتُعبِّر عن استيائها من
هذا الاعتداء الأثيم. ظل زوجي طوال اليوم حزينًا مكتئبًا،
لقد أظهرت محاولة الاغتيال الجديدة، التي أعقبت المحاولة
الأولى مباشرة والتي قام بها كاراكوزوف،
٢٦ أظهرت لزوجي، على نحوٍ واضح، أن شباك
المؤامرات السياسية تمتدُّ بجذورها عميقًا، وأن حياة
الإمبراطور الذي يُقدِّره عظيم التقدير تحيق بها الأخطار
من كل جانب.
مرَّ ما يقرُب من ثلاثة أسابيع على حياتنا في درزدن وإذا
بزوجي ذات يوم يتحدَّث على نحوٍ عابر عن لعبة الروليت
(كنَّا أحيانًا ما نتذكَّر عملنا معًا في كتابة رواية
المقامر) وقد عبَّر عن فكرة أنه لو كان وحيدًا الآن في
درزدن لذهب حتمًا ليلعب. وقد عاد زوجي إلى هذه الفكرة
مرتَين/ثلاثًا، وعندئذٍ سألته، وقد أردتُ ألا أقف حجر
عثرةٍ أمام رغبته، وما الذي يمنعه الآن أن يفعل؟ تعلَّل
فيودور ميخايلوفيتش بأنه لا يستطيع أن يتركني وحيدةً وأن
ذهابنا معًا سيكون مُكلفًا. رحت أُقنع زوجي أن يذهب إلى
هامبورج لعدة أيامٍ وأنا أؤكد له أنه لن يقع لي أيُّ
مكروهٍ في غيابه. ولكنه حاول التذرُّع في البداية، وحيث
إنه كان يرغب بشدة في أن «يُجرب حظه»، فقد وافق على السفر
إلى هامبورج تاركًا إيَّاي في رعاية صاحبة النزل. وعلى
الرغم من أنني كنتُ أشعر بالانتعاش لكنَّني سرعان ما شعرتُ
بالوحدة عندما ابتعد القطار. لم أستطع أن أملك مشاعري
فانفجرتُ في البكاء. مرَّ يومان ثلاثة وبدأتُ أتلقَّى
خطاباتٍ من هامبورج يُخبرني زوجي فيها أنه تعرَّض للخسارة
ويطلُب منِّي أن أُرسِل إليه نقودًا؛
٢٧ وقد أجبتُ طلبه، ولكن تبيَّن لي أنه خسر أيضًا
النقود التي أرسلتُها إليه وطلب منِّي مرةً أخرى أن أُرسل
له غيرها، وبالطبع فقد أرسلتها له. وحيث إنني لم أكن أُدرك
آنذاك قلق «المقامر» إطلاقًا، فقد بالغتُ في أثره على صحة
زوجي. لقد تصورتُ استنادًا إلى خطاباته أنه، وقد أقام في
هامبورج، يشعر بالقلق والتوتر. خشيتُ أن تُداهمه نوبة
جديدة، وسقطتُ في براثن اليأس وأنا أُفكر لماذا تركته
وحيدًا، ولماذا أبقى هنا بدونه بدلًا من أهدئ من روعِه
وأعيد إلى نفسه السكينة. تصورتُ أنني بلغتُ مبلغًا فظيعًا
من الأنانية شعرتُ معه بأنني اقترفتُ جرمًا لكوني عاجزة،
في هذه الدقائق العصبية التي يعيشها، أن أُقدِّم له يدَ
العون.
مرت ثمانية أيام عاد بعدَها فيودور ميخايلوفيتش إلى درزدن
٢٨ وكان سعيدًا للغاية ومسرورًا لكوني لم أُعاتبه
قط ولم آسف على ما خسرناه من نقود؛ بل لأنني رُحت فوق ذلك
أُهدِّئه وأدفعه للابتعاد عن السقوط في مهاوي
اليأس.
لقد تركت الرحلة الفاشلة التي قام بها فيودور
ميخايلوفيتش أثرًا سيئًا على مزاجِه النفسي. راح يعود
للحديث عن الروليت، مُعربًا عن أسفه على الأموال التي
أهدرها. وأنه لا يلومنَّ إلا نفسه. وأكد أن فرصًا كثيرة قد
واتته ولكنه لم يُحسن التصرُّف إزاءها، إما لأنه تسرع وإما
لأنه غيَّر الرهان، أو جرَّب أساليب مختلفةً في المقامرة،
وكانت الخسارة هي النتيجة. لقد حدث ذلك لأنه تسرع، لأنه
جاء إلى هامبورج وحيدًا ولأنه كان قلقًا بشأني طوال الوقت.
وحتى في سفراته السابقة إلى الروليت فقد كان مُضطرًّا
للبقاء لا أكثر من يومين أو ثلاثة ودائمًا ما يذهب إلى
هناك وفي حوزته قليل من المال من الصعب أن يُحوِّل
بواسطتها الظروف غير المواتية للمقامرة. فلو أنه تمكن من
الذهاب إلى مدينة القمار ليستقرَّ فيها أسبوعين أو ثلاثة،
ومعه احتياطي مناسب من المال لحالَفه، على الأرجح، التوفيق
والنجاح؛ عندئذٍ لن تكون هناك ضرورة للتسرُّع ولاستخدام
أسلوبٍ هادئ في اللعب لا يسمح بالخسارة مثلما يحدُث مع
المبالِغ الصغيرة، فعلى أي حالٍ المبلغ الكبير يضمن لك
تغطية الخسارة. على هذا النحو راح فيودور ميخايلوفيتش
يتحدَّث بثقة، ضاربًا العديد من الأمثلة ليثبت رأيه، الأمر
الذي أقنعني أنا نفسي. وعندما طُرح سؤال ما إذا كنا سنمرُّ
في طريقنا إلى سويسرا (حيث كانت وجهتنا) بمدينة بادن-بادن
لنُمضي بها أسبوعين، وافقت برضًا تامٍّ على زيارتها. كنت
أرى أن وجودي إلى جواره سيكون عاملًا هامًّا في كبح جماحه.
كان أمرُ مكان الإقامة بالنسبة إليَّ سيَّان فالمهم عندي
ألا أفترق عن زوجي.
عندما قرَّرنا في النهاية أن نقضي أسبوعين في بادن-بادن
فور تسلُّمنا للنقود، اطمأن فيودور ميخايلوفيتش وراح يعمل
في تنقيح وإنهاء عمله الذي تأخر كثيرًا. كانت مقالة عن
بيلينسكي أراد زوجي أن يضع فيها كل ما استقرَّ في نفسه عن
هذا الناقد الذائع الصيت.
كان بيلينسكي إنسانًا عزيزًا على قلب فيودور
ميخايلوفيتش، وكان يضع موهبته في مكانةٍ عالية حتى قبل أن
يعرفه معرفةً شخصية، وقد تحدَّث عن ذلك في «مذكرة الكاتب»
عن عام ١٨٧٧م.
٢٩
وعلى الرغم من أن فيودور ميخايلوفيتش قدَّر موهبة
بيلينسكي تقديرًا رفيعًا وأثنى بإخلاصٍ على مشاعرِه
النبيلة لتشجيعه لموهبته الأدبية، فإنه لم يستطع أن يغفر
لهذا الناقد تجديفه وسُخريته من آرائه ومعتقداته الدينية.
٣٠،٣١
من الجائز أن تكون معظم الانطباعات المريرة التي عانى
منها فيودور ميخايلوفيتش في علاقته ﺑ «بيلينسكي» بسبب
الفتن والوشايات التي أطلقَها هؤلاء — الأصدقاء — الذين
اعترفوا في البداية بموهبة دستويفسكي وراحوا يروِّجون لها،
ثم ولأسبابٍ ما لا أفهمها، إلا قليلًا، بدءوا في ملاحقة
صاحب رواية «الفقراء» الخجول وتلفيق الأكاذيب له وكتابة
أشعار هجائية
٣٢ تحط من قدرِه؛ فضلًا عن اقتراف كل شيءٍ من
شأنه أن يُخرجه عن شعوره.
٣٣
وعندما طلبوا من فيودور ميخايلوفيتش الكتابة «عن
بيلينسكي»، تولى القيام بهذا الموضوع المُهم بكل ترحاب،
واضعًا في اعتباره أن يكتب مقالًا يُعبر فيه بإخلاصٍ
وموضوعية، بجدية وليس على نحو عابر، يُضمنه رأيه في هذا
الكاتب الذي كان يعتز بدستويفسكي في البداية، ثم إذا به في
النهاية يحمل له كل هذا القدْر من البغضاء.
بداهةً فقد كان هناك الكثير من الأمور لم تختمِر بعدُ في
عقل فيودور ميخايلوفيتش، الكثير مما ينبغي تمحيصه، فإما أن
يُقره أو يشكَّ في صحته، وقد كان على زوجي أن يُعيد كتابة
مقاله عن بيلينسكي خمس مرات، والنتيجة أنه ظلَّ غير راضٍ
عنه تمامًا. في خطابه إلى أبوللون مايكوف المؤرَّخ الخامس
عشر من سبتمبر عام ١٨٦١م، كتب فيودور ميخايلوفيتش:
٣٤ «المسألة أنني أنهيتُ هذه المقالة اللعينة:
«معرفتي ببيلينسكي». لم يكن هناك من سبيل للتأجيل أو
المُماطلة. بالمناسبة فقد كتبتُها صيفًا، ورغم ذلك فقد
عذَّبتني عذابًا هائلًا وكانت كتابتها أمرًا بالِغ الصعوبة
حتى إنني لم أنتهِ منها إلَّا مؤخرًا وبشقِّ الأنفس.
المشكلة أنني اندفعتُ بغباوةٍ لكتابة هذه المقالة منذ
اللحظة الأولى لكتابتها، والآن أرى أنه كان من المُستحيل
أن أكتبها وفقًا لمطالب الرقابة (لأنني أردتُ أن أقول كلَّ
شيء). إن كتابة عشر ملازم في روايةٍ أسهل من هاتين
الملزمتَين! لقد كتبتُ هذه المقالة المزعجة، إذا حسبنا
الأمر إجمالًا، خمسَ مرات، ثم عدتُ لأشطب، ثم راجعتُ كل ما
كتبتُ مرةً أخرى. وفي النهاية وصلت بشكلٍ ما إلى المقالة،
ولكنها مقالة سيئة، لدرجة أن نفسي قد عافتها. كم من
الحقائق الثمينة اضطُررتُ لحذفها! وكما توقعت، لم يبقَ
إلَّا الأسوأ وما هو بين بين. يا لها من سفالة!»
أما مصير هذه المقالة فكان مُحزنًا. كان قنسطنطين بابيكوف
٣٥ قد طلب من فيودور ميخايلوفيتش كتابتها
لإدراجها ضِمن أحد المُنتخبات، وقد دفع الرجل مائتي روبل
على سبيل العربون. كان من الضروري الانتهاء من كتابة
المقالة بحلول الخريف وإرسالها إلى موسكو إلى فندق «روما».
وتحسبًا لانتقال بابيكوف إلى شقةٍ أخرى طلب فيودور
ميخايلوفيتش من أبوللون مايكوف أن يُسدي إليه خدمةً بأن
يعيد إرسال المخطوطة إلى إيفان سولوفيوف،
٣٦ بائع الكتب في موسكو ليُسلمها بدوره إلى
بابيكوف. وقد تصرَّف أبوللون مايكوف وفق ما طلب منه زوجي،
وهو ما أخبرنا به
٣٧ وحيث إننا كنَّا نعيش بالخارج، فلم نعلَم
شيئًا عما إذا كانت المقالة قد نُشِرت أم لا. وفي عام
١٨٧٢م تسلَّم فيودور ميخايلوفيتش رسالة من بائع كُتبٍ ما،
طلب منه فيها أن يُسلِّمه المقالة التي كان بابيكوف قد
اتفق معه على كتابتها، وأخبره بالمناسبة أن المُنتخب لم
يُطبَع بعد.
٣٨ شعر زوجي بالقلق الشديد لضياع المقالة، وبخاصة
أنه بذل فيها جهدًا فائقًا، وعلى الرغم من أنَّه لم يكن
راضيًا عنها. ولكنه كان يعتز بها. رُحنا نجِدُّ في البحث
عن المقالة لنعرف أين عساها أن تختفي، وطلبنا المساعدة من
بائع الكتب الموسكوفي، لكن نتيجة البحث كانت مُحزنة: اختفت
المقالة دون أثر. وقد أسفتُ شخصيًّا على ذلك، لأنه
استنادًا على انطباعي عنها آنذاك، ووفقًا للملاحظات التي
سجلتُها بشأنِها في دفتر اختزالي، كانت مقالةً هامة للغاية وعبقرية.
٣٩
٣
تلقينا في نهاية شهر يونيو نقودًا من هيئة تحرير مجلة
«البشير الروسي» وعلى الفور قرَّرنا أن نسافر. غادرت، وكلي
أسَف، مدينة درزدن حيث قضيتُ أيامًا جميلةً وسعيدة، لكن شعورًا
ما مُبهمًا كان يكتنفني ويُنبئني بأن أحوالنا الجديدة سوف يطرأ
عليها تغيير كثير. وقد تحققَت نبوءتي؛ عندما أعود بذكرياتي إلى
الأسابيع الخمسة التي قضيناها في بادن-بادن، وأقرأ ما سجلتُه
بالاختزال في يومياتي، أصل إلى اقتناعٍ مفادُه أن ما هناك كان
كابوسًا ثقيلًا استولى تمامًا على زوجي ولم يُفلته من قيوده
الثقيلة.
كانت نظريات فيودور ميخايلوفيتش بشأن إمكانية الفوز في
القمار باستخدام طريقتِه في اللعب صحيحة تمامًا، وكان من
الممكن أن يُصبح النجاح حليفه، بشرط أن يكون مَن يستخدِم هذه
الطريقة رجلًا رابط الجأش، مثل إنجليزي أو ألماني، وألَّا يكون
شخصًا عصبيَّ المزاج ينغمس كليةً في الأمر حتى المدى الأخير،
وهو ما لم يكن عليه زوجي. على أنه بالإضافة إلى الرزانة ورباطة
الجأش، فإنَّ على المقامر أن يمتلك أموالًا طائلةً حتى يتمكن
من تحمُّل سوء الحظ الذي يُصادفه إبَّان اللعب. وفي هذا الشأن
كان لدى دستويفسكي نقطة ضعف: كان لدَينا قليل من المال، مقارنة
بالآخرين، ولم تكن لدينا أي فرصةٍ على الإطلاق لتعويضه من أي
مصدرٍ في حال خسارته. وما هو إلا أسبوع واحد يمضي وإذا بفيودور
ميخايلوفيتش يخسر ما لدَيه كله، وإذا بالقلق يجتاحُه وهو يبحث
عن طريقةٍ يحصل بها على نقود ليُواصل اللعب. اضطُررنا للجوء
إلى رهن أشيائنا، ولكنَّ زوجي أحيانًا ما كان يفقد القدرة على
السيطرة على نفسه بمجرد رهن الأشياء، فكان كثيرًا ما يخسَر
كلَّ ما حصل عليه مُقابل الأشياء المرهونة، وكان أحيانًا ما
يخسَر آخِر طالر يملِكُه تقريبًا، وفجأة إذا بالحظ يُحالفه
فيعود للبيت حاملًا عشراتٍ من العملات الذهبية (تساوي الواحدة
منها عشرين طالرًا) أي ما تبلُغ قيمتُه حوالي أربعة آلاف
وثلاثمائة طالر، ولكن سرعان ما يختفي كل هذا المال من أيدينا.
لم يكن فيودور ميخايلوفيتش يُطيق صبرًا؛ فقبل أن يهدأ من سَورة
القمار أخذ عشرين عملةً ذهبية ليخسرها. ثم يعود ليأخذ عشرين
غيرها فيخسرها أيضًا، وعلى مدى ساعتَين أو ثلاثٍ عاد عدةَ
مراتٍ، وفي النهاية خسِرها كلها. ومرة أخرى نعود لرهن أشيائنا،
وحيث إن هذه الأشياء لم تكن ذات قيمةٍ كبيرة فسرعان ما اختفت
هذه المصادر. وفي الوقت نفسه راحت ديونُنا تتراكم. كنَّا نشعر
بحرج موقفنا؛ إذ اضطُررنا أن نستدين حتى من صاحبة الشقة، وكانت
امرأةً ميالة للشجار، لم تخجل من أن تتعامل معنا بإهمالٍ
وتحرمنا من مختلف وسائل الراحة، التي كان لنا الحق في
استخدامها بناء على اتفاقنا معها. كتبتُ خطابًا إلى أمي ورُحنا
ننتظر النقود بكثيرٍ من القلق، ولكنها كانت تذهب أدراج الرياح
في المقامرة يوم وصولها، أو في اليوم الذي يليه، ولم نكن ننجح
إلَّا في سداد بعض الديون العاجلة (إيجار الشقة، الطعام،
وغيرها من أمور) ثم نعود من جديدٍ لنجلس دون نقودٍ نفكر كيف
سنتصرَّف لكي نحصل على مبلغٍ محترَم يُخلصنا من ديوننا، دون أن
نفكر في المكسب الأكبر وهو أن نخرج في نهاية الأمر من هذا
الجحيم.
عن نفسي فقد كنتُ أتلقى، بكل رباطةِ جأش، «ضربات القدَر»
هذه، والتي كنا نُوجِّهها لأنفسنا بإرادتنا. لقد تكوَّن لديَّ
اقتناع تام، بعد مرور وقتٍ قليل من خسائرنا الأولى واضطراب
حياتنا، أن فيودور ميخايلوفيتش لن يربح شيئًا من وراء اللعب،
وأنه قد يربح، ربما مبلغًا ضخمًا، ولكنه سيخسر هذا المبلغ نفسه
في نفس اليوم (أو اليوم التالي على الأكثر) وأن توسُّلاتي
ومحاولاتي إقناعه وإغراءه بعدم الذهاب إلى مائدة القمار
والتوقُّف عن اللعب لن يؤثر في زوجي فتيلًا.
لقد بدا لي أمرًا غريبًا كيف أن شخصًا مثل فيودور
ميخايلوفيتش تحمَّل في حياته من العذاب صنوفًا وألوانًا (الحبس
في القلعة، الصعود إلى منصة الإعدام، وفاة أخيه الحبيب
وزوجته)، لا يملك مقدارًا من الإرادة يجعله يتمالَك ويتوقَّف
عند قدْرٍ معلوم من الخسارة، دون أن يُجازف بآخِر طالر يملكه.
