العامان ١٨٧٤-١٨٧٥م
١
رائع أنهم حبسوني، قال زوجي بمرح، وإلَّا لما تمكنتُ مطلقًا من أن أُجدد انطباعاتي القديمة الرائعة عن هذا العمل العظيم.
في صباح أحد أيام شهر أبريل، وفي الساعة الثانية عشرة، أعطتني الخادمة بطاقة تعارُف كُتب عليها «نيكولاي ألكسييفيتش نكراسوف» كنت أعلم أن فيودور ميخايلوفيتش قد ارتدى ملابسه وأنه في سبيله لمغادرة المنزل فورًا، فأسرعتُ بدعوة الضيف إلى غرفة الاستقبال ثم ذهبتُ فسلَّمت البطاقة إلى زوجي. وبعد خمس دقائق دعا فيودور ميخايلوفيتش ضيفَه إلى مكتبه معتذرًا له عن تأخُّره.
وقد أعلن نكراسوف قبوله التام، ثم أردف زوجي قائلًا: والمسألة الأخرى هي أن أستمع لرأي زوجتي في اقتراحكم. إنها بالبيت الآن وسوف أسألها في الأمر.
خرج فيودور ميخايلوفيتش قادمًا إليَّ.
وهنا وقع أمر مُضحك؛ فعندما جاء زوجي إليَّ أخبرته في لهفة: ولماذا تسألني؟ وافِق يا فيديا، وافِق على الفور.
– أوافق على ماذا؟ سألني بدهشة.
– أوه، يا ربي! على عرض نكراسوف.
– وكيف علمتِ بعرضه؟
– لقد سمعت حديثكما كله، لقد كنت واقفةً وراء الباب.
– إذن كنتِ تتنصتين! ألا تشعرين بالخجل يا آنيتشكا؟ صاح فيودور ميخايلوفيتش بمرارة.
– لا شيء يدعو للخجل! أنت لا تُخفي عنِّي أسرارًا، وعلى أية حال كنتَ ستُخبرني حتمًا بذلك. حسنًا، ما أهمية أن أتنصَّت، إنها أمور تخصُّنا معًا ولا تخصُّ غيرنا.
لم يكن أمام فيودور ميخايلوفيتش إلا أن يصمت أمام منطقي.
بعد أن عاد فيودور ميخايلوفيتش إلى مكتبه قال لنكراسوف: لقد تفاوضتُ مع زوجتي وهي سعيدة للغاية أن روايتي ستظهر في «حوليات الوطن».
يبدو أن نكراسوف لم يكن راضيًا على نحوٍ ما أن الأمر بحاجة إلى موافقتي فقال: لم أكن أتصور إطلاقًا أن زوجتك قد «طوتك تحت جناحها».
– وما وجه العجب هنا؟ أجاب فيودور ميخايلوفيتش مُعترضًا. إننا نعيش معًا في تفاهُم تام، وقد فوَّضتُها في كل شئوني، وأنا أثق في ذكائها ونزعتها العملية. كيف لا أسألها إذن النصيحة في هذا الأمر الذي يُهم كلَينا؟
– حسنًا، نعم، بطبيعة الحال فإنني أفهم … أجاب نكراسوف ثم انحرف بالحديث إلى موضوعٍ آخر. غادرنا نكراسوف بعد حوالي عشرين دقيقة بمشاعر وديةٍ وطلب منه زوجي أن يُحيطه علمًا فور تلقِّيه ردًّا من «البشير الروسي».
وحتى يستوضح فيودور ميخايلوفيتش مسألة الرواية في أسرع وقتٍ مُمكن قرر أن يستعيض عن الكتابة إلى «البشير الروسي» بالسفر إلى موسكو والذهاب مباشرةً إلى هناك في نهاية أبريل. بعد أن استمع كاتكوف إلى عرض نكراسوف، وافق أن يُخصِّص لزوجي نفس السعر، ولكن عندما طلب زوجي منه أن يُعطيه مقدمًا في حدود ألفي روبل، أخبره كاتكوف أنهم قد أنفقوا لتوِّهم مبالِغ طائلة للحصول على أحد الأعمال (رواية «آنَّا كارنينا») وأن هيئة التحرير عاجزة عن توفير أموال في الوقت الحالي. وهكذا ذهبت الرواية إلى نكراسوف.
٢
بعد أن توقف فيودور ميخايلوفيتش في أحد الفنادق، توجه في نفس يوم وصوله إلى الدكتور أورت، حاملًا له خطابًا من الدكتور بريتسل. وقد قام أورت بفحصه فحصًا دقيقًا، وتوصل إلى أنه يعاني نزلة شُعبية عابرة، لكنه أخبره أن المرض جِدُّ خطير، فكلما تطور قلَّت القدرة على التنفس، ووصف له شراب الماء ووعده بالشفاء الأكيد بعد استمرار العلاج لمدة أربعة أسابيع.
وعندما كنا نخطط لرحلة فيودور ميخايلوفيتش إلى الخارج في الربيع، رأينا، أنا وزوجي، أنه بانتهاء مرحلة العلاج، عليه أن يذهب ليعيش في مكانٍ ما يكون بمثابة علاج إضافي له، فإذا ما توافرت لنا نقود فليذهب عندئذٍ ويلقي نظرةً على باريس. وقد خطرت ببالي فكرة إرسال خمسين روبلًا لشراء قطعة قماش من الحرير الأسود من باريس، تَلزمني لعمل ثوبِ سهرة للظهور به في بعض المناسبات الضرورية. أثار إرسال النقود دهشة زوجي، ولما كان تحت تأثير إحدى النوبات فقد وبَّخني على ذلك. لكن فكرة تحقيق رغبتي لم تفارقه، وقد طاف بمدينة برلين على العديد من المحالِّ إلى أن أحضر لي قطعةً رائعة من الحرير. وعلى الرغم من أنه عرض مشترواته على موظفي الجمرك، فإن هؤلاء لم يولوا اهتمامًا بها، وأصرُّوا على فحص كل ما لديه من كتب وأوراق، ربما يجدون فيها شيئًا محظورًا.
وفي العاشر من أغسطس تقريبًا عاد فيودور ميخايلوفيتش إلى روسا، بعد أن قضى يومين أو ثلاثة في بطرسبورج قبيل عودته.
٣
ذكرت من قبلُ أن نكراسوف زارنا في أبريل يطلب من فيودور ميخايلوفيتش أن ينشر روايته الجديدة في «حوليات الوطن» في عام ١٨٧٥م. كان زوجي سعيدًا لإعادة علاقات الصداقة من جديد مع نكراسوف، هذه الموهبة التي كان يقدِّرها، وكنا، كلانا، سعداء أيضًا لأن نكراسوف عرض سعرًا يزيد مائة روبل عما كان زوجي يتقاضاه في «البشير الروسي».
وصلت إلى فكرة — من بين أفكار مختلفة نتجنب بها الفشل المتوقع — تقليل نفقات أسرتنا (بقدر المستطاع)، فعلى الرغم من أننا كنا نعيش على نحو متواضع للغاية، فقد كنا ننفق سنويًّا، بخلاف ما نسدده من الديون التي أثقلت كاهلنا — فضلًا عن فوائدها — ما لا يقل عن ثلاثة آلاف روبل، فقد كانت شقتُنا وحدها (وكانت دائمًا شقة متواضعة) تكلِّفُنا ما بين سبعمائة وثمانمائة روبل، تصل إلى ألف بحطب التدفئة.
