العامان ١٨٧٢-١٨٧٣م
١
وعلى الرغم من أن زوجي ظلَّ يعمل طوال الصيف على إتمام روايته، فإنه كان غير راضٍ تمامًا عنها، حتى إنه تخلَّى عن الخطة التي سبق أن وضعها وأعاد كتابة الفصل الثالث منها من جديد.
٢
لم تكن هناك أية أسباب جادة حتى يعترض فيودور ميخايلوفيتش على سفري، فقد بذلَتْ أمي وعدًا بالحضور إلينا إبَّان غيابي لرعاية الأطفال والقيام بأعمال البيت. وفي الوقت نفسه لم يكن لدى زوجي في هذا الوقت أيُّ عمل لي؛ كان يعمل آنذاك في تنقيح خطة رواية «الشياطين». على أي حال، لم يلقَ سفري أي ترحيبٍ إطلاقًا من جانبه، فراح يختلِق كافة الأسباب حتى لا يسمح لي بالسفر. سألني؛ كيف، وأنا المرأة الشابة، أذهب وحدي إلى مدينة بولندية، لا معارف لي فيها، وكيف سأرتِّب أموري وهلمَّ جرًّا. بعد أن استمعت إلى هذه الاعتراضات تذكَّر أخي أن أحد رفاقه السابقين مسافر إلى المنطقة الغربية وهو على معرفة جيدة بها، ودعاني وزوجي لزيارته وتناوُل الشاي في بيته للتعارُف ومعرفة كافة المعلومات التي يُريدها منه.
عندما رأى أخي ارتباك رفيقه سارع بتقديمه إليَّ. أمسك «الآسيوى» بيدي وقبَّلها. هزَّها عدة مرات بشدَّة ثم قال بلسان ألثغ: كم أنا مسرور لذهابك إلى المؤتمر وأنَّ باستطاعتي أن أكون مفيدًا لك!
أضحكني حماسُه البالِغ، لكن هذا الحماس أغضب زوجي. وعلى الرغم من أن فيودور ميخايلوفيتش كان يُقبِّل أيدي السيدات، وإن حدث ذلك نادرًا، ولم يكن يُعطي لهذا الأمر أي أهمية، فقد كان دائمًا ما يشعر بالغضب إذا ما قبَّل أحدُهم يدي. عندما لاحظ أخي أن مزاج فيودور ميخايلوفيتش قد تغيَّر (وكان مزاج زوجي ينقلب من حال إلى نقيضه على نحوٍ حاد) سارع بالدخول في الحديث عن الجانب العملي للمؤتمر. مرةً أخرى اضطرب «الآسيوى» بشدة وراح يُجيب على الأسئلة وهو ينظر إليَّ مُعظم الوقت دون أن يجرؤ على النظر إلى فيودور ميخايلوفيتش. أذكر جيدًا إجاباته المُهذبة وإن اتَّسمت بالسخافة.
– ألا تعتقد أن الوصول إلى الإسكندرية صعب؟ سألته، وهل هناك تغيير كثير للقطارات؟
– لاتقلقي، آنَّا جريجوريفنا، سوف أُرافقك بنفسي، وإذا شئتِ أستطيع أن أسافر معك في نفس عربة القطار.
– هل يوجد في الإسكندرية فندق محترم بحيث يمكن لامرأةٍ شابة الإقامة به؟ سأله زوجي.
نظر الشاب إليه بفرحٍ وصاح بحماس: إذا أرادت آنَّا جريجوريفنا، فباستطاعتي أن أقيم معها في نفس الفندق، رغم أنني كنتُ أنوي الإقامة عند أحد رفاقي.
– آنيا، هل سمعتِ؟ الشاب موافق على الإقامة معك؟ يا للروعة! صاح فيودور ميخايلوفيتش بصوت عالٍ وضرب المائدة بكل قوته. سقط كوب الشاي على الأرض وتهشَّم. هُرعت ربة البيت لتُمسك بقوة المصباح المُشتعل الذي راح يهتز من قوة الضربة، بينما انتفض فيودور ميخايلوفيتش من مكانه واندفع صوب المدخل. ألقى معطفه على كتفَيه وهرب.
