في روسيا من جديد
١
الثامن من عام ١٨٧١م، في يومٍ حار، سماؤه صافية، عُدنا إلى بطرسبورج بعد سنواتٍ أربع قضيناها في الخارج.
خرجنا من محطة وارسو لنقطع شارع إسماعيلوفسكي مارِّين بالقُرب من كنيسة الثالوث المُقدس، حيث تمت مراسم زواجنا. دخلنا لنُصلي أنا وزوجي في الكنيسة، بينما راحت صغيرتنا تتأمَّلنا وهي ترسُم علامة الصليب.
إذن، آنيتشكا — قالها فيودور ميخايلوفيتش ثم أردف — لقد عِشنا في سعادة أربع سنواتٍ في الخارج، على الرغم من المصاعب التي واجهتنا أحيانًا.
ما الذي تُخبئه لنا الحياة في بطرسبورج؟ كلُّ شيء غامض أمامنا … لستُ أرى سوى الكثير من المصاعب والمشكلات والاضطراب، قُبيل أن ننهض على أقدامنا. لا رجاء أمامنا إلَّا الله!
– ولماذا الحزن مسبقًا؟ — حاولت أن أُخفِّف عنه — سوف نتوكل على الله وهو لن يخذلنا! المُهم أن حلمنا القديم قد تحقَّق، وها نحن الآن معًا في الوطن مرةً أخرى.
نزلنا بأحد الفنادق في شارع بولشايا كونيوشينايا، ولكننا لم نستقر به سوى يومَين فقط. كان البقاء فيه، وقد اقتربنا من استقبال فردٍ جديدٍ يُضاف إلى أُسرتنا، أمرًا غير مُلائم، كما أنه فوق طاقتنا. استأجرنا غرفتَين مفروشتَين في الطابق الثالث في المنزل رقم ٣ في شارع يكاتيرينجوفسكي. اخترنا هذا المكان بهدف أن تتمكن ابنتنا من أن تتنزَّه في حديقة يوسوبوف، الواقعة بالقرب من المنزل في أيام يوليو وأغسطس الحارة.
زارنا في الأيام الأولى لوصولنا أقارب فيودور ميخايلوفيتش وقد استقبلناهم بكلِّ حفاوة وترحاب. على مدى السنوات الأربع المُنقضية تحسَّن وضع إميليا فيدوروفنا دستويفسكايا إلى الأفضل: الابن الأكبر لها، فيودور ميخايلوفيتش، أصبح موسيقيًّا متميزًا وأصبح يربَح كثيرًا من دروس البيانو. الابن الثاني، ميخائيل ميخايلوفيتش، يعمل في أحد البنوك، الابنة يكاترينا ميخايلوفنا، تعمل هي أيضًا بالاختزال، أي إن الأسرة باتت تعيش في بحبوحة. وبالإضافة إلى ذلك فقد اعتادت إميليا فيدوروفنا خلال هذه الفترة، ألَّا تلجأ لطلب المساعدة من فيودور ميخايلوفيتش إلا في الحالات الاستثنائية، وعيًا منها بأن لدَيه الآن أسرة.
وحدَه بافل ألكسندروفيتش لم يستطع أن يتخلَّى عن فكرة أن «والده»، كما كان يصرُّ على نداء فيودور ميخايلوفيتش، «مُلزَم» بالإنفاق عليه؛ فضلًا عن الإنفاق على أُسرته. بالمناسبة، فقد قابلتُه بكل مودة، أساسًا، لأن زوجته، ناديجدا ميخايلوفنا، أعجبتني للغاية، وكان قد تزوَّجها في أبريل من هذا العام. كانت امرأة حسناء متوسطة الطول، متواضعة وعلى قدْر من الذكاء. ولم أكن أفهم كيف قرَّرت أن تتزوَّج من شخصٍ لا يُحتمَل مثل بافل ألكسندروفيتش. كنتُ مُشفقة عليها بإخلاص: كنت أتنبَّأ أن حياتها معه سوف تكون صعبة.
ذهبنا لتعميد الطفل بعد أن تعافَيت. وكان إشبينه هو الشاعر الشهير أبوللون نيكولايفيتش مايكوف، صديق فيودور ميخايلوفيتش (كما حدث مع ابنتَينا قبل ذلك) واختار فيودور ميخايلوفيتش ابنته لوباتشكا، التي لم تتجاوز العامَين، لتكون هي الإشبينة له.
رحتُ أبحث عن شقة، بعد أن اتفقتُ على شراء أثاث جديد. وقد عرض بافل ألكسندروفيتش عليَّ المساعدة. وفي نفس اليوم مساءً أعلن أنه وجد شقةً ممتازة من ثماني غرف إيجارها زهيد؛ مائة روبل في الشهر.
سألتُه بدهشة: وما حاجتنا إلى شقةٍ كبيرة كهذه؟
– ليست كبيرة على الإطلاق: سيكون لكم غرفة استقبال، غرفة مكتب، غرفة للنوم وأخرى للأطفال؛ ولنا غرفة استقبال وغرفة مكتب وغرفة للنوم، أما غرفة المائدة فمشتركة بيننا.
صدمتني وقاحتُه فقلت له: وهل تعتزِم أن تعيش معنا؟
– وهل هناك حلٌّ آخر؟ هذا ما أخبرتُ به زوجتي: عندما يعود أبي سنعيش معًا.
هنا كان عليَّ أن أتحدَّث معه بشدَّة وأن أُثبت له أن الظروف الآن تغيرت، وأنني لا أوافق أن أعيش في شقةٍ مشتركة مهما كانت الظروف. وكعادته بدأ بافل ألكسندروفيتش يتحدث بوقاحةٍ ويُهددني بأنه سيشكوني إلى فيودور ميخايلوفيتش، ولكنَّني لم أُصغِ إلى كلامه. إن سنواتٍ أربعًا من الاستقلال لم تذهب هباءً. أما بافل ألكسندروفيتش فقد شرع في تنفيذ تهديده وذهب إلى فيودور ميخايلوفيتش، الذي أجابه بقوله: لقد سلمتُ كل شئون المنزل إلى زوجتي، وما ستُقرره هو الذي سيُنفَّذ.
ولزمنٍ طويل لم يكن باستطاعة بافل ألكسندروفيتش أن يغفر لي انهيار خُطَطه.
وبعد بحثٍ طويل عثرتُ على شقة في شارع صربوخوفسكايا بالقُرب من معهد التكنولوجيا، في منزل أرخانجلسكايا، وقد استأجرتُه باسمي حتى أوفِّر على زوجي عناء الأمور المنزلية. كانت الشقة مكونةً من أربع غرف: المكتب، حيث كان فيودور ميخايلوفيتش يعمل وينام، وغرفة استقبال، وواحدة للمائدة وأخرى رحبة للأطفال حيث أنام.
على الرغم من سوء حالة ما نملِكه من أثاث. فقد كنتُ أطمئن نفسي بأننا لن نكون بحاجةٍ إلى شراء أدوات منزلية أو أغطية للفراش؛ إذ إنها كانت موزعةً على عددٍ من الأشخاص يحفظونها لنا. ولكن، يا للأسف، لقد كان بانتظاري هنا خيبة أمل.
وقد تعرضت أشياء فيودور ميخايلوفيتش لنفس المصير المُحزن. كانت لدَيه مكتبة رائعة، كان يتحرَّق إليها شوقًا ونحن في الخارج، وكانت تضمُّ كتبًا بإهداء أصدقائه من الكُتَّاب؛ بالإضافة إلى العديد من الكُتب في فروع التاريخ والديانات القديمة التي كان فيودور ميخايلوفيتش يهتمُّ بها اهتمامًا شديدًا. ولدى رحيلنا طلب بافل ألكسندروفيتش من زوجي أن يترك له مكتبتَه في رعايته مؤكدًا أنها ضرورية لتعلُّمه، ووعدَه أنه سيُعيدها إليه سليمة، ولكن اتضح أنه كان يبيعها، كتابًا وراء الآخر لمحالِّ الكتُب، كلَّما احتاج إلى نقود. وعندما وبَّخْتُه على ذلك أجاب بوقاحةٍ قائلًا إننا السبب في ذلك، إذ لم نُرسِل إليه نقودًا في الموعد المناسب.
٢
كان ميخائيل ميخايلوفيتش إنسانًا طموحًا، فبالإضافة إلى المجلَّة، كان يمتلك مصنعًا للتبغ. وحتى يضمن توزيعًا كبيرًا للتبغ خصَّص بعض الجوائز على هيئة مقصَّات وأمواس حلاقة وبرَّاءات وما إلى ذلك كان يضعها في الصناديق مع السجائر. كانت هذه الهدايا تحوز إعجاب كثيرٍ من المُشترين. كان ميخائيل ميخايلوفيتش يشتري هذه الأشياء المعدنية من تاجر الجملة جينترشتاين، وكان هذا يبيعها بالدَّين ويتقاضى نسبةً على ذلك لا بأس بها. وعندما كان الإقبال على الاشتراك في مجلة «الزمن» كبيرًا، كان ميخائيل ميخايلوفيتش يُسوي حساباته تدريجيًّا مع جينترشتاين، الذي كان يُعتبر أكثر دائنِيه تعنتًا. وقد أخبر ميخائيل ميخايلوفيتش زوجته وأخاه فيودور ميخايلوفيتش قبل وفاته بأيامٍ أنه «قد تخلَّص أخيرًا من هذا العَلَقَة المدعو جينترشتاين.»
وهل سيكون بإمكاني وأنا محبوس في قسم الديون، بعيدًا عن أُسرتي، مع غرباء من شتَّى الأنواع، أن أعمل بالأدب؟ — هكذا قال له فيودور ميخايلوفيتش — وكيف سأدفع لك إذا ما أفقدتَني القدرة على العمل؟
أوه، إنك أديب مشهور، وأنا أُعوِّل على أن الصندوق الأدبي سوف يفتديك على الفور من السجن — أجاب جينترشتاين.