من هنا خطرت ببالي فكرة أن نقيم في الشتاء في روسا، وبخاصة أننا، أنا وزوجي، قررنا بشكل قاطع أن نعود من جديد في الربيع القادم إلى روسا؛ حيث يستفيد أطفالنا كثيرًا من استحمامهم في مياهها. لقد كانت الإقامة في العاصمة تستمر لمدة ثمانية/تسعة أشهر، يضيع منها شهر ونصف، شهران على الأرجح، ما بين بحث عن شقة ثم تجهيزها. أما الربيع فنقضيه في الاستعداد للرحيل مرةً أخرى. كل هذا الوقت كان من الممكن أن يستغله فيودور ميخايلوفيتش في العمل، وكان يدرك جيدًا إمكانية الانتهاء من الرواية بأقصى سرعة؛ حتى يتمكن من البدء في تحقيق حلمه المنشود، وهو إصدار مجلته المستقلة تحت اسم «مذكرة الكاتب».
كانت أسعار المؤن في ستاريا روسا أرخص من مثيلاتها في بطرسبورج ثلاث مرات، ناهيك عن رخص الشقق فيها، كما أن نفقاتنا الأخرى في روسا كانت أقل بكثير من النفقات الضرورية في العاصمة.
وخلافًا للحسابات المادية، فقد كان قضاء الشتاء بأكمله في هدوء وسلام، والاستمتاع بالحياة العائلية الهانئة، التي كنا نحياها دائمًا في فصل الصيف؛ أمرًا شديد الإغراء بالنسبة إليَّ شخصيًّا، فقد كنا نتذكر هذه الأوقاتَ دائمًا بشعور طيب عندما يَدهَمُنا الشتاء.
اضطررت لتحمل مزيد من الأعباء، بينما أبعدت المشاغل فيودور ميخايلوفيتش عني وعن الأطفال، الذين اضطر بدوره لقضاء وقت أقل معهم، وهم الذين كان تَواصلُهم معه يمثل له السعادة الكبرى. كان بقاء الصغار في ستاريا روسيا يجنِّبنا العديد مما يعكر صفو حياتنا العائلية.
بعد أن استقر قراري على العودة لقضاء الشتاء في روسا، عقدت العزم على البحث عن شقة هناك؛ إذ لم يعد من الممكن البقاء شتاءً في الداتشا التي يملكها جرِيبي لأسباب عديدة. لم يكن العثور على شقة رحبة في روسا بالأمر الصعب، كانت الداتشات التي تؤجر مقابل ثلاثمائة/أربعمائة روبل في الموسم تخلو من سكانها في الشتاء؛ ولهذا كان أصحابها يؤجرونها مقابل خمسة عشر/عشرين روبلًا في الشهر. ولكنني لم أكن لأقطع أمرًا دون فيودور ميخايلوفيتش، كان بإمكانه العثور على شقة مناسبة عند مروره ببطرسبورج، ومن ثم يصبح قضاء الشتاء في روسا أمرًا هينًا.
إلى روسا عاد فيودور ميخايلوفيتش في نهاية يوليو، بعد أن قضى في بطرسبورج يومين/ثلاثة، لم ينجح في العثور على شقة، ولم يحاول أن يجدَّ في البحث عنها؛ إذ كان متلهفًا للقاء الأسرة، فعاد أدراجَه إلينا بسرعة.
مضت عدة أيام على عودته، وإذا بنا نعرِّج بالحديث إلى موضوع الشقة الشتوية وعن موعد مغادرتنا روسا، وعندئذٍ قلت بصيغة الاقتراح: حسنًا، وماذا لو بقينا في روسا؟
قوبل اقتراحي برفض قاطع من جانب فيودور ميخايلوفيتش. وكانت حجته في الرفض مفاجِئة، وإن تضمنت في الوقت نفسه إطراءً شديدًا لي. راح زوجي يتحدث عن شعوره بالوحشة في روسا، وكم عانينا من الوحدة طوال الصيف الماضي.
– طوال فصول الشتاء الماضية، قال زوجي: لم تذهبي إلى أي مكان، ولم تُتَحْ لكِ أي فرصة للاستمتاع؛ في هذا الشتاء العمل، والحمد لله، يسير على ما يرام، وستتوفر لنا نقود أكثر، عندئذ يمكن أن تجهزي لنفسك ثيابًا أنيقة، وسوف نغشى معًا المجتمعات. هذا ما قررته بشكل حاسم. سوف تذبلين تمامًا هنا في روسا!
رحت أسعي لإقناع فيودور ميخايلوفيتش أن الشتاء القادم سيكون مليئًا بالعمل، وأن علينا أن نواصل العمل لإنهاء «المراهق»، ومن ثم لا مجال عندي للتفكير في الأناقة أو التسلية.
– هذه أشياءُ لا تلزمني على الإطلاق، إن الهدوء والسكينة العائلية التي لا تعكر صفوها مفاجآت الحياة، التي نعيشها هنا، أهمُّ وأغلى عندي من كل ما عداها.
تحدثنا على الفور مع السيدة التي تتولى شئون المنزل، وأجَّرنا الشقة في الخامس عشر من مايو من العام التالي، على أن ندفع خمسة عشر روبلًا في الشهر. وحتى لا نُضيع الوقت المخصص للعمل، قررنا الانتقال بسرعة وتهيئة المكان لقضاء الشتاء به.
كانت حياتنا اليومية في ستاريا روسا مقسمة على عدد من الساعات، وقد راعينا ذلك بدقة صارمة. كان زوجي يعمل في الليل ولا يستيقظ قبيل الحادية عشرة. وعندما يخرج من غرفته لتناول القهوة، كان ينادي على الأطفال فيُهرَعون إليه في سرور، ويحكون له كل ما حدث لهم هذا الصباح، وكل ما شاهدوه في نزهتهم. وكان فيودور ميخايلوفيتش يتأملهم في سعادة ويشاركهم حديثهم المفعم بالحيوية والبهجة. لم أشاهد من قبلُ ولا من بعدُ إنسانًا عطوفًا مثل زوجي، بإمكانه أن ينفُذ إلى ما في عقول الأطفال، وقادرًا على تسليتهم بحديثه إليهم. في هذه السويعات كان فيودور ميخايلوفيتش يتحول هو نفسه إلى طفل.
كان فيودور ميخايلوفيتش يدعوني للحضور إلى مكتبه بعد الظهر ليُملي عليَّ ما تسنَّى له كتابته في أثناء الليل. كان عملي مع فيودور ميخايلوفيتش يمثل لي متعةً كبيرة دائمًا، وعن نفسي فقد كنت فخورةً بشدة أنني أساعده وأنني أول من يستمع من القرَّاء إلى الرواية من فم المؤلف.
كان فيودور ميخايلوفيتش يملي عليَّ الرواية عادةً من المخطوطة مباشرة. فإذا لم يكن راضيًا عن عمله أو كان لديه شك فيه، فقد كان يقرأ عليَّ ما كتبه دفعةً واحدة قبل الإملاء. وهنا يتولد لديَّ انطباع أقوى من الإملاء العادي.
٤
وبالمناسبة، سوف أذكر هنا بضع كلمات عن الإملاء.
كان فيودور ميخايلوفيتش يعمل دائمًا بالليل، عندما يسود البيتَ الهدوءُ التام، وعندئذٍ لا يقطع حبلَ أفكاره أيُّ شيء. وكان يملي عليَّ ما كتب من الثانية ظهرًا وحتى الثالثة، وما زلت أتذكر الساعاتِ باعتبارها أسعد ساعات حياتي.