وقد تصورتُ أن ما يحدث فيه قدْر من الإذلال لا يليق بطبيعته
السامية، وكنتُ أشعر بالحسرة والألَم أن أعترف بهذا الضعف في
زوجي العزيز. على أنني سرعان ما أدركتُ أن الأمر ليس مجرد
مسألة «ضعف إرادة» بسيطة، وانما شهوة فرضت كامِل سيطرتها على
إنسان، قوة طبيعية تعجز حتى أقوى الشخصيات عن التصدِّي لها
ومقاومتها، يجب التسليم بذلك والنظر إلى الولَع بالمقامرة
باعتباره مرضًا لا تملك حياله حولًا أو قوة. لم تكن هناك سوى
وسيلة وحيدة للمقاومة ألا وهي الهروب. ولم نكن نستطيع الهروب
من بادن قبل أن نحصل على مبلغٍ كبير من المال من روسيا.
ينبغي هنا أن أكون منصفة لنفسي. فأنا لم أُعاتب زوجي مطلقًا
على خسارته، ولم أتشاجر معه لهذا السبب في أي وقتٍ من الأوقات
(وقد قدَّر لي زوجي هذه الخاصية في شخصيتي)
٤٠ ودون تذمُّر رحتُ أُعطيه آخِر ما أملكه من أشياء
لن تعود إليَّ على الأرجح إذا لم يُسدَّد رهنُها في موعده (وهو
ما حدث بالفعل)؛
٤١ فضلًا عن مُعاناة السخافات من جانب صاحبة النزل
وصغار الدائنين.
لكنَّ أكثر ما كان يُؤلِمني ويعتصر قلبي، مقدار المعاناة
التي عاشها فيودور ميخايلوفيتش نفسه. كان دائمًا ما يعود من
الروليت (لم يأخُذني بالمناسبة معه مرةً واحدة؛ إذ كان يرى أنه
لا مكان لامرأةٍ شابة مُهذبة في صالة للقمار) شاحبًا هزيلًا،
تكاد ساقاه تحمِلانه. كان يطلُب منِّي نقودًا (كان قد أعطاني
مُسبقًا كل النقود)، ثم يخرج ليعود بعد نصف ساعةٍ أكثرَ طلبًا
للمال من جديد، إلى أن يخسَر كلَّ ما لدَينا.
عندما كانت الرغبة في الذهاب إلى الروليت تستولي على فيودور
ميخايلوفيتش، ولم يكن لدينا مال ولا نتوقَّع الحصول عليه من أي
مكان، إذ به يُصبح شديد الاكتئاب، مُنقبض النفس حتى ليكاد
يبكي. يجلس أمامي على ركبتَيه يرجوني أن أُسامحه على ما
يُسبِّبه لي من عذابٍ بسبب تصرفاته، ثم ما يلبث أن يهوي فريسةَ
اليأس. كان الأمر يتطلَّب منِّي عندئذٍ جهدًا فائقًا لإقناعه
وتهدئتِه وتصوير وضعنا بأنه ليس يائسًا إلى هذا الحد، وأن
علينا أن نُفكر في مَخرج من هذا المأزِق، ولفت انتباهه وأفكاره
إلى شيءٍ آخر. وكم كنتُ راضيةً وسعيدة، عندما كنتُ أنجح في عمل
ذلك بأن آخُذَه إلى قاعة القراءة ليتصفَّح الصحف، أو نذهب معًا
لنواصِل نزهاتنا، الأمر الذي كان يترك تأثيرًا إيجابيًّا
دائمًا على زوجي. عشرات الفراسخ قطعناها أنا وزوجي في ضواحي
بادن في فترات التوقُّف الطويلة لحين استلامنا نقودًا. عندئذٍ
كان مزاجه الطيب السمح ينتعش، وكنَّا نتبادل الأحاديث لساعاتٍ
طويلة في شتَّى الموضوعات. كانت نزهتنا المُحبَّبة إلى
Neues Shloβ (القلعة
الجديدة)، ومنها، عبر ممرَّات الغابات الرائعة، إلى القلعة
القديمة، حيثُ كنَّا نتناول حتمًا هناك اللبن أو القهوة. وقد
ذهبنا أيضًا إلى القلعة البعيدة المعروفة باسم قلعة
إيرينبريتشتاين (على مسافة ثمانية فراسخ تقريبًا من بادن)،
وهناك تناولنا طعام الغداء لنعود مع غروب الشمس. كانت نزهاتنا
جيدة وأحاديثنا شيِّقة، حتى إنني (على الرغم من غياب المال
ومضايقات صاحبة النزل) كنت على استعدادٍ أن أحلم ألَّا يُرسلوا
إلينا — لمدةٍ أطولَ — نقودًا من بطرسبورج. ولكن ها هي النقود
تصل وإذا بحياتنا الهانئة تتحوَّل إلى كابوس.
لم يكن لدَينا معارف في بادن. الصدفة وحدها قادتنا لنلتقي في
المتنزَّه بالكاتب إيفان ألكسندروفيتش جونتشاروف،
٤٢ الذي عرَّفني به زوجي. كان مظهره أشبه بموظفي
بطرسبورج، كما بدا لي حديثه عاديًّا، حتى إنني أُحبِطت بعض
الشيء من هذه المعرفة الجديدة، ولم أكن راغبة فيها، بل إنني لم
أُصدِّق أن هذا الرجل هو نفسه صاحب رواية «أوبلوموف»، وهي
الرواية التي كنتُ شديدة الإعجاب بها.
٤٣
وقد قام فيودور ميخايلوفيتش بزيارة إيفان تورجينيف الذي كان
يعيش في هذا الوقت في بادن بادن. ولدى عودته من هذه الزيارة
غاضبًا قصَّ عليَّ، تفصيلًا، ما جرى بينَه وبين تورجينيف من حديث.
٤٤
٤
العام ١٨٦٧م، جينيف
ما إن غادرنا بادن بادن حتى انتهت فترةٌ عاصفة من حياتنا
قضيناها بالخارج. وكالعادة، انتشلتنا من مُصيبتنا هيئة تحرير
«البشير الروسي» الطيبة العبقرية. على أن كل ما تسلَّمناه من
«البشير» من نقود، ذهبت في سداد العديد من الديون والرهونات
التي تراكمت على كاهلنا في فترة اليأس. لكن الأمر الذي آلمَني
بشدة كان عجزي عن استرداد هدية زواجي العزيزة على قلبي: البروش
والأقراط المُطعمة بالماس والياقوت، والتي ذهبت بلا
عودة.
كنا نحلم أنا وزوجي أن نذهب لزيارة باريس فور مُغادرتنا
لبادن بادن، أو نمر بإيطاليا، ولكن عندما قُمنا بحساب ما نملك
قرَّرنا أن نستقر بعض الوقت في جينيف، آخِذين في الاعتبار أننا
سوف نسافر إلى الجنوب عندما تتحسن أحوالنا المادية. وفي طريقنا
إلى جينيف توقَّفنا لليلةٍ في بازل بهدف مشاهدة إحدى اللوحات
في متحفها، سمع عنها زوجي من صديق له. هذه اللوحة رسمها بريشته
هانز هولباين
(Hans Holbien)
وتُصوِّر عيسى المسيح، الذي عانى عذابًا فوق طاقة البشر، بعد
إنزاله من على الصليب، وقد أخذ جسده في التفسُّخ. كان وجهه
المتورِّم مُغطًّى بالجروح المُدماة، وكان منظره بشِعًا. لقد
تركت هذه اللوحة على فيودور ميخايلوفيتش تأثيرًا بالِغًا وظلَّ
واقفًا أمامها ذاهلًا،
٤٥ لم يكن باستطاعتي النظر إلى اللوحة: كانت تترك في
النفس انطباعًا ثقيلَ الوطء، خاصة وقد كنت أُعاني من المرض،
خرجتُ لأُشاهد القاعات الأخرى لأعود بعد حوالي خمس عشرة أو
عشرين دقيقة لأجِد فيودور ميخايلوفيتش ما يزال واقفًا
مُسمَّرًا في مكانه وعلى وجهه المُضطرب تعبير ما مُخيف، تعبير
سبق لي مرارًا أن لاحظتُه في الدقائق الأولى لنوبة الصرع التي
كانت تنتابه، تأبَّطت ذراع زوجي ثم اقتدتُه في هدوءٍ إلى قاعةٍ
أخرى وأجلسته على أريكه ورُحت أترقب دقيقةً بعد الأخرى حلول
النوبة. لكن الأمر لحُسن الحظ مرَّ بسلام، وسرعان ما استعاد
فيودور ميخايلوفيتش رباطةَ جأشه. ولدى مُغادرتنا للمتحف عبَّر
زوجي عن رغبته الملحَّة في أن يعود مرةً أخرى ليشاهد هذه
اللوحة التي أثارته إلى هذا الحد.
٤٦
بمجرد وصولنا إلى جينيف سارعنا في اليوم نفسه للبحث عن غرفة
مفروشة. طفنا بكل الشوارع الرئيسية وشاهدنا العديد من الغرف
المفروشة دون جدوى: كانت الغرف إما غير مناسبة لقدراتنا
المالية، وإما تقع في أماكن شديدة الازدحام، الأمر الذي لم يكن
يُناسبني. وأخيرًا وعند حلول المساء نجحنا أن نجد شقةً مناسبة
لنا تمامًا. كانت تقع على ناصية شارعي
Guillaume
وBertellier في الطابق
الثاني، فسيحة للغاية، ومن نافذتها الوسطى يمكن رؤية أحد
الجسور المُمتدة على نهر الرون وجزيرة جان جاك روسو. كما
أُعجبنا أيضًا بصاحبتَي الشقة الآنستَين
Raymondin، كلتاهما تخطَّت
سن الزواج بأعوامٍ طويلة. قابلَتانا بترحابٍ شديدٍ وراحتا
تمتدِحانني، ومن ثمَّ قرَّرنا، بلا تردُّد، أن نسكن
لديهن.
بدأت حياتنا في جينيف بما لدينا من أموال زهيدة: تكفي لسداد
شهرٍ مُقدمًا لصاحبتي الشقة، وفي اليوم الرابع لوصولنا تبيَّن
أن كل ما لدَينا هو ثمانية عشر فرنكًا، مع اعتبار أننا كنَّا
نضع في حسباننا أننا سنتسلَّم خمسين روبلًا،
٤٧ لكننا كنَّا قد تعوَّدنا أن نقنع بما لدَينا من
مبالغ ضئيلة، وعندما يتم صرفها كنا نفتش على رهن أشيائنا. وقد
بدَت الحياة لنا، وخاصةً بعد الاضطرابات التي عانَينا منها منذ
زمنٍ غير بعيد، في البداية، جيدة للغاية.
وهنا، كما في درزدن، ساد النظام حياتنا اليومية: فيودور
ميخايلوفيتش يعمل ليلًا فلا يستيقظ قُبيل الحادية عشرة صباحًا؛
أتناول إفطاري معه ثم أذهب بعد ذلك للتنزُّه بناءً على تعليمات
الطبيب، أما فيودور ميخايلوفيتش فيواصل عمله. في الثالثة ظهرًا
نتوجَّه إلى المطعم لتناوُل طعام الغداء، بعدها أخلد إلى
الراحة، فيعود بي زوجي إلى المنزل ليذهب بعدها إلى أحد المقاهي
في شارع Mont-Blanc حيث
يتلقَّون هناك الصحف الروسية، وعلى مدى ساعتَين يستمر زوجي في
قراءة «جولوس» («الصوت») والوقائع «الموسكوفية»
و«البطرسبورجية»، كما يُطالع بعض الصحف الأجنبية. وفي المساء،
في حوالي السابعة، نواصِل نُزهتنا، وحتى أتجنَّب الإرهاق، كنا
نتوقَّف أمام نوافذ المحلات الفاخرة ذات الإضاءة المُبهرة،
وكان فيودور ميخايلوفيتش يُشير إلى تلك الحُليِّ الثمينة التي
كان يتمنَّى لو يُهديها لي لو كانت لدَيه ثروة. وللإنصاف فقد
كان لدى زوجي ذَوق فني رفيع، وكانت الحُلِي التي يُشير إليها
رائعة الجمال حقًّا.
كنَّا نُمضي المساء إمَّا في إملاء الرواية الجديدة، وإما في
قراءة الكتب الفرنسية، وكان زوجي حريصًا على أن أقرأ وأن
أدرُس، بشكلٍ منهجي، عملًا لأحد الكتَّاب دون أن يبتعِد
باهتمامه عن باقي الكُتَّاب. كان فيودور ميخايلوفيتش يضع
موهبتَي كلٍّ من بلزاك
٤٨ وچورچ صاند
٤٩ في مكانة رفيعة، وقد رُحتُ تدريجيًّا أعيد قراءة
رواياتهما. كنا نتحدث أثناء نزهاتنا عن قراءاتي، وكان زوجي
يُفسر لي جوانب العظمة فيما قرأت من أعمال. وكنت كثيرًا ما
أشعر بالدهشة من أن فيودور ميخايلوفيتش، الذي كان ينسى ما حدث
منذ زمنٍ غير بعيد، يتذكَّر بوضوحٍ تامٍّ موضوع وأسماء أبطال
روايات هذين الكاتبَين المُفضَّلين لدَيه. أذكر أن زوجي كان
يقدِّر على وجه الخصوص
Pére
Goriot («الأب جوريو»)، والجزء الأول من
ملحمة
Les parents Pauvres
(«الأقارب الفقراء»).
٥٠ وقد عاد فيودور ميخايلوفيتش نفسه شتاء عامَي
١٨٦٧–١٨٦٨م لقراءة رواية فيكتور هوجو
Les
humiliés et les offenses («مُذَلُّون مُهانون»).
٥١
لم يكن لدَينا أي معارف تقريبًا في جينيف. كان فيودور
ميخايلوفيتش صعب المراس في عقد صداقات جديدة. فمن بين أصدقائه
القُدامى قابل في جينيف ن. ب. أوجاريف
٥٢ فقط، الشاعر الشهير وصديق جيرتسين، وكأنا قد
تعارفا عنده يومًا ما. كان أوجاريف يأتي لزيارتنا أحيانًا
حاملًا معه كتبًا وصحفًا، بل إنه كان يُقرضنا أحيانًا عشرة
فرنكات، أعَدْناها إليه فور تسلُّمنا أول نقودٍ وصلتنا. كان
دستويفسكي يُقدِّر العديد من أشعار هذا الشاعر الصادق،
٥٣ وكنا نسعد دائمًا بزيارته. كان أوجاريف آنذاك قد
بلغ أرذل العمر، وكان يُكن لي قدرًا كبيرًا من الصداقة
والمودة. وكان يتعامَل معي باعتباري فتاةً شابة. وهو ما كنتُ
عليه بالفعل آنذاك. وللأسف الشديد فبعد ثلاثة أشهرٍ من زيارات
هذا الرجل الطيب الصالِح لنا، انقطع تمامًا عن الحضور إلينا؛
فقد وقع له حادث مؤسِف، فعند عودته إلى فيلته في الضواحي،
أُصيب أوجاريف بنوبةٍ من نوبات الصرَع سقط على أثرها على حافة
طريق يحدُّ إحدى القنوات، وقد كُسِرت ساقه من أثر هذا السقوط.
ولأن هذا الحادث قد وقع له وقتَ الغروب وكان الطريق خاليًا من
المارة، فقد ظلَّ راقدًا في هذه القناة حتى الصباح وأُصيب
بنزلة بردٍ حادة. أخذه أصدقاؤه للعلاج في إيطاليا، وهكذا
فقَدْنا الصديق الوحيد في جينيف، الذي كنَّا نسعد بلقائه
والتحدُّث معه.
في مطلع شهر سبتمبر من عام ١٨٦٧م عُقد في جينيف مؤتمر السلام،
٥٤ الذي وصل لحضور افتتاحه جوزيب غاريبالدي
٥٥ وقد أولى القائمون على الأمر اهتمامًا فائقًا
بحضوره وأعدت المدينة له استقبالًا رائعًا. وقد ذهبنا أنا
وزوجي أيضًا إلى شارع
Mont-Blanc، حيث كان من
المُنتظر أن يمر به بالقطار. كانت البيوت مزدانةً بالزهور
والأعلام، واحتشدت الجموع في الطريق الذي سيسلكه. اخترق غاريبا
الطريق راكبًا عربة تجرُّها الخيل مُرتديًا بدلته المميزة،
واقفًا في العربة وهو يلوِّح بقبعته ردًّا على الحفاوة الشديدة
للجماهير. نجحْنا أن نرى غاريبالدي من مسافةٍ قريبة، وقد رأى
زوجي أن هذا البطل الإيطالي يتمتع بوجهٍ لطيف وابتسامة
بشوش.
كنَّا مُهتمين بمؤتمر السلام فذهبنا لحضور جلسته الثانية
ورُحنا لمدة ساعةٍ أو ساعتَين نستمِع إلى كلمات الخطباء. خرج
فيودور ميخايلوفيتش بانطباعٍ ثقيل من جراء هذه الخُطب، فكتب
عنها خطابًا إلى إيفانوفا-خميروفا
٥٦ جاء فيه ما يلي
٥٧ «لقد بدءوا بقولهم إنه لتحقيق السلام على الأرض
ينبغي تحطيم العقيدة المسيحية، وكذلك تدمير الدول الكبرى
وتحويلها إلى دويلات؛ وكذلك الأمر مع رءوس الأموال … إلخ،
ليُصبح كل شيءٍ للمصلحة العامة … إلخ. كل ذلك دون تقديم أدنى
إثبات، كل ذلك محفوظ عن ظهر قلب منذُ عشرين عامًا، وما يزال
على حاله. والأمر الرئيسي عندهم هو النار والسيف، وبعد أن يتم
هدم كل شيء، في زعمهم، يحلُّ السلام.» للأسف سرعان ما ندِمنا
لاختيارنا جينيف محلًّا دائمًا لإقامتنا. في الخريف بدأت
العواصف الشديدة التي يُسمُّونها
bises وراح الجو في
التقلُّب مرَّتَين وثلاثًا في اليوم الواحد. راحت هذه
التقلُّبات المقبضة للنفس تؤثر على أعصاب زوجي، ومن ثم راحت
نوبات الصرع تتكرَّر بشكلٍ ملحوظ. وقد أثارت هذه الأحوال قلقي،
بينما راحت تُثير غمَّ فيودور ميخايلوفيتش وكربه، والسبب
الرئيسي في ذلك يعود إلى أن أوان العمل قد حان، وها هي نوبات
المرَض المُتكررة تعوقه بشدة عن الشروع فيه.
في خريف عام ١٨٦٧م كان فيودور ميخايلوفيتش مشغولًا بإعداد
خطة وكتابة رواية «الأبله»، التي خصَّصها للأعداد الأولى من
مجلة «البشير الروسي» المُزمَع إصدارها عام ١٨٦٨م. فكرة
الرواية قديمة ومُحبَّبة؛ وصف الإنسان الإيجابي الرائع
٥٨ لكن هذه المهمة بدت لفيودور ميخايلوفيتش مهمةً «لا
حدود لها». كل هذه الأمور كانت تُثير قلق زوجي
واضطرابه.