لم يكن فيودور ميخايلوفيتش آنذاك يُحب العاملين بالصندوق الأدبي. وقد عبر عن شكوكه حول إمكانية تقديم أي مساعدةٍ له، وحتى لو كانوا سيفعلون فإنه (كما أخبر جينترشتاين) يُفضل الحبس في قسم الديون على أن يقبَل هذه المساعدة.
قضينا وقتًا طويلًا نتباحث أنا وزوجي حول أفضل الوسائل لحل هذه المشكلة، وقرَّرنا أن نقترح على جينترشتاين صفقةً جديدة: أن نُقدم له الآن مائة روبل، وأن نقترح عليه سداد خمسمائة روبل كل شهر، ثم نُسدِّد له المبلغ المتبقِّي بعد رأس السنة. مرة ثانية يذهب زوجي بهذا الاقتراح إلى جينترشتاين، لكنه يعود وقد استشاط غضبًا. وعلى حدِّ قوله، فإن جينترشتاين قال له بعد حديثٍ طويل: ها أنت ذا أديب روسي موهوب! أما أنا فتاجر ألماني صغير، وأريد أن أُريك أنَّ باستطاعتي أن أزجَّ بأديبٍ روسي مشهور في سجن الديون. كُن على ثقة أنني سأفعل ذلك.
كنتُ شديدة الاستياء بسبب معاملة فيودور ميخايلوفيتش على هذا النحو، ولكنني كنتُ أدرك أننا وقعنا في يد سافلٍ وأننا لا نملك إمكانيةً للخلاص منه. كنتُ أستشعر أن جينترشتاين لن يكتفي بالتهديد وحدَه، فقررتُ أن أحاول أن أسوِّي هذا الأمر دون أن أُخبر زوجي عن نيتي (كان على الأرجح سيمنعني من تنفيذها) في الذهاب بنفسي إلى جينترشتاين.
– إن شقَّتنا مؤجَّرة باسمي لا باسم فيودور ميخايلوفيتش — أجبتُه ببرود — كما أنَّ الأثاث اشتريناه بالأجل، وهو ملك لتاجر الأثاث إلى أن يتمَّ سداد ثمنِه نهائيًّا، ولذلك لا يُمكنك الحجز عليه. وحتى أُثبت له ذلك، عرضتُ عليه عقد الشقة ونسخةً من التعاقُد مع تاجر الأثاث.
هنا راح جينترشتاين يشكو من نكران جميل فيودور ميخايلوفيتش الرافض لدفع الديون، التي صبر عليها طويلًا.
– كلَّا، بل أنت الذي عليه أن يُقدر جميل زوجي الذي أعطى لزوجتك كمبيالات بالديون، التي ربما تكون قد دُفِعت منذ زمنٍ بعيد — قلتُ له ذلك في غضب — وإذا كان فيودور ميخايلوفيتش قد فعل ذلك، فقد فعلَه بشهامةٍ وعطف. لقد راحت زوجتك تبكي أمامه وقالت إنك ستُكدِّر حياتها. فإذا ما تجرَّأتَ على أن تُنفذ تهديدك، فسوف أكتُب كل ما حدث وأُرسِله إلى صحيفة «ابن الوطن» حتى يرى الجميع مواهب الألمان «الشرفاء»!
لم أكن في وعيي وكنتُ أتحدث دون أن أُلقي بالًا لما أقول. وقد ساعدني حماسي هذه المرة. جَبُن الألماني وسألني ماذا أريد؟
– نفس ما طلبَه منك زوجي بالأمس؟
– حسنًا، إذن، أعطِني النقود!
طلبتُ منه إيصالًا مفصلًا باتفاقنا، فقد خشيتُ أن يتراجع جينترشتاين فيما بعدُ ويبدأ مرةً أخرى في تعذيبنا. عدت إلى البيت منتصرة، وقد تأكدتُ أنني خلال فترةٍ قصيرة سوف أُعيد إلى زوجي السكينة والهدوء.
٣
قبل أن أتحدث عن صراعنا مع الدائنين، والذي استمر بعد ذلك لمدة عشر سنوات، وحتى وفاة فيودور ميخايلوفيتش، أودُّ أن أشرح بصورة محددة كيف ظهرت هذه الديون التي عذَّبت كلينا.
كان الناس يأخذون الكمبيالات ويَعِدونه أنهم سينتظرون، لكنهم، بطبيعة الحال، لم يكونوا يُوفون بعهدهِم. وسرعان ما يُطالبون بحقوقهم.
سأورد في هذا السياق حادثةً تسنَّى لي أن أتتبع صحتها استنادًا إلى الوثائق.
كان على فيودور ميخايلوفيتش أن يعمل فوق طاقته، بل وأن يتخلَّى عن حاجاته الضرورية وعن راحته؛ فضلًا عن حاجات أُسرته الضرورية وراحتها، من أجل سداد هذه الديون الوهمية.
لقد كان بمقدورنا أن نعيش هذه الأعوام الأربعة عشر من حياتنا الزوجية أكثر سعادةً وأكثر رضًا وسكينة، لو لم يَظل أمر سداد هذه الديون شوكةً في جانبنا.
آه لو كان بإمكاني استرجاعه — على هذا النحو كان يتحدث آسفًا —، لو كان بإمكاني تصحيحه! الآن أرى أين تكمُن المشكلة، لماذا لم أنجح في هذه الرواية. ربما بسبب هذا الخطأ قتلتُ «فكرتي» تمامًا.
كان حزنه حقيقيًّا، حزنَ فنانٍ رأى بشكلٍ واضح موضع خطئه، الذي لم يعُد يملك إمكانية تصحيحه، ولن تتاح له للأسف هذه الإمكانية مُطلقًا: كانت الحاجة للمال مُلحة لمواصلة الحياة ولسداد الديون، ومن ثم كان مضطرًّا، على الرغم من مرضه، أن يتعجَّل في مواصلة العمل، أحيانًا في اليوم التالي لنوبة الصرع، فيُراجع المخطوطة بالكاد، من أجل أن يُرسلها في الموعد ليتمكن من أن يتسلَّم المقابل المادي بأسرع ما يمكن. لم يتمكن فيودور ميخايلوفيتش طوال حياته أن يكتب إطلاقًا عملًا واحدًا على مهَلٍ ودون تعجُّل (باستثناء قصته الأولى «الفقراء») أو أن يُمعن التفكير في خطة روايته وأن يُمحص تفاصيلها كلها. لم يهبِ القدرُ فيودور ميخايلوفيتش هذه السعادة الكبرى، التي كانت دائمًا حلمَه الحميم الذي لم يُحققه، وا آسفاه، أبدًا!
يا له من شعور مرير يتصاعد داخلي، كلما تذكرت كيف أفسدت ديون «الآخرين» حياتي الشخصية، ديون شخصٍ لم أرَهُ مُطلقًا في حياتي؛ بالإضافة إلى الديون الوهمية المُمثلة في كمبيالات أخذها على زوجي أناس لا أخلاق لهم. كانت حياتي كلها آنذاك تُحيطها الكآبة من طول التفكير في كيفية الحصول على هذا القدْر الكبير من النقود، أين وبأي سعر يُمكنني رهن هذا الشيء أو ذاك، على أي نحو أتصرف كي لا يعرف فيودور ميخايلوفيتش شيئًا عن زيارتي للدائنين، أو عن شيءٍ ما قمت برهنه. على هذا النحو انقضى شبابي وأُنهِكت صحتي وأُتلِفَت أعصابي.
سيقولون، ربما، إن أصدقاء فيودور ميخايلوفيتش كانوا شعراء وروائيين، وأنهم لا يفهمون في شئون الحياة العملية. وأجيب على ذلك بأن كل هؤلاء الأشخاص كانوا ماهِرين للغاية في تدبير أمورهم الشخصية. وقد يعترِضون، ربما، أن فيودور ميخايلوفيتش كان يرغب في الاستقلال، ولم يسمح أن يتلقَّى تعليماتٍ من غرباء. لكن هذا الاعتراض غير صحيح، لقد فوَّضني فيودور ميخايلوفيتش عن طيب خاطر في كل شئونه، وكان يستمع إلى نصائحي ويعمل بها، على الرغم من أنه كان في البداية غير قادرٍ على التسليم بخبرتي العملية. بنفس هذه الثقة كان فيودور ميخايلوفيتش سيلجأ لتلقِّي العون من أصدقائه لو أن هذا العون قد عرض عليه. أفكر وأنا أشعر بالأسف المرير من أجل فيودور ميخايلوفيتش في أصدقاء وعلاقات ودِّية من هذا القبيل.