إن الاستماع إلى عمل جديد من شفاه الكاتب الذي أحببته، بهذه النبرات التي يلون بها كلمات أبطاله؛ كان قدرًا سعيدًا بالنسبة إليَّ. كان زوجي يتوجه لي بالسؤال فور أن ينهي إملاءه قائلًا: حسنًا، ما رأيك يا آنيتشكا؟
– رأيي أنها رائعة! بهذا كنت أجيبه. لكن هذه «الرائعة» كانت تعني بالنسبة إلى فيودور ميخايلوفيتش أن المشهد الذي أملاه عليَّ بعد أن نجح في عمله لم يترك لديَّ، ربما، أثرًا خاصًّا. وكان زوجي يولي انطباعاتي الشخصية اهتمامًا كبيرًا. ودائمًا ما كان يحدث على نحوٍ ما أن صفحات الرواية التي تركت لديَّ انطباعًا طيبًا أو كان أثرها محزنًا على نفسي، كانت تترك على غالبية القراء نفس الانطباع؛ الأمر الذي كان يتحقق منه زوجي من خلال أحاديثه مع القراء أو يعرفه من أحكام النقاد.
كنت أسعى أن أكون مخلصة في حديثي، وألا يكون هذا الحديث مجرد مديح أو إعجاب لا أشعر به حقيقة، وكان زوجي يقدِّر إخلاصي تقديرًا رفيعا. بطبيعة الحال لم أكن لأخفي انطباعاتي أحيانًا. أذكر كيف ضحكت عند قراءة أحاديث السيدة خوخلاكوفا أو الجنرال في رواية «الأبله»، وكيف مازحت زوجي بشأن المدعي العام في «الإخوة كارامازوف».
– أوه! خسارة أنك لم تكن مدعيًا عامًّا! إذن لاستطعت بخطابك أن ترسل بريئًا إلى سيبيريا.
– إذن في رأيك أن خطاب المدعي العام قد حقق نجاحًا، سألني فيودور ميخايلوفيتش.
– لقد نجح نجاحًا باهرًا — قلت مؤكدة — ولكن على أي حال يؤسفني أنك لم تكن واحدًا من القضاة! كنت ستصبح جنرالًا، وكنت سأصبح جنرالًا لا ملازمًا ثانيًا متقاعدًا.
وفي مرة أخرى بكيت. أذكر ذلك عندما أملى عليَّ زوجي مشهد عودة أليوشا مع الأطفال بعد دفن إيليوشتشكا، كنت في حالة شديدة من التوتر، لدرجة أنني كنت أكتب بيدٍ وأمسح عن عينيَّ دموعي باليد الأخرى، وعندما لاحظ فيودور ميخايلوفيتش مدى اضطرابي، اقترب مني وقبَّل رأسي دون أن يقول كلمة واحدة.
كان فيودور ميخايلوفيتش، بصفة عامة، يضعني في صورة مثالية، وكان يرى أنني أفهم رواياته فَهمًا عميقًا أكثر، في ظني، مما كنت أتصور في واقع الأمر. وهكذا كان عليَّ اقتناع أنني أفهم الجانب الفلسفي في رواياته. أذكر أنني، بعد الانتهاء من إملاء أحد فصول رواية «الإخوة كارامازوف»، أجبته على سؤاله التقليدي بقولي: أتعرف، إنني لم أفهم مما أمليته عليَّ (كان الحديث عن المفتش الأعظم) اللهم إلا القليل. أظن أنه لكي أفهم لا بد وأن أملك ذهنية فلسفية خلافًا لما لديَّ.
– مهلًا، قال زوجي، سأقصُّ عليكِ الأمرَ على نحو أكثر وضوحًا. وراح يشرح لي الأمر في عبارات أكثر تحديدًا.
– حسنًا، والآن هل أتضح الأمر؟ سألني زوجي.
– والآن ما يزال غير واضح. مهما كررت، فإنني غير قادرة على الفهم.
– كلا، لقد فهمتِ، لقد عرَفتُ ذلك من خلال أسئلتك التي طرحتِها. وإذا كنتِ لم تتمكني من عرض ما فهمتِه، فإن ذلك مرجعُه عدم قدرتك على الصياغة.
أقول في هذا السياق، إنه كلما امتد بي العمر بكل ما حمله من أحزان، انفتحت أمامي، وعلى نحو أرحب، آفاقُ أعمال زوجي، وكلما رحت أفهمها فَهمًا أعمق.
– إنه أنت الذي أفزعتني! أجبتُه.
– يا إلهي، هل حقًّا كان لهذا الفصل أثر ثقيل عليكِ؟ كم أنا آسف! كم أنا آسف!
٥
كان ما يصل فيودور ميخايلوفيتش من مراسلات ذا أهمية كبرى؛ ولذلك كنا أحيانًا ما نهرول عائدين إلى البيت في سعادة لنبدأ في قراءة الخطابات والصحف.
كنا نضع أطفالنا في الفراش قرب التاسعة مساء، وكان فيودور ميخايلوفيتش يذهب إليهم حتمًا «متمنيًا لهم أحلامًا سعيدة»، ويقرأ عليهم صلوات «يا أبانا»، «العذراء» ثم دعاءه المفضل: «أتوسل إليكِ يا أم الرب أن تحفظيني في كنفك!»
وفي العاشرة مساءً يعم الهدوء أركان البيت، حين يأوي كلُّ من فيه، حسب تقاليد الريف، إلى فراشه مبكرًا. هنا ينسل فيودور ميخايلوفيتش إلى مكتبه ليقرأ الصحف؛ بينما أركن سعيدةً إلى الهدوء وقد أنهكني الهرج والمرج طوال اليوم؛ فضلًا عن ضجيج الأطفال، فأجلس في غرفتي وأرتب أوراق اللعب التي تعلمتها حتى الرقم ١٢ لرؤية الطالع.
مضى النصف الأول من شتائنا في ستاريا روسا (من سبتمبر وحتى مارس) على خير ما يرام، لا أذكر أننا نعِمْنا في أي وقت آخر بمثل هذا الهدوء الذي خلا من أي كدر. صحيح أن الحياة هنا كانت تمر على وتيرة واحدة؛ كل يوم يشبه الآخر، حتى إن هذه الأيام كانت تتصل بعضها ببعض في ذكرياتي، حتى إنه لم يعد بإمكاني أن أتذكر أية أحداث خلال هذه الفترة. على أنني أذكر حادثًا مضحكًا مبكيًا وقع في مطلع الشتاء، قطع لبضعة أيام هدوءنا، وإليكم ما حدث: وصل إلى مسامعي أن التجار تسلموا من سوق مدينة نيجيجورود معاطف قصيرة من فِراء الغنم للكبار والصغار، وقد أخبرت بهذا زوجي، وقد أبدى اهتمامًا شديدًا بذلك، وأخبرني أنه كان لديه في وقتٍ ما معطفًا من فراء الغنم، وأنه يريد شراء واحد منه لفيديا، ذهبنا إلى المحل، وهناك عرضوا علينا عشرات المعاطف تفضُل بعضها بعضًا. اخترنا عددًا منها، وطلبنا أن يرسلوها إلى البيت لقياسها، اخترنا معطفًا أصفر اللون فاتحًا، موشًّى على الصدر والأطراف على نحو رائع، وقد أُعجب به فيودور ميخايلوفيتش للغاية، وقد كان مناسبًا لابننا تمامًا من ناحية المقاس. كان فيديا طفلًا مورَّد الوجه، وكم كان يبدو وسيمًا عندما كان يرتدي هذا المعطف بغطاء الرأس المرتفع، وحول خصره يضع حزامًا أحمر اللون! اشترينا أيضًا معطفًا أنيقًا للفتاة، وكان زوجي يظل يتطلع في الأولاد قبل خروجهم للنزهة، لكن إعجابنا سرعان ما خبا؛ ففي أحد الأيام البائسة لاحظت على الطرف الأمامي للمعطف الأصفر الفاتح بُقعًا دهنية كبيرة؛ فضلًا عن دهون أخرى كانت متراكمة على الجلد. أخذتنا حيرة شديدة، فمن أين للصبي أن يلوث معطفه بالدهن أثناء نزهته؟ ولكن سرعان ما اتضحت الحقيقة، كان لطاهيتنا العجوز زوج شبه أعمى، وكان يجلس لديها في المطبخ منذ الصباح، وبعد أن يتناول إفطاره، ولا يجد تحت يديه فوطة يمسح فيها يديه الملوثتين بالدهن، كان يستخدم المعطف الذي كنا نعلقه في المطبخ ليجف. وقد حاولنا بشتى الوسائل أن نزيل الدهن من المعطف، ولكن البقع كانت تبدو بعد كل تنظيف جديد أكثرَ وضوحًا، وهكذا لم يعُد المعطف الجميل صالحًا على الإطلاق. كنت في حالة شديدة من الغيظ لِما أصاب المعطف من تلف، وبخاصة أنه لم يكن بإمكاننا استبدال آخر جديد به، وكان غضبي أشدَّ على الطاهية، التي لم تكن تحسن تدبير شئون المطبخ، حتى إنني من الحسرة كدت أن أطردها من البيت، هي وزوجها الأخرق، لكن فيودور ميخايلوفيتش وقف إلى جانبهما وأعادني إلى جادة الصواب. وبطبيعة الحال، فسرعان ما طوت الأيام صفحة هذا الحادث المؤسف الصغير.