ارتديتُ ملابسي على عجل وانطلقتُ في أثره: عندما خرجت إلى الشارع شاهدتُ زوجي يسير مسرعًا مُتخذًا الاتجاه المعاكس لمنزلنا. هرولتُ خلفَه حتى تمكنتُ من اللحاق به بعد خمس دقائق. كنتُ ألتقط أنفاسي بصعوبة، ولكنَّني لم أفلح في إيقافه على الرغم من توسُّلاتي له أن يتوقَّف، تخطيتُه مسرعةً وأمسكت بيدي بياقتَي مِعطفه الذي كان مطروحًا على كتفَيه: فيديا، هل جُننت! إلى أين تُسرع؟ هذا ليس طريقنا! قف، أدخل ذراعيك في المعطف، لا يصحُّ ذلك، سوف تُصاب بالبرد!
كان لمظهري المُضطرب أثره على زوجي فتوقَّف وارتدى معطفه. أغلقتُ الأزرار وتأبَّطتُ ذراعَه وأخذته في الاتجاه المعاكس. التزم فيودور ميخايلوفيتش الصمت وقد بدت عليه الحيرة والارتباك.
ما الأمر؟ لعلها الغيرة مرة أخرى. أليس كذلك؟ كنت أنا أيضًا مرتبكةً وأنا أتحدث؛ هل تظن أنني نجحت خلال بضع دقائق أن أقع في هوى «الآسيوي الفظ»، وهو أيضًا أُغرِم بي، وأننا عقدنا عزمَنا على الهروب معًا؟ أهذه هي الحقيقة؟ ألا تشعر بالخجل؟ هل صحيح أنك لا تُدرك أنك تسيء إليَّ بغيرتك هذه؟ إننا متزوِّجان منذ خمس سنوات وأنت تعلم كم أُحبك، كم أُقدِّر سعادتنا الزوجية، ومع ذلك فأنت حريص على الغيرة من أول من تُقابله، وتضع نفسك بذلك وتضعني في موقف مُضحك!
اعتذر زوجي وراح يُبرر موقفه ووعدني أنه لن يستسلم لغيرته بعد ذلك. لم أستطع أن أظلَّ طويلًا غاضبة: كنت أعلَم أنه لا يستطيع أن يتمالك نفسه عندما تجتاحه سورة الغيرة. رحتُ أضحك وأنا أتذكَّر هذا الشاب المتحمِّس ثم غضب فيودور ميخايلوفيتش المفاجئ وفراره. عندما رأى زوجي التحوُّل في مزاجي أخذ هو الآخر يسخَر من نفسه متسائلًا كم من الأشياء حطمها في بيت أخي، وكيف حطم بالمناسبة هذا المتحمِّس المعجَب به.
قضينا مساءً رائعًا. قطعنا المسافة المُتبقية إلى المنزل سيرًا على الأقدام. كان الطريق طويلًا استغرق منَّا ساعةً أو يزيد. ألفَينا أخي في المنزل. فبعد أن رأى فرار زوجي استبدَّ به الخوف، هرول إلينا وكان في شدة القلق عندما لم يجِدْنا في المنزل. ساعة بأكملها قضاها هنا مع هواجِسه المُرعبة، وقد اندهش بشدةٍ عندما رآنا في حالة طيبة. أبقيناه ليحتسي معنا الشاي ورُحنا جميعًا في الضحك ونحن نتذكَّر ما حدث. وعندما سألناه كيف شرح للقوقازي هروبنا المُفاجئ أجاب: عندما سألني ما الذي يحدُث هنا، قلت له: إذا لم تفهم ما حدث فلتذهب إلى الجحيم.
أدركتُ، بعد الذي حدث، أن عليَّ أن أرفض السفر. كنتُ أستطيع بالطبع أن أقنع زوجي بالسفر. ولكنني كنت أعلَم أنه سيظل قلقًا، مُضطربًا. وقد لا يتمالك نفسَه فيتبعني إلى الإسكندرية، وقد تحدُث فضيحة. وعلى أية حالٍ كنَّا بذلك سنُنفق النقود القليلة التي سنحصل عليها عبثًا.