٤
في الأيام الأولى بعد عودتنا إلى روسيا كنتُ آمُل أن أُسدِّد جزءًا من الديون، بعد أن أبيع البيت الذي خُصِّص لي كصداق. انتظرتُ بفارغ الصبر عودة أمي من درزدن، وكانت قد سافرت لحضور زفاف أخي، وعودة أُختي من روما، وهي التي كانت تشرف، في غياب أمي، على كل بيوتنا. وقد وعدت أن تُعطينا كشوف حسابات إدارتها لهذه البيوت بمجرد عودتها في الربيع، لكنها أُصيبت بالتيفود في الربيع وتُوفِّيت في الأول من مايو عام ١٨٧٢م في روما. وقد علِمنا بعد وفاتها أنها أعطت زوجها منذ فترةٍ بعيدة توكيلًا عامًّا لإدارة شئونها، وقد قام زوجها بدوره، وكان كثيرًا ما يسافر بعيدًا عن بطرسبورج بصحبة زوجته، بتفويض أحد أصدقائه بالقيام بشئون الإدارة، وقد راح هذا السيد يستغلُّ الدخول التي تُدرها هذه البيوت على مدى ثلاث أو أربع سنوات، دون أن يرى ضرورة لأن يُسدد الضرائب المُستحقة لخزانة الدولة. تراكمت الضرائب المُتأخِّرة وتم عرض البيوت للبيع بالمزاد العلني. وهكذا لم يتبقَّ لدَينا أيُّ موارد لدفع الضرائب المُتأخرة وإنقاذ البيوت من المزاد، لكننا كنَّا نأمُل أن يتمَّ شراؤها بسعرٍ جيد فيتوفر لدى أُمي مبلغ تُعطيه لي عوضًا عن البيت الذي كانت قد وعدتْني به. للأسف الشديد فالسيد الذي تولَّى إدارة بيوتنا عقد اتفاقات شكليةً مع أشخاصٍ صوريين، زعم أنه أجَّر لهم البيوت لمدة عشر سنوات، وأنه تسلَّم قيمة الإيجار منهم مُقدمًا. وقد اكتشفنا معالِم هذه الصفقة فقط أثناء المزادات؛ بداهةً فإن البيوت لم تجد من يرغب في شرائها. آنذاك قام هذا السافل بوضع يدِه عليها بعد أن دفع الضرائب المتأخِّرة للخزانة العامة، أي أنه استولى مقابل بضعة آلافٍ على ثلاثة بيوت ومُلحقَين كبيرين وقطعة أرض كبيرة. وهكذا لم يتبقَّ لنا، أنا وأمي وأخي، أيُّ نصيب. كان باستطاعتنا، بطبيعة الحال، أن نرفع دعوى قضائية، لكن لم نكن نملك مالًا لذلك؛ فضلًا عن أن رفع الدعوى كان يَعني أن نُلقي بالمسئولية على زوج أختي، مما يَعني أن ندخل في صدامٍ معه لن يؤدي بنا إلَّا لأن نفقد إمكانية رؤية أطفالٍ يتامى نُحبهم حبًّا جمًّا. كان من الصعب عليَّ التخلِّي عن الأمل الوحيد لإصلاح ظروفنا المؤسِفة!
في البداية سمحتُ للدائنين بالتفاوُض مع فيودور ميخايلوفيتش، لكن نتائج هذه المفاوضات جاءت على أسوأ ما يكون: تحدَّث الدائنون مع زوجي بوقاحةٍ وهدَّدوه بالحجز على أثاثنا وإرساله إلى قسم الديون. أحسَّ فيودور ميخايلوفيتش بعد هذه الأحاديث باليأس الشديد، وراح يذرع الغرفة وهو يشدُّ شعر فودَيه (وهي الحركة التي اعتاد أن يأتي بها عندما يكون مُضطربًا بقوة) وراح يُكرر: إذن ما العمل، ما الذي علينا أن نعمله الآن؟!
وفي اليوم التالي داهمَتْه نوبة الصرع.
كنتُ مشفقةً بشدة على زوجي المسكين، ودون أن أُخبره، قررتُ التفاوض مع الدائنين بمُفردي. يا له من صنفٍ عجيب من الناس، أولئك الذين حضروا إليَّ خلال تلك الفترة! كانوا، بشكلٍ رئيسي، سماسرة كمبيالات، أرامل مُوظَّفين يؤجِرْن غرفًا مفروشة، ضباطًا مُتقاعدين من أصحاب الرُّتب الدُّنيا. جميعهم اشتروا الكمبيالات بثمنٍ بخس، وهم يريدون الآن استعادة قيمتها كاملة. هدَّدوني بالحجز والسجن، ولكنني كنتُ قد عرفتُ كيف أتحدَّث معهم. كانت حججي هي نفسها التي استخدمتُها في مفاوضاتي مع جينترشتاين. وعندما رأى الدائنون أن التهديد لن يجدي، وافقوا على التوقيع معي على اتفاقٍ مُفصَّل بدلًا من الكمبيالات التي وقَّعها فيودور ميخايلوفيتش. ولكن كم كان من الصعب عليَّ سداد المبالِغ في الموعد المُتفق عليه! وكم من الحِيَل لجأتُ إليها: الاقتراض من الأقارب، رهن الأشياء، وحرماني والأسرة من كثيرٍ من الضروريات!
لم نكن نتلقَّى المال بشكلٍ منتظم، وكان الأمر يتوقف كليةً على نجاح عمل فيودور ميخايلوفيتش. كنا نُضطر أحيانًا أن نستدين لدفع إيجار الشقة والمحلات، وعندما نتسلَّم نقودًا، أربعمائة أو خمسمائة روبل دفعة واحدة (كان زوجي يُعطيها لي دائمًا)، لم يكن يتبقى منها في اليوم التالي سوى عشرين أو ثلاثين روبلًا.
لم يكن من الممكن ألَّا يدخل الدائنون إلى البيت أحيانًا، دون أن يلحظهم زوجي. كان يَستجوِبني عن هذا أو ذاك ولأيِّ غرضٍ جاء، وعندما كان يُلاحظ عدم رغبتي في الإجابة، كان يُعاتبني على كتماني. وقد انعكست شكاواه في عددٍ من خطاباته. على أنه لم يكن باستطاعتي أن أكون صريحةً دومًا مع فيودور ميخايلوفيتش. كان بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى الهدوء لإنجاز عمله، وكانت المصائب عادةً ما تُصيبه بنوبات الصرع، وهذه كانت تعوقه عن الاستمرار في عمله. لقد اضطررتُ أن أُخفي عنه كل شيءٍ بإتقان، وأن أُبعد عنه كل ما من شأنه أن يُثير قلقه واضطرابه أو يُسبب له الحزن، مخاطِرةً بذلك أن أبدوَ أمامه امرأةً تخفي عنه أسرارًا. كم كان عملًا شاقًّا! وقد كان عليَّ أن أعيش هذه الحياة ثلاثة عشر عامًا تقريبًا!
كان أكثر من يبعث في نفسي الاضطراب هو بافل ألكسندروفيتش. كان يأتي لا ليطلُب وإنما ليأمُر، وكان مُقتنعًا أشد الاقتناع أنه يملك الحقَّ في ذلك.
وفي كل مرة يتسلَّم فيها فيودور ميخايلوفيتش مبلغًا كبيرًا، كان يُعطي ربيبه حتمًا مبلغًا محترمًا. ولكن ما أكثر ما كانت تظهر لدَيه دائمًا احتياجات استثنائية فكان يأتي إلى زوج أمِّه طلبًا للنقود، على الرغم من علمِه التام بصعوبة أحوالنا المادية.
– حسنًا، ماذا عن بابا؟ ماذا عن صحته؟ (كان يسألني وهو يدلف إلى الداخل) لا بدَّ أن أتحدَّث معه: يَلزمني أربعون روبلًا على وجه السرعة.
– أنت تعرف أن كاتكوف لم يُرسل شيئًا وليس لدَينا نقود، هكذا أجبتُه، لقد رهنتُ اليوم بروشي مقابل خمسةٍ وعشرين روبلًا. انظر، ها هو الإيصال!
– وماذا في ذلك! ارهني شيئًا آخر.
– كل ما لديَّ مرهون.
– لديَّ نفقات ضرورية(تحدث الربيب بإصرار).
– انتظر حتى نتلقَّى نقودًا.
– لا أستطيع تأجيلها.
– ولكنِّي لا أملك نقودًا الآن!
– وما شأني بذلك! ابحثي في أيِّ مكان.
رحتُ أحاول إقناع بافل ألكسندروفيتش أن يطلُب من زوج أمِّه لا أربعين روبلًا، إذ إننا لا نملكها، وإنما خمسة عشر روبلًا، حتى يتبقَّى لنا ولو خمسة روبلات لنفقات الغد. وبعد توسُّلاتٍ طويلة تنازل بافل ألكسندروفيتش مُعتبرًا أنه بذلك قد قدَّم لي خدمةً كبيرة. أعطيتُ زوجي خمسة عشر روبلًا لربيبه، وأنا أفكر في حزن، أن هذه النقود كان يُمكن أن تجعلنا نعيش ثلاثة أيامٍ في هدوء، أما الآن فينبغي عليَّ الذهاب غدًا مرة أخرى لرهن شيءٍ ما. لا أستطيع أن أنسى مقدار الحزن والأذى الذي سبَّبه لي هذا الشخص عديم الذوق.
لعل البعض سيُبدي تعجُّبه، لِمَ لمْ أحتج على مثل هذا الطلب الفظ للنقود؟ لو أنني تشاجرتُ مع بافل ألكسندروفيتش، لسارع يشكوني إلى فيودور ميخايلوفيتش، وقد يُحرِّف القول ليبدو مظلومًا. فيقع الشجار، وكل ذلك قد يؤثر على زوجي بصورةٍ سيئة. وحتى أُجنِّبه الإزعاج، كنتُ أفضِّل أن ألتزم الصبر وأن أتحمَّل الأمر حتى يسود السلام أسرتنا.
سرعان ما انقضى الشتاء وحل ربيع عام ١٨٧٢م، ومعه دخلت حياتنا أحزان ومصائب كثيرة تركت بعدها، ولسنوات طويلةٍ، آثارًا لا تُنسى.