لما كان إصدار روايتينا «الشياطين» و«الأبله» قد حقق نجاحًا كبيرًا، فقد قررنا، وكنا ما نزال في روسا، إصدارَ «مذكرات من البيت الميت»، التي كانت طبعتها قد نفِدت منذ زمن طويل، وكان باعة الكتب كثيرًا ما يطلبونها. أرسلوا إلينا مسوَّدة الطبع لتصحيحها، بعدها كان عليَّ أن أسافر إلى العاصمة قبيل صدور الرواية؛ حتى أقوم ببيع كمية من النُّسخ (وقد نجحت في ذلك) وتوزيع كمية أخرى، مقابل عمولة، ومراجعة الحسابات مع المطبعة، وما إلى ذلك من أعمال. كنت أرغب كذلك أن أزور أقاربي وأصدقائي، وأن أشتري، بمناسبة أعياد الميلاد، حلوى ولُعبًا لنزين بها شجرة عيد الميلاد التي كنا نود أن نجهزها لأطفالنا، وكذلك لأطفال القس الأب روميانتيف؛ لصلته القوية بأسرتنا.
سافرت في السابع عشر من ديسمبر وعدت في الثالث والعشرين من نفس الشهر. وعند عبر بحيرة إيملين المتجمدة، عانيت من الخوف الشديد:
عدد من العربات التي كانت تسير معًا انحرفت عن الطريق، وقد خاطرنا بالسير في الريح الشديدة، بعد أن هبَّت علينا عاصفة ثلجية، ولحسن الحظ أطلق الحوذية خيولهم، فاتخذت الحيوانات الذكية طرقًا مختلفة، حتى وصلت بنا في النهاية إلى الطريق الممهد.
٦
كانت الحرائق في ذلك الزمن تنشب في ستاريا روسا على نحو متكرر؛ سواءٌ في فصل الشتاء أو في فصل الصيف. وكان من نتيجتها احتراق شوارع بأكملها. وكان العدد الأكبر من هذه الحرائق يقع ليلًا (في أحد المخابز أو الحمامات). وعندما كان فيودور ميخايلوفيتش يتذكر الحريق الذي أتى على أورنبورج كلها قبل فترة قصيرة، كان يشعر بالخوف الشديد إذا ما نشب حريقٌ هنا أو هناك، وراحوا يدقون الأجراس في أبراج الكنائس، وبخاصة أجراس الكنائس الواقعة بالقرب من بيتنا.
ورغم معرفته بأنني أكون في الأحوال العادية في غاية الهمة والنشاط، لا أهاب شيئًا، فقد كان يعلم أيضًا كيف «أفقد السيطرة على الأمور» في حالة وقوع أي حدث مفاجئ، لأبدأ بعده في ارتكاب تصرفات طائشة. ولذلك كان لدينا دائمًا، إبان إقامتنا في روسا، اتفاق أن يوقظ كلٌّ منا الآخر فور سماعه قرع أجراس الخطر. فما إن يسمع فيودور ميخايلوفيتش صليلها حتى يهزني من كتفي قائلًا: يا آنيا، لا تخافي، هناك حريق في مكانٍ ما، لا تقلقي من فضلك، أما أنا فسأذهب لأستطلع أين يقع الحريق!»
كنت أستيقظ على الفور فأُلبس الأطفال النِّيام جواربَ طويلة وأحذية، وأعُدُّ لهم الملابس الخارجية حتى لا يصابوا بالبرد إذا ما اضطررنا لحملهم خارج المنزل. كنت أخرج ملاءاتٍ كبيرةً فألفُّ في إحداها (بشكل محكم) كلَّ ملابس زوجي، إلى جانب مذكراته ومحفوظاته، وفي الأخرى أضع كل ما هو موجود في الصوان والكومودينو من فساتيني وأشياء الأطفال. كنت أهدأ بعد الانتهاء من كل ذلك وقد علمت أن أهم الأشياء في أمان. في أول الأمر كنت أحمل كل اللفائف إلى مدخل البيت بالقرب من باب الخروج، ولكنني منذ أن تعثر زوجي فيها في العتمة وكاد يقع عند عودته من الخارج بعد أن استطلع الأمر، بدأت في وضعها في الغرف. كثيرًا ما كان فيودور ميخايلوفيتش يهدئ من روعي قائلًا: «إن الحريق على بعد ثلاثة فراسخ.» وأكون وقتها قد أعددت العدة لإنقاذ حاجاتنا. ولكنني كنت أرى أن هذا الكلام لن يقنعني، وأن جمع الأمتعة على هذا النحو هو الذي سوف يبعث في نفسي الطمأنينة. لقد كان زوجي يدفعني عند كل إنذار إلى «حزم الأمتعة»، طالبًا، مع ذلك، سرعةَ إعادتها بعد انقضاء الخطر المزعوم، إلى أماكنها.
أتذكر، عندما انتقلنا في ربيع عام ١٨٧٥م من شقتنا الشتوية في بيت ليونتيف مرةً أخرى إلى داتشا جريبي، أن الحارس قال لي وهو يودعنا: أكثر ما يُشعرني بالأسف أن السيد سيسافر.
– ولماذا؟ سألته وأنا أعرف أن زوجي لا تربطه به علاقة.
– كيف يا سيدتي؟! لقد كان يُهرَع للقرع على باب الحارس ما إن ينشب حريق هنا أو هناك: انهض، هناك حريق في مكانٍ ما! حتى إن رئيس الشرطة قال عني: ليس هناك أحد في المدينة أكثر انضباطًا من حارس الجنرال ليونتيف، فما إن تدق الأجراس حتى يُهرَع واقفًا عند الباب. والآن كيف ستمضي الأمور بدونه؟ وكيف لا آسَفُ سيدتي لفراقه؟!
عندما وصلت إلى المنزل أخبرت زوجي بما قاله الحارس، فضحك وقال: حسنًا، انظري، إن لديَّ فضائل لم يراودني، أنا نفسي، الشكُّ فيها.