وهكذا انتهت مُحاولتي لكسب بعض المال بالعمل بالاختزال.
٣
وقعت لأُسرتنا هذه الحادثة العجيبة عشية عيد ميلاد العام ١٨٧٢م. كان فيودور ميخايلوفيتش، وهو الأب البالِغ الحنان، يفكر باستمرار في كيفية إدخال السرور على أطفاله. كان مُهتمًّا بشكلٍ خاصٍّ بإعداد شجرة عيد الميلاد؛ ألح عليَّ بضرورة شراء شجرة كبيرة كثيرة الفروع، وراح يُزينها بنفسه (كانت الزينة لدَينا تنتقل من عامٍ إلى آخر)، وقف على كرسي وراح يُثبِّت الشموع ثم وضع «النجمة» في أعلاها.
كانت شجرة عيد الميلاد عام ١٨٧٢م شجرةً شديدة التميُّز: فقد حضر إعدادها ابني الأكبر فيديا «وهو مُدرك لما يدور حوله». أوقدنا زينة الشجرة مُبكرًا. اصطحب فيودور ميخايلوفيتش طفلَيه بشكلٍ احتفالي إلى غرفة الاستقبال. كان الطفلان مُنبهرَين، بطبيعة الحال، بالأضواء وبالزينة وبالألعاب المُحيطة بالشجرة. وزَّع أبوهما عليهما الهدايا، الابنة كان من نصيبها عروسة رائعة وطاقم شاي من اللعب، بينما حصل الابن على مزمارٍ كبير، سرعان ما راح ينفخ فيه، وطبلة. لكنَّ أكثر ما ترك أثرًا كبيرًا على الطفلَين كان الحصانين وقد أخرجهما من صندوق ورقي كبير. حصانان لهما عرفان وذيلان رائعان. وقد ثُبتت إليهما زحافتان كبيرتان. ألقى الطفلان ألعابهما وجلسا في الزحافتَين، بينما راح فيديا الصغير يُمسك بالأعنَّة ويهزُّها وهو يستحثُّ الحصانين. سرعان ما أحسَّتِ الفتاة بالملَل تجاه الزحافة لتعود إلى لعبها. أما الصبيُّ فقد بلغ ذروة التأثُّر فراح يصيح بالحصانين، يضربهما بالعنان، لعلَّه تذكَّر ما كان يفعله الفلاحون الذين كانوا يمرُّون بجوار بيتنا الصيفي في ستاريا روسا. لم نُفلح أن نُبعده عن غرفة الاستقبال ونضعه في فراشه إلا عن طريق الخداع.
٤
كانت الأمور تسير على ما يُرام من الناحية المادية. كان المُحرر يتقاضى نظير مسئولياته ثلاثة آلاف روبل، علاوة على أجره مقابل مقاله من «مذكرة الكاتب»، وفيما بعد مقابل المقالات «السياسية». وقد بلغ إجمالي ما كنَّا نتقاضاه حوالي خمسة آلاف روبل في العام. كما كان لحصولنا على مبلغٍ محددٍ شهريًّا جانبه الإيجابي: فقد أتاح ذلك لفيودور ميخايلوفيتش ألا ينشغِل عن مسئولياته بالاهتمام بالحصول على النفقات اللازمة للحياة والتي كانت تؤثر بشكلٍ مرهقٍ على صحته ومزاجِه.
بالإضافة إلى ذلك، لم يُخفِ فيودور ميخايلوفيتش — عندما وافق على العمل مع الأشخاص المُعجَبين به لتولِّي تحرير «المواطن» — أنه يتحمَّل هذه المسئولية مؤقتًا باعتبار العمل هنا إجازةً من العمل الفني، وحتى يتسنَّى له التعرُّف على نحوٍ أكثر قربًا من الواقع اليومي، وأنه سوف يترُك هذا العمل الذي يُخالف شخصيتَه عندما تظهر لدَيه من جديدٍ الحاجة لعمل إبداعي.