لا بأس. ولكن إلى جانب كل ذلك فقد اجتمع عليه همٌّ آخر لا
أساس له في الواقع إطلاقًا، وهو كيف أني لا أشعر بالملل، رغم
أني أعيش معه في وحدةٍ تامة، «في جزيرة غير مأهولة»، هذا ما
كتبه في خطابه إلى أبوللون مايكوف
٥٩ … كيف لم أُحاول أن أُقنعه، أو أذكر له أنَّني
سعيدة تمامًا، لا ينقصني شيء، وأنه يكفيني أن أعيش معه وأن
يظلَّ يُحبني، لكن تأكيداتي قليلًا ما كانت تترك أثرها لدَيه.
كان يجأر بالشكوى من قلَّة المال الذي يُمكِّننا من الذهاب إلى
باريس فيوفر لي إمكانية الاستمتاع بأشياء مثل زيارة المسارح
ومتحف اللوفر
٦٠ … لم يكن زوجي يعرفني آنذاك حقَّ المعرفة.
باختصار، سرعان ما أصاب الاكتئاب فيودور ميخايلوفيتش بقوة،
وعندئذٍ أوحيتُ له بفكرة السفر إلى
Saxon les
Bains «ليجرب حظَّه» في الروليت، سعيًا
منِّي لإبعاده عن الأفكار الحزينة (كانت
Saxon
les Bains على مسافة خمس ساعات بالقطار من
جينيف، وقد أغلقت صالات القمار التي كانت موجودة بها آنذاك منذ
فترة بعيدة) استحسن فيودور ميخايلوفيتش فكرتي. وفي
أكتوبر-نوفمبر ١٨٦٧م سافر زوجي إلى
Saxon لبضعة أيام. وكما
توقعت فهو لم يربح أي نقود من الروليت، وإن أثمر الأمر نتيجة
أخرى إيجابية: لقد كان لتغيير المكان، والسفر ومعاناة المشاعر
العاصفة من جديد
٦١ أثر عميق على مزاجه؛ فبعد أن عاد فيودور
ميخايلوفيتش من جينيف راح، في حماس شديد، في مواصلة ما انقطع
من عملٍ، وخلال ثلاثة وعشرين يومًا كتب حوالي ستِّ مَلازم (٩٣
صفحة) لعدد يناير من «البشير الروسي».
لم يكن فيودور ميخايلوفيتش راضيًا عن الجزء الذي كتبَه من
رواية «الأبله» وأخبرَني أنه لم يوفق في كتابة الجزء الأول.
٦٢ أودُّ أن أذكُر هنا بالمناسبة أن زوجي كان دائمًا
شديد الصرامة تجاه نفسه ونادرًا ما أثنى على عملٍ من
أعماله.
كان فيودور ميخايلوفيتش في بعض الأحيان يُبدي إعجابه وحبَّه
لأفكاره، التي تظلُّ تدور في رأسه، ولكنه كان غير راضٍ دائمًا
تقريبًا عن تجسيدها في أعماله مع بعض الاستثناءات
النادرة.
أذكر أن فيودور ميخايلوفيتش اهتم بشدة في شتاء عام ١٨٦٧م
بتفاصيل قضية آل أوميتسكي التي أثارت ضجةً كبيرة آنذاك. وقد
بلغ به الاهتمام أنه كان عازمًا على أن يجعل من أولجا
أوميتسكايا بطلة هذه القضية بطلة روايته الجديدة (في الخطة
المبدئية)، حتى إنها كانت تحمل نفس الاسم في مسوَّداته. كان
زوجي شديد الأسف أنه ليس في بطرسبورج؛ إذ كان حتمًا سيُدلي
برأيه في هذه القضية.
٦٣
أذكر أيضًا أن فيودور ميخايلوفيتش في شتاء عام ١٨٦٧م كان
مُهتمًّا بشدةٍ بنشاط محكمة المُحلَّفين قبل توقيع الأحكام
بفترةٍ قصيرة. وأحيانًا ما كان يبلغ به الفرح والتعاطف مع
الأحكام المنطقية والعادلة، وكان دائمًا ما يُخبرني بأبرز ما
قرأه في الصحف فيما يخص الحياة القضائية.
٦٤
يمر الزمن وتتزايد همومنا حول ما إذا كان الحدث الهام
المُنتظَر في حياتنا؛ ميلاد طفلنا البكر، سوف يمر بسلام. وحول
هذا الحادث المُنتظَر تركَّزت بشكلٍ رئيسي أفكارنا وأحلامنا،
ورُحنا أنا وزوجي نُحب هذا المولود القادم بكل حنان. اتخذنا
قرارًا مشتركًا أن نُسميها، إذا كانت ابنة، صوفيا (رفضت أن
أُسميها آنَّا كما كان يودُّ زوجي)، على شرف صوفيا ألكسندروفنا
إيفانوفا، ابنة أخته المفضلة لديه، وكذلك في ذكرى «سونيتشكا مارميلادوفا»،
٦٥ سيئة الحظ التي بكيتُ من أجلها كثيرًا. أما إذا
كان صبيًّا، فقد قرَّرنا أن نُسمِّيه ميخائيل على شرف أخي زوجي
الحبيب ميخائيل ميخايلوفيتش.
أتذكَّر بكل العرفان بالجميل، كيف راح فيودور ميخايلوفيتش
يُعاملني بعنايةٍ فائقة ورهافة نظرًا لحالتي الصحية السيئة. لا
أنسى كيف كان يهتمُّ بي بكل حذَر، متابعًا كل خطوةٍ من خطواتي
مُحذرًا إيَّاي من القيام بأي حركةٍ متعجلة كنتُ، لقلَّةِ
خِبرتي، لا أوليها اهتمامًا. إن أكثر الأمهات عطفًا وحنانًا،
لم يكن باستطاعتها أن تحافظ عليَّ كما فعل زوجي الغالي.
منذ اللحظة الأولى لوصولنا جينيف، سارع فيودور ميخايلوفيتش
بعد تسلُّمه للدفعة الأولى من النقود، لزيارة أفضل طبيب ولادة
وطلَب منه التوصية بوضعي تحت رعايةِ قابلةٍ تقوم بزيارتي
أسبوعيًّا. وقبل الولادة بشهر ظهرت لي حقيقة مسَّت شغاف قلبي؛
إذ رأيت إلى أي حدٍّ من رهافة الإحساس امتدَّ اهتمام زوجي بي
ليشمل أدقَّ التفاصيل. ففي إحدى زيارات مدام
Barraud (القابلة)، سألتني
مَن مِن معارفنا يعيش في الشارع الذي تقطن فيه؛ إذ إنها كثيرًا
ما تُقابل زوجي هناك. اندهشت، ولكنِّي فكرتُ أنها قد تكون
مُخطئة. رُحت أُلاحِق زوجي بالأسئلة: كانت مدام
Barraud تسكن في أحد
الشوارع العديدة المُؤدِّية إلى الجبل من ناحية شارع
Basses، وهو الشارع
التجاري الرئيسي في جينيف. ولما كان فيودور ميخايلوفيتش يخشى
أن تخونه ذاكرته البصرية، فقد وضع هذا الشارع هدفًا لجولاته،
ومِن ثَم كان يذهب يوميًّا، بعد الانتهاء من القراءة، للمرور
ببيت مدام Barraud، مارًّا
بخمسةِ أو ستة بيوت بعدَه ثم يعود راجعًا إلى المنزل. وقد ظلَّ
زوجي يقوم بهذه الجولة على مدى الأسابيع الثلاثة الأخيرة، في
الوقت الذي كان صعود هذا المنحدَر الصعب يُكلفه تضحيةً كبيرة،
وقد بدأ مرَض الربو يُهاجِمه. توسَّلت إلى زوجي ألا يُرهق نفسه
بهذه المسيرة، لكنَّه واصل جولاته. وقد حالَفَه النصر بعد ذلك،
إذ أفادته معرفته بالشارع وببيت مدام
Barraud أن يعثر بسرعةٍ في
اللحظات العصيبة للحدث المُتوقَّع، على البيت وقت السَّحَر،
وقد لفَّ الظلام المكان، وأن يأتي بها إليَّ.
قلقًا على حالتي، ورغبةً منه في إسعادي، قرَّر فيودور
ميخايلوفيتش أن يطلُب من أُمي أن تحضر إلينا وأن تنزل في
ضيافتنا من شهرٍ إلى ثلاثة. وافقَتْ أُمي عن طيب خاطرٍ على
الحضور، وكان شوقُها إليَّ وقلقُها بشأني يهُزَّانها هزًّا،
ولكنها طلبت أن نُمهِلَها فسحةً من الوقت، حتى تتمكن من تدبير
شئون البيوت التي تمتلكها، وقد واجهت بعض الصعوبات في
ذلك.
في منتصف شهر ديسمبر من عام ١٨٦٧م، وكنا بانتظار الوضع،
انتقلنا إلى شقةٍ أخرى تقع في شارع
Mont-Blanc بالقُرب من
الكنيسة الأنجليكانية. وفي هذه المرة استأجرنا غرفتَين إحداهما
فسيحة للغاية، ذات نوافذ أربع تُطل على الكنيسة. كانت هذه
الشقة تفضُل شقتنا القديمة. ولكن كان علينا أن نأسف كثيرًا على
العجوزَين الطيبتَين، أصحاب الشقة القديمة. كان أصحاب الشقة
الجديدة دائمي الغياب فلا يتركان لنا سوى الخادمة، وهي فتاة
سويسرية من أصل ألماني، لا تعرف الفرنسية إلَّا قليلًا ولا
قدرة لدَيها على مساعدتي. ولهذا قرر فيودور ميخايلوفيتش أن
يُحضر لي
garde-malad٦٦ لرعاية الطفل والعناية بي في وقت المرض.
انقضى فصل الشتاء ما بين عمَلنا المشترك في كتابة الرواية
وبين اهتماماتنا الأخرى، وجاء شهر فبراير من عام ١٨٦٨م ومعه
هذا الحدث المأمول والذي طالما أثار مخاوفي.
كان الجو في جينيف رائعًا في مطلع العام، ولكنَّه بحلول
منتصف فبراير انقلب إلى النقيض بفعل العواصف اليومية. كان
لتغيُّر الجو المفاجئ، كالعادة، أثرُه السيئ على أعصاب فيودور
ميخايلوفيتش، وخلال هذه الفترة القصيرة أصابته نوبتان من نوبات
الصرع. كانت الثانية غاية في القوة، فاجأته في منتصف ليلة
العشرين من فبراير، وقد أنهكَتْه حتى إنه بعد استيقاظه في
الصباح كان يقف على قدمَيه بالكاد. ظلَّ طوال اليوم مُتكدرًا،
وعندما وجدتُ أنه على هذا الحال من الضعف أقنعتُه أن يخلد إلى
النوم مبكرًا، وقد استسلم له في السابعة مساء. ولكن ما إن مرت
ساعة واحدة على استغراقه في النوم، حتى شعرت ببعض الألم، بدأ
خفيفًا، ولكنه راح يزداد ساعةً بعد الأخرى. كان ألمًا مُميزًا،
وعندها أدركتُ أنه ألَم المخاض وأن ساعة الوضع قد حلَّت.
وتحمَّلت الألم حوالَي ثلاث ساعات، ولكنَّني خشيتُ في النهاية
أن أظلَّ هكذا دون أن يُقدِّم لي أحد المساعدة، وكم كنتُ آسفةً
أن أُضطر لإزعاج زوجي المريض، ولكنني قررتُ أن أوقظه. بدأتُ
أُربِّت على كتفَيه بهدوء. رفع على الفور رأسه من على الوسادة
وسألني: ماذ بك يا أنيتشكا؟ أجبتُ بقولي: يبدو أن الأمر قد
بدأ. إنني أتألَّم بشدة!
تحدَّث إليَّ زوجي بصوتٍ يفيض بالشفقة قائلًا: كم أنا آسف من
أجلك يا عزيزتي!
وفجأة مالت رأسُه على الوسادة ثم راح على الفور في نومٍ
عميق. هزَّني حنانه المُخلص بشدة، وفي الوقت نفسه شعرتُ بعجزه
التام. أدركتُ أن فيودور ميخايلوفيتش في حالة لن تسمح له
بالذهاب وإحضار القابلة، وأن عدَم إعطائه فرصةً لمواصلة النوم
لتهدئة أعصابه المُنهارة قد يستدعي وقوع نوبةٍ جديدة. كان
أصحاب البيت، كعادتهم، بالخارج (كانوا يَسهرون كل ليلةٍ وحتى
الصباح في مكانٍ ما)، وكان اللجوء للخادمة أمرًا لا طائل من
ورائه. لحُسن الحظ هدأ الألَم بعض الشيء فقررتُ التماسُك قدْر
استطاعتي. ولكن، يا لها من ليلةٍ مروعة قضيتها: كانت الأشجار
المُحيطة بالكنيسة تهتزُّ بشدة، والريح والمطر يضربان النوافذ،
بينما ساد الظلام الحالك الطريق. كان إحساسًا خانقًا بالوحدة
التامَّة والعجز يُسيطر على وعيي. وكم كنتُ أشعر بالمرارة
والأسى لأنني في هذه الساعات الصعبة من حياتي لا أجد أحدًا من
أقربائي الأعزاء بقُربي، وأن زوجي، الإنسان الوحيد الذي
يَرعاني ويَحميني هو نفسه في أمسِّ الحاجة لمن يُقدِّم له
المساعدة. رحتُ أصلي بحرارة، وقد أعانتني الصلاة على أن أستعيد
قواي الخائرة.
عند انبلاج الصُّبح ازداد الألم وطأة، وفي حوالي الساعة
السابعة قررتُ أن أوقظ فيودور ميخايلوفيتش. استيقظ وقد تمالك
قواه بشكلٍ ملحوظ. وعندما علِم بما عانيتُه طوال الليل، انزعج
بشدة وعاتبني لأنني لم أوقظه قبل ذلك. وفي لمح البصر ارتدى
ملابسه وهُرع إلى مدام
Barraud، وهناك ظل يقرع الجرس،
لكنَّ الخادمة لم ترغب في إيقاظ سيدتها مُدَّعية أنها قد عادت
لتوِّها من سهرةٍ لدى أصدقائها. وهنا هدَّدَها فيودور
ميخايلوفيتش بأنه سيظلُّ يقرع الجرس أو يُحطِّم الزجاج. أيقظوا
السيدة وبعد ساعةٍ حَضَرتْ بصحبة زوجي. اضطُررت أن أُصغي إليها
وهي تُوبِّخني على أشياء كثيرة فعلتُها عن جهل، وأكدَت لي أنَّ
إهمالي سوف يؤخِّر عملية الولادة. وأكدَت لي أن المخاض لن
يأتيني قبل سبع أو ثماني ساعات، ووعدَت أن تحضر في هذا الوقت.
ذهب فيودور ميخايلوفيتش لإحضار الجليسة، جلسْنا بعدها أنا وهو
ننتظر ما سيحدُث لنا وقد بلغ بنا الخوف والقلق مبلغًا شديدًا.
لم تحضر مدام
Barraud، في
الموعد الذي ضربتْه، ومن جديدٍ ينطلِق زوجي لإحضارها. وقد
تبيَّن أنها خرجت لتناوُل طعام الغداء لدى أصدقائها في مكانٍ
ما بالقُرب من محطة القطار. ذهب زوجي إلى العنوان المُحدد
وأصرَّ على أن تأتي للاطمئنان على حالتي. قررَت القابلة أن
الأمر يسير على نحوٍ سيئ وأن الوضع ربما يأتي في وقتٍ مُتأخِّر
من المساء. وبعد أن أعطتني بعض النصائح ذهبتْ لتناول طعام
الغداء؛ واصلتُ آلامي، بينما راح فيودور ميخايلوفيتش يتعذَّب
وهو ينظر إليَّ. وعندما بلغَتِ الساعة التاسعة لم يعُد بمقدوره
أن يتحمَّل فتوجَّه إلى أصدقاء مدام
Barraud فوجدَهم مُلتفِّين
حول ورق اللعب فأخبرَها أنني أعاني بشدة من الألم، وأنها إذا
لم تأتِ وتُلازِم بجوار فراشي، فسوف يطلُب من الطبيب أن
يُكلِّف قابلةً أخرى أكثر التزامًا بواجباتها. وقد أثمر هذا
التهديد. كان من الواضح أن مدام
Barraud غير سعيدة على
الإطلاق بسبب صرفِها عن مواصلة اللعب الشيِّق وراحت تقول لي:
Oh, ces ruses, ces
russes!٦٧ مُكرِّرةً هذه العبارة عدة مرات.
وحتى يُهدئ من روعها، أعد لها فيودور ميخايلوفيتش عشاءً
فاخرًا، فاشترى عددًا كبيرًا ومتنوعًا من المُقبِّلات والحلوى
والنبيذ. كنتُ سعيدة للغاية أن ذهاب زوجي لإحضار القابلة وركضه
من دكان لآخر وانشغاله بعض الوقت في القيام بواجبات الضيافة،
سوف يصرف انتباهه وقلقَه عما أنا فيه. وإلى جانب الآلام التي
تُصاحب عملية الولادة، كنتُ أتألَّم أيضًا لأن رؤية هذه الآلام
كانت تؤثر في فيودور ميخايلوفيتش، الذي لم يبرأ بعدُ من الكدَر
الذي أصابه من جرَّاء نوبتَين متتاليتَين من الصرع، كان وجهه
يطفح بالعذاب واليأس، وكنتُ أراه يبكي في بعض الأوقات، حتى
إنني أنا نفسي أُصبتُ بالرُّعب من أن أكون على وشك الموت.
وعندما أعود بذاكرتي إلى هذه الأفكار والمشاعر أقول إنني لم
أكن أشعر بالأسى على نفسي، بقدْر ما كنتُ أشعر به تجاه زوجي
المسكين، الذي كان مَوتي يُمثل بالنسبة له مُصيبة كبرى. لقد
أدركتُ آنذاك أن أكثر آمالِنا وأحلامِنا توهُّجًا هي التي كانت
تُوحِّد بيني وبين زوجي الغالي وبين طفلِنا المنتظر. ومن ثم
كان الانهيار المُفاجئ لهذه الآمال يُعَد أمرًا هائلًا بالنسبة
لفيودور ميخايلوفيتش نظرًا إلى ما له من شخصيةٍ تتميز
بالاندفاع وعدَم القدرة على التماسُك. وقد يكون لقلقي الشديد
على زوجي واضطرابي أثرٌ في تأخُّر الولادة، وقد شعرَتْ مدام
Barraud بذلك، فمنعَت،
أخيرًا، زوجي من الدخول إلى غرفتي، مؤكدة له أن مظهره اليائس
يُثير الجزع في نفسي. أذعن فيودور ميخايلوفيتش للأمر، لكنَّ
قلقي راح يزداد، وفي فترات الراحة من الألَم، كنتُ أطلب من
القابلة تارة، ومن الجليسة تارة أخرى، أن تنظُرا ماذا يفعل
زوجي. كانتا تُخبرانني أنه راكع على ركبتَيه يُصلي، أو أنه
جالس وقد استغرق في التفكير العميق وقد غطَّى وجهه بكفَّيه.