سادت حياتنا على منوال منظم، كما استمر العمل في الرواية بنجاح منقطع النظير. كان ذلك أمرًا هامًّا بالنسبة إلينا، وأثناء رحلتنا إلى بطرسبورج التقى فيودور ميخايلوفيتش مع البروفيسور ديمتري كوشلاكوف، الذي نصحه بإلحاح بأن يواصل العلاج، وأن يذهب مرةً أخرى في الربيع إلى إمس، بعد أن لاحظ النتائج الإيجابية للعلاج بالماء في العام الماضي.
– نعم، أنا أعرف كل شيء يحدث في أسرتكم، قال رئيس الشرطة بأهمية بالغة، وأستطيع أن أقول بأنني راضٍ حتى الآن عن زوجك تمامًا.
– هل أستطيع أن أنقل لزوجي مديحكم هذا؟ قلت له ذلك بلهجة ساخرة.
بعد وصولي للمنزل أخبرت فيودور ميخايلوفيتش بما قاله رئيس الشرطة وأنا أضحك من فكرة أن رجلًا كزوجي يمكن أن توكل مهمة مراقبته لرجل شرطة غبي. لكن فيودور ميخايلوفيتش استمع إلى الخبر الذي نقلته إليه على مضض، قائلًا: كم غضُّوا البصر عن أناس سيئي السمعة، أما أنا فيرتابون فيَّ ويراقبونني! أنا الرجل المخلص بقلبه وأفكاره للقيصر وللوطن.
٧
في مطلع شهر فبراير، اضطر فيودور ميخايلوفيتش للسفر إلى بطرسبورج ليقضي بها أسبوعين. كان الهدف الرئيسي لهذه الرحلة هو ضرورة مقابلة نكراسوف، والاتفاق معه على المواعيد التالية لنشر الرواية. كان من الضروري أيضًا له التشاور مع البروفيسور كوشلاكوف؛ إذ كان زوجي يعتزم السفر إلى إمس في هذا العام؛ لكي يعزز النجاح الكبير الذي صادف العلاج هناك في العام الماضي.
«راح مساعد رئيس الشرطة أيضًا يجادلني: لن نعطيك جواز سفر، إننا ملزَمون بالحفاظ على القوانين.
– وما الذي عليَّ أن أفعله؟
– أحضر لنا جوازًا دائمًا.
– ومن أين لي الحصول عليه؟
– ليس من شأننا؟
– حسنًا، هذه حماقة؛ أن يعامَل «الكاتب»، في شعبنا هذا، بهذه الاستهانة. في النهاية أقول لك إن في بطرسبورج عشرين ألفًا دون جواز. وها أنتم تحتجزون شخصية مشهورة وكأنه صعلوك.
– نعلم هذا يا سيد، نعلم جيدًا أنك رجل مشهور في روسيا كلها، لكننا ملتزمون بالقانون. على أية حال، لماذا القلق؟ سنعطيك غدًا شهادة، أليس الأمر سيان بالنسبة لك؟
انتهى الأمر باحتجاز جواز زوجي حتى موعد سفره، ثم أعادوه إليه دون أن يستبدلوا به آخر جديدًا، وإنما سببوا له المزيد من هموم كان في غنًى عنها.
وفي نهاية شهر مايو اضطر فيودور ميخايلوفيتش للسفر مرة أخرة إلى بطرسبورج لعدة أيام، ومنها للخارج. في هذه المرة لم يكن متحمسًا للسفر إلى إمْس، وقد بذلت جهدًا كبيرًا لأقنعه ألا يفوِّت الصيف دون علاج. كان سبب إحجامه يعود إلى أنه تركني ولستُ أفضلَ ما يُرام صحيًّا (كنت حاملًا)، وإلى جانب الحنين المعتاد للأسرة فقد عانى زوجي قلقًا بالغًا بسببي.
وقد وقعت حادثة (في نهاية فترة علاج زوجي) أنذرتني بخطر كبير: في الثالث والعشرين من يونيو تسلمت خطابًا من بطرسبورج أخبروني فيه أن صحيفة «وقائع سان بطرسبورج» نشرت خبرًا يفيد أن فيودور ميخايلوفيتش مريض بشدة. لم أصدق ما ورد في الخطاب، ولكنني أسرعت بالذهاب إلى مكتبة «مينيرالني فودي» بحثًا عن صحف المساء، فوجدت في العدد ١٥٩ من الصحيفة المذكورة الملحوظة التالية:
«علمنا أن كاتبنا الشهير فيودور ميخايلوفيتش دستويفسكي مريض بشدة.» يمكنكم تصور كيف يمكن أن تؤثر مثل هذه الأخبار عليَّ. خطر ببالي على الفور أن من الأرجح أن تكون نوبة صرع مزدوجة قد داهمت فيودور ميخايلوفيتش، ومثل هذه النوبات دائمًا ما يكون لها تأثير بالغ السوء عليه. وقد تكون صدمة عصبية أو ربما أي شيء فظيع آخر. ذهبت إلى مكتب البريد في حالة من اليأس التام لأرسل برقية إلى زوجي، ورحت بعدها أستعد للسفر إليه، بعد أن اتخذت قرارًا بترك الأطفال في رعاية الأب روميانتسيف وزوجته. وقد حاولا إثنائي عن السفر إلى زوجي، ولكنني لم أكن قادرة على أن أتحمل فكرة أن زوجي العزيز مريض للغاية وقد يموت وأنا لست بجانبه. ولحسن الحظ فقد تسلمت ردًّا مطَمْئنًا في حوالي الساعة السادسة. ما زلت أتذكر بمشاعر الخوف ما الذي كان من الممكن أن يحدث لو أنني سافرت وأنا «حامل» وعلى هذه الحالة من القلق الشديد. الحقيقة أن الله قد أنقذنا من كارثة!
لم أنجح في معرفة من الذي أبلغ الصحف هذا الخبرَ الذي لم يكن له أساس من الصحة، والذي تسبَّب في الساعات العصيبة التي قضيناها أنا وزوجي.
ومن بين المشكلات التي كانت تؤرق فيودور ميخايلوفيتش أيضًا مشكلة استئجار شقة شتوية. وعلى الرغم من أننا كنا نعيش على نحو جيد في روسا، ولكن إقامتنا فيها شتاءً آخرَ كان أمرًا صعبًا، وبخاصة نتيجة لأنه في بداية العام التالي (١٨٧٦م) قرر فيودور ميخايلوفيتش أن يشرع في العمل في مجلة «مذكرة الكاتب» التي كان يفكر في إصدارها منذ زمن بعيد. كان الأمر يتلخص في هل يبدأ البحث عن شقة أثناء مروره ببطرسبورج بعد عودته من الخارج، أم تسافر الأسرة إلى العاصمة، وبعد أن نستقر جميعًا في أحد الفنادق نبدأ في البحث عن شقة نقيم فيها؟ كلٌّ من هذه الحلول كان له مَصاعبه، أما أنا فكنت أميل إلى فكرة الذهاب إلى بطرسبورج بنفسي في توقيت عودة زوجي لنقوم معًا بالبحث عن شقة. وقد اعترض زوجي بحسم على هذا الحل؛ آخذًا في اعتباره حالتي الصحيةَ آنذاك. وقد قررنا في النهاية أن يبقى فيودور ميخايلوفيتش يومين/ثلاثة في بطرسبورج، فإذا لم يُسعده الحظ في العثور خلال هذه الفترة على شقة مناسبة فَعليه بالعودة إلى روسا.
العام ١٨٧٥م، الفأر الصغير
طوال إقامتنا في ستاريا روسا كان مزاج فيودور ميخايلوفيتش دائمًا لطيفًا ومرحًا، وهو ما يشهد عليه، على سبيل المثال، مزاحُه معي.
ذات يوم من أيام ربيع عام ١٨٧٥م غادر فيودور ميخايلوفيتش فراشه صباحًا وقد ارتسم العُبوس على وجهه. أحسست بالقلق فسألته عن صحته.