يُعد مطلع العام ١٨٧٣م ذكرى مشهودة بالنسبة إليَّ، وذلك بفضل ظهور الطبعة الأولى من رواية «الشياطين» التي أصدرناها معًا. وتُمثل هذه الطبعة أساسًا لعملِنا المُشترك أنا وفيودور ميخايلوفيتش، وبعد وفاته استمرَّ عملي في النشر ثمانية وثلاثين عامًا.
لمَّا كنت راغبة في إصدار رواية «الشياطين»، فقد حاولتُ أن أسأل في محال الكتب عن النسبة التي يحصلون عليها مقابل بيع الكتب، وهناك كنتُ أحصل على شتَّى الإجابات: البعض يقول إن العمولة تتوقف على الكتاب، وبعض الباعة يحصلون على «من أربعين إلى خمسين بالمائة» وأحيانًا أكثر. وذات مرةٍ كنت أشتري لزوجي كتابًا ثمنُه ثلاثة روبلات، وعندئذٍ رحتُ أختبر البائع فطلبتُ شراءه مقابل روبلين، بحجة أنهم أنفسهم يحصلون على خمسين بالمائة، وعليه فإن الكتاب لا يُكلفهم سوى روبل ونصف. امتعض البائع من اقتراحي وقال إنه لا يحصل إلَّا على «من عشرين إلى خمسةٍ وعشرين بالمائة» وعلى ثلاثين بالمائة من بعض الكتب؛ بشرط أن تكون الكمية المُشتراة من هذه الكتب كبيرة. وقد اكتشفتُ من خلال هذه الاستفسارات، ما هي النسبة التي ينبغي دفعها لبائع الكتب لعددٍ مُعين من النُّسَخ.
وعندما أخبَرْنا عددًا من معارفنا وأصدقائنا برغبتنا في نشر الرواية، سمِعْنا العديد من الاعتراضات والنصائح وتحذيرنا من التورُّط في مشروع لا نعلَم عنه شيئًا، وقد تؤدِّي قلة خبرتنا فيه إلى هلاكنا، وعندها سنُضيف إلى ديوننا القديمة بضعةَ آلافٍ جديدة. لكن هذه الاعتراضات لم تفُتَّ في عضدنا وقرَّرنا أن نضع فكرتنا موضع التنفيذ.
في الأيام العشرة الأخيرة تقريبًا من شهر يناير تمَّ تجليد الكتاب وأُرسِل إلى بيتنا جزءٌ منه. كان فيودور ميخايلوفيتش سعيدًا للغاية بمظهر الكتاب، وأنا أيضًا كنتُ معجبةً به. عشية صدور الكتاب أخذه فيودور ميخايلوفيتش ليعرِضَه على واحدٍ من أشهر بائعي الكتب (كان زبونا دائمًا عنده) أملًا في أن يُبدي الرجل رغبتَه في شراء عددٍ من النُّسَخ. قلَّب بائع الكتب الكتاب بين يدَيه وقال: حسنًا، أرسِل لي مائتي نسخةٍ لأبيعها مقابل عمولة.
– وكم تبلغ؟ سأله زوجي.
– لا أقل من خمسين (بالمائة).
لم يُجب فيودور ميخايلوفيتش وعاد حزينًا إلى المنزل ليقصَّ عليَّ نبأ سوء الحظ الذي صادَفَه. كنت قلقةً أنا أيضًا، أما اقتراح بائع الكتب أن يأخُذ مائتي كتابٍ مُقابل هذه العمولة فلم يرُقْني إطلاقًا؛ كنتُ أعلم أنه حتى لو باع هذه الكتب فإننا لن نحصل على نقودنا منه إلَّا بعد مرور وقتٍ طويل.
– لقد ظهر إعلانكم في الصحيفة ولذلك جئتُ لأطلب عشرَ نُسَخ. أحضرت الكتب وأنا أشعر ببعض القلق وقلتُ له: سعر النسخ العشر خمسة وثلاثون روبلًا، عمولتكم عشرون بالمائة، فيكون المطلوب منكم ثمانية وعشرون روبلًا.