كان ألَمي يزداد ساعةً بعد أخرى؛ وكنت أغيب أحيانًا عن الوعي،
وعندما أعود إلى وعيي، كنتُ أنظر إلى هاتَين العينَين
السوداوَين الغريبتَين المُحدقتَين بي، عيني الجليسة، فكنت
أشعر بالخوف ولا أُدرك أين أنا وماذا يحدُث لي. وأخيرًا وفي
حوالي الخامسة فجر الثاني والعشرين من فبراير توقَّفت آلامي
وخرجَت ابنتنا سونيا إلى النور. فيما بعد أخبرَني فيودور
ميخايلوفيتش أنه كان يُصلِّي من أجلي طوال الوقت وأنه سمع
فجأة، من خلال أنيني، صوتًا غريبًا يُشبِهُ صراخ طفل. لم
يُصدِّق أذنَيه، ولكنه، عندما تكرَّر الصراخ، أدرك أن الطفل قد
وُلِد، ولم يشعر من فرْط سعادته إلَّا وهو يهبُّ على قدمَيه
ليُهرع إلى الغرفة الممنوعة فيُمسك بمقبض الباب ويدفعه بقوةٍ
ثم يقع على ركبتَيه قرب فراشي ويروح يُقبل يديَّ. كنت فرحةً
للغاية أن آلامي توقفت. اندهشنا كِلانا لأننا طوال الخمس عشرة
دقيقة الأولى لم نعرف من الذي وُلِد لنا، سمِعنا أن إحدى
الحضور من السيدات قالت:
Un garcon, n’est – ce
pas?،
٦٨ بينما أجابت أخرى
Fillette, une
adorable fillette٦٩ أما أنا وزوجي فكان الأمر بالنسبة لنا سارًّا على
كلِّ الوجوه، سواء أكان صبيًّا أم صبية. كان أكثر ما يملأ
نفوسنا سعادةً أنَّ حُلمنا قد تحقق، فقد جاء إلى الدنيا هذا
المخلوق، الذي هو مولودنا البكر!
أثناء ذلك قامت مدام Barraud
بحمل المولود من فراشه وهنَّأتنا بميلاد ابنتنا ثم حملتها
إلينا وكأنها تحمل لفافةً كبيرة بيضاء. وبإجلالٍ شديد راح
فيودور ميخايلوفيتش يرسُم علامة الصليب على سونيا ثم قبَّل
وجهها المُتغضِّن وقال: «آنيا، انظري، أي جمال لدَينا!» رسمتُ
عليها أنا أيضًا علامة الصليب وقبَّلتها. فرِحْت لزوجي وأنا
أرى وجهَه سعيدًا مُتهللًا بهذا الفيض من الفرح، والذي لم
يتسنَّ لي أن أراه على هذا النحو بعد ذلك.
وفي نشوة الفرح عانق فيودور ميخايلوفيتش مدام
Barraud وشدَّ على يد
الجليسة عدة مراتٍ بقوة. وقد أخبرتني القابلة أنها لم تُشاهد
على مدى حياتها العملية الطويلة أبًا لمولودٍ على هذا الحال من
القلق و«الاضطراب» على النحو الذي كان عليه زوجي طوال الوقت،
ثم عادت مرةً أُخرى لتُكرِّر عبارة «أوه، هؤلاء الروس. هؤلاء
الروس!» ثم أرسلت القابلة لشراء شيءٍ ما من الصيدلية حتى لا
يُداهمني النعاس.
٧٠
أخبرتْ مدام
Barraud فيودور
ميخايلوفيتش أنَّ على والد الطفل أن يقوم بنفسه، بموجب القانون
السويسري، بإعلان الأمر للشرطة، وأن يتسلَّم منها شهادة رسمية،
ونبَّهتْه إلى ضرورة الإسراع بذلك وإلا تعرَّض لدفع غرامة، وقد
يتم القبض عليه. وفي اليوم التالي توجَّه فيودور ميخايلوفيتش
إلى الجهة المَعنية وتأخَّر هناك حوالي أربع ساعات، الأمر الذي
أخافني بشدة. ولِعلمي بحالته الصحية فقد دارت برأسي شتَّى
الهواجس حول ما يمكن أن يكون قد وقع له. وأخيرًا عاد فيودور
ميخايلوفيتش ليحكي لي عما وقع له من أحداث، وقد ساد المرح
روحه. لقد تبيَّن أن الوالد الذي يأتي للشرطة لهذا الغرض عليه
أن يصطحب معه شاهدَين باستطاعتهما إثبات شخصية الوالدين،
وتأكيد صحَّة الواقعة. راح فيودور ميخايلوفيتش يشرح للموظف أنه
أجنبي وأنه لا يملك معارف في جينيف، لكن الرجل لم يستمِع إلى
ما قاله وبدأ في التعامُل مع صاحب الطلَب التالي. ولمَّا احتدم
سوء الفهم خرج فيودور ميخايلوفيتش من الإدارة وتوجَّه إلى
الرقيب النوبتجي عند الباب طالبًا نصحه. وعلى الفور أخرج الرجل
زوجي من مأزقه مقترحًا عليه أن يكون هو نفسه أحد الشهود، على
أنه لن يستطيع أن يُقدم له هذه الخدمة إلَّا بعد حضور الرقيب
الآخر الذي سيتسلَّم منه الوردية، وأن هذا لن يحدث قبل مرور
ساعة ونصف. وعندما سأله فيودور ميخايلوفيتش من أين سنحصل على
الشاهد الثاني، اقترح الرقيب قائلًا:
un
comarade a moi.
٧١ سارت الأمور على ما يُرام، ولكن كان على فيودور
ميخايلوفيتش الانتظار فذهب للجلوس، بناءً على نصيحة الرقيب،
على إحدى الأرائك في الشارع وقد استبدَّ به القلق وهو يُفكر كم
سيستغرق الأمر من وقتٍ حتى يعود إلى المنزل. وفي الموعد
المُحدَّد تغيرت الوردية وحضر الرقيب الثاني، وها هم ثلاثتهم:
زوجي واثنان من الرقباء يتوجَّهون إلى مكتب الموظف القائم
بالطلبات، وقتٌ طويل انقضى ما بين تسجيل طلب الوالد والشهود،
ثم تسجيل الطلب في الدفاتر، ثم استخراج الشهادة.
٧٢ بعد أن أنهى فيودور ميخايلوفيتش أعماله سأل الرقيب
صاحب الفضل بكم هو مَدين له هو ورفيقه على هذا الوقت الذي
أنفقاه من أجله. فأجاب الرجل:
Mais rien,
monsieur, rien!٧٣ عندئذٍ فكَّر زوجي في دعوة الرقيبَين إلى أحد
المقاهي لتناول شيءٍ من النبيذ نخب المولود الجديد. وافق
الرقيبان بكل سرور على هذه الدعوة واصطحبا فيودور ميخايلوفيتش
إلى أحد المطاعم القريبة حيث جلسوا في غرفة منفصلة وأمر باحضار
ثلاث زجاجات من النبيذ الأحمر المحلي. أطلق النبيذ لسان
الضيفَين فراحا يقصَّان على مضيفهما أحداثًا متنوعة من وقائع
خدمتهما. حكى لي فيودور ميخايلوفيتش أنه كان يجلس على أحر من
الجمر وهو يفكر في قلقي بسبب غيابه الطويل. كان من غير اللائق
أن يترك ضيفَيه وخاصة أنه أتبع الزجاجات الثلاث بزجاجتَين
أُخريين دخل بعدها الرقيبان في حالةٍ من المرح فراحا يرفعان
الأنخاب تارةً في صِحتي، وتارة أخرى في صحة
Petite Sophie (صوفيا
الصغيرة) وفي صحة المُتسبب في ظهورها في هذا العالم.
طلب فيودور ميخايلوفيتش أن يكون صديقُه الشاعر أبوللون
مايكوف هو الأب الروحي لابنتنا سونيا، وأن تكون أُمي، آنَّا
نيكولايفنا سنيتكينا، الأم الروحية لها. وكانت أُمي قد عزمت
على الحضور إلينا للاحتفال بمولد الطفلة، ولكنها أُصيبت بوعكة
صحية ولم يسمح لها الطبيب بالسفر بعيدًا حتى حلول الربيع. وقد
حضرت أمي إلى جينيف في أوائل شهر مايو بعد إجراءات مراسم تعميد
سونيا.
وعلى الرغم من أنني كنت مسرورةً للغاية للتعافي من المرض،
فإنني كنت أُعاني بشدة من الضعف الذي ألمَّ بي نتيجة ثلاثٍ
وثلاثين ساعةً مُضنية مرَّت بي أثناء الوضع.
وعلى الرغم من سعادتي بإرضاع الطفلة، إلا أنني سريعًا ما
اقتنعتُ بأن الأمر لن يستقيم دون إرضاعها لبنًا خارجيًّا، فقد
كانت طفلةً ممتلئة البدَن، تتمتَّع بصحةٍ وافرة، وكانت بحاجةٍ
إلى مزيدٍ من الغذاء. لم يكن من السهل إحضار مرضعةٍ لسونيا،
ففي سويسرا يُرضعون الأطفال رضاعة اصطناعية في زجاجات؛
بالإضافة إلى المساحيق المُغذية. كانت هناك أمهات أخريات
يُرسِلن أطفالهن إلى الجبل على مسافةٍ تقرب من ستِّين فرسخًا
ليرضعن من الفلاحات. كان ابتعاد سونيا عنِّي وإعطاؤها لأيدٍ
غريبة أمرًا سخيفًا، كما أن الأطباء نصحوني ألا أفعل ذلك، إذ
إن عددًا من المواليد تُوفُّوا بعد أن أخذتهن الفلاحات ولم
يُوفِّرنَ لهن الرعاية الكافية.
عندما استقرَّ النظام في بيتنا، بدأت الحياة التي بقِي منها
للأبد أغلى ذكرياتي. وكم كانت سعادتي عندما تبيَّن لي أن
فيودور ميخايلوفيتش أكثر الآباء حنانًا وعطفًا، كان يحرص على
أن يكون موجودًا أثناء استحمام الطفلة ويُقدِّم لي المساعدة،
ويقوم بنفسه بوضعها في لفَّتِها المصنوعة من قماش البيكة
ويشبكها بالدبابيس الإنجليزية، ثم يَحملها ويُهدهدها على
يدَيه، ويُهرع إليها، تاركًا عملَه، ما إن يصل إلى سمعه صوتها.
كان سؤاله الأول لي فور استيقاظه أو لدى عودته من الخارج:
«ماذا عن سونيا؟ بصحة جيدة؟ هل نامت جيدًا، هل أكلت؟» كان
فيودور ميخايلوفيتش يجلس ساعاتٍ طوالًا إلى جوار مهدها، تارة
يُدندن لها بأغنيات، وتاره يتحدَّث إليها؛ حتى إنه كان واثقًا،
عندما بلغت شهرَها الثالث، أن سونيتشكا بإمكانها التعرُّف
عليه، وها هو يكتب خطابًا إلى أبوللون مايكوف مؤرَّخًا الثامن
عشر من مايو ١٨٦٨م يقول فيه: «هذا المخلوق الصغير، الضئيل،
المسكين، الذي يبلُغ من العمر ثلاثة أشهر، يُمثل بالنسبة لي
كيانًا وشخصية. لقد بدأتْ تتعرَّف عليَّ وتُحبني وتبتسِم لي
عندما أقترب منها. وعندما أُغني لها بصوتي المُضحك أغنية فإنها
تُحب الاستماع إليها. إنها لا تبكي ولا تُقطِّب وجهها عندما
أُقبلها، وهي تتوقَّف عن البكاء عندما أُقبِل عليها.»
٧٤
ولكن لم يكن مُقدرًا لنا أن نستمتع بالسعادة دون كدَرٍ مدة
طويلة. كان الجو في الأيام الأولى من شهر مايو رائعًا، وبناء
على نصيحة الطبيب المُلحَّة، كنا نأخذ ابنتنا الصغيرة إلى
الحديقة الإنجليزية، حيث كانت تنام ما بين ساعةٍ إلى ساعتَين
تقريبًا. وفي يومٍ تعيسٍ وإبَّان جولتنا اكفهر الجو فجأة وبدأت
ريح البيز
٧٥ تهبُّ بشدة، وبالطبع فقد أصيبت الطفلة بنزلة برد،
وكانت حرارتها في الليلة السابقة قد ارتفعت مصحوبة بسُعال.
توجَّهنا على الفور إلى أفضل طبيبٍ للأطفال والذي بدأ في
زيارتنا يوميًّا مؤكدًا أن ابنتنا سوف تتعافى، حتى إنه قال لي،
قُبَيل وفاتها بثلاث ساعات، إنها قد تحسَّنت كثيرًا. وعلى
الرغم من هذه التأكيدات فإن فيودور ميخايلوفيتش لم يستطع أن
يعود إلى عمله وظلَّ جالسًا إلى جوار مَهدِها لا يُغادره
تقريبًا. كنا في حالةٍ من الخوف والجزع الشديدين، وقد تحقَّقت
هواجسنا الكئيبة بالفعل، ففي صباح الثاني عشر من مايو توفيت
ابنتنا العزيزة سونيا. ليس بمقدوري أن أصِف حالة اليأس التي
خيَّمَت علينا عندما رحنا ننظر إلى ابنتنا الغالية وقد اختطفها
الموت. كنت، وأنا أشعر بهول الصدمة ومرارة الحزن لفراقها، أخشى
بشدة على ما يمكن أن يقع لزوجي سيئ الحظ. كان يأسُه عاصفًا،
أخذ يبكي وينتحِب مثل امرأةٍ وهو يقف عند الجسد المُسجَّى
لابنته الحبيبة وقد راحت دموعُه الساخنة الأسيانة تغمر وجهها
الشاحِب ويدَيها الصغيرتَين. لم أرَ في حياتي مثل هذا القنوط
الجارف. لقد تصوَّرنا أننا لن نتحمَّل هذا الحزن. يومَين لم
يترك أحدُنا الآخر لحظة واحدة، نطوف بشتَّى الإدارات لنحصل على
تصريحٍ بدفن صغيرتنا ونقوم بكافة الإجراءات الخاصة بالجنازة.
قُمنا معًا بلفِّها في كفنٍ حريري أبيض، ثم وضعناها في نعشٍ
صغير مُغطًّى بالحرير الأبيض وأجهشنا بالبكاء، ولم يكن
بمقدورنا أن نتماسك عنده. كان النظر إلى فيودور ميخايلوفيتش
أمرًا مُخيفًا، أصبح وجهه ضامرًا شاحبًا بعد أسبوع من مرض
سونيا. وفي اليوم الثالث بعد الوفاة حمَلْنا كنزنا إلى الكنيسة
الروسية لإقامة القداس الجنائزي، ومنها إلى جبانة
Plain Palais حيث تمَّ
دفنها في مكانٍ خُصِّص للأطفال. وبعد عدة أيامٍ زُرعت فيه
شجيرات السرو وأُقيم وسطها صليب من المرمر الأبيض. كنا نذهب
إلى قبرها يوميًّا نحمل زهورًا ونبكيها. كان فراق طفلتنا
الصغيرة صعبًا علينا، لقد أحببناها بإخلاصٍ وحب عظيمين، وكم من
الآمال والأحلام جمعت بيننا في وجودها!
٥
كان البقاء في جينيف، حيث كل شيء يُذكرنا بسونيا، أمرًا
مُستحيلًا، ومن ثَم قرَّرنا أن نُنفذ ما كنا قد عزمنا على عمله
من قبل دون إبطاءٍ بالانتقال إلى
Vevey الواقعة على بحيرة
جينيف. كنَّا نشعر بالأسف الشديد أنه لم يكن باستطاعتنا، على
الإطلاق، أن نُغادر سويسرا لضيق ذات اليد، وقد بات فيودور
ميخايلوفيتش لا يُطيقها، كان يلقي باللوم في موت سونيتشكا على
المناخ السيئ المُتقلِّب لجينيف، وعلى غطرسة الطبيب وافتقاد
المُمرِّضة إلى الخبرة. كان فيودور ميخايلوفيتش يحمِل دائمًا
للسويسريين بعض الكراهية، ولكن الغِلظة والفظاظة التي أبداها
الكثيرون منهم في لحظات حُزننا الجارف زادت لدَيه هذه
الكراهية. وكمثالٍ على هذه الفظاظة، فقد أرسل جيراننا، وهم على
عِلم تامٍّ بمُصيبتنا، يَطلبون منِّي ألَّا أبكي بصوتٍ مُرتفع
لأن ذلك يُثير أعصابهم.
لن أنسى مُطلقًا هذا اليوم الحزين، عندما ذهبنا للمرة
الأخيرة لوداع ابنتنا العزيزة ووضع أكليلٍ من الزهور عند
قبرها، بعد أن أرسلنا حاجياتنا لشحنها على السفينة. جلسْنا
نبكي ساعةً بأكملها عند النصب المُقام ونحن نتذكر سونيا، ثم
غادرنا المكان وقد شملنا شعور باليُتم ونحن نُلقي بنظرنا على
مرقدها الأخير.
كانت السفينة التي اضطُرِرنا لركوبها سفينة بضائع، وكان
الركاب على متنها قليلين. كان يومًا حارًّا، ولكنه كان مُلبدًا
بالغيوم مِثلما كانت حالتنا النفسية. كان فيودور ميخايلوفيتش
شديد التأثر، كان ذاهلًا منذ أن ودَّعنا قبر سونيتشكا. وهنا،
وللمرة الأولى في حياتي، أستمع إلى شكوى زوجي المريرة من
القدَر الذي يُلاحِقه بضرباته (وهو الذي كان نادرًا ما
يتذمَّر). راح فيودور ميخايلوفيتش يَحكي لي ذكرياته عن شبابه
الذي قضاه حزينًا وحيدًا بعد وفاة أمِّه الحبيبة الرءوم، وكيف
راح رفاقه في مجال الأدب يسخرون منه، بعد أن اعترفوا بموهبتِه،
ثُم إذا بهم ينقلِبون عليه ويوجِّهون له الإهانات. حكى لي
ذكرياته عن المُعتقل وعن المعاناة التي عاشها على مدى أربع
سنواتٍ قضاها هناك. تحدَّث عن أحلامه في أن يجد في زواجه من
ماريا ديمترييفنا ما افتقده من سعادةٍ أُسَرية لم تتحقَّق
للأسف؛ لم يُنجِب من ماريا ديمترييفنا، التي كانت «شخصية
ارتيابية غريبة، ذات خيال مريض.»