– بصحة جيدة — أجاب فيودور ميخايلوفيتش — ولكن وقع لي حادث مزعج؛ لقد اتضح أن هناك فأرًا صغيرًا في فراشي، لقد استيقظت بعد أن شعرت أن شيئًا ما جرى على قدمي، أزحت الملاءة فرأيت فأرًا صغيرًا. وقد شعرت بالاشمئزاز! قالها فيودور ميخايلوفيتش وقد عبَّرت قسِماتُ وجهه عن نفور شديد، وأردف قائلًا: لعل من الضروري أن نبحث عنه في الفراش!
– نعم، حتمًا. أجبته.
ذهب فيودور ميخايلوفيتش إلى غرفة المائدة ليتناول قهوته؛ بينما ناديت على الخادمة والطاهية ورحنا معًا نفتش الفراش، أزحنا الملاءة واللحاف والمخدات، استبدلنا البياضات ولم نعثر على شيء، رحنا نقلب الكراسي ونُبعد الأرفف عن الحوائط حتى نعثر على جحر الفأر.
عندما سمع فيودور ميخايلوفيتش الجلبة التي أحدثناها بدا في النداء عليَّ، ولما لم أستجب أرسل إليَّ أحد الأطفال، أجبته أنني سآتي إليه فور انتهائي من تنظيم الغرفة. عندئذٍ طلب مني فيودور ميخايلوفيتش بإصرار أن أذهب إليه في غرفة المائدة. وعلى الفور ذهبت إليه وعندها سألني بنفس النفور السابق: حسنًا، هل وجدتم الفأر الصغير؟
– أين نجده؟! لقد هرب. الغريب في الأمر أن غرفة النوم ليس بها أيُّ منفذ، بداهةً فقد تسلل من المدخل.
– أول أبريل، أنيتشكا، أول أبريل! أجاب فيودور ميخايلوفيتش وقد أضاءت وجهه الطيبَ ابتسامة حنون مرحة. اتضح أن زوجي تذكر أن من الشائع في أول أبريل أن يلجأ الناس إلى عمل خدعة، فأراد أن يسخر مني، وكنت قد صدقت الأمر وقد نسيت تمامًا تاريخ اليوم. بالطبع ضحكنا كثيرًا، وقد اعتدنا أن يدبر كلٌّ منا للآخر خدعة «أول أبريل» وكان أطفالنا يشاركون فيها.
٨
العودة إلى بطرسبورج
عاد فيودور ميخايلوفيتش من إمس إلى بطرسبورج في السادس من يوليو، فقضى في المدينة يومين/ثلاثة، ولما كان من الصعب عليه في هذه الفترة القصيرة أن يعثر على شقة مناسبة، فقد ترك البحث، بعد أن شاهد عددًا من الشقق، وعاد أدراجَه إلى روسا. كان متشوقًا للغاية للعودة إلى أحضان الأسرة. وبعد أن أمعنَّا النظر والتدبير قررنا البقاء في روسا إلى أن يصل العضو المنتظر إضافتُه لأسرتنا، ناهيك عن أن السادة كبار السن، الذين كانوا يَهيمون حبًّا بأطفالنا، أقنعونا بعدم سفرهم في منتصف فصل الصيف.
وافق فيودور ميخايلوفيتش على البقاء بارتياح مستغرب؛ لأن ذلك كان سيسمح له بالعمل في هدوء على إتمام روايته قبيل وبعد أن أضع طفلي، دون أن يتخلى عن تعاوني معه. كان العمل يتطلب قدرًا كبيرًا من الجهد حتى يتسنى لزوجي عند وصوله إلى بطرسبورج أن يطلب من نكراسوف نقودًا مقابل رواية «المراهق». وكانت النقود ضرورية لنا لأقصى حد لكي نبدأ بها حياتنا في العاصمة.
جو لطيف ساد شهرَ أغسطس بأكمله حل بعده شهر سبتمبر بأيامه المعروفة «بالصيف الهندي»، عجيبة بدفئها وهدوئها، على أننا قررنا السفر في حوالي الخامس عشر من الشهر خوفًا من تقلب الجو. كان الطريق أمامنا شاقًّا، فالسفن لم تكن تصل إلى المدينة بسبب انخفاض المياه في نهر بوليستا، ومن ثَم كانت تقف في بحيرة إيلمين في مواجهة قرية أوستريكا، على بُعد ثمانية عشر فرسخًا من روسا. وذات صباح رائع دافئ خرجنا من البيت في طابور طويل: في المقدمة جلس فيودور ميخايلوفيتش مع الطفلين في عربة مسقوفة؛ بينما جلست أنا والرضيع والمربية في العربة الثانية، وفي الثالثة جلست الطاهية فوق جبل من الصناديق والأجولة والصرر. سِرنا في جو يسوده المرح على صليل أجراس الخيول، وكان فيودور ميخايلوفيتش يوقفها لكي يطمئن على أحوالي ويخبرني أنه في غاية السعادة مع الأطفال.
وصلنا إلى أوستريكا بعد حوالي ساعتين ونصف، وهنا صادفَنا أمرٌ لم نعمل له حسابًا؛ لقد وصلت السفينة بالأمس، وبعد أن أخذت عددًا كبيرًا من المسافرين، قرر القبطان أن العدد الراغب في السفر سيكون قليلًا اليوم؛ ولهذا وعد بالمجيء في الغد. أُسقِط في أيدينا. كان علينا أن نقضي يومًا بطوله هنا. هُرعت إلينا رباتُ بيوت من بيتين/ثلاثة يدعوننا للمبيت لديهن. اخترنا أكثرها نظافةً لتنتقل العائلة كلها إليه، سألت صاحبة البيت كم تأخذ أجرًا على المبيت، فأجابت بأريحية شديدة: «لا عليك يا سيدتي، لن نأخذ أكثر مما يجب، وأنت لن تهضمينا حقنا شيئًا.»
اتضح لنا أن الغرفة متوسطة الاتساع بها سرير كبير، يمكن وضع الأطفال فيه بالعرض. قررت أن أقرِّب بعض الكراسي إلى بعض وأنام عليها، أما فيودور ميخايلوفيتش فنام على أريكة قديمة ذكَّره مظهرها بطفولته. بينما ذهبت الفتيات (الطاهية والخادمة) للنوم في مخزن العلف.
وحيث إننا سافرنا ومعنا كل ما نملكه، حاملين معنا أيضًا موادَّ غذائية، فقد ذهبت الطاهية على الفور لإعداد طعام الغداء، بينما توجهنا نحن للنزهة، فمددنا عددًا من الأربطة على الأرض فوق تل يُطلُّ على البحيرة وجلسنا نستجم. كان وليدنا بصحبتنا وقد استغرق في النوم في هذا الهواء الطلق. قضينا يومًا رائعًا، كان فيودور ميخايلوفيتش مسرورًا للغاية يلعب مع الأطفال ويدخل معهم في سباق للجري. وكنت مبتهجة لأننا نجحنا أن نجعل جزءًا من رحلتنا الطويلة على هذا النحو من السعادة. تناولنا طعام الغداء، وسرعان ما هبط الظلام لنعود ونهجع في أسرَّتنا مبكرًا.