٥
يقول المثل: «إن المصائب لا تأتي فرادى»، وفي حياة كل إنسان تقريبًا زمن يدهَمُه فيه، ربما لفترة طويلة، مُسلسل من شتَّى المصائب والأرزاء التي لم يكن ليتوقَّعها. وهو نفس ما حدث لنا تمامًا. بدأت مصائبنا في نهاية عام ١٨٧٢م، عندما تعثَّرت ابنتنا ليليا (وكان عمرها آنذاك عامَين ونصف العام) وهي تجري في الغرفة لتسقط أمام أعيُننا، وعندما رأيناها تبكي بشدة، اندفعنا باتجاهها، رفعناها ورُحنا نُهدِّئها. لكنها واصلت البكاء ولم تسمح لنا أن نلمس يدَها. سارع فيودور ميخايلوفيتش ومعه المُربية والخادمة في البحث عن طبيب. وبعد أن استعلم فيودور ميخايلوفيتش من الصيدلية عن عنوان أقرب جراح، أحضره بعد نصف ساعة. وفي نفس الوقت تقريبًا أحضرت المُربية طبيبًا آخر من مستشفى أوبوخوفسكايا. رأى الجرَّاح، بعد أن فحص الذراع المُصابة، أنه قد حدث خلْع، وعلى الفور جبَّر العظم ولفَّ الذراع في ضمَّادة سميكة. وقد وافق الطبيب الثاني على رأي الجرَّاح بشأن الخلع وأكد أنه ما دام العظم قد جُبِّر فإنه سرعان ما يلتئم. وقد اطمأننا لرأي الطبيبَين المختَصَّين ودعونا الجرَّاح لزيارة المريضة، وقد راح يزورنا على مدى أسبوعين كل صباح، فيزيل الضمَّادة عن ذراعها ويقول إن كل شيءٍ يمضي على ما يُرام. وقد نبهتُ الجرَّاح أنا وفيودور ميخايلوفيتش إلى وجود بعض الورَم على مسافة ما يقرُب من عشرة سنتيمترات من الكفِّ لونه أزرق قرمزي. وقد أكد الجرَّاح أن الذراع المُصابة متورمة كلها وأن ذلك نزيف دموي عادي يحدُث بسبب الكدْمة وأنه سيختفي بالتدريج. وبسبب اضطرارنا للسفر فقد اقترح علينا الجرَّاح ألا نفكَّ الضمادة أثناء الطريق خشية حدوث أي مضاعفات إلى أن نصِل إلى غايتنا. سافرنا في الخامس عشر من مايو عام ١٨٧٢م إلى ستاريا روسا ونحن مُطمئنون تمامًا من جهة الحادث المؤسف الذي وقع لنا.
تم اختيارنا لهذا المنتجع للإقامة الصيفية بناء على نصيحة البروفيسور ميخائيل فلاديسلاف، زوج ماريا ميخايلوفنا، ابنة أخ فيودور ميخايلوفيتش، وقد أكد لنا الزوجان أن الحياة في روسا هادئة ورخيصة، وأن صحة أبنائهما قد تحسَّنت بشكلٍ كبير في الصيف الماضي بفضل حمامات الماء المالِح. كان فيودور ميخايلوفيتش مهتمًّا للغاية بصحة أطفالنا فأراد أن يصحبَهم إلى روسا وأن يُتيح لهم فرصة الاستفادة من الاستحمام في مياهها.
غادرنا ستاريا روسا في صباح يوم دافئ رائع، وبعد ساعات أربع وصلنا إلى محطة سوسنينكا، حيث يمكن منها السفر بالبواخر إلى نوفجورود عبر نهر فولخوف. وهناك علمنا أن الباخرة تغادر في الواحدة بعد منتصف الليل وأن علينا أن ننتظر هنا يومًا كاملًا. أقمنا في نزل صغير، ولمَّا كان الجو في الغرفة خانقًا فقد ذهبنا للنزهة في القرية بصحبة الأطفال ومعنا مُربيتهم العجوز. وهنا وقع لنا حادث مُضحك: لم نكن قد تجاوزنا السير حتى منتصف الشارع، حين التقَينا امرأةً تحمل طفلًا وقد غطَّت وجهه بُقَع حمراء وبثور. تجاوزناها لنُقابل ثلاثة أو أربعة أطفال آخرين تُغطي وجوههم أيضًا بُقَع حمراء وبثور، وقد أصابنا هذا المنظر بالإحباط وقادنا إلى فكرة إصابة أطفال القرية بالحصبة، وأن مِن المُمكن أن يُصاب أطفالنا بالعدوى. أمرنا فيودور ميخايلوفيتش بحميةٍ بسرعة العودة إلى المنزل، وهناك سأل صاحبة النزل إن كانت القرية مُصابة بالمرض، ولماذا تنتشر البُقَع على وجوه الأطفال. غضبت المرأة وأجابت أنَّ الأطفال ليسوا بمرضى وأن ذلك من أثر «قرصات الناموس». هدأت هذه الإجابة من روعنا بشأن مرض الحصبة، وقبل أن تمرَّ ساعة اقتنعنا أن «البعوض» هو السبب في ذلك بالفعل، إذ راحت وجوه أطفالنا تتشوَّه بسبب قرصاته.
صعدنا إلى الباخرة في منتصف الليل، وضعنا الأطفال في فراشهم ليناموا، جلسنا بعدَها على السطح حتى الساعة الثالثة ونحن نتأمَّل النهر والأشجار التي انتشرت على ضفاف نهر فولخوف. وقُبَيل الفجر أصبح الجوُّ باردًا فعدت إلى القمرة، بينما بقي فيودور ميخايلوفيتش جالسًا في الهواء الطلق: كان يُحب الليالي البيضاء إلى حدٍّ كبير!
في السادسة صباحًا أحسستُ أن أحدًا ما يُربِّت على كتفي. نهضت وسمعت فيودور ميخايلوفيتش يقول: آنيا، اصعدي إلى السطح، انظري كم هو بديع المنظر هناك!
وبالفعل كان المنظر رائعًا، يستحقُّ أن ينسى المرء النوم من أجله. وعندما كنتُ أستعيد ذكرياتي فيما بعد عن نوفجورود، كان هذا المنظر يتراءى أمام عيني.
كان صباحًا ربيعيًّا مُدهشًا، كانت الشمس تُلقي بضوئها الباهر على الضفة المقابلة للنهر وقد ارتفعت فوقه حوائط الكرملين المُسننة وتألَّقت قباب كاتدرائية صوفيا المُذهَّبة، وفي هذا الهواء البارد دوَّى صليل أجراسها مُعلنًا عن صلاة الصبح.
كان فيودور ميخايلوفيتش مُحبًّا للطبيعة، عالمًا بأحوالها، وها هو يمرُّ بفضلها بحالةٍ مزاجية سامية، وقد انعكس هذا المزاج لا إراديًّا عليَّ أنا أيضًا. جلسْنا جنبًا إلى جنبٍ مدةً طويلة صامتَين، كما لو كنَّا نخشى أن نفسد هذه اللحظات الساحرة، وقد استمرَّ هذا المزاج الطيب معنا طوال اليوم. يا لها من أيامٍ طويلة مضت لم تنعم فيها أرواحنا بمثل هذا الهدوء ولم تغْشَها هذه السكينة!
عندما استيقظ الأطفال انتقلنا إلى باخرةٍ أخرى اتجهَتْ بنا إلى ستاريا روسا. قليلون هم الركاب الذين كانوا على متنها مما أتاح لنا رحلةً مريحة؛ فضلًا عن روعة ما شاهدناه: كانت بحيرة إيلمان ساكنة مثل مرآة، وقد بدت صافيةَ الزرقة بفضل سماءٍ خالية من السحب، حتى إننا تصوَّرنا أننا نسبح في بحيرةٍ من بحيرات سويسرا. وقد سارت بنا الباخرة في الساعتَين الأخيرتَين عبر نهر بوليست، وهو نهر كثير التعرُّج، وكانت ستاريا روسا تتراءى من بعيد بكنائسها وقد راحت تقترب تارةً وتبتعِد تارةً أخرى.
كنا جميعًا مُتعِبين من جراء السفر وقد أنهَينا يومنا الأول من حياتنا في ستاريا روسا بغبطةٍ ومزاج حسَن.
ولكن، يا إلهي! من أين للمرء أن يعرف ما الذي ينتظره في غده القادم! وها هو الغد يأتي ومعه هذا الحادث: في الحادية عشرة صباحًا، وبعد أن تناولنا إفطارنا، كنت أرغب أن أُطلق الأطفال إلى الحديقة، ولكن خجلتُ أن يظهر رباط يدِ ابنتي على هذا النحو من الاتِّساخ. قررتُ أن أشقَّ الضمادة التي لفَّها الجرَّاح حول يدِها المُصابة ثم أفكها، وكان قد سمح لي بذلك. ويا لهول ما رأيت: لقد فشَّ الورم في الذراع تقريبًا خلال الأيام الماضية، ولكن ظهر واضحًا في المقابل ورم أسفل الكف. في المكان الذي أشرْنا إليه أنا وزوجي للجرَّاح في بطرسبورج. بدا أن الورم لم يعُد ليِّنًا كما كان في أول الأمر وإنما يابس، وقد ظهرت زرقة داكنة في الأصابع، وظهر تقوُّس اليد واضحًا دون لبس، الأمر الذي أصابَني بالدهشة. انزعج فيودور ميخايلوفيتش بشدَّةٍ وتصوَّر أن أمرًا بالِغ السوء قد وقع ليد الصبية أثناء رحلتنا الطويلة. استدعَينا الأب يوحنا وطلبنا منه أن يُشير علينا بطبيب، وسرعان ما حضر طبيب كان يعيش على مقربة منَّا، وقد أخبرنا أن ما أصاب ذراع الصبية لم يكن مجرد كدمة، وإنما هو كسر في العظم، وحيث إنهم لم يُثبِّتوه على نحوٍ صحيح ولم يُجبِّروا الذراع فقد التأم الكسر على نحوٍ خاطئ. أفزعَنا حديثه. وقد أجاب الطبيب على سؤالنا حول مصير اليد مُستقبلًا بقوله إن التقوُّس سيزداد، وإن اليد سيُصيبها التشوُّه، وبينما ستنمو اليد اليسرى على نحوٍ طبيعي؛ فإن اليُمنى ستتوقف عن النمو، باختصار، سوف تُصاب يد الصبية بالشلل.