٧٦ ممَّا جعل حياته معها بؤسًا خالصًا. والآن وبعد أن
زارته «السعادة الوحيدة العظيمة؛ يقصد ابنتنا الغالية»
٧٧،٧٨ وأصبحت لدَيه الفرصة أن يُدرك ويُقدِّر معنى
السعادة، إذا بالقدَر الشرير ينتزع منه، دون رحمة، هذا الكائن
الحبيب!
كانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي انطلق فيها فيودور
ميخايلوفيتش مُعبرًا بكلِّ هذه التفاصيل الدقيقة بل والمؤثِّرة
عن كلِّ ما لحق به في حياته من أذًى ناله من أقرب الناس
وأعزِّهم على قلبه.
حاولتُ أن أُهدئ من روعه ورجوته أن يتقبل ما قُدِّر علينا من
ابتلاء، ولكن، بداهةً، كان الألَم يعتصِر فؤاده، وكان من
الضروري له أن يُنفِّس عن آلامه وأن يجأر بالشكوى من ضربات
القدَر التي ما زالت تُلاحِقه طوال حياته. كنت متعاطفةً من
أعماق قلبي مع زوجي سيئ الحظ فأخذت أشاركه البكاء على هذه
الحياة الحزينة التي عاشها. وقد وحدت أحزاننا المشتركة العميقة
وأحاديثنا الصادقة، التي انكشفت لي من خلالها أسرار روحه
المعذبة، وحَّدت بيننا أكثر فأكثر.
على مدى الأعوام الأربعة عشر من حياتنا الزوجية، لا أذكر
صيفًا حزينًا مثل هذا الصيف الذي قضيتُه وزوجي في فيفي عام
١٨٦٨م. بدا كما لو أن الحياة قد توقَّفت بالنسبة لنا، كل
أفكارنا، كل أحاديثنا تركَّزت حول ذكرياتنا عن سونيا. وعن تلك
الأوقات السعيدة التي أضاءت حياتنا بوجودها. وكلَّما التقَينا
طفلًا هاجت ذكرياتنا عن خسارتنا الفاجعة، وحتى لا ينفطِر
قلبانا كنا نذهب للنزهة في أي مكانٍ في الجبل، حيث يُمكننا أن
نتجنَّب اللقاءات التي تهزُّ نفوسنا. لقد عانيتُ أنا أيضًا
الأحزان الثقيلة وذرفتُ دمعًا هتونًا على ابنتنا. ولكن أملًا
كبيرًا استقر في أعماق روحي في أنَّ رحمة الله سوف ترفع عنا
مُعاناتنا وأنه سيُرسل لنا طفلًا من جديد فَرُحتُ أُصلي من أجل
ذلك بحرارة، بدأ الأمل في الأمومة مرةً أخرى في تهدئتي أنا
وأُمي التي كانت مُتشوِّقة إلى حفيد. وبفضل الصلاة والأمل راح
الحزن الشديد يخفُت شيئًا فشيئًا، لكن الأمر لم يكن على هذا
النحو بالنسبة لفيودور ميخايلوفيتش؛ فضلًا عن أن حالته النفسية
بدأت تُخيفني بصورة جادة. إليكم ما قرأته في خطابه إلى مايكوف
والمؤرَّخ ٢٢ يونيو، عندما أُتيحت إمكانية إضافة بضع كلمات
تحية لزوجته: «… كلَّما مرَّ الوقت، كلَّما تأجَّجَت ذكرياتي
وكلَّما بدت لي صورة الراحلة سونيا أكثر وضوحًا. هناك دقائق لا
يمكن للمرء أن يتحمَّلها. كانت قد بدأت في التعرُّف عليَّ، وفي
يوم وفاتها غادرتُ المنزل مُتوجهًا لقراءة الصحف دون أن أُدرك
أنها ستموت بعد ساعتَين، كانت تتبعني بعينَيها مودعةً إيَّاي،
إلى حدِّ أنني ما زلتُ أستعيد، حتى هذه اللحظة، نظرتها أوضحَ
فأوضح. لن أنساها مُطلقًا، ولن يتوقَّف عذابي للأبد! وحتى لو
رُزقت بطفلٍ آخر، فلا أدري كيف سأُحِبه، ومن أين هذا الحُب؟
أنا بحاجة إلى سونيا. لا أُصدق أنها غير موجودة وأنني لن أراها أبدًا.»
٧٩
وبهذه الكلمات أجاب فيودور ميخايلوفيتش على عزاء أُمي. كان
مزاجُه المُحبَط يُخيفني بشدة فرُحت أفكر، هل من الممكن أن
فيودور ميخايلوفيتش، إذا ما وهبنا الله مولودًا آخر، لن يكون
قادرًا على أن يُحبَّه، ولن يكون سعيدًا به كما كان سعيدًا عند
ولادة سونيا. ومثل سوادٍ كالِحٍ يمتدُّ أمامنا، كان الحزن
والجزع يُخيِّمان على أُسرتنا.
بدأ فيودور ميخايلوفيتش في مواصلة العمل في كتابة روايته،
لكن العمل لم يُهدئ من روعه. وإلى جانب مزاجنا الحزين، أُضيف
إلى همنا همٌّ آخَر وهو ضياع الخطابات التي كانت ترِد إلينا،
وهكذا ازدادت صعوبة تَواصُلنا مع أهلنا ومعارفنا، وهو التواصُل
الذي كان يُمثل السلوى الوحيدة بالنسبة لنا. وكان من المؤسِف
على وجه الخصوص انقطاع خطابات أبوللون مايكوف التي كانت زاخرةً
دائمًا بالحيوية. راح الشكُّ في أسباب ضياع الخطابات يزداد
لدَينا يومًا بعد الآخر، وخاصةً عندما تلقَّينا خطابًا من مجهول
٨٠ يُفيد أن الشكوك تحوم حول فيودور ميخايلوفيتش، وأن
أوامر قد صدرت بفتح خطاباته وتفتيشه تفتيشًا دقيقًا على الحدود
لدى عودته إلى الوطن.
٨١ ولسوء الحظ وقَع في يد فيودور ميخايلوفيتش أحد
الكُتب المحظورة بعنوان
Les secrets du Palais
des Tzars (أسرار قصر القياصرة) منذ عهد
الإمبراطور نيكولاي بافلوفيتش.
٨٢ وقد وضع المؤلِّف دستويفسكي وزوجته ضِمن أبطال
الكتاب، زد على ذلك أمورًا كثيرة سخيفة وردَت به، ومن بينها أن
دستويفسكي يَلقى حتفه، بينما تذهب زوجته إلى الدير. وقد أثارت
هذه القصة حنق فيودور ميخايلوفيتش، حتى إنه فكَّر أن يكتب
ردًّا يُكذِّب فيه ما ورد بها من وقائع (ما زلت أحتفظ بمسوَّدة
الخطاب)، غير أنه قرَّر فيما بعدُ أنَّ كتابًا غبيًّا مثل هذا
لا يستحقُّ عناء الاهتمام به.
٨٣
٦
بحلول الخريف أصبح من الواضح لنا أنَّ من الضروري أن نُروِّح
عن أنفسنا، وقد فاض الكيل بنا، مهما كلَّفَنا الأمر، فقرَّرْنا
السفر في مطلع شهر سبتمبر إلى إيطاليا وأن نزور مدينة ميلان
عند أول فرصة. كان مضيق سمبلون
Simplon،
٨٤ هو أقرب مضيق جبلي لنا. قطعنا جزءًا منه سيرًا على
الأقدام، وأثناء سيرِنا أنا وزوجي إلى جوار عربات نقل
المسافرين الكبيرة المُغلقة، التي تجرُّها الخيول، والصاعدة
عبر المضيق الجبلي، رُحنا نجمع الزهور الجبلية، ثم هبطنا إلى
إيطاليا في الجانب الآخر راكِبين عربةً مكشوفة. وقد وقع لنا
حادث مُضحك، ما زلتُ أذكره، عند قرية
Domo
d’Ossola عندما ذهبتُ لشراء بعض الفاكهة
وأختبر في الوقت نفسه ما اكتسبته من اللغة الإيطالية التي
تعلمتُها خلال الصيف، وعندما لاحظتُ أن فيودور ميخايلوفيتش عرج
على أحد المحلات، جال بخاطري فكرة أنه قد يحتاج إلى المساعدة
في التحدُّث فأسرعتُ للحاق به. وقد اتَّضح أنه أراد أن يُدخل
السرور إلى قلبي بشراء هديةٍ ما، فراح يستفسر عن سعر سلسلة
رآها في نافذة المحل. وقد غالى البائع في السعر غلوًّا كبيرًا
ظنًّا منه أننا من «الأجانب الوجهاء» فطلب ثلاثة آلاف فرنك
ثمنًا لها، مؤكدًا أنها ترجع لزمن الإمبراطور فيسباسيان.
٨٥ ولمَّا كان السعر المطلوب يزيد كثيرًا على كلِّ ما
نملِكه من مال فقد دفع ذلك فيودور ميخايلوفيتش للضحك، ولعلَّه
كان الانطباع المرح الأول له منذُ المُصيبة التي حلَّت
بنا.
كان لتغيير ظروف معيشتنا ورؤية أماكن جديدة وأناس جدد (رأى
فيودور ميخايلوفيتش أنَّ فلاحي إقليم لومبارديا يُشبهون كثيرًا
الفلاحين الروس) أثر حسن على مزاج زوجي، وقد شعر بحالة من
الحيوية والنشاط منذ أيامِنا الأولى في ميلان، فاصطحبَني
لمشاهدة كنيستها «الدومو»، التي كانت دائمًا محلَّ إعجابه
الشديد. كان فيودور ميخايلوفيتش حزينًا فقط لوجود عددٍ من
البيوت التي لا يفصل بينها وبين الكنيسة سوى ميدانٍ صغير (وقد
تم توسيع الميدان في الوقت الحالي)، وأخبرَني أن عمارة
«الدومو» تفقد عظمتها بسبب ذلك. وفي يوم صحوٍ صعدنا أنا وزوجي
إلى سطح الكنيسة حتى نتمكن من إلقاء نظرة على المكان حولها
ولنشاهد على نحو أفضل التماثيل التي تزينها. اتخذنا لنا مسكنًا
بالقرب من حي Corso في أحد
الشوارع الضيقة، حيث يستطيع الجيران تبادل الحديث عبر
النوافذ.
بدأت أشعر بالسعادة عندما وجدتُ زوجي في حالة نفسية رائعة،
ولكن، وا أسفاه، لم تستمر هذه الحالة طويلًا وإذا به يعود مرة
أخرى إلى حالة الحنين إلى الوطن. الأمر الوحيد الذي كان يُذهِب
عن زوجي بعض الحزن، هو مراسلاته مع أبوللون مايكوف ونيكولاي
ستراخوف. وقد أخبرنا الأخير بظهور مجلةٍ جديدة تُسمَّى«زاريا»
(«الفجر») يُصدرها فاسيلي كاشبيريف.
٨٦ أكثر ما اهتمَّ به فيودور ميخايلوفيتش في هذا
الخبر أن نيكولاي ستراخوف سيُصبح هو رئيس تحرير هذه المجلة،
وهو الذي عمل، من قبل، مُحررًا في مجلتي «الزمن» و«العصر»، وقد
كتب زوجي يقول إنه بفضل ذلك «لن يموت توجُّهنا ولا عملُنا
المشترك.» لقد آتت «الزمن» و«العصر» على أية حالٍ ثمارهما،
وسوف يكون على هذه المجلة الجديدة أن تبدأ من حيث انتهَينا.
وهو أمر سارٌّ للغاية.
٨٧،٨٨
ألحَّ ستراخوف على دعوة زوجي للعمل في «الفجر». وقد رحَّب
فيودور ميخايلوفيتش بهذه الدعوة بكل سرور، على أن ينتهي أولًا
من رواية «الأبله» التي كانت مُستعصيةً عليه، ولم يكن راضيًا
بعدُ عن أدائه فيها. وقد أكَّد فيودور ميخايلوفيتش مرارًا أنه
لم تكن لدَيه في أي وقتٍ فكرة إبداعية أفضل وأكثر من هذه
الفكرة، التي انعكست في هذه الرواية، وأنه لم يُعبر فيها إلَّا
عن معشار ما أراد أن يُعبر عنه فيها.
٨٩
اتَّسم خريف عام ١٨٦٨م في ميلان بشدة المطر والبرد القارس،
الأمر الذي منع زوجي من القيام بنزهاته الطويلة (التي كان
يُحبها بشدة). لم تكن مكتبات القراءة في هذه المدينة تمتلك
صحفًا أو كتبًا باللغة الروسية، ومن ثم كان زوجي يشعُر بالملَل
بعيدًا عن الوطن دون أن تصِله أية أنباء عنه. ونتيجة لذلك
قرَّرْنا، بعد أن قضَينا شهرين في ميلان، أن نسافر إلى فلورنسا
في الشتاء. كان فيودور ميخايلوفيتش قد سبق له زيارة فلورنسا
وما يزال يحتفظ بذكرياتٍ طيبة عن هذه المدينة، وبخاصة عن
كنوزها الفنية.
وهكذا رحلنا في نهاية نوفمبر من عام ١٨٦٨م إلى عاصمة إيطاليا
آنذاك ونزلنا بالقُرب من
Palazzo
Pitti، ومرة أخرى يترك تغيير المكان أثرًا
حسنًا على زوجي، وسرعان ما بدأنا في مشاهدة الكنائس والمتاحف
والقصور. أتذكَّر جيدًا كيف كان فيودور ميخايلوفيتش يذهب إلى
الكاتدرائية وإلى كنيسة
Santa Maria del
Fiore وقد بلغ به الإعجاب أشُدَّه، بل إنه
كان مُعجبًا للغاية بكنيسة
del
Battistero، الصغيرة التي يتم فيها تعميد
الأطفال، كان فيودور ميخايلوفيتش مبهورًا بالأبواب البرونزية
لكنيسة باتيستيرو (وخاصة
delta del
Paradiso) (باب الفردوس) وهي من أعمال
الفنان الشهير
Ghiberti٩٠ وكثيرًا ما كان فيودور ميخايلوفيتش يتوقَّف عند
مروره بها ويتأمَّلها في إعجاب. وكان يقول لي إنه لو أصاب ثروة
كبيرة في يومٍ ما، فسوف يشتري صورة فوتوغرافية لهذه الأبواب،
إن أمكن، بحجمها الطبيعي وسوف يُعلقها في غرفته ليستمتع بالنظر
إليها.
أحيانًا ما كنَّا نذهب أنا وزوجي لزيارة
Palazzo Pitti، وكان يُعبر
لي عن إعجابه الشديد بلوحة رفاييل
Madonna
della Sedia وكذلك لوحته الأخرى
S. Giovan Battista nel
deserto (القديس يوحنا المعمدان في
الصحراء)، الموجودة في جاليري
Uiffizi، التي كان يقف
دائمًا طويلًا أمامها. وبعد أن يفرغ من مشاهدة قاعة الصور، كان
حتمًا يتوجَّه لمشاهدة تمثال
Venere de
Medici (فينوس ميديتشي) من أعمال النحات
اليوناني العظيم كليومين
Cleomene.
٩١ كان زوجي يعتبر هذا التمثال عملًا
عبقريًّا.
ولحُسن الحظ فقد وجدنا في فلورنسا مكتبة ممتازة وقاعة
للقراءة تتوفر فيها صحيفتان روسيتان. اعتاد زوجي أن يذهب إلى
هناك للقراءة بعد الغداء. وقد استعار منها مؤلَّفات كلٍّ من
فولتير وديدرو
٩٢ بالفرنسية، التي كان يُجيدها إجادة تامَّة،
ليقرأها في البيت طوال الشتاء.
حمل إلينا عام ١٨٦٩م نبأً سارًّا: لقد تأكد لنا أن الله قد
بارك زواجنا وأنه بات بإمكاننا أن نأمُل في أن يكون لنا طفل.
كانت سعادتنا غامرة، وراح زوجي العزيز يهتمُّ بي مثلما كان
يفعل إبَّان حملي الأول. وقد بلغ اهتمامه بي درجة كبيرة، حتى
إنه بعد أن فرغ من قراءة كل أجزاء رواية الكونت ليف تولستوي
«الحرب والسلام» التي أرسلَها إليه ستراخوف فور صدورها، أخفى
عني جزءًا من الرواية؛ حيث يجري وصف احتضار زوجة الأمير أندريه
بولكونسكي وهي تلد، لقد خشِيَ فيودور ميخايلوفيتش أن يكون
لمشهد الموت أثر قوي وقاسٍ عليَّ. وقد بحثتُ طويلًا عن الجزء
الضائع حتى إنني عاتبتُ زوجي لفقدِه كتابًا هامًّا. راح يختلق
الأعذار وأكَّد لي أنه سوف يجِده، ولكنه لم يفعل إلَّا بعد أن
تحقَّق لنا الحدث الموعود. وأثناء انتظارنا لمولِد الطفل، كتب
فيودور ميخايلوفيتش خطابًا إلى نيكولاي ستراخوف يقول فيه:
«أنتظر بقلقٍ بالغٍ وخوفٍ ورجاءٍ ووجل.»
٩٣ كلانا كان يحلم أن يأتي المولود صبية، وحيث إننا
أحببناها بولهٍ شديد في أحلامنا، فقد أسميناها لوبوف
٩٤ وهو اسم لم يكن يحمله أحد لا في عائلتي ولا في
عائلة زوجي.
أوصاني الطبيب بكثرة التنزُّه، فكنتُ أذهب يوميًّا بصحبة
فيودور ميخايلوفيتش إلى Giardino
Boboli (وهي حديقة تُحيط قصر بِيتي)، حيث
كانت الزهور تزدهِر على الرغم من أننا كنَّا في شهر يناير. هنا
كنَّا نستمتع بدفء الشمس ونحلم بسعادتنا القادمة.
في عام ١٨٦٩م ساءت أحوالنا المادية، كما حدث معنا مرارًا من
قبل، وأصبحنا في حاجةٍ ماسة إلى المال. كان فيودور ميخايلوفيتش
يتقاضى مائة وخمسين روبلًا مقابل الملزمة الواحدة، وهو ما يعني
حوالي سبعة آلاف روبل مقابل رواية «الأبله»؛ تسلَّمنا منها
ثلاثة آلاف روبل ذهبت لمصروفات زواجنا قبل سفرنا إلى الخارج.
واضطُررنا لدفع الأربعة آلاف الباقية نظير الفوائد على
منقولاتنا الموجودة في بطرسبورج، ناهيك عن المساعدات التي كانت
تذهب لربيب زوجي وعائلة أخيه المُتوفَّى، ومن ثَم فإن ما تبقى
لنا من المبلَغ كان ضئيلًا نسبيًّا. وقد تحمَّلنا رغم ذلك
فقرَنا النسبي دون خوف، بل تعامَلنا معه أحيانًا بشيءٍ من
اللامبالاة، حتى إن فيودور ميخايلوفيتش أطلق على نفسه اسم
السيد ميكوبرن وعليَّ السيدة ميكوبرن.