– أليست قليلة؟ ألا يُمكن جعلُها ثلاثين بالمائة؟ قال المندوب.
– لا.
– حسنًا، ولو خمسًا وعشرين بالمائة؟
– الحقيقة، لا يُمكن، قلتُ له ذلك وأنا في شدة الاضطراب؛ ولو أنه انصرف لكنتُ قد أضعتُ بذلك أول مشترٍ.
– إذا لم يكن مُمكنًا فإليكِ النقود. وإذا به يُعطينيها.
– كيف؟ لقد وعدنا فيودور ميخايلوفيتش أن نوفد له شخصًا ليحصُل على الكتب مُقابل عمولة وقد جئتُ بناءً على ذلك.
أخبرتُه أن زوجي يُصدر الكتب بينما أتولَّى أنا بيعها، وأن هذا وذاك من بائعي الكتب يدفعون لنا ثمن الكتب نقدًا.
– وهل بإمكاني أن أُقابل فيودور ميخايلوفيتش «نفسه»، قالَها المندوب وهو يُعوِّل، بداهة، على تنازُل زوجي.
– فيودور ميخايلوفيتش يعمل ليلًا، وأنا لا أستطيع إيقاظَه قُبَيل الثانية.
طلب منِّي المندوب أن أُعطيه عشرين نسخة و«سوف ندفع لفيودور ميخايلوفيتش».
وبرغم ذلك ظللتُ على موقفي المُتشدِّد بعد أن شرحتُ له أنَّ أيَّ نسبةٍ نُقدمها في مقابل كميةٍ معلومة، كما أخبرتُه أن ما تبقَّى لدَينا من النسخ لا يتجاوز خمسمائة نسخة وسوف تباع اليوم وفقًا لحساباتي. وقف المندوب برهةً مترددًا ثم عاد أدراجَه بِخُفي حنين، وبعد ساعة جاء من عندهم مندوب آخَر يرتدي ملابس أكثر بساطةً واشترى خمسين نسخةً نقدًا مع خصم ثلاثين بالمائة.
كنتُ متلهفةً بشدة أن أشارك فيودور ميخايلوفيتش سعادتي، ولكن كان عليَّ أن أنتظر حتى يخرج من غرفته.
بالمناسبة، فقد كان هناك شيء غريب في شخصية زوجي: فعندما يستيقِظ من النوم، يبدو وكأنه ما زال تحت تأثير الأحلام والكوابيس الليلية التي تُعذِّبه أحيانًا في نومِه فيظلُّ صامتًا تمامًا ولا يُحب أن يتحدث معه أحد في هذه الفترة. ولهذا اعتدتُ على ألَّا أُزعجه صباحًا (طالما لا توجَد هناك أسباب قهرية للحديث)، وإنما أنتظر حتى يحتسي قدحَين ساخنَين للغاية من القهوة ثم ينتقل إلى حجرة مكتبه. وعندئذٍ أتبعه إلى هناك لأُخبره بكل الأنباء، السارِّ منها والمُحزن. في هذا الوقت يكون فيودور ميخايلوفيتش قد وصل لذروةِ مزاجه الحسن: فيُبدي اهتمامًا بكل شيء، ويسأل عن كلِّ شيء، يُنادي الأطفال، يُمازحهم ويُلاعبهم وهو ما حدث صباح اليوم، أما أنا فجلستُ في مكاني المُعتاد بالقُرب من مكتبه، بعد أن أرسلتُ بالأطفال إلى غرفتهم. ولمَّا رآني فيودور ميخايلوفيتش صامتةً نظر إليَّ مبتسمًا ابتسامةً ساخرة وسألني: حسنًا. أخبريني إذن يا أنيتشكا كيف تسير تجارتنا؟
– على نحو رائع، أجبتُه بنفس النبرة.
– لعلكِ نجحتِ في بيع نسخة واحدة؟
– ليست نسخةً واحدة، وإنما مائة وخمسين بعتُها.