يعلم الله وحدَه ما الذي أصابنا عندما سمعنا أنا وزوجي أن ابنتنا الرقيقة، التي نُحبها ونحنو عليها سوف تُصبح معاقة! في البداية لم نُصدق ورُحنا نبحث عن جرَّاح في المدينة. أخبرنا الطبيب أن طبيبًا عسكريًّا جرَّاحًا حضر إلى روسا بصحبة الجنود الذين يُرسَلون إلى هنا للعلاج بالمياه، غير أنه لا يعرفه شخصيًّا وأنه غير مُتأكِّد من كفاءته. قررنا استدعاء هذا الجرَّاح وطلبنا من الطبيب الانتظار لدَينا. ذهب الأب الطيب للبحث عن الجرَّاح ليعود بعد نصف ساعةٍ ومعه طبيب عسكري. كان مُنتشيًا إلى حدٍّ كبير من أثر الخمر، وقد عثر الأب عليه في الفندق يلعب البلياردو. ولمَّا كان معتادًا على التعامُل مع الجنود، لم يفكر في أن يكون أكثر حرصًا مع مريضته الصغيرة فإذا به يضغط على العظْمة، التي كانت ما تزال مُصابة، أثناء فحصها بطريقةٍ جعلتها تصرخ بشدةٍ وتروح في بكاء مرير.
أليس من المُمكن إجراء العملية تحت تأثير البنج؟ سأل فيودور ميخايلوفيتش، لكنهما أجاباه بأن من الخطر تخدير الأطفال فقد يتعرَّضون للدخول في نومٍ أبدي.
أتذكر كيف اعتصر الألم قلوبنا أنا وزوجي لهول المفاجأة وإلى أي درجة أحسسنا بالبؤس. لم نكن نعرف ما الذي علينا أن نُقرِّره، فطلبنا من الطبيبَين اللذين راحا يتعجلاننا أن يُمهلانا يومًا ننظر فيه في الأمر من كل جوانبه. كان وضعنا مأسويًّا بكل معنى الكلمة: فمن ناحية، لم يكن من المعقول أن نترك ابنتنا معاقة، وألا نُحاول أن نُصلح يدها. ومن ناحية أخرى، كيف لنا أن نأتمن هذا الجرَّاح، الذي قد يكون، فوق ذلك كله، مفتقدًا إلى الخبرة، في إجراء العملية (وقد دفعنا منذ فترة غير بعيدة ثمن ثِقتنا!)، ناهيك عن أنه مُحب للشراب، ثم إنه هو نفسه، وهو الجرَّاح، غير واثِق في نجاح العملية (وقد قال حرفيًّا: «لا يمكن التأكيد أن اليد ستلتئم على نحوٍ صحيح، وربما نُضطر إلى إعادة العملية.» ولدَيه شك في قدرة صغيرتنا الحبيبة على تحمُّل هذه العملية المؤلِمة؛ كل ذلك دفع بنا للوقوع في مهاوي اليأس. يا إلهي كم عانينا أنا وزوجي في هذا اليوم الكئيب ونحن نُفكر في اتخاذ القرار! راح فيودور ميخايلوفيتش يذرع بسرعةٍ شرفة الحديقة جيئةً وذهابًا في ذهول من جراء وطأة الحزن والقلق، وقد أخذ يشد شعر فودَيه وهي علامة من علامات شدة اضطرابه، بينما كنتُ أتوقع بين لحظة وأخرى أن تُداهمه نوبة الصرع، وأنا أنظر إليه تارةً وتارة أخرى إلى ابنتنا المريضة التي لم تُفارقني لحظةً وهي تبكي أيضًا. باختصار كان الفزع يُحيط بنا من كل جانب! لم ينتشِلنا من هذا الغم سوى القس الأب يوهان روميا نتسيف، الذي أصبح صديقنا الصدوق منذُ هذه الفترة، بقوله: دعكم وأطباءنا: إنهم لا يفهمون شيئًا، ولا يُحسنون صنعًا: إنهم لا يفعلون شيئًا سوى أن يُعذبوا ابنتكم. الأفضل أن تذهبوا بها إلى بطرسبورج، فإذا احتاجت عملية، فلتُجروها لها هناك.
كان الأب يوهان يتحدَّث بثقة ويُلقي بالحجة تلو الحجة، مما ساعدنا على أن نُقرر السفر إلى بطرسبورج. على أن موانع كبيرة كانت تقف في سبيل سفرنا. خذ مثلًا: كنا قد حزمنا أمرنا على قضاء الصيف في عزلةٍ وهدوء وأن ندَّخر بعض الصحة والعافية لمواجهة الشتاء، عثرنا على داتشا جيدة، قطعنا إليها طريقًا شاقًّا، وفجأة نَجِدُنا مُضطرين جميعًا للعودة إلى بطرسبورج الخانقة، حيث لا نمتلك شقةً بها (كنا قد أجَّرناها قبل سفرنا). وقد اضطُررنا للبحث عن داتشا أخرى في أي مكان من ضواحي العاصمة، بعد أن دفعنا مائة وخمسين روبلًا إيجارًا للداتشا في روسا، حدث ذلك رغم قلة مواردنا المالية وفي الوقت الذي كنا مُجبرين فيه على أن نقتصِد في نفقاتنا. وبالإضافة إلى ذلك كنا نشعر بالأسف لترك هذه الداتشا التي أعجبتنا، وأن نترك هؤلاء الناس الذين عاملونا بكل طيبة ومودة.
اقترح علينا الأب حلًّا آخر: أن نسافر مع لوبا وأن نعود بها إلى روسا بعد إجراء العملية، وأن نترك الصبي فيديا مع مُربيته. والطباخة في الداتشا، وقد وعدَنا الأب وزوجته، يكاترينا بتروفنا أن يقوما برعاية الطفل ومُربيته طوال فترة غيابنا. وكلاهما، الأب وزوجته، تعاطفا بإخلاصٍ مع مُصيبتنا وأعربا عن استعدادهما لرعاية فيديا وأن بإمكاننا الاطمئنان أنهما سوف يهتمَّان بالصغير.
تبقَّى أمامنا أمر واحد كان يُثير قلقنا وهو أن طفلنا كان يبلغ من العمر عشرة أشهر فقط، وكنتُ ما أزال أرضعه. كنا نتمتع كِلانا بصحة جيدة، وكنت عازمة على فطامِه عندما تبدأ أسنانه اللبنية في الظهور. وها أنا أُضطَر فجأة أن أترك الطفل، الذي لا يعرف طعامًا آخر سوى الرضاعة. تصورتُ أن التغيير المُفاجئ لنظام غذائه سوف يترك تأثيرًا سيئًا عليه. وأنه سيمرض نتيجة لذلك؛ وأن التأثير سيمتدُّ حتمًا إلى صحتي أنا أيضًا عند انقطاعي المفاجئ عن الرضاعة. كل ذلك أصابنا أنا وزوجي بالإحباط، لكننا تغلَّبنا على خوفنا وشفقتنا على صغيرنا وقرَّرنا أن نرحل في اليوم التالي إلى بطرسبورج.
كم كان سفرنا حزينًا! لم أفارق طفلي الغالي طوال الصباح؛ حضر فيودور ميخايلوفيتش إلى غرفة الطفل، وبدا لي أنه لم يستطع أن يُلقي بنظرةٍ على ابنه. وأخيرًا، عندما حانت لحظة الوداع، أرضعت الطفل للمرة الأخيرة وضممتُه بشدةٍ إلى صدري. كنتُ أشعر أنني لن أراه مرةً أخرى. جلستُ وزوجي بعدها نُصلي أمام الأيقونة، باركنا طفلَنا الذي ابتسم في سعادة، ثُم انطلقنا بعد ذلك إلى الباخرة بروح يَملؤها القلق والهم.
لا بد أن أذكر هنا بكلِّ الامتنان والعرفان عائلة روميانتسيف. فبفضل رعايتهم لنا مرَّ الأمر بسلام. لقد أخبروني فيما بعد أن طفلي وقد أصابَه الجوع بعد مُغادرتنا، راح يبحث عني وهو يُشير للمُربية بأصبعه نحو الباب وهو يعني «هناك». حملتْهُ العجوز من غرفته إلى الغرفة الأخرى؛ وعندما لم يَجدني بها انهمرت دموعُه رافضًا ما قدَّموه له من غذاءٍ ولم ينَم ليلتَه إطلاقًا. ثم أخذ بعد ذلك في التعوُّد على شُرب اللبن، وكانت صحتُه على ما يُرام. لكن أكثر ما حزَّ في نفسي وآلَمني عندما عُدت إلى روسا بعد ثلاثة أسابيع، وقد أخذني الشوق إلى فيديا بشدة، فإذا به لا يتعرَّف علي، أنا أمُّه، ولم يأت مُتلهفًا إلى ذراعَيَّ. لقد استطاع أن ينساني تمامًا.
كانت رحلتنا إلى بطرسبورج رحلةً حزينة، ولم يسترعِ اهتمامَنا طوال الطريق لا نهر إيلمين ولا نهر فولخوف. كان اهتمامُنا كله منصبًّا على رعاية ابنتنا. كنا نخشى أن ترقُد ليلًا على ذراعها المريضة فتؤلِمها. نظَّمنا وقتنا بيني وبين زوجي، فكنا نتبادل الجلوس إلى جوار فراشها كل ساعتَين ونحن نتعجَّل بصبرٍ نافد أن نصل إلى نهاية هذا الطريق الطويل.