٩٥ لقد امتزجت روحانا، والآن، وبعد أن لاح الأمل في
سعادةٍ جديدة، كان من المُمكن أن تسير الأمور على خير ما يرام،
لكن ابتلاءً آخر كان يتهدَّدنا: فعلى مدى العامَين المنصرمَين
عاش فيودور ميخايلوفيتش معزولًا عن روسيا وأصبح يتعذَّب بهذه
العزلة. وفي خطابه إلى ابنة أُخته صوفيا ألكسندروفنا إيفانوفا (خميروفا)،
٩٦ المؤرَّخ الثامن من مارس ١٨٦٩م في معرض حديثه لها
عن روايته القادمة «الإلحاد»
٩٧ كتب يقول: «لا أستطيع كتابتها هنا؛ وحتى يتسنَّى
لي ذلك يجب أن أكون موجودًا في روسيا حتمًا، أرى وأسمع وأشارك
في الحياة الروسية مباشرة … أنا هنا لا أملك حتى القدرة على
الكتابة، لا أملك بين يدَيَّ المادة الضرورية للكتابة وأعني
بها الواقع الروسي (الذي يُمدني بالأفكار) والناس الروس.»
٩٨ ليس الروس فقط وإنما البشَر على وجه العموم، ليس
لنا صديق واحد هنا في فلورنسا يمكن أن نتبادل معه الحديث،
نُجادله، نُمازحه، نتبادل معه انطباعاتنا وكل من حولنا غرباء،
وأحيانًا ما نراهم يُكنون لنا الكراهية. وإنه لأمر شاقٌّ على
النفس أن يعيش المرء في عزلةٍ تامة عن الناس. أذكر أن فكرةً
خطرت برأسي أن الناس الذين يعيشون في هذه الوحدة المُطلقة
والاغتراب، يمكن أن يصِلوا في النهاية لكراهية بعضهم بعضًا، أو
يندمجوا معًا ما تبقى لهم من عمر. ولحسن حظنا أن الأمر الأخير
هو الذي تحقَّق بيني وبين زوجي، لقد أجبرتنا هذه العزلة
الإجبارية على أن ننصهر معًا قلبًا وقالبًا وجعلت كلًّا منَّا
يعتزُّ بالآخر اعتزازًا أكبر.
بعد تسعة أشهُر من إقامتي في إيطاليا تعلَّمت الحديث قليلًا
باللغة الإيطالية، أي بالقدْر الذي يُمكنني من الحديث مع
الخادمة أو في المحال، بل والاطلاع على صحيفتي
Piccola
وSecola وكنت أفهم ما يرِد
بهما. أما فيودور ميخايلوفيتش، المشغول دومًا بعمله، فلم
يتمكن، بطبيعة الحال، من التعلُّم، ومن ثم أصبحت أنا
مُترجمتَه. والآن، وقد اقترب الحدث العائلي المُنتظر، فقد كان
من الضروري أن ننتقل إلى بلدٍ يتحدثون فيه بالفرنسية أو
الألمانية، حيث يمكن لزوجي التفاهُم بحرية مع الطبيب والقابلة
وفي المحلَّات وهلمَّ جرًّا. رُحنا نتدارس أمر البلد الذي
سنسافر إليه والذي يمكن لفيودور ميخايلوفيتش أن يجد مجتمعًا
مثقفًا. أوحيتُ لزوجي بفكرة الإقامة في الشتاء في براج،
باعتبارها بلدًا مُتقاربًا مع روسيا. وهناك يستطيع أن يتعرَّف
على الشخصيات السياسية البارزة وأن ينفذ من خلالهم إلى الأوساط
الفنية والأدبية هناك. استحسن فيودور ميخايلوفيتش فكرتي، نظرًا
لأنه عبَّر أكثر من مرةٍ عن أسفه لعدم حضوره المؤتمر السلافي
الذي عقد هناك في عام ١٨٦٧م، مُبديًا تعاطُفه مع التقارب الذي
بدأ في روسيا مع الأوطان السلافية، مُعبرًا عن رغبته في
التعرُّف عن قُرب بها. وهكذا استقر أمرُنا على أن نُسافر إلى
براج وأن نقضيَ الشتاء كلَّه فيها. كان السفر في مِثل حالتي
الصحية أمرًا تكتنِفُه المصاعب، فقرَّرنا أن ننزل للراحة في
عددٍ من المدن في طريقنا إلى براج. فكانت فينيسيا، هي أول هذه
المدن، لكننا توقَّفنا عند انتقالنا من قطار إلى قطار في بولون
وذهبنا إلى متحفها لنُشاهد لوحة رفاييل «القديسة سيسيليا»،
التي كان فيودور ميخايلوفيتش يُقدِّرها تقديرًا رفيعًا، ولكنه
لم يكن رأى حتى ذلك الحين سوى مستنسَخ منها، والآن غمرته
السعادة بعد أن رأى اللوحة الأصلية. بمشقةٍ بالغة استطعتُ أن
أنتزع زوجي من تأمُّل هذا العمل الرائع، ولكنني كنتُ خائفة في
الوقت نفسه أن نفقد قطارنا.
نزلنا في فينيسيا بضعة أيام. كان فيودور ميخايلوفيتش في أوج
سعادته لرؤيته كنيسة القديس مرقص (Chiesa San
Marco) وراح يقضي ساعات طوال في تأمُّل
الفسيفساء التي تزين الحوائط. زُرنا معًا
Pallazzo Ducale (قصر
الدوق) وقد أُعجب زوجي بشدة بعمارته المُدهشة، كما أُعجب أيضًا
بالجمال الأخَّاذ لأسقف القصر، التي رسمها أفضل فناني القرن
الخامس عشر. يمكن القول إننا لم نبرح ميدان San
Marco طيلة أربعة أيام؛ فقد كان يترك في
نفوسنا، سواء بالليل أو النهار، انطباعًا باهرًا.
٧
واجهت السفينة التي انتقلنا عليها من فينيسيا إلى تريست
موجاتٍ عاصفة؛ وقد أحسَّ فيودور ميخايلوفيتش بالخوف من أجلي
ولم يبتعِد عني خطوةً واحدة، ولكن الأمور انتهت جميعها، لحُسن
الحظ، على نحوٍ جيد. توقفنا بعد ذلك لمدة يومَين في فيينا
ومنها سافرنا إلى براج لنصِلها بعد رحلةٍ استغرقت عشرة أيام.
واجهنا هنا إحباطًا كبيرًا ؛ فقد تبيَّن لنا أن الغرف المفروشة
في مثل هذه الأوقات هي غُرف مفردة فقط، وأن الغرف المفروشة
للعائلات غير مُتاحة إطلاقًا، وهي الغرف الأكثر هدوءًا وراحة.
وحتى نتمكن من البقاء في براج لم يكن أمامنا سوى أن نستأجِر
شقة وأن ندفع إيجارها لمدة ستة أشهر مُقدمًا؛ فضلًا عن شراء
الأثاث والأدوات المنزلية جميعها. لم يكن لدَينا من المال ما
يكفي لذلك، وبعد ثلاثة أيام من البحث اضطُررنا للأسف أن نترك
براج الذهبية، التي استطاعت أن تحوز إعجابنا الشديد. وهكذا
انهارت أحلام زوجي في أن يَعقد صِلاته مع نشطاء العالم
السلافي. لم يبقَ أمامنا إلَّا العودة والاستقرار في درزدن،
التي كنَّا على علمٍ تامٍّ بظروف الحياة فيها. وهكذا وصلنا في
مطلع أغسطس إلى درزدن حيث استأجرنا فيها ثلاث غرفٍ مفروشة في
الجزء الإنجليزي من المدينة
(Englischer
Viertel) في شارع
Victoriasraβe، رقم ٥، وفي
هذا البيت كان الحدث العائلي السعيد في اليوم الرابع عشر من
شهر سبتمبر من عام ١٨٦٩م ميلاد ابنتنا الثانية لوبوف،
٩٩ وقد وصلت أمي إلى هنا مرة أخرى في موعد
الوضع.
وها هو فيودور ميخايلوفيتش وقد بلغ ذروة السعادة يُبلغ
أبوللون مايكوف بهذا الحدث ويدعوه أن يكون الأب الروحي لابنته
بقوله: «ثلاثة أيام مرَّت على ميلاد ابنتي لوبوف. جرى كل شيءٍ
في سلام، طفلة جميلة مُمتلئة تنعم بالصحة.»
١٠٠ بالطبع، فإن عيون أبٍ مُتيَّم بالحب، مُفعم
بالسعادة هي وحدَها القادرة على أن ترى في كومةٍ من اللحم
بلَون الورد «فتاة حسناء».
بظهور هذا المولود إلى الدُّنيا أقبلت السعادة على أُسرتنا
من جديد. كان فيودور ميخايلوفيتش بالغ الحنان على ابنته،
يُلاعبها، يحميها بنفسه، يحملها على يدَيه، يُهدهدها ويرى أنه
إنسان سعيد للغاية، حتى إنه كتب إلى نيكولاي ستراخوف يقول: «وا
أسفاه عليك يا عزيزي نيكولاي نيكولايفيتش. لماذا لم تتزوَّج،
ولماذا لا يكون لك طفل. أُقسِم لك أن في هذا الأمر ثلاثة أرباع
السعادة في هذه الحياة، ولعلَّ في الربع الآخَر ما تبقى من أشياء.»
١٠١
وفي هذه المرة أيضًا كان أبوللون مايكوف هو الإشبين وقد
اختار فيودور ميخايلوفيتش أخته الحبيبة فيرا إيفانوفا
١٠٢ إشبينة لابنتنا. بينما كانت أُمي وكيلة. لم تتم
مراسم العماد إلا في شهر ديسمبر، ففي البداية كنتُ مريضة، كما
أن قسيس كنيسة درزدن كان قد سافر إلى بطرسبورج لقضاء بعض
الأمور.
في درزدن عثرنا على مكتبة عامة رائعة تضمُّ العديد من الكتب
والصحف باللُّغات الروسية والأجنبية. وفي درزدن أيضًا أصبح لنا
بعض المعارف من بين الروس المُقيمين فيها بصفةٍ دائمة، وهؤلاء
كانوا يذهبون بعد الغداء إلى أسرة القس المِضيافة. ومن بين
أصدقائنا الجُدد اكتشفْنا عددًا من الشخصيات المُثقَّفة شديدة
الذكاء، وكان زوجي يسعد بالحديث إليهم، وكان ذلك هو الجانب
المُشرق من الحياة في درزدن.
ما إن انتهى فيودور ميخايلوفيتش من قصة «الزوج الأبدي» حتى
أرسل بها إلى مجلة «زاريا»، حيث ظهرت في العددين الأوَّلين
منها في عام ١٨٧٠م. وتحمل هذه القصة ملامح من السيرة الذاتية،
وتعكس الفترة التي قضاها زوجي في ضاحية ليوبلينا بالقُرب من
موسكو عام ١٨٦٦م، حيث أقام في «داتشا» بالقُرب من «داتشا» أخته
فيرًا ميخايلوفنا إيفانوفا. ويُعد آل إيفانوف هم النموذج
الأصلي لآل زاخليبين في القصة. الأب المندمِج في عمله، الشباب
المرِح، وهم أبناء وبنات أُخته وأصدقاؤهم، فقد صوَّر م. س.
إيفانتشينا بيساريفا، صديقة العائلة، في شخصية ماريا
نيكيتشينا، كما صوَّر ربيبه، بافل إيسايف، في شخصية ألكسندر
لوبوف، بالطبع في صورة مثالية للغاية. وفي الوقت نفسه فإن
شخصية فيلتشانينوف تحمَّل بعضًا من سمات فيودور ميخايلوفيتش
نفسه. عندما يصف، على سبيل المثال، مُختلف أشكال الألعاب التي
اخترَعها عندما وصل إلى الداتشا. وعن هذه الأمسيات الصيفية
والعروض التي كانت تُقام في الداتشا في صُحبة شباب ذكي ومرح
يكتب ن. ن. فوخت، أحد المشاركين فيها، في مذكراته:
١٠٣
في شتاء عامي ١٨٦٩-١٨٧٠م، كان فيودور ميخايلوفيتش مشغولًا
بكتابة رواية جديدة أراد أن يُسمِّيها «سيرة خاطئ كبير» كان من
المُفترض، وفقًا لفكرة زوجي، أن يتكوَّن هذا العمل من خمس قصص
طويلة (تقع كل قصة منها في حوالي خمس عشرة ملزمة)؛ فضلًا عن أن
كلَّ قصة يمكن أن تُشكل عملًا مُستقلًّا، يُمكن نشرُه في
المجلة أو طبعه مُستقلًّا في كتاب. كان فيودور ميخايلوفيتش
عازمًا على طرح هذه القضية الهامَّة والمُلحة في القصص الخمس
كافة، والتي تَعذَّب بها طوال حياته، وهي تحديدًا قضية وجود الله.
١٠٤ كان من المُفترَض أن تدور الأحداث في القصة الأولى
في فترة الأربعينيات من القرن الماضي التاسع عشر (المترجم)،
وكانت المادة الخاصَّة بالعمل ونماذج تلك الفترة معروفة وشديدة
الوضوح بالنسبة لفيودور ميخايلوفيتش، حتى إنه كان باستطاعته
كتابة القصة وهو مُقيم بالخارج. كان زوجي يرغَب في نشر هذه
القصة في مجلة «زاريا». أما بالنسبة للقصة الثانية، والتي تجري
أحداثها في كنيسة، فكان لزامًا على فيودور ميخايلوفيتش أن يعود
إلى روسيا لكتابتها. كان زوجي عازمًا أن يجعل من الأسقف تيخون
زادونسكي بطلًا رئيسيًّا للقصة الثانية،
١٠٥ بالطبع تحت اسم آخَر. كان فيودور ميخايلوفيتش
يُعول آمالًا كبارًا على القصة التي هو بصدد كتابتها، وكان يرى
فيها ختامًا لنشاطه الأدبي. وقد تحقَّقت نبوءته بالفعل،
فالعديد من الأبطال الذين أبدعهم لروايته دخلوا فيما بعدُ في
رواية «الإخوة كارامازوف»، وذلك عندما لم ينجح زوجي أن يُحقق عزمَه؛
١٠٦ إذ جذبه موضوع آخر، وهو الموضوع الذي كتب بشأنه
إلى نيكولاي ستراخوف قائلًا: «أعمل بقوة في الموضوع الذي أنا
بصدد كتابته لنشره في «البشير الروسي»، ولكن لا من الناحية
الفنية، وإنما من ناحية التوجُّه: أود أن أُعبر عن بعض
الأفكار، حتى ولو ضاعت في ذلك مهارتي الفنية، ما يَجذبني الآن
هو ما تراكم في عقلي وفي قلبي حتى ولو خرجَت جميعها في كُتَيب،
المُهم أن أُفصح عمَّا يجيش في صدري.»
١٠٧
كانت هذه رواية «الشياطين» التي ظهرت في عام ١٨٧١م.
١٠٨ وقد كان لوصول أخي أثره على ظهور هذا الموضوع الجديد.
١٠٩ المسألة أن فيودور ميخايلوفيتش، الذي كان يقرأ
شتَّى الصحف الأجنبية (وكانت تنشر الكثير مما لا يظهر في الصحف
الروسية)، وصل إلى استنتاجٍ مفادُه أن أكاديمية بتروفسكي
للعلوم الزراعية سوف تظهر فيها خلال وقت قصير اضطرابات سياسية.
١١٠ وخوفًا من أن يشارك فيها أخي، نظرًا لصغر سنِّه،
وقلة خبرته، أقنع زوجي أُمي بأن تستدعيه لقضاء بعض الوقت في
ضيافتنا في درزدن. كان فيودور ميخايلوفيتش يضع في حسبانه أن
مجيء أخي سوف يبعث بالاطمئنان في نفسي، وقد بدأتُ بالفعل أعاني
مشاعر الحنين إلى الوطن، وكذلك أُمي، التي قضت حتى الآن عامَين
في الخارج (تارة مع أبناء أختي، وتارة معنا هنا)، وكانت في
أشدِّ الشوق إلى ابنها. كان أخي يحلم دائمًا بالسفر إلى
الخارج؛ وقد انتهز فرصة الإجازات وسافر إلينا. أبدى فيودور
ميخايلوفيتش تعاطفًا كبيرًا تجاه أخي، وكان مُهتمًّا بالمواد
التي يدرسها وبأصدقائه وبالوسط والمزاج الطلابي بوجهٍ عام. وقد
قصَّ أخي عليه تفصيلًا وبحماسٍ بالغٍ عن هذا الأمر. وهنا ظهرت
لدى فيودور ميخايلوفيتش فكرة أن يصوِّر في واحدة من قصصه
الحركة السياسية في ذلك الوقت، واتَّخذ من الطالب إيفانوف
(الذي أسماه شاتوف في القصة) واحدًا من أبطاله الأساسيين،
والذي قتل فيما بعد على يد نيتشايف.
١١١ تحدَّث أخي عن الطالب إيفانوف باعتباره طالبًا
ذكيًّا وإنسانًا صاحب شخصية قوية بارزة. تخلَّى عن قناعاته
القديمة بشكلٍ جذري. وكم كانت صدمتُه شديدة، عندما عرف من
الصحف نبأ مصرع إيفانوف، وكان أخي يكنُّ له مشاعر ودِّية
عميقة! وقد وصف فيودور ميخايلوفيتش حديقة أكاديمية بتروفسكي
وجبلايتها، حيث قتل إيفانوف، حرفيًّا من كلمات أخي.
١١٢
أضيف هنا أن وصول أخي إلى درزدن كان حدثًا مهمًّا في حياته؛
فقد التقى بين أعضاء الجالية الروسية فتاةً أصبحت زوجته بعد
عام. وعلى الرغم من أن مادة الرواية الجديدة مُستقاة من
الواقع، فإن زوجي عانى صعوبةً كبيرة في كتابتها. وكالمعتاد لم
يكن فيودور ميخايلوفيتش راضيًا عن عمله، فقد أعاد كتابتها عدة
مراتٍ مزَّق خلالها خمس عشرة ملزمة.
١١٣ فالرواية الموجهة كانت، بداهة، لا تتَّفق ومزاجه
الإبداعي.