– معقول؟! حسنًا، أُهنئك إذن! واصل فيودور ميخايلوفيتش حديثَه ساخرًا، مُتصورًا أنَّني أمزح.
– فلتعلَم أني أقول الحق، رُحت أحاصِره، ما قولك؟ ألا تُصدقني؟
ثم أخرجت من جيبي قائمة سجلتُ فيها كمية النسخ المباعة، وإلى جانب القائمة رزمة من الأوراق المالية قيمتها حوالي ثلاثمائة روبل. ولمَّا كان فيودور ميخايلوفيتش يعلم أن ما لدَينا من نقودٍ بالمنزل قليل، فإن المبلغ الذي عرضتُه عليه كان كفيلًا بإقناعه أنَّني لا أمزح. وبدءًا من الساعة الرابعة بعد الظهر توالَى قرع جرس الباب: لقد ظهر مشترون جُدد، بالإضافة إلى الذين جاءوا في صباح نفس اليوم ليحصلوا على احتياطيٍّ جديد. كان واضحًا أن الكتاب قد لاقى نجاحًا كبيرًا، وقد شعرتُ ببهجة نادرًا ما تحدُث لي. كنت سعيدة بطبيعة الحال لحصولي على المال، لكن الأهم أنني وجدتُ لنفسي عملًا شيقًا هو إصدار مؤلَّفات زوجي العزيز، كما كنتُ راضيةً أيضًا أن مشروعنا قد حقَّق هذا القدْر من النجاح على عكس تحذيرات مُستشارينا الأدبيِّين.
باختصار، فقد بدأ نشاطنا في النشر بداية رائعة. وبنهاية العام كنا قد بعنا ثلاثة آلاف نسخة، أما الخمسمائة نسخة المُتبقية فقد امتدَّ بيعها إلى ما يقرب من عامَين أو ثلاثة. والنتيجة أنه بحساب عمولات بيع الكتب وتسديد كافة المصروفات فقد حصلنا على ربحٍ صافٍ يزيد على أربعة آلاف روبل، ممَّا هيأ لنا إمكانية سداد بعض الديون التي أثقلت كاهلنا طويلًا.
لا أظنُّ أنه قد حدثت لنا بعض الخسائر في المرة الأولى: فقد استغل اثنان أو ثلاثة نصَّابين نقص خبرتي في أعمال النشر، لكن هذه الخسارة علَّمتنا أن نكون أكثر حذرًا وألَّا نستسلِم للعروض البراقة، التي تبدو في ظاهرها رائعة، ثم يتضح بعد ذلك أنها خاسرة.
كانت تسمية الرواية «بالشياطين» سببًا في تسميتها بأسماء مختلفة أخرى من جانب القادمين لشرائها، وذلك عند طلبِها من الفتاة بائعة الكتب. البعض كانوا يُسمونها «القوة العدوانية»، والبعض يقول: «أتينا لشراء الأبالسة»، وآخر يقول: «أعطني عشر نسخ من «الجن».» وحتى مُربيتنا العجوز اشتكت لي، بعد أن استمعت مرارًا لاسم الرواية، مؤكدة أنه منذ أن جلبنا إلى شقَّتنا هذه «الروح الخبيثة» (تقصد «الشياطين») فإن ربيبَها (ابني) أصبح أكثر قلقًا نهارًا وينام أسوأ ليلًا.