في الصباح، في حوالي الثامنة، أخبرونا أن دخان السفينة يتراءى عن بُعد، وبعد حوالي ساعة ونصف سوف تصل إلى أوستريكا. بدأنا نجمع أمتعتنا ونُلبس الأطفال ما يناسب الطريق، ثم ذهبت لدفع أجرة المسكن. اختفت صاحبة البيت ليظهر بدلًا منها ابنها، يبدو من مظهره أنه شخص مولع بشرب الفودكا. كان الحساب مكتوبًا بخط رديء، وبلغت قيمته أربعة عشر روبلًا وبضع كوبيكات، منها روبلان ثمن دجاجة، واثنان ثمن اللبن وعشرة للمبيت. غضبت بشدة ورحت أجادله في الحساب، لكن ابن صاحبة البيت لم يتراجع وهدَّدنا بأنه سوف يحتجز حقائبنا إذا لم ندفع المبلغ كله. بالطبع اضطررنا للدفع ولكنني لم أتمالك نفسي ووصفته «باللص».
في هذه الأثناء كانت السفينة قد اقتربت وتوقفت على مسافة نصف فرسخ من الشاطئ، ومن ثَم كان علينا أن نستقلَّ قاربًا لنصل إليها. ولكن عندما نزلنا إلى الشاطئ نفسه تبين أن القوارب تقف على مسافة بضع خطوات من البر، وكان البسطاء يخوضون في المياه إليها بعد أن خلعوا أحذيتهم. أما نحن فقد حملتنا على ظهورهن نسوةٌ أشداء. لكُم أن تتخيلوا مدى الخوف والقلق الذي شعرنا به أنا وزوجي على الأطفال. حملوا زوجي أولًا وقد وضع على يديه الأطفال وقد راحوا يصرخون ويبكون من الخوف. ثم حملوني بعده وأخيرًا حملوا الرضيع. جلست في القارب وقد انتابني الخوف وأنا أفكر كيف سنصعد إلى السفينة على السلم ومعنا الأطفال! لكن كل شيء تم على ما يرام؛ أرسل القبطان واحدًا من بحَّارته ليستقبلنا، وقد قام بحمل الأطفال كلهم. في هذه الأثناء وصلت أمتعتنا عبر قارب يقوده ابن صاحبة البيت.
كان النهار بديعًا. انعكس سطح بحيرة إيلمين بلون الفيروز لتذكرنا بالبحيرات السويسرية. لم يكن هناك أدنى اهتزاز، وقد جلسنا ساعات السفر الأربع جالسين على السطح.
وصلنا إلى نوفجورود في حوالي الساعة الثالثة. وعلى الفور توجهنا أنا وفيودور ميخايلوفيتش والأطفال إلى محطة السكك الحديدية. بينما تولى الحوذية إنزال أمتعتنا مع أمتعة باقي الركاب، وبعد ساعة أحضروا الأمتعة، ولما لم أكن أثق في فطنة الخادمة فقد ذهبت بنفسي لمراجعتها، كانت لدينا حقيبتان جلديتان كبيرتان، إحداهما سوداء والأخرى صفراء، وبعض الحقائب الصغيرة، وقد هدأ خاطري عندما شاهدتهم جميعًا.
مر اليومُ بسرعة كبيرة، وفي حوالي الساعة السابعة جاء إليَّ الحارس وأخبرني أن من الأفضل لي أن أعطيه التذاكر مقدمًا، وأن أتسلم الحقائب قبل أن يزدحم المسافرون للحصول على أمتعتهم. وافقت واشتريت التذاكر، وبعد أن عدت أشرت للحارس إلى حقيبتين كبيرتين واثنتين أخريين يجب تسليمهما. وفجأةً، ولشدة دهشتي، قال لي الحارس، مشيرًا إلى الحقيبة السوداء: «سيدتي، هذه ليست حقيبتك، لقد سلمتها لتوي لحفظها لمسافر آخر.»
– كيف ليست حقيبتي؟ مستحيل! صرخت واندفعت أفحص الحقيبة. وا أسفاه! على الرغم من أنها بنفس شكل ومقاس حقيبتنا (من المؤكد أنه قد تم شراؤها أيضًا من مخزن جوستيني دفور بعشرة روبلات)، ولكنها، دون أدنى شك، حقيبة شخص آخر، مكتوب على سطحها الحرفان الأوَّلان من اسم صاحبها بخط يكاد ينمحي.
– يا إلهي، إذن أين توجد حقيبتنا في هذه الحالة؟ ابحث عنها، قلت للحارس، لكنه أجاب بأنه لا توجد حقيبة سوداء أخرى هنا. وقعت في هاوية اليأس، فالحقيبة الضائعة أشياء تمثل أهمية كبرى لفيودور ميخايلوفيتش؛ ملابسه الخارجية وبياضات، والأهم من ذلك كله مخطوطات رواية «المراهق»، التي ينبغي على زوجي أن يحملها غدًا إلى «حوليات الوطن» ويتسلم مكافأته المالية عنها، والتي نحن في أمسِّ الحاجة إليها، وعلى هذا فقد ضاع جهده على مدى الشهرين الأخيرين، ومن المستحيل إعادة كتابتها مرة أخرى، إذ إن المسودات التي كتبها فيودور ميخايلوفيتش موجودة أيضًا في الحقيبة، وبدونها يصبح عاجزًا تمامًا، وعليه أن يضع، مضطرًّا، خطةً جديدة للرواية. هكذا تخيلت حجم الكارثة التي حلت بنا. هرولت دون أن أشعر وقد غمرني الحزن إلى الصالة التي كان ينتظرني فيها فيودور ميخايلوفيتش مع الأطفال. عندما رأى وجهي وقد علاه الكدر، فزع زوجي خشيةَ أن يكون مكروهًا قد أصاب المولود الذي كان بصحبة المربية في غرفة السيدات. ما كدت ألتقط أنفاسي حتى رحت أقصُّ عليه ما حدث.
كانت صدمة عنيفة لفيودور ميخايلوفيتش حتى إن وجهه قد شحب، وغمغم قائلًا: حقًّا! إنها كارثة ثقيلة. ما الذي علينا أن نفعله الآن؟
– أتعرف؟ تذكرت فجأةً، إنه هذا الوقح ابن صاحبة البيت لم يضع الحقيبة على الباخرة؛ نكاية فيَّ لأنني وصفته باللص.