ونظرًا لنموِّ ابنتنا ليوباتشكا وعدم حاجتي لمُلازمتها طوال
الوقت، فقد سنحت لي الفرصة أن نطوف أنا وفيودور ميخايلوفيتش في
قاعات معرض الصور، وأن نذهب إلى حفلات الموسيقى الرخيصة في
شارع بريولوف وأن نواصِل نزهاتنا. وفي إحدى هذه النزهات وقع
لنا حادث يرسُم شخصية زوجي آنذاك. وقد حدث الأمر على النحو
التالي: في شتاء عام ١٨٧٠م أقيم أوكازيون لبيع مفروشات
ومتعلقات إحدى الدوقات الألمان. كانوا يعرضون قطعًا من الماس
وفساتين وبياضات وفِراء وما إلى ذلك، وكانت قاعة الفندق مكتظةً
بالجمهور. وفي أحد آخِر أيام الأوكازيون كنَّا نمرُّ بالقرب من
بيتها فاقترحتُ على زوجي أن ندخل لنُلقي نظرة، حيث إن البيع
عند الألمان يتم علنًا. وقد وافق فيودور ميخايلوفيتش، وعلى
الفور صعدنا إلى القاعة. كانت الأشياء المُتبقية قليلة، وكان
أغلبها من المعروضات الفاخرة، التي لا تجِد لها هواةً كثيرين
بين الألمان المقتصِدين. وفجأة انتبه فيودور ميخايلوفيتش إلى
قطع من البللور البوهيمي من طراز رائع بلون الكرز الداكن ذات
نقوش مُذهَّبة. كان عددُها ثماني عشرة قطعة: مزهريتين كبيرتين،
واثنتين متوسطتين، وستًّا أصغر، وأربع مزهريات للمربَّى وأربعة
أطباق، عليها جميعًا نفس الرسوم. راح فيودور ميخايلوفيتش، هاوي
القطع الفنية الرفيعة، يتأمَّل المزهريات وهو يقول «كم أودُّ
لو اقتنينا هذه المزهريات الرائعة. هل تُريدين أن نشتريها يا
آنيتشكا؟» ابتسمتُ، ومع عِلمي بأن لدَينا بعض النقود في هذه
اللحظة، ولكنها لم تكن لتكفي لشراء هذه الأشياء. إلى جوارنا
وقفت امرأة فرنسية كانت مُعجبة بشدة بهذه الأواني البللورية؛
كانت تتحدَّث إلى رفيقها معبرةً عن أسفها قائلة إنَّ هناك
الكثير من الأشياء وكانت تودُّ لو أنها اشترت جزءًا منها.
استمع فيودور ميخايلوفيتش لِما قالته فتوجَّه لها قائلًا:
«مدام، هل نشتري هذه الأشياء مناصفة؟» لم تمُر خمس دقائق إلا
وقد عُرضت الأشياء أمام الجمهور بسعر ثمانية عشر طالرًا، كل
قطعة منها بطالر واحد. حتى الألمان الحريصون أظهروا رغبتَهم في
الشراء عندما وجدوا أن هذه المجموعة الكبيرة تُباع بمثل هذا
السعر المُنخفض، فراحوا يزايدون بمعدل Fünf
Groschen (خمسة جروشات). فيودور
ميخايلوفيتش وحده الذي كان يزايد في كل مرة بمعدل طالر. كان
حماسُه يزداد دقيقة بعدَ الأخرى، وكنت أرى أن السعر يرتفع
بشدَّة فأخذتُ أفكر: ماذا لو أن الفرنسية تراجعَت عن الشراء،
هل ستكون كل هذه الأشياء من نصيبنا؟ عندما وصل السعر إلى واحدٍ
وأربعين طالر، أوقف مدير المزاد المُزايدة خوفًا من انصراف
المُشترين، وأصبحت الأشياء ملكًا خالصًا لنا. لم تتراجَعِ
الفرنسية عن الشراء فتقاسمنا الأشياء بالعدل. والآن أصبح علينا
أن ننقل مشترواتنا إلى البيت. انتظر فيودور ميخايلوفيتش إلى
جانب الأشياء، بينما حملنا أنا واثنان من الحمَّالين مزهرية في
كل يدٍ وتوجَّهنا إلى البيت، كان على الحمَّالَين أن يعودا
مرتَين لحمل الأشياء. يمكن أن تتخيل دهشة أُمي عندما رأت هذه
المجموعة من المزهريات في غرفة زوجي. وكان أن سارعت بالسؤال:
«وكيف ستحمِلون كل هذه الأشياء إلى روسيا؟ ليست لديكم صناديق
وإنما حقائب فقط، وهذه الأشياء مُعرضة جميعها لأن تتحطَّم في
الطريق.» لم يخطر ببال أحدِنا مطلقًا هذا الأمر، وحتى لو حدث
لما تراجَع فيودور ميخايلوفيتش على أية حالٍ عن الشراء بعد أن
تملَّكه هوس امتلاك هذه الأشياء. ومع ذلك فقد سارت الأمور على
ما يُرام: كان كثيرٌ من الروس يُسافرون أحيانًا من درزدن إلى
بطرسبورج، فكنتُ أطلب من معارفي بينهم أن يَحملوا مزهريةً
لتوصيلها إلى أختي. ما تزال هذه الأشياء سليمةً حتى الآن
وتُشكل بعضًا من ثروتنا العائلية.
وكما ذكرتُ من قبل، فقد كنَّا نذهب أنا وزوجي لزيارة القس
نيكولاي فيودورفيتش روزانوف،
١١٤ الذي لم يكن زوجي يُقدره على نحو خاص؛ إذ كان يرى
أن حماسه المُتعجل وما يُميز شخصيته من الرعونة في إصدار
الأحكام والآراء يجعله لا يُمثل نموذجًا لخادم المذبح على
النحو الذي يراه فيودور ميخايلوفيتش. كانت لدَيه زوجة مِضيافة،
وكان لديهما أطفال لطفاء، كانوا يضفون البهجة على بيتهما، وكان
من بين السيدات الروسيات اللائي كن يعشن في تلك السنوات في
درزدن، عدد من المُعجبات المتحمِّسات لموهبة زوجي: هؤلاء كن
يُقدِّمنَ له الزهور والكتب، والأهم أنهنَّ كنَّ يُدللنَ
ابنتنا لوباتشكا باللُّعَب، فضلًا عن أنهنَّ استرعينَ انتباه
فيودور ميخايلوفيتش.
في نهاية شهر أكتوبر ١٨٧٠م اجتمعت الجالية الروسية في درزدن
في بيت القس، وتم اتخاذ مبادرة لإرسال خطاب إلى القنصل الروسي
آنذاك ردًّا على رسالته العاجلة المؤرَّخة ١٩ أكتوبر
والموجَّهة إلى مُمثلي روسيا هنا.
١١٥ وعلى الفور راح الجميع يطلُب من فيودور
ميخايلوفيتش أن يكتب ردًّا على هذا الخطاب، وعلى الرغم من أنه
كان مشغولًا للغاية في هذا الوقت بعملٍ عاجل، إلا أنه وافق
وقام بكتابة الخطاب على النحو التالي: «علِمنا نحن الروس
المُقيمين مؤقتًا في الخارج، في درزدن، ببالِغ الفرح والامتنان
بما خلصت إليه إرادتكم السامية، التي عبَّرتُم عنها في رسالتكم
المؤرَّخة ١٩ أكتوبر، والتي وجَّهتموها إلى كل مُمثلي روسيا
المُقيمين في الدول الموقِّعة على معاهدة باريس. وإننا لفي
غاية السعادة ونحن نُعبر لسيادتكم من مَوقعنا هذا، وقد اجتمعنا
معًا بصورةٍ أخوية أن نُعلن بالإجماع عن مشاعِرنا الطيبة، وهي
المشاعر التي تُراود كلَّ فردٍ فينا بعد أن قرأ رسالتكم. لقد
شعرنا عند ذلك كما لو كنَّا نستمِع لصوت روسيا العظيمة
والمجيدة بأسرها. إن كلَّ واحدٍ فينا فخور بأن يحمل اسم روسيا
وهو يقرأ هذه الكلمات المُفعمة بالحقيقة والتقدير
الرفيع.
ندعو الله أن يهب وطنَنا المحبوب السعادة ونرجوه أن يحفظَه
دائمًا من كلِّ سوء. ونتضرَّع إليه أن يحفظ مليكنا المُحرر
المحبوب عمرًا طويلًا، وأن يكون خدَمُه من الشجعان مِن
أمثالكم.»
وقد امتلأ هذا الخطاب بالعديد من التوقيعات (بلغت ما يزيد
على المائة) وأرسلت إلى القنصل.
على الرغم من أنني عانيتُ من الحنين إلى روسيا طوال السنوات
الثلاث الأولى من وجودي في الخارج، فإنني عايشتُ انطباعاتٍ
جديدة منها الحَسَن ومنها الرديء؛ الأمر الذي جعل هذا الإحساس
يتبدَّد. ولكنَّني في العام الرابع لم أعُد أتحمَّل مقاومتَه،
وعلى الرغم من وجود أحبَّاء وأعزاء بالقُرب منِّي: زوجي
وطفلتي، أُمي وأخي، لكنَّ شيئًا مُهمًّا بِتُّ أفتقِده، كنت
أفتقد الوطن، روسيا، شيئًا فشيئًا راح حنيني يزداد ليصِل إلى
درجة المرض وليتحوَّل إلى نوستالجيا، وتصوَّرتُ المستقبل أمامي
بلا أملٍ تمامًا. اعتقدتُ أننا لن نرجِع مُطلقًا إلى روسيا،
وأن عقباتٍ كَأْداء ما، ستظل واقفة في طريقنا تمنعنا من
العودة: تارة لا نقود لدَينا، وتارة لدَينا ولكنَّني لا أستطيع
العودة بسبب حملي أو خشيةً على مولودي من أن يُصاب بالمرض
وهلمَّ جرًّا. تصورتُ أن الخارج ليس سوى سجنٍ دُفعتُ إليه
وأنني لن أتمكَّن من الخلاص منه إلى الأبد. ورغم مواساة أقاربي
لي، فإنهم لم ينجحوا في إغرائي بالأمل في أنَّ الأحوال
ستتغيَّر وأننا سنعود للوطن، كانت كل هذه المواساة تذهب أدراج
الرياح: كنتُ قد فقدتُ الثقة في هذه الوعود وأصبحتُ على
اقتناعٍ تامٍّ أن قَدَري هو أنْ أظلَّ في الغربة إلى الأبد،
ولعِلمي التامِّ أن حنيني كان سببًا في عذاب زوجي، الذي كان هو
نفسه يُعاني من الحياة بعيدًا عن الوطن على نحوٍ لا يُوصَف،
كنتُ أحاول التماسُك في وجوده فلا أبكي أو أجأر بالشكوى، لكنَّ
مظهري الحزين كان يشي دائمًا بما أُكِنُّه. كنتُ أقول لنفسي
إنني على أتمِّ استعدادٍ لتقبُّل كافة أنواع المصائب وتحمُّل
الفقر بل وحتى العوز، على أن أعيش فقط في وطني الغالي، الذي
أفتخر به دائمًا. عندما أتذكَّر حالتي النفسية آنذاك أقول إنها
كانت حالة صعبة لا تُحتمَل، وإنني لم أكن لأتمنَّاها حتى
لِأشدِّ أعدائي ضراوة.
في نهاية عام ١٨٧٠م اتضح لنا أمرٌ من الأمور استطعْنا بفضلِه
أن نتمكن من الحصول على مبلغٍ كبير من المال. المسألة تحديدًا
أن ستيلوفسكي الذي اشترى من فيودور ميخايلوفيتش حق نشْر أعماله
الكاملة عام ١٨٦٥م، قام بإصدار طبعةٍ مستقلة من رواية «الجريمة
والعقاب»، وبموجَب هذا الاتفاق كان ستيلوفسكي مُلزمًا بدفع ما
يزيد عن ألف روبل لزوجي. ها هي الرواية قد خرجت للنور والناشر
لا يُريد أن يدفع شيئًا، على الرغم من أن ربيب زوجي أعلن أنه
يملك توكيلًا باستلام المبلغ. ولمَّا كان فيودور ميخايلوفيتش
لا يثق في خبرة ربيبه، فقد طلب من أبوللون مايكوف أن يأخذ على
عاتقه مسئولية الحصول على هذه الأموال، لا بصفته الشخصية،
وإنما أن يقوم بتوكيل الأمر إلى محامٍ ذي خبرة أهلٍ للثقة.
١١٦ أتذكَّر بامتنانٍ عميقٍ أبوللون مايكوف، لِما تمتع
به من طيبةٍ كبيرة وسموٍّ في الأخلاق تجلَّيا في علاقته بنا
على مدى السنوات الأربع التي عشناها في الخارج. وقد بذل
أبوللون نيكولايفيتش (مايكوف) أقصى ما في وسعه في قضيتنا هذه،
ولم يكتفِ بأن يعهد بها إلى محامٍ واسع الخبرة وإنما سعى لأن
يتفاوض مع ستيلوفسكي. لكن هذا الناشر كان معروفًا بالدهاء
والاحتيال، ومن ثَم خشي أبوللون مايكوف أن يخدَعَه فقرَّر أن
يستدعي فيودور ميخايلوفيتش ليحضر بنفسه إلى بطرسبورج، ولعِلمه
أننا نُعاني دائمًا من قلَّة المال فقد أرسل لنا برقية نصح
فيها زوجي أن يتقدَّم بطلبٍ إلى الصندوق الأدبي لإقراضه مبلغًا
في حدود مائة روبل
١١٧ يمكن بواسطتها أن يسافر إلى بطرسبورج وحدَه دون أن
يصطحب العائلة. ولسوء الحظ وصلتْنا البرقية في اليوم الأول من
أبريل (وهو اليوم الذي اعتاد الناس فيه في روسيا على إطلاق
الأكاذيب)، وفي البداية تصوَّرنا أنا وزوجي هذه الدعوة للسفر
إلى بطرسبورج دعابةً أو مكيدة من أحد الدائنين، لعلَّه
ستيلوفسكي نفسه يرغب في دعوة فيودور ميخايلوفيتش للحضور إلى
بطرسبورج حيث يُهدِّده بالسجن في قسم الديون، حيث يجعلنا
نتنازل عن الكمبيالات التافهة التي لدَينا مقابل مُستحقاتنا في
«الجريمة والعقاب». أما أبوللون مايكوف الطيب فلم يكتفِ بإرسال
البرقية، وإنما راح يلتمِس رأي لجنة الصندوق الأدبي بشأن إرسال
قرضٍ قيمته مائة روبل إلى الكاتب دستويفسكي، لكن الصندوق تعامل
في هذه المرة أيضًا
١١٨ مع هذا الطلَب بصلَفٍ وعدوانية، وهو ما ذكره
أبوللون مايكوف في خطابه المؤرَّخ الحادي والعشرين من أبريل ١٨٧١م.
١١٩
كان فيودور ميخايلوفيتش يشعر بالاستياء الشديد بعد أن تلقَّى
هذا الخطاب وكتب في ردِّه عليه يقول …
١٢٠ [«لعلكم ترون، على أية حال، كيف يتعامل الصندوق
بصلف تجاه طلبي (أي تجاه الطلب المُقدَّم إليكم بشأني) بشأن
القرض، والضمانات التي طلبتموها وما إلى ذلك، وبأي لهجةٍ
مُتعالية كان ردُّكم. لو أن أحد العدمِيِّين هو من تقدم إليكم
بهذا الطلب، ما كانت إجابتكم على هذا النحو»].
١٢١
زمن مضى، وها نحن في أبريل من عام ١٨٧١م وقد أتممنا أربع
سنوات في الخارج، وها هو الأمل في عودتنا إلى روسيا يتجدَّد
تارة، ويختفي تارة أخرى. وأخيرًا قررنا أنا وزوجي بكل حزمٍ
أنَّ عودتنا إلى بطرسبورج أمر حتمي مهما كانت عواقب هذه
العودة. لكن حساباتنا كلها كانت مُعلقة بشعرة: كنا نتوقع مجيء
ضيفٍ جديد في شهر يوليو أو مطلع شهر أغسطس ليُضاف إلى أُسرتنا.
فإذا لم نتمكَّن، قبل شهرٍ من الحدث المُنتظر، من العودة إلى
روسيا لأصبح من المُحتَّم علينا أن نبقى في الخارج عامًا آخر
بأكمله، أي حتى حلول الربيع؛ إذ إن الرحيل في نهاية الخريف
بصحبة مولود أمر مُستحيل. وعندما افترضنا أنه لن يكون
باستطاعتنا أن نرى روسيا لمدة عام آخر، وقعْنا في حبائل اليأس:
لقد أصبحَت حياتنا في الغربة أمرًا لا يُحتمَل. وكثيرًا ما كان
فيودور ميخايلوفيتش يُردِّد على مسامعي أنه إن ظلَّ في الخارج
فإنه «سيحتضر» وأنه لن يكون بمقدوره الكتابة بعد ذلك، إنه هنا
لا يملك مادة للكتابة، وهو يشعر أنه لم يعُد يفهم أو يتذكَّر
روسيا والروس؛ إذ إن الروس في درزدن من معارفنا هم ليسوا، في
رأيه، روسًا، وإنما هم مُهاجرون جاءوا إلى هنا بمحض اختيارهم،
وهم لا يُحبون روسيا وقد تخلَّوا عنها إلى الأبد. وقد كانت هذه
هي الحقيقة الساطعة: فهؤلاء جميعًا كانوا ينحدرون من عائلاتٍ
أرستقراطية، ولم يكن باستطاعتها التصالُح مع إلغاء قوانين
الرقِّ ولا قبول المجتمع بعد أن تغيَّرت ظروفه. هؤلاء لفظوا
الوطن لكي يستمتعوا بحضارة أوروبًا الغربية. هؤلاء كانوا في
غالبهم كارهين للنظم الجديدة، أناس اهتزَّت رفاهيتهم فباتوا
يشعرون أنَّ من الأسهل عليهم أن يعيشوا في الغربة.
كان فيودور ميخايلوفيتش يتحدَّث كثيرًا عن «احتضار» موهبته
المؤكد، وكيف أنه يتعذَّب بفكرة كيف سيتمكن من إطعام عائلته
الغالية عليه والتي يزداد عددُها يومًا بعد الآخر، الأمر الذي
كان يدفعني أحيانًا إلى اليأس وأنا أستمِع إليه. وحتى أُهدئ من
روعه وأبعد عنه أفكاره السوداء والتي تعوقه عن التركيز في
عمله، لجأتُ إلى تلك الوسيلة التي كانت تُذهب عنه الحزن
وتُسرِّي عنه، فانتهزتُ فرصة امتلاكنا لبعض المال (ثلاثمائة
طالر) وانحرفتُ بحديثنا معًا بطريقةٍ ما نحو الروليت، ولماذا
لا يُجرب حظه مرةً أخرى وأنه قد آن الأوان ليفوز، ولِمَ لا
يكون لديه شيء من الأمل في أنَّ الحظ سيكون حليفَه هذه المرة،
وهلم جرًّا. لم أكن أُعوِّل على الفوز وكنتُ آسفةً بشدة على
التضحية بمائة طالر، لكنَّني، استنادًا إلى خبرة الأسفار
السابقة إلى الروليت، كنتُ أعلم أنه بعد أن يُعاني مشاعر عاصفة
ويُرضي حاجته للمخاطرة في اللعب، ويقتنع بخيبة أمله في الربح،
يعود وقد تجدَّدت قواه لكتابة روايته، وسرعان ما يعوِّض خلال
أسبوعين أو ثلاثة ما خسِره. جاءت فكرتي عن الروليت على هوى
زوجي تمامًا فلم يرفضها. سافر فيودور ميخايلوفيتش إلى فيسبادن،
حيث قضى هناك أسبوعًا، ومعه مائة وعشرون طالرًا بعد أن اشترط
عليَّ أن أُرسل إليه نفقات العودة في حالة خسارته. وكما
توقَّعتُ كانت نتيجة اللعب محزنة للغاية، وقد كلَّفتْنا هذه
الرحلة مائة وثمانين طالرًا، وهو مبلغ كبير بالنسبة لنا آنذاك.