وإلى جانب القراءة وتصويب مقالات الآخرين، استحوذت على فيودور ميخايلوفيتش المراسلات التي تجري مع كتَّاب المجلة، وقد ظهر معظمها كما ورد نصًّا، وفي حالة اختصارها أو تعديلها، كان هؤلاء الكتَّاب يرسِلون إليه خطابات حادَّة وأحيانًا وقِحة. لم يكن فيودور ميخايلوفيتش ليقف مكتوفَ الأيدي تجاه مثل هذه الخطابات؛ فكان يردُّ عليها بشكلٍ أكثر حدة. وهو ما كان يعود ليندَم عليه في اليوم التالي. ولمَّا كان الردُّ على هذه الخطابات الحادة يتم عادة عن طريقي، ولِعلمي بأنَّ غضب زوجي سوف يهدأ في اليوم التالي وأنه سوف يندَم على غضبه، فقد كنتُ أحتفظ بالخطابات ولا أُرسِلها على الفور، وفي اليوم التالي، عندما كنتُ أراه يعضُّ إصبع الندم على ردِّه الحاد، كنتُ أخبره أن هذا الخطاب لم يرُسَل «صدفة»، عندها كان فيودور ميخايلوفيتش يكتُب ردًّا وهو في حالةٍ أكثر هدوءًا. وما زلتُ أحتفظ في أرشيفي بأكثر من عشرة خطابات من هذه الخطابات «الغاضبة»، التي كان من المُمكن أن تدفع زوجي إلى نزاعٍ مع أناسٍ لم تكن لدَيه الرغبة إطلاقًا في الشجار معهم، ولكنه، تحت تأثير الملل أو الإرهاق، لم يكن باستطاعته أن يتمالك نفسه فيُعبِّر عن رأيه دون أن يضع في اعتباره غرور مراسِلِه. كان فيودور ميخايلوفيتش دائمَ الامتنان لي على تلك الخطابات التي لم ترسَل بالصدفة.
الغريب أن كثيرًا من هؤلاء استمروا على كراهيته قبل وبعد وفاته، ولم يستطيعوا أن يغفروا له تحريرَه لمجلة «المواطن». وما تزال آراؤهم الكارهة له تظهر في الصُّحف حتى الآن.
كان الفراق عن الأسرة أمرًا قاسيًا بالنسبة لفيودور ميخايلوفيتش، وكان يشعر بالوحشة الشديدة، ولذلك جاء إلينا في ستاريا روسيا أربع مراتٍ خلال فصل الصيف. وقد اضطُر أن يتحمَّل كافة المسئوليات المالية للمجلة أثناء غياب الأمير ميشيرسكي، ناهيك عن تحمُّله العيش في العاصمة طوال أشهر الصيف الحارة في بطرسبورج وما يُصاحبها من مضايقات.
كان للظروف التي ذكرتُها سابقًا أثر بالِغ السوء على أعصاب فيودور ميخايلوفيتش وخاصة على صحته، وهو ما جعله في خريف ١٨٧٣م يتذمَّر من عمله كمُحرر ويحلم بأن يعود ليجلس مرةً أخرى ليُمارس عمله الإبداعي الخالِص.
في البداية كتب خطابًا لفيودور ميخايلوفيتش، الذي دعاه لزيارتنا. ترك سولوفيوف آنذاك أثرًا طيبًا على زوجي، وكان كلما ازداد لقاءً به وتناول معه شتَّى الأحاديث، ازداد حُبًّا وتقديرًا لعقله وتعليمِه الرفيع. وذات مرة أخبره زوجي عن السبب وراء مودته الشديدة له.
– وهل مات منذ زمن بعيد؟ سأله سولوفيوف.
– لا، منذ أربع سنوات فقط.
وعندما نطق بهذه الكلمات ضحك فيودور ميخايلوفيتش وقال لي مشاكسًا: هل تسمعين يا آنيا؟ فلاديمير سيرجييفيتش يعدُّك من الأربعينيات!
– الرجل لم يُخطئ، أجبته، فقد ولدت في السادس والأربعين وثمانمائة وألف.
وقد زارتني هي أيضًا وتعاملتُ معها وكانت سيدة غاية في الطيبة والرقة، شاركتني أحزاني عندما توفي زوجي.