وكما ذكرتُ من قبل، لم تكن لدَينا شقة هناك، ومن ثم قرَّرنا أن نُقيم في المدينة في شقةِ أخي إيفان سنيتكين، الذي توجَّه هو وأُمي للسُّكنى في داتشا في الضواحي. كان يومًا خانقًا شديد الحرارة. وما إن فتحت الخادمة لنا الباب حتى بادرتْنا قائلة: إن السيدة العجوز (أُمي) مريضة.
– يا إلهي، ماذا بها؟ أين هي؟ في الداتشا؟
– لا، إنها هنا، في الشقة.
دلفتُ إلى غرفتها لأراها. كانت نائمة، وهي جالسة على الأريكة وقد علا وجهها الشحوب، بينما كانت قدمُها ملفوفةً في ضمادة. بدأتُ أستوضح الأمر فعلمتُ أن حادثًا وقع لها إبَّان نقل أثاثنا إلى مخازن كوكوريفسكي. لم تنتبِه أُمي عندما أسقط الحمَّال، الذي لا بدَّ وأنه كان مخمورًا، صندوقًا ثقيلًا على قدمِها. كانت إصبع قدمها اليُسري مكسورة. وقد أخبرها الطبيب الذي استدعَيناه أن الإصبع متقيحة ومنعها من الحركة ووعد بشفائها في ظرف شهر لا أقل. كان لعودتنا المُفاجئة ولهذا السبب المفزع أثر بالِغ السوء على أُمي، وقد أحزنها بشدة على حفيدتها الوحيدة، التي كانت تُحبها حبًّا جمًّا. راحت أُمي تبكي وقد أصابها الكدَر، وإذا بحرارتها ترتفع بشدة، وعندما زارها الطبيب في المساء، قرَّر أنَّ تقرُّح الإصبع قد زاد إلى حدِّ أنهم قد يُضطرون لبترِها. يمكن لأي إنسانٍ أن يتصوَّر مدى اليأس الذي وصلتُ إليه بعد أن علمتُ بهذه المصيبة الجديدة.
استقبل بارتش فيودور ميخايلوفيتش بحفاوة بالِغة وعاتبَه على عدم حضوره إليه منذ اللحظة الأولى لوقوع الأمر ووعده بزيارته في المساء، وقد حضر بالفعل في الوقت المُحدد. وقد نجح في جذب اهتمام ابنتنا بساعتِه ذات السلسلة، ثم راح ينزع برفقٍ الضمادة عن يدها، حتى دون أن يمسَّها حتى لا يؤلِمها. بعدها أعلن مباشرة أن الأطباء في ستاريا روسا قد شخَّصوا الحالة تشخيصًا صحيحًا، وأن العظم قد التأم على نحوٍ خاطئ. ورأى أن من المُستحيل أن تصبح اليد اليُمنى أقصر من اليسرى، لكنه حذَّر من أنَّ تجويفًا من جانب وبروزًا من جانب الكف سوف يكونان واضحَين على أية حال، ولكي يتم إصلاح العيب يجِب إعادة كسر العظم وتركه يلتئم بعد عمل ضمادة من الجبس. بادرَه فيودور ميخايلوفيتش بقوله إنه يعرف أن العملية مؤلِمة للغاية ويخشى ألا تتحمَّلها الطفلة.
لكنها لن تشعر بشيء، فسوف تُجرى العملية تحت تأثير المُخدِّر، أجاب بارتش.
– لقد أخبرنا الأطباء في ستاريا روسا أن الأطفال الصغار لا ينبغي أن يتعرضوا للتخدير لأنه يُمثل خطرًا عليهم، قال زوجي.
– حسنًا، لأطباء ستاريا روسا أن يقولوا ما شاءوا بشأن تخدير الأطفال، ابتسم الجراح لهذه الملاحظة، أما نحن فنُخدِّر حتى الأطفال الرُّضَّع، وسيمرُّ كل شيء بسلام.
وبينما هو يستفسر عن كافة التفاصيل، راح بارتش يُحملق في وجهي باهتمام. لم تغِب عن نظرته الثاقبة حالة الحُمَّى التي كانت تعتريني.
– هل صحتُك على ما يرام؟ توجه إليَّ سائلًا، لماذا يبدو وجهك مُمتقعًا؟ لعلها الحُمَّى!
هنا اضطُررتُ للاعتراف بأنني كنتُ أعانى الحمى طوال الليل وأن رأسي كان يؤلِمني أثناء النهار وأنني ما زلتُ أشعر بدوار، ثم شرحت له السبب.
انزعج فيودور ميخايلوفيتش بشدةٍ وراح يُعاتبني على إخفائي حالتي المرضية.
هدِّئي من روعك يا سيدتي، قال بارتش، أما ابنتك فسوف نُعالجها، ولكنني لن أقوم بإجراء العملية قبل أن تتعافَي أنتِ نفسك. لعلَّ لبن الرضاعة يندفع إلى رأسك، وهو أمر لا ينبغي الاستهانة به. اذهبي إلى الصيدلية على الفور لإحضار الدواء الذي سأصفه لك، وعندما علِم بارتش أننا نسكن في شقةٍ ليست لنا، وأن لدَينا فوق هذا امرأة مريضة، اقترح علينا أن ننتقل لمدة ثلاثة أسابيع إلى مستشفى ماكسيميليانوفسكايا، حيث ستُفرد لنا غرفة مُستقلة. وقد أخبرنا أن العظم لن يلتئم قبل ثلاثة أسابيع وأنه لن يقوم بالعملية إلا إذا بقينا في بطرسبورج طوال الفترة اللازمة للشفاء. كان واضحًا أنه، باعتباره جرَّاحًا ماهرًا، لا يرغب في تحمُّل مسئولية، ربما، فشل العملية بسبب خطأ يُمكن أن يرتكبه طبيب ستاريا روسا إذا ما تابع العلاج هناك وقام بنزع الضمَّادة فيما بعد.
قرَّرنا أنا وزوجي على الفور أن ننتقل في اليوم التالي إلى المستشفى وقد وعدَنا بارتش أن يُجري الجراحة غدًا إن أمكن.
كان يومًا عصيبًا مليئًا بالشكوك. وصلنا إلى المستشفى في حوالي الساعة الثانيةَ عشرة ظهرًا، وسرعان ما انضمَّ إلينا أبوللون نيكولايفيتش مايكوف، إشبين ابنتنا. وكان بارتش قد طلب منا بالأمس أن يَحضُر أحدٌ ما من أقاربنا أو معارفنا العملية، وقد طلب فيودور ميخايلوفيتش من مايكوف أن يحضر هو العملية.
كان من المُقرر أن يُخدروا الفتاة في أثناء نومها المُعتاد بعد الإفطار. لكنها كانت مُثارةً بسبب انتقالها عبر شوارع المدينة والأماكن والأشياء الجديدة عليها فلم تستطع أن تنام.
عندئذٍ قرَّروا تخديرها وهي مُستيقظة. ظهر بارتش في الغرفة ومعه مساعده الدكتور جلاما. وعندما علم بارتش أنني وزوجي ننوي حضور العملية اعترض بشدة.
عفوًا، قال بارتش، أحدكما سيُصاب بإغماء، والآخر بالصرع، وعندئذٍ سنلتفتُ لكما ونترك العملية! كلَّا، يجب عليكما أن تخرُجا من هنا، وإذا ما تطلَّب الأمر وجودكما، فسوف آتي لطلبكما.
رسمنا علامة الصليب على ابنتنا عدة مرات وقبَّلناها، ولمَّا بدأت في النوم بتأثير المُخدر، أخذها بارتش من يدي ووضعها بحرصٍ في السرير. خرجنا وزوجي من الغرفة والرُّعب يملأ قلوبنا، وقد خامرَنا شعور بأننا لن نراها حيةً مرة أخرى. أخذَنا أحد العامِلين إلى إحدى الغرف وتركَنا وحدَنا. كان وجه فيودور ميخايلوفيتش شاحبًا كالموتى؛ وكنتُ من الاضطراب أقف على قدمي بالكاد.
– آنيا، لنُصلِّ ولنسأل العون من الله، وسوف يُعيننا! قالها زوجي بصوتٍ مُتهدج. ركعنا كلانا ورُحنا نُصلي بحرارة، لعلَّنا لم نصلِّ في حياتنا كلها بهذا الخشوع مثل صلاتنا هذه الدقائق! ما إن انتهينا حتى تناهى إلى أسماعنا صوت خطوات مسرعة، وإذا بمايكوف يدلف إلى الغرفة: اذهبا إلى هناك. بارتش يُناديكما، قال مايكوف.
فكرة وحيدة خطرت ببال فيودور ميخايلوفيتش مثلما خطرت ببالي تمامًا، أن ليليا لم تتحمَّل التخدير وأن بارتش يستدعينا لحضور الدقائق الأخيرة من حياتها. لم أعانِ في حياتي وحتى الآن شعورًا بالرُّعب مثل هذا الشعور: تخيلتُ أمامي صورة موت ابنتنا الكبرى. لحظتها أخذني زوجي من يدي ضاغطًا عليها بعصبية. غذَذْنا السير إلى حدِّ الهرولة عبر ممرِّ المستشفى وما إن دخلنا الغرفة حتى رأينا بارتش (دون سترة وقد شمَّر أكمام قميصه)، وكان يبدو قلقًا. دعانا بإشارةٍ من يده لنتقدَّم نحو السرير، الذي كانت تنام عليه الفتاة في هدوء. كانت يدُها المكسورة مُستقيمة الآن تمامًا، ليس فيها أي أثرٍ لتورُّم، ملقاةً إلى جانبها وقد وُضِعت على وسادة صغيرة.
– حسنًا، انظروا، قال بارتش، ترَون أن اليد مُستقيمة تمامًا، ويبدو لي أنكم غير مُصدِّقَين؟ والآن ابتعدوا، دعوني أُكمل عملي.