لكن تلك العذابات القاسية التي عاناها فيودور ميخايلوفيتش في
هذا الأسبوع، عندما راح يلوم نفسه على أنه اقتطع مالًا يخصُّ
أُسرته ويخصُّني ويخصُّ الطفل، كان لها أثر بالِغ عليه، حتى
إنه قرَّر ألَّا يذهب مُطلقًا بعد ذلك للعب القمار. إليكم ما
كتبَه زوجي لي في خطابه المؤرَّخ الثامن والعشرين من أبريل
١٨٧١م: «لقد وقع لي أمر جلل، لقد اختفى الوهم الفظيع، الذي
عذَّبني طيلة عشر سنوات (أو، الأفضل أن أقول، منذ وفاة أخي،
عندما وقعتُ فجأةً تحت وطأة الديون)، كنت أحلم دائمًا بالكسب؛
أحلم بولعٍ وجدية. الآن انتهى كل شيء! كانت هذه هي المرة
الأخيرة. هل تُصدِّقين يا آنيا أن يديَّ الآن طليقتان، لقد كنت
أسيرًا للقمار. سوف أبدأ الآن في التفكير في عملي، ولن أحلم
بعد ذلك لياليَ بطولِها بالقمار، كما كان يحدث لي من قبل.»
١٢٢
لم يكن بمقدوري، بطبيعة الحال، أن أُصدق أن أعيش سعادةً كبرى
مثل أن يخمد أوار فيودور ميخايلوفيتش تجاه المُقامرة. فلطالما
وعدَني بالابتعاد عن اللعب، ولم يكن باستطاعته أن يَفي بوعده.
لكن هذه السعادة تحقَّقت. وكانت هذه، في واقع الأمر، هي المرة
الأخيرة التي يلعب فيها الروليت. وفي رحلاته التالية إلى
الخارج (١٨٧٤م، ١٨٧٥م، ١٨٧٦م، ١٨٧٩م) لم يفكر فيودور
ميخايلوفيتش في الذهاب ولو مرة واحدة إلى مدينة القمار.
والحقيقة أنه سرعان ما أغلقت صالات القمار في ألمانيا، وإن
ظلَّت مفتوحةً في سبا وساكسون وفي مونت كارلو. لم تكن المسافة
لتقِف حائلًا أمام زوجي للذهاب إلى أيٍّ منها، لكنه كان قد فقد
الرغبة تمامًا في اللعب. لقد بدا أن هذا «الوهم» الذي عايش
فيودور ميخايلوفيتش في أن يربح في القمار ليس سوى وسواسٍ أو
داءٍ عضال شُفي منه فجأة.
عاد فيودور ميخايلوفيتش من فيسبادن هادئًا مفعمًا بالحيوية
والنشاط، وسرعان ما انكبَّ على مواصلة العمل في رواية
«الشياطين»، إذ كان يتوقَّع أن السفر إلى روسيا وتدبير مكانٍ
جديد للسكنى، ثم انتظار الحدث العائلي، أمور لن تُمكنه من
العمل الدءوب. كانت أفكار زوجي كلها موجهة إلى الجانب الجديد
من الحياة، التي راحت تتكشف أمامنا، ومن ثم راح يَحزر أنه سوف
يلتقي بشكلٍ ما بأقاربه وأصدقائه القُدامى، وكيف أنهم لا بد
وأن يكونوا، في رأيه، قد تغيَّروا تمامًا على مدى السنوات
الأربع التي مرَّت، وكان يُدرك أن التغيير قد أصاب آراءه
ونظرياته هو نفسه.
وفي الأيام الأخيرة من شهر يونيو من عام ١٨٧١م تلقَّينا من
هيئة تحرير «البشير الروسي» مُستحقاتنا من أموال أتعاب
الرواية، ودون أن نُضيع يومًا واحدًا، بدأنا في تدبير إنهاء
أمورنا في درزدن (إن شئنا الدقة، فك متاعنا المرهون وسداد
ديوننا) وحزم حقائبنا. وقُبيل سفرنا بيومَين دعاني فيودور
ميخايلوفيتش إلى غرفة مكتبه وسلَّمني عددًا من الرزَم الورقية
السميكة المليئة بالكتابة، وكلها من القطع الكبير وطلب منِّي
أن أحرقها. وعلى الرغم من أننا كنَّا قد تحدَّثنا معًا في هذا
الأمر، لكنني أصبحتُ أشعر بالأسف على ضياع هذه المخطوطات،
الأمر الذي دفعَني لأن أبدأ في التوسُّل إلى زوجي أن يسمح لي
بأن آخُذها معي. لكن فيودور ميخايلوفيتش ذكَّرني بأنهم سوف
يفتِّشونه دون أدني شكٍّ عند الحدود الروسية وسوف يُصادرون كل
ما معه من أوراق، وسوف تضيع هذه الأوراق كما ضاعت قبلها أوراقه
عند اعتقاله في عام ١٨٤٩م. كما كان من المُحتمَل أن يتم
احتجازنا في فيرجيبولوفو
١٢٣ حتى يُراجعوا الأوراق، وهو ما يُشكل خطرًا على
الحدث العائلي المُنتظر. كم كنتُ شديدة الأسف أن أفترق عن هذه
المخطوطات، لكنِّي اضطُررتُ أن أخضع لحجج فيودور ميخايلوفيتش
اللحوحة. أضرمنا النار في المدفأة وأحرقنا الأوراق. وهكذا هلكت
مخطوطات روايتَي «الأبله» و«الزوج الأبدي». وقد أسفتُ، على وجه
الخصوص، لفقدان هذا الجزء من رواية «الشياطين»، الذي كان يُمثل
الشكل الأصلي لهذا العمل ذي التوجُّه المُحدد. وقد نجحت فقط في
الحفاظ على دفاتر الملاحظات الخاصة بالروايتَين المذكورتَين
وأن أعطيها لأمي،
١٢٤ التي كان من المُفترَض أن تعود إلى روسيا مع نهاية
الخريف. لم توافق أُمي على حمل حقيبةٍ مليئة بأكملها
بالمخطوطات؛ فهذه الكمية الكبيرة كان من المُمكن أن تُثير
الشكوك، ولتَمَّتْ مصادرة الأوراق منها.
وأخيرًا نجحنا في الخامس من يوليو أن نُغادر درزدن إلى برلين
حيث استقللْنا القطار المُتجه إلى روسيا.
تعرَّضنا للكثير من الاضطراب في رحلتنا بسبب كثرة الحركة
والميل للعب من جانب لوباتشكا، التي بلغت من العمر تسعة أشهر.
كنَّا مُسافرين دون أن نصطحب مُربية، ونظرًا لحالتي الصحية،
فقد أخذ زوجي على عاتقه مهمة المُربية طوال الطريق؛ كان يأخذها
للتجوُّل على أرصفة المحطات ويُحضر لها اللبن والطعام،
يُسلِّيها بالألعاب، باختصار، كان يتصرَّف مثل مُربية خبيرة،
وهو ما سهَّل عليَّ هذه الرحلة الطويلة.
وقد حدث ما توقَّعناه: قلبوا حقائبنا وأمتعتنا رأسًا على
عقب، أما أوراقنا وكُتبنا فقد وضعوها جانبًا.
أُخرِجَ الجميع من صالة التفتيش وبقِينا ثلاثتنا، إلى جانب
عددٍ قليل من الموظفين الذين تجمَّعوا بالقُرب من الطاولة. حيث
راحوا يفحصون الكُتب التي وقع اختيارهم عليها وكذلك الرزمة
الصغيرة من المخطوطات. أصابنا القلق خوفًا من أن يفوتنا القطار
المُتجه إلى بطرسبورج، وإذا بصغيرتنا لوباتشكا تُنقذنا من هذه
الورطة. لقد اشتدَّ عليها الجوع فراحت تصيح بصوتٍ مرتفع «ماما،
أريد فطيرة»، حتى إنَّ الموظفين سرعان ما أصابهم الملل من جراء
صياحها فقرَّروا أن يُخلوا سبيلنا في سلامٍ بعد أن أعادوا لنا
الكتب والمخطوطات دون ملاحظات.
كان علينا أن نُعاني أسبوعًا آخر في عربة القطار، لكن
إحساسنا بأننا نسير على أرض روسية، وأن جميع من حولنا هم من
أهلنا الروس كان يبعث في نفوسنا الهدوء، مما جعلنا ننسى كل
متاعب الطريق. كنتُ وزوجي سعيدَين، مرحَين نسأل بعضنا بعضًا:
هل نحن حقًّا أخيرًا في روسيا؟ كنَّا في حالة من الدهشة ونحن
نرى حلمنا القديم وهو يتحقَّق.
٨
١٨٧١م، نهاية فترة حياتنا في الخارج
أقول، وقد انتهت فترة حياتنا في الخارج، إنني أتذكَّرها
بامتنانٍ عميق للقدر. صحيح أننا عانينا، على مدى ما يزيد عن
أربع سنوات، مصائب ثقيلة: موت ابنتنا الكبرى، مرض فيودور
ميخايلوفيتش، افتقارنا الدائم للمال وحاجتنا للعمل، ولع فيودور
ميخايلوفيتش البائس بلعبة الروليت وعجزنا عن العودة إلى الوطن.
لكن هذه المصائب جميعها كان لها جانبها الخيِّر؛ فقد قاربت
بيننا وجعلتنا نفهم ونُقَدِّر بعضنا بعضًا، وخلقت تلك المودة
المتبادلة المتينة، التي لولاها لَما كنَّا سعداء على هذا
النحو في زواجنا.
إن استعادة ذكريات هذه السنوات تُمثل بالنسبة لي شخصيًّا
لوحة صافية بديعة. لقد عشنا وزرنا العديد من المدن والأماكن
الرائعة (درزدن، بادن-بادن، جينيف، ميلانو، فلورنسا، فينيسيا،
براج)، وقد تفتح أمام عينَّي المَبهورتَين عالَم بأكمله لم أرَ
مثيلًا له حتى الآن، عالَم ما يزال غامضًا حتى الآن، ولم يكن
هناك شيء يُشبع فضولي الشاب سوى زيارة الكنائس والمتاحف وقاعات
العرض، خاصة وقد تسنَّى لي الاطلاع عليها بصحبة إنسان حبيب كان
كل حديث معه يُمثل بالنسبة لي كشفًا جديدًا في الفن أو في
الحياة.
لم تكن كل هذه الأماكن التي زُرناها تُشكل جديدًا بالنسبة
لفيودور ميخايلوفيتش، ولكنه، وهو الذي يملك ذوقًا فنيًّا
راقيًا ونظرةً عميقة، كان يدخل إلى قاعات عرض اللوحات في درزدن
وفلورنسا وقد اعترتْهُ لذة حقيقية ويظلُّ ساعاتٍ طويلة يتأمل
كنيسة القديس مرقص وقصور فينيسيا.
صحيح أنه لم يكن لدَينا في الخارج معارف على الإطلاق، اللهم
إلَّا من كنَّا نلتقي بهم مصادفةً أو على نحو عابر. إلا أن
فيودور ميخايلوفيتش كان سعيدًا بهذه العزلة عن الناس. كان منذ
وفاة أخيه ميخائيل غارقًا في الحسرة، يعيش صراعًا مع خيبة
الأمل وسوء الحظ اللذَين راحا يُلاحقانه؛ فضلًا عن الإحباط
الشديد الذي أصابه من جرَّاء علاقته بالعامِلين في عالم الأدب.
وإلى جانب ذلك فقد رأى فيودور ميخايلوفيتش أن من المُفيد
للغاية أن يعيش المُفكر أحيانًا في حالةٍ من العزلة بعيدًا عن
الأحداث الجارية التي تُثير فيه الاضطراب دائمًا، وأن ينطلِق
تمامًا مع أفكاره وأحلامه. فيما بعد، وبعد أن عاد إلى دوَّامة
الحياة في العاصمة، كان فيودور ميخايلوفيتش كثيرًا ما يتذكَّر
كم كان سعيدًا في الخارج وهو يملك بين يدَيه وقت فراغ هائلًا
مكَّنه من أن يضع مخطط روايته وأن يقرأ كتابًا مختارًا دون
عجلة، مُستسلمًا تمامًا للانطباعات السعيدة والحنونة التي
تُسبغها عليه القراءة.
كم من أشكال السعادة الخالصة والعميقة وهبَتْنا الحياة في
الخارج، إلى جانب الانطباعات الخارجية الرائعة: ميلاد الأطفال
وبداية تكوين الأُسرة التي كان فيودور ميخايلوفيتش يحلم بها
دائمًا، كلها أمور ملأت وأضاءت حياتنا، وإنني لأُعبر عن
امتناني للقدَر قائلة: «بارك الله هذه السنوات الرائعة التي
قُيِّض لي أن أقضيها في الخارج وحيدةً إلَّا من هذا الإنسان
الرائع بما يحمله من خصالٍ نفسية رفيعة!»
والآن وقد أنهيتُ هذا العرض لحياتنا في الخارج والتي امتدت
إلى ما يزيد على أربع سنوات، سوف أتحدَّث عن المغزى الداخلي
لحياة العزلة الطويلة التي عشناها. وعلى الرغم من الهموم
الكثيرة وقلَّة المال آنذاك، والشعور بالمللِ المُمضِّ
أحيانًا، وحياة الوحدة الطويلة، فقد كان لهذه الحياة أثرها
الإيجابي على ظهور أفكار زوجي وتطوُّر مشاعره المسيحية. كل
الأصدقاء والمعارف الذين قابلونا لدى عودتنا من الخارج، كانوا
يقولون لنا إنهم لم يعرفوا فيودور ميخايلوفيتش، فقد تغيَّرت
طباعُه إلى الأفضل على نحوٍ كبير، إلى حدِّ أنه أصبح أكثر
طيبةً وتسامحًا مع الناس. لقد اختفى عنادُه وضيق صدره تمامًا.
أورد هنا بضع كلمات من مذكرات نيكولاي ستراخوف
١٢٥ حيث يقول: «إنني على يقينٍ أنَّ هذه السنوات
الأربع، التي قضاها فيودور ميخايلوفيتش في الخارج، كانت أفضل
سنِي عمره، فهذه السنوات هي التي وفرت له أعمق الأفكار
والمشاعر وأنقاها. لقد عمل فيها بدأبٍ بالغٍ وكان يُعاني
أحيانًا من الحاجة والعوز، لكنه تمتَّع بقدْر كبير من الهدوء
والسعادة بفضل الحياة العائلية الهانئة. لقد عاش طيلة الوقت في
عزلةٍ تامة تقريبًا، أي إنه كان بعيدًا عن كافة الأسباب القوية
التي كان من المُمكن أن تبتعِد به عن الطريق المباشر لتطوير
أفكاره وعمله الروحي العميق. إن ميلاد الأطفال والعناية بهم
ومشاركة كلٍّ منهما الآخر في آلامِه وحتى موت الطفل الأول،
جميعها كانت انطباعات ومشاعر رفيعة وسامية. لا شكَّ أن الحياة
في الخارج تحديدًا، وفي مِثل هذه الظروف، وبفضل هذه التأمُّلات
الهادئة الطويلة، انبعثت هذه الكشوف الخاصة لهذه الروح
المسيحية التي عاشت بداخلِه دائمًا. وقد ظهر هذا التحوُّل
الجوهري جليًّا أمام كل معارفه بعد أن عاد فيودور ميخايلوفيتش
من الخارج. وها هو يتحدث بلا انقطاع في شتَّى الموضوعات
الدينية؛ وفضلًا عن ذلك فقد تغير سلوكه فأصبح أكثر رقةً إلى
حدِّ الوداعة المُتناهية في بعض الأحيان، حتى ملامح وجهه باتت
تحمِل بعضًا من سمات مزاجه النفسي واستقرَّت على شفتَيه
ابتسامة ودودة … بداهة فقد كانت روحه عامرة بأفضل المشاعر
المسيحية، تلك المشاعر التي ما فتئت تُعبر عن نفسها أكثرَ
فأكثر في أعمالِه. على هذا النحو عاد فيودور ميخايلوفيتش من
الخارج.»
وفي السنوات التالية كان فيودور ميخايلوفيتش نفسه يتذكَّر
بكل العرفان بالجميل هذه السنوات التي قضيناها معًا في
الخارج.
لاحظ الأقارب والمعارف أيضًا التغيير الذي طرأ عليَّ: فتاة
وديعة خجول تحوَّلت إلى امرأةٍ حازمة لا يُخيفها الصراع مع
مصائب الحياة، إن شئتَ الدقة، الصراع مع الديون، التي بلغت عند
وصولنا خمسةً وعشرين ألف روبل. لقد احتفظت بمرحي وحُبي للحياة،
لكنها صفات كانت تظهر فقط بين أُسرتي وفي محيط أقاربي
وأصدقائي، أما في وجود الغرباء، وخاصة في مجتمع الرجال، فقد
كنتُ متحفظةً لأبعد الحدود، ألتزم الصمت والبرود المُهذب،
وأستمع بانتباهٍ أكثر مما أُعبر عن أفكاري. وقد أكَّدت لي
رفيقاتي أنني كبرتُ سريعًا خلال هذه الأعوام الأربعة،
وعاتبنَني على قلة اهتمامي بمظهري فلا أرتدي فاخِر الثياب ولا
أُولي اهتمامًا كبيرًا لتصفيف شعري على الموضة. كنتُ أتفق معهم
في ذلك، لكنني لم أشأ أن أُغير شيئًا من سلوكي. كنت على
اقتناعٍ تامٍّ أن فيودور ميخايلوفيتش يُحبني لا لمظهري وإنما
لسِماتي العقلية وخصالي الشخصية، ولأننا نجحنا خلال تلك
السنوات أن «نندمج روحيًّا» على حدِّ قول فيودور ميخايلوفيتش.
كان لمظهري المُتحفِّظ وتجنُّبي لمجتمعات الرجال أثر طيب على
زوجي، إذ لم يسمح ذلك بظهور أي أسبابٍ لإثارة خصاله السيئة،
مثل الغيرة التي لا مُبرر لها.