أما فيكتور بوريفين فقد كتب كثيرًا عن دستويفسكي بدءًا من النصف الثاني من الستينيات وخاصة في صحيفتي «وقائع سان بطرسبورج» و«الزمن الحديث»، على أن كتاباته كانت تتميز بالسطحية وسوء القصد في مُعظم الأحوال. وقد اعتبر بورينين أن رواية «الأبله» «خليط قصصي مكوَّن من أحداث وشخصيات سخيفة وُضِعت دون أدنى عناية بالهدف الفني لها» (وقائع سان بطرسبورج، ١٨٦٨م، العدد ٢٥٠). وعلى الرغم من أن بورينين، الناقد في صحيفة ليبرالية، أدان الاتجاه النقدي الساخر للرواية، إلا أنه رفض بشدةٍ الآراءَ التي وضعت رواية «الشياطين» جنبًا إلى جنب مع روايات ليسكوف وأفسينكو وماركيفيتش. وأردف قائلًا إنه حتى الصفحات، أكثر صفحات هذه الرواية تحيزًا، فإنها «ثمرة اعتقاد مُخلص، وليست تملُّقًا رخيصًا لغرائز الجماهير الحسِّية الفظة، مثل ما هو موجود في روايات الأساتذة» («وقائع سان بطرسبورج»، ١٨٧٣م، العدد ١٣). كان لهذا الرأي تحديدًا أثره الطيب على دستويفسكي، الذي أبرز مقالة بورينين بشكلٍ خاصٍّ لأن الناقد «في تحليله لروايةِ «الشياطين» طرح فكرة أنَّني إذا كنتُ قد اعتنقتُ إيمانًا مغايرًا لإيماني السابق، فقد حدث هذا بكلِّ صدقٍ (أي أن ذلك لم يكن بقصد التظاهُر، دائمًا بشرف)، وقد مسَّت هذه العبارة شغاف قلبي» (مكتبة الدولة باسم لينين). من الواضح أنه يتعيَّن علينا أن نشرح جزئيًّا، بناءً على هذا الموقف، ما ذكره بورينين إلى جانب ما ذكرَتْه آنَّا جريجوريفنا في مُذكراتها عن بيلينسكي ودوبروليوبوف. إن المقالات الرصينة التي كتبها بورينين عن رواية «الإخوة كارمازوف» («العصر الحديث»، ١٨٧٩م، الأعداد، ١٠٨٧، ١٢٧٣، ١٣٥٧)، والتي تناول فيها الناقد العمل الجديد لدستويفسكي بصورة إيجابية تمامًا، حتى إنه كتب يقول: إن الرواية من حيث عُمقها وطزاجتها في مُعالجتها للحياة الروسية «تبدو أكثر عصريةً بعشر مراتٍ عن أكثر القصص والروايات والأعمال الدرامية والكوميدية المعاصرة.» قد ساهمت في زيادة التعاطُف من جانب دستويفسكي تجاه الناقد، وقد انعكس ذلك الشعور في مذكرات زوجته. على أنَّ آنَّا جريجوريفنا استطاعت أن تجِد من بين النقَّاد الباحثين المُعاصرين لإبداع دستويفسكي اسمًا أكثر جدارة من بورينين وهو فاليريان نيكولايفيتش مايكوف، الذي أشار في مقالاته «شيءٌ ما عن الأدب الروسي في ١٨٤٦م» (الوقائع الوطنية، ١٨٤٧م، المجلد ٥٠) إلى أوجه التشابُه بين واقعية جوجول وواقعية دستويفسكي، وحدَّد بدقة أيضًا أوجه الخلاف بينهما في مقولة: «إن جوجول شاعر يتميز بالنزعة الاجتماعية، بينما يتميز دستويفسكي بالنزعة النفسية.»
⋆ الخطابات، المجلد الثالث، ص٧٠. وكما يُصرح دستويفسكي نفسه في هذا الخطاب (المؤرَّخ التاسع والعشرين من يوليو ١٨٧٣م)، فقد قام بإعادة كتابة مقالة ميشيرسكي عن تيوتشيف. وقد نشرت مقالة «الذاكرة النضرة لتيوتشيف» في «المواطن» العدد ٣١ المؤرَّخ ٣٠ يوليو ١٨٧٣م بعد أن قام دستويفسكي بتنقيحها (انظر في هذا السياق: ن. بيلتشيكوف، دستويفسكي عن تيوتشيف، مُلحق بها مقالة ف. ميشيرسكي، «الذاكرة النضرة لتيوتشيف»، مجلة «الماضي»، ١٩٢٥م، العدد ٥).