وها هو بارتش، في وجود ثلاثتنا، يقوم بربط الضمادة حول اليد وقد أحاطها بالجبس، وقد قام بذلك كله بسرعة كبيرة (سبع دقائق) إلى حدِّ أننا لم نتمكن من إدراك أن العملية قد انتهت بالفعل. طوال الوقت كان جلاما يتابع نبض الفتاة. ثم أخذ بارتش في إفاقتها وطلب منِّي أن أُناديها باسمِها بصوتٍ مرتفع. لم تستطع أن تستيقظ لمدةٍ طويلة، وعندما عادت لوعيها أبدت دهشتَها وهي تنظر إلى يدِها المربوطة بالضمَّادة وأعلنت أن لديها «شعاعًا» سكريًّا (بلون الجبس).
يا إلهي، كم كنا سعيدَين أنا وزوجي إلى حدِّ الجنون. فبعد أن انتهى الأمر، خرج الطبيبان وتركانا وحدَنا مع صغيرتنا الحبيبة. من الصعب أن أصف شعور السعادة والهدوء الذي اكتنفَنا. لقد بدا أن كلَّ المصائب والهموم قد انزاحت وأنها لن تعود ثانية، ولكن ذلك لم يحدُث في الواقع.
بقي فيودور ميخايلوفيتش في بطرسبورج يومًا آخر، حيث إن نتيجة العملية (أي معرفة ما إذا كان العظم سيلتئم على نحوٍ صحيح في هذه المرة) لم تكن لتتَّضح قبل ثلاثة أسابيع، قرَّر فيودور ميخايلوفيتش ألا ينتظر أكثر من ذلك فسافر على الفور إلى روسا يدفعه الشوق الجارف إلى فيديا بعد فراقٍ طويل عنه. أما فيما يتعلق بي فحدِّث ولا حرج: كنت أفكر والألم يعتصر قلبي كيف أني تركت ابني الغالي دون شفقةٍ أو رحمة. ظلَّت الهواجس تتقاذفني خشية أن يكون سوءٌ قد أصابَه. ولهذا كنتُ سعيدة أن زوجي أسرع عائدًا إلى هناك. كنتُ أعلم أنه أبٌ رءوم وكنت على يقينٍ أنه سيرعى ابننا الحبيب.
أما ما لم أكن أتصوَّره أن يتحول بقائي مع ليليا في بطرسبورج إلى عذابٍ مستمر، عذاب عليَّ أن أتحمَّله. أولاً، كنت أشعر طوال الوقت بالقلق البالِغ خشيةَ أن تقع وهي تركض في الغرفة على يدِها المُصابة، وقد تصطدم بشيءٍ ما فينكسر الجبس، أو تتحرك الضمادة عن موضعها عند أي حركةٍ خاطئة، وعندئذٍ يلتئم العظم مرةً أخرى على نحوٍ خاطئ. كنت أتابعها لحظةً بلحظة، ولمَّا كانت فتاتنا شديدة الحيوية والنشاط، فقد أصبحتُ بسبب خوفي الدائم وتوتري الزائد في حالةٍ عصبيةٍ مستمرة. وبالإضافة إلى ذلك فقد ساء نومي بالليل، فكنتُ أستيقظ كل دقيقةٍ لكي أطمئنَّ عليها وأتأكَّد أنها لا تنام فوق ذراعها المريضة. ناهيك عن أن ليليا اعتادت الحياة وسط أفراد الأسرة، تنظر فترى بجوارها أباها وأخاها ومُربيتها؛ أما هنا فقد كان مصيرها أن تعيش في وحدةٍ تامة، ولهذا كان من الطبيعي أن تشعر بالوحشة وأن تشاكس وأن تستسلِم للبكاء؛ فضلًا عن ذلك كانت المدينة حارةً والجو خانقًا، وكانت رائحة الدواء تنتشِر في أنحاء المُستشفى. كان عدم الخروج إلى الهواء الطلق مُستحيلًا، وكنت أرغب في زيارة أُمي، التي لم تبرأ بعدُ من مرضها. كان الخروج إلى الشارع يعني زيادة احتمالات السقوط على الأرض وإصابة الطفلة بالكدمات والرضوض. لم تكن لدي القوة لحملِها على يدي، ولم يكن بإمكانها أن تمشي لمسافةٍ طويلة، وكان استخدام الحنطور عذابًا حقيقيًّا، فسواء عند ركوبه أو النزول منه كان من السهل للغاية أن تتعرَّض يد الفتاة للأذى.
وإلى جانب الخوف على ليليا، لم أستطع التخلُّص من التفكير فيما عساه يحدث الآن لزوجي، أليس من الجائز أن يكون قد أُصيب بنوبة صرع؟ أحسستُ من خطاباته أنه يشعر بالوحشة والقلق بشأننا، بينما لم يكن بمقدوري أن أمدَّ له يد المساعدة. لقد تعذبتُ أنا أيضًا بالحنين إلى صغيري، وكنتُ في غاية الانزعاج في الوقت نفسه بخصوص الجرح القائم في قدَم أُمي الذي لا يبرأ بل ويزداد ألمًا. لهذه الأسباب وغيرها أصبحَتْ أعصابي متوترة، كنتُ أبكي وأنتحبُ عدة مرات في اليوم.
بعد انقضاء الدقائق الأولى للحزن، رحتُ أستفسر من أخي عن فداحة مُصيبتنا التي لا تعوَّض. وقد اتضح أنه ذهب، بناء على طلب أُمي، ليعود أطفال أختي، وهناك علم أن زوجها قد عاد لتوِّه هذا الصباح فقط من الخارج. ولعِلمه أن وفاة أختي سوف تُمثل لي ضربةً قاصمة، خشِي أخي أن أقع مريضةً من الحزن وعندئذٍ لن يكون هناك من يرعى ابنتي، ومن ثَمَّ قرَّر ألا يُخبرني. وقد أكد لي أخي أنه الآن أصبح يشعر براحةٍ أكبر بعد أن أصبح باستطاعتي أن أُشاطره حزنه وأن يسترشد برأيي فيما يجِب عمله. كانت أمامنا مهمة ثقيلة كيف نُخبر أمَّنا بوفاة ماشا. كانت ابنتها الكبرى الأثيرة لديها، وكنت وأخي نخشى ألا تتحمَّل هذه المصيبة فقد تحدث لها صدمة أو تُجَن.
ازدادت مُهمتنا صعوبة وخاصة عندما علم الطبيب المُعالج لها بالمصيبة الجديدة التي حلَّت بنا، فطلب منَّا أن نُخفي عنها الخبر إلى أن يتمَّ شفاء قدمِها. وأكد الطبيب لي أن الالتهاب سوف يزداد بلا شك (نتيجة الاضطراب والدموع)، وعندئذٍ قد يُضطر لبتر الإصبع. ما القرار الذي علينا أن نتَّخذه؟ كان هذا هو السؤال المُفزع لي ولأخي. وفي الوقت نفسه كانت لدى أخي همومُه الثقيلة: كانت زوجته تتوقَّع أن تلد خلال بضعة أيام؛ ولما كان ذلك هو مولودهما الأول، فقد كان أخي وزوجته في حالةٍ قاسية من الاضطراب، يأمُلان في أن يمر الأمر بسلام.
أما أنا فكانت لديَّ أيضًا أوجاعي: زوجي وابني الغالي، نجاح أو فشل عملية ابنتي ثم مرض أُمي، والآن إذا بهذا الهمِّ الكبير يُداهمنا! لكن الله يهبُ الصبر على قدُر المُصيبة!
هكذا قرَّرنا أن نُخفي نبأ وفاة أختي عن أُمي، ولكن إلى حين! وكم كان ذلك صعبًا علينا أن نفعل ذلك! كانت أُمي تتحدَّث عن أختي وكأنها بيننا، وتكتب لها الخطاب تلو الآخر وتُعد من أجلها الهدايا لتعطيها لها عند حضورها. كم عانَينا من سماع أحاديثها عن ماشا ونحن نتحدَّث بحرص بالغٍ خشية أن تفلت منا كلمة تَشي بنا، وخاصة عندما تُذكِّرنا هذه الأحاديث بالراحلة فيكاد الدمع عندئذٍ يطفر من أعيننا. كانت أُمي تلاحظ أحيانًا أنني أبكي، ولكنني كنتُ أذكُر لها أن ذلك من فرط قلقي على نجاح العملية وعلى أحبائي الموجودين في روسا.
مضى الزمنُ وقرَّرنا أن نكشف السرَّ الذي كتمْناه طويلًا. وإذا بأُمِّي تُقرر فجأة، وقد أحزنها أنها لم تتلقَّ خطابات من أُختي المريضة، أن تزور أطفالها الصغار. وعلى الرغم من أنَّنا حاولنا إقناعها بأن سفرَها يُمكن أن يضر بقدمها، فقد أصرَّت على رأيها. وفي نفس الوقتِ تلقَّينا خطابات من فيودور ميخايلوفيتش اهتزَّ على أثرها قرارُنا. وأخيرًا حسَمْنا موعد السفر. اتفقتُ مع ممرضةِ المستشفى أن تُجالس ليليا ساعتَين أو ثلاثًا وأن تشغلها بالُّلعَب، ولكنها خافت لو تركتها لدقيقةٍ واحدة أن يقع لها مكروه. وقد ترك أخي أيضًا زوجته المريضة وهو في أشدِّ حالات الخوف، وهكذا جلسنا جميعًا في العربة وقد اصطحبنا أُمَّنا العزيزة مُتَّجِهين لزيارة أطفال أُختي الراحلة. كم من الألَم عانَيْنا أنا وأخي في هذا اليوم! سِرْنا ببطء حتى لا نؤلِم قدم أُمي المصابة، كنت أشعر تمامًا كما لو كنتُ مُساقةً إلى الإعدام. كنتُ أشعر أن كل دقيقة تمر، كل منعطفٍ نمرُّ به، هكذا كنتُ أفكر، ربما يأخذنا إلى مصيبةٍ جديدة، بل وربما نصِل حتى إلى موت أمي. يا له من رُعب! إلى الآن، وبعد مرور سنواتٍ عديدة، ما زلتُ أتصور هذا اليوم كما يتذكر الإنسان كابوسًا ثقيلًا!
وصلنا إلى بيت أختي (في شارع مالايا إيتاليانسكايا). سارع كل من الحارس والبوَّاب بحمْل أُمي إلى الطابق الثاني، بينما هُرعت ابنتا أختي الكبيرتان، لياليا وأوليا، إلى السُّلَّم لاستقبال أُمي. أصابت الدهشة أُمي المسكينة لعدَم خروج أختي مع الطفلتَين لاستقبالها، وهنا أحسَّت فجأة باقتناعٍ عميق أن ابنتَها لم تعُد على قيد الحياة (وهو ما أخبرتَني به بعد ذلك).
وأخيرًا وافقَتْ أمي على توسُّلاتنا ووعودنا بأن نعود بها ثانية بعد عدة أيام لزيارة الأطفال اليتامى. عُدنا على مهلٍ إلى بيتها ومنه توجَّهت إلى المستشفى، ولحُسن الحظ وجدتُ كل شيءٍ على ما يرام: ليليا والمُمرضة يغطَّان في الفراش في نومٍ عميق. وفي الحال ألبستُ ابنتي وذهبتُ بها لقضاء بقية اليوم عند أُمي، بعد أن قررتُ ألَّا أتركها وحيدةً مع حزنها البالِغ. وقد بكينا معًا كثيرًا، وكان مما خفَّف من أحزاني أنني لم أُضطَر أن أُخفي عنها طويلًا هذا الهم الذي ظلَّ جاثمًا على صدرَينا أنا وأخي.
أمسكت السيدة الطيبة به من كتفه وقالت له: لا تبك، فيودور ميخايلوفيتش، لا تجزع، إن الله رحيم ولن يترك أطفالك يتامى.
كان للمشاركة القلبية وإقناع الأم الطيبة أثره الطيب في نفس زوجي وعمِلَا على رفع معنوياته المنهارة. ظلَّ فيودور ميخايلوفيتش يتذكَّر بكل امتنانٍ هذا التعاطُف من جانب هذه السيدة وكان يكنُّ لها احترامًا شديدًا.
يمكن تصور حالة اليأس التي كنتُ أمرُّ بها إبَّان مرَضي: كنتُ أرى أنَّ وضعي الصحي يزداد سوءًا، وعلى مدى بضعة أيامٍ لم أكن أستطيع أن أنطق ولو بكلمةٍ واحدة، فكنتُ أكتب ما أريد على ورقة. كان الطبيب يُسجل درجة حرارتي مرتَين يوميًّا (كان فيودور ميخايلوفيتش يُخفي دائمًا عنِّي هذه الورقة، لكن المُربية كانت تُحضرها لي بناءً على طلبي لأنظر ما بها، دون أن تُدرك لماذا أطلُبها)، كنتُ أفهم بالطبع إلى أين يذهب بنا الأمر. كنت أشعر بالأسى لدنوِّ الموت منِّي. كان أمرًا قاسيًا أن أترك زوجي وأطفالي الأحبَّاء، وقد رحتُ أتصوَّر على أي نحوٍ من البؤس سوف يعيشون دون أمٍّ مع أبٍ مريض فقير. أي مصير ينتظرهم؟ أما أُمي فهي عجوز ومريضة وقد ماتت أُختي. كان الأمل معقودًا على أخي الطيب في أن يرعى أطفالي. كنتُ أشعر بالأسى الشديد على زوجي: من سيُحبُّه، من سيرعاه ويُشاركه عمله ويقاسِمه أحزانه؟ ناديتُ زوجي وأطفالي بإشارة. قبَّلتُهم وباركتهم وكتبتُ تعليماتي لزوجي في حالة وفاتي. على أنني وقبلَ الأزمة بيومَين أصبحتُ أشعر بقدرٍ كبير من اللامبالاة: بدا كأنني لا أشعر بأي أسًى على فيودور ميخايلوفيتش ولا الأطفال وكأنني قد غادرت هذا العالَم بالفعل.
ولحُسن حظنا جميعًا، فقد حدثت الأزمة في نفس الليلة: شُفي الخرَّاج الموجود في حلقي وبدأتُ في التعافي. وبعد أسبوعين تكرَّر ظهوره، وفي حلقي مرةً أخرى، ولكن بدرجةٍ بسيطة. وإذا بسلسلة المصائب التي وقعت لنا طوال عام ١٨٧٢م تنتهي تمامًا.
لقد كان عليَّ أن أُعاني في حياتي فيما بعدُ الكثير من الأحداث المريرة. كانت هناك خسائر فادحة: موت زوجي وابني أليوشا، ولكن هذه المصائب لم تتكرَّر مرةً أخرى.
⋆ ورد ذكر بيت تاراسوف للديون، الذي هدد دستويفسكي أكثر من مرة، في خطاباته. على سبيل المثال، كتب دستويفسكي إلى مايكوف في السادس عشر من أغسطس ١٨٦٧م يقول: «الحقيقة أن قسم الديون (ولا أقول هذا على سبيل السخرية) كان مُفيدًا للغاية لي. كان من المُمكن أن تصِل ديوني إلى ما لا يقلُّ عن أربعة أو خمسة آلاف روبل، وكنتُ قد تزوجت لتوِّي، وكان السؤال الذي لا إجابة له لديَّ، هل سأتحمَّل الصيف الخانق في سجن تاراسوف؟ إذا كان عليَّ أن أكتب هناك، إذا كان ذلك مُستحيلًا في ظروف النوبات الشديدة التي تُداهمني، فكيف إذن سوف أسدد ديوني؟» (الخطابات، المجلد الثاني، ٢٥–٢٦).
لمزيدٍ من التفاصيل عن نيكولاي ميخايلوفيتش دستويفسكي انظر: فولوتسكي (شجرة عائلة دستويفسكي، المترجم) ص٣٤٨-٣٥٥.
(يقدم الكتاب تحليلًا مُحددًا لنماذج من مؤلَّفات كلٍّ من دستويفسكي وبوبيدونوستسيف ويعرض للتشابُه والاختلاف في وجهات نظرهما السياسية).
وبدءًا من عام ١٨٥٣م يعمل دانيليفسكي في مختلف دور النشر وينشُر عددًا من المقالات سواء في تخصُّصه (علم النبات)، أو في موضوعات اجتماعية مختلفة.
وفي عام ١٨٦٩م ينشر دانيليفسكي في مجلة «زاريا» (الفجر) عمله الرئيسي: «روسيا وأوروبا» (وقد ظهر في طبعاتٍ متعددة عام ١٨٧١م، ١٨٨٨م، ١٨٨٩م). وتشغل فكرة دانيليفسكي حول انهيار أوروبا وعن الخصائص الثابتة لروسيا (الأرثوذوكسية وروح الجماعة وهلمَّ جرًّا) الجزء الأكبر من الكتاب، وإن لم تُقدم جديدًا مقارنة بما عبَّر عنه أنصار النزعة السلافية من قبل. وتُعَد آراء دانيليفسكي السياسية هي الأكثر أصالةً في زمنه، وخاصة المشروع الذي طرحَه لحلِّ المسألة الشرقية، والذي تمثَّل في إنشاء الاتحاد السلافي، بحيث تكون عاصمته هي القسطنطينية. وعن تأثير أعمال دانيليفسكي على آراء دستويفسكي في السبعينيات، الذي بدأ عمله «مذكرة الكاتب» في الظهور بعد أربع سنوات من ظهور كتاب دانيليفسكي «روسيا وأوروبا» انظر كتاب د. ف. جريشين «مذكرة الكاتب» لفيودور دستويفسكي، ملبورن، ١٩٦٦م، ص١٣٢–١٣٥.
كتب ترياتيكوف إلى كرامسكوي خطابًا في الخامس من فبراير ١٨٨١م بعد وفاة دستويفسكي يقول فيه: «ما أكثر ما قيل وما كُتب عن (دستويفسكي)، ولكن هل يُدرك الناس مدى فداحة الخسارة التي مُنينا بها؟ لقد كان رجلًا روسيًّا حتى النخاع، إلى جانب كونه كاتبًا عظيمًا، كان يُقدر وطنه بحماس، على الرغم مما أصاب هذا الوطن من قروح. لم يكن حواريًّا فقط كما وصفته، بل كان نبيًّا ومُعلمًا لكلِّ ما هو طيب. كان ضمير مجتمعنا» (مراسلات إ. ن. كرامسكوي وب. م. ترياتيكوف، ١٨٦٩–١٨٨٧م، موسكو، ١٩٥٣م، ص٢٧٧).
وعن إبداع ف. ج. بيروف كتب دستويفسكي مرتين: الأولى بخصوص لوحتَيه «دعوة في الريف» في مقاله: «معرض في أكاديمية الفنون عن العامَين ١٨٦٠-١٨٦١م» (المقال ملحق بأعمال دستويفسكي انظر دستويفسكي، ١٩٢٦–١٩٣٠م، المجلد الثالث عشر، ص٥٤٤-٥٤٥). والثانية عن لوحة «صيادون عند الموقف» في «مذكرة الكاتب» عن عام ١٨٧٣م في مقاله «بخصوص المعرض» (دستويفسكي، ١٩٢٦–١٩٣٠م، المجلد الحادي عشر، ٧٣-٧٤).
⋆ الخطابات، المجلد الثالث، ص٣٢-٣٣.