ذهبت وقد بلغ بي اليأس حدًّا كبيرًا. رحت ألوم نفسي على العصبية التي وقعت، وعلى أنني لم أعتنِ اعتناءً كافيًا بأعزِّ ما لدينا، وعلى أنه بسبب عدم متابعتي لأمتعتنا ضاع جهد شهرين بذله زوجي! «لكنني نظرت وكنت على يقين أنها حقيبتنا! هكذا حدثت نفسي. وهل كان من الضروري أن تقع هذه المصادفة فيحدث هذا التشابه مع حقائبنا!» وقفت في صالة الحقائب مستندةً إلى إحدى القوائم، وفجأةً برقت في رأسي فكرة أنه ماذا لو أن الحقيبة ما تزال على رصيف الباخرة؟ في هذه الحالة لا بد أنهم أخذوها بطبيعة الحال وأخفوها. ماذا لو ذهبت للسؤال عنها هناك؟ توجهت إلى الحارس بالسؤال إن كان بإمكانه الذهاب إلى الرصيف والاستعلام إن كانت هناك حقيبة وأن يحضرها إلينا، فإذا لم يعطوها له فليخبرهم أن أصحابها سيأتون غدًا لاستلامها. أجابني الحارس أنه لا يستطيع مغادرة المكان لأنه منوط بالوردية. عندئذٍ، ودون أن أطيل التفكير، قررت الذَّهاب بنفسي إلى الرصيف. خرجت من المحطة، وجدت عند البوابة حوذيِّين فصرخت قائلة: «من يأخذني إلى رصيف السفن، ذهابًا وعودة؟ أعطيه روبلًا ونصف.» أحدهما أجاب أنه مشغول، والآخر، وهو شاب يبلغ من العمر تسعة عشر عامًا، وافق. قفزت في العربة وانطلقنا. كانت الساعة حوالي الثامنة مساءً وكان الظلام قد حل بدرجة كبيرة. عندما كنا نسير عبر شوارع المدينة، لم يكن ينتابني أي خوف؛ لوجود أعمدة الإضاءة والمشاة. ولكننا ما إن عبرنا جسر فولخوفسكي وانحرفنا يمينًا، بالقرب من عدد من العنابر الطويلة، حتى راح قلبي يدق بشدة: هنا، في الظلام، في عمق العنابر، بدا أن هناك أناسًا مختبئين، حتى إن صعلوكين منهم راحوا هناك يركضون وراءنا. عندئذٍ قام الفتى بهمز الحصان ودفعه حتى إنه انطلق كأنه الطير. وصلنا بعد عشر دقائق إلى الرصيف. قفزت من العربة وعدوت عبر الجسر الصغير نحو المكتب الأمامي. كان المكان هناك مظلمًا بداهة، كان الحارس نائمًا. رحت أدق الحائط بكل قوتي، ثم الحائط الآخر، ثم النافذة. في البداية صِحتُ بأعلى صوتي: «أيها الحارس، افتح بسرعة!» بعد خمس دقائق وكنت قد يئست من نجاحي وأردت أن أعود إلى الحوذي، إذا بسعال رجل عجوز يدوي فجأة، ثم تلاه صوت يقول: «من يدق؟ ماذا تريدين؟» افتح يا جدي بسرعة! — صِحْت، بعد أن قررت بناءً على الصوت، أني أتحدث إلى شيخ عجوز — لقد تركنا لديكم حقيبة سوداء كبيرة، وقد قدِمنا لأخذها. «موجودة» أجاب الصوت. «أخرِجها إذن بسرعة!» «اقترِب، أجاب العجوز ثم دفع في الحائط الجانبي بحاجز خشبي (يسلمون الأمتعة عبرَه للمكتب بالأمتعة) وألقى على الرصيف بحقيبتي السوداء. يمكنكم أن تتصوروا سعادتي الغامرة في هذه اللحظة!
رجوت الفتى أن يسرع في العودة، فقد كنت أدرك كم من الوقت مضى منذ مغادرتنا المحطة، وأن فيودور ميخايلوفيتش لا بد وأنه يفتقدني بشدة الآن. وقد اتضح أن زوجي، عندما وجد أنني لم أرجع، ذهب إلى استراحة السيدات، ولما لم يجدني هناك بعد أن تركت الأطفال وأليوشا للمربية، ذهب للبحث عني. ظل زوجي يسأل الحراس لعل أحدًا منهم قد رآني، فأجابه أحدهم أن السيدة استأجرت حوذيًّا اتجه بها ناحيةَ هذا الجانب من المدينة. كان فيودور ميخايلوفيتش قلقًا، لا يعرف إلى أين توجهتُ في هذه الساعة المتأخرة، وحتى يتمكن من لقائي، خرج إلى سقيفة الباب. وعندما رأيته عن بُعد صِحت: ها أنا ذا فيودور ميخايلوفيتش! جئت ومعي الحقيبة!
لحسن الحظ أن المكان أمام بوابة محطة السكك الحديدية لم يكن مضاءً بشكل مناسب، وإلا شاهد الناس سيدة محترمة لا تجلس على المقعد المخصص للجلوس في عربة وإنما فوق حقيبة، ويا له من منظر غير لائق بالمرة!
عندما قصصت على فيودور ميخايلوفيتش مغامراتي كلها أصابه الذعرُ ووصفني بالجنون.
– يا إلهي! يا إلهي! صاح زوجي، فكِّري في مدى الخطر الذي تعرضتِ له! الأمر أن الأوباش عندما رأوا حوذيًّا معه امرأة في عربته أسرعوا وراءكِ، وكان باستطاعتهم أن يهجموا عليكِ فينهبوكِ ويشوهوكِ ويقتلوكِ! فكِّري، ما الذي كان سيحدث لنا! سيحدث لي! سيحدث للأطفال! آه يا آنيا، إن اندفاعك هذا سيقودك للهلاك!
كان فيودور ميخايلوفيتش يرى أن اندفاعي، أو، كما يقال، ميلي لاتخاذ قرار خاطف في ثانية واحدة ووضْعَه موضع التنفيذ، دون إمعان التفكير فيما يترتب عليه من نتائج؛ هو أكبر عيوبي، وقد أشار إلى ذلك في بعض خطاباته إليَّ.
شيئًا فشيئًا عاد فيودور ميخايلوفيتش إلى هدوئه، وفي نفس الليلة عدنا إلى بطرسبورج سالمين.
أقدم هذا المشهد كنموذج للمصاعب والكروب التي صادفتنا في تلك الأزمان البعيدة، لمجرد سفرنا إلى بلد قريب نسبيًّا؛ مثل ستاريا روسا.
⋆ اقتباس غير دقيق. عن هذا الأمر كتب فسيفولد سولوفيوف في عدد مارس (العدد ٣) من مجلة «البشير التاريخي» عام ١٨٨١م، ص٦١٤.
⋆ الخطابات، المجلد الثالث، ص١٠٢. الأرجح أن مقالة دستويفسكي «مجاز بارد» كانت تخص بالنقد لوحتَي ف. كاولباخ: «معارك الهن» و«سقوط أورشليم» اللتين كانتا تزينان مدخل متحف برلين الملكي.
⋆ الخطابات، المجلد الثالث، ص١٢٧.
⋆ الخطابات، المجلد الثالث، ص١١٤، ١٣١.
⋆ الخطابات، المجلد الثالث. انظر: الباب السابع، الفصل ٧.
وقد عادت العلاقات الودية بين دستويفسكي ومايكوف سيرتها الأولى في الخمسينيات والستينيات. زد على ذلك أن دستويفسكي، كما أشار بحق أ. س. دولينين، «راح في نهاية النصف الأول من الستينيات يعيد النظر في أفكاره التي اقتربت أكثر من النزعة السلافية، ومن ثَم فقد كان عليه أن يتواصل مرة أخرى مع مايكوف، الذي كان قد مر بنفس مراحل التطور قبل ذلك بعدة أعوام (في نهاية الخمسينيات). (الخطابات، المجلد الأول، ص٥١٩). وفي النصف الثاني فقط من السبعينيات، عندما جرى نشر «المراهق» في «حوليات الوطن»، عاد الفتور ليخيم على العلاقة بين دستويفسكي ومايكوف وبخاصة بعد رد دستويفسكي على سؤال ألقاه أحدهم عليه إبان غداء أقامه بعض الأساتذة والأدباء في الثالث عشر من مارس ١٨٧٩م؛ تكريمًا لتورجينيف بقوله: «لماذا أنت الوحيد الذي ينشر في «البشير الروسي»؟» وقد أجاب دستويفسكي على الفور: «لأنهم يدفعون أكثر وبأمانة ومقدمًا.» وفي نفس اليوم كتب مايكوف خطاب احتجاج إلى دستويفسكي تساءل فيه بحدة قائلا: «لقد انتظرت أن تقول، باعتبارك شخصًا مستقلًّا، ونظرًا لتعاطفك مع كاتكوف واحترامك له، ولاتفاقك معه في العديد من الآراء الأساسية (…) العديد من الآراء الأساسية لكنك ابتعدت دون أن تقول لماذا، هل تنشر عند كاتكوف بسبب النقود؟» (دستويفكي، المجلد الثاني، ص٣٦٤). عن ستراخوف انظر الباب الثاني عشر من هذا الكتاب (الفصل (٢)، رَدِّي على ستراخوف) وكذلك [الجزء الثاني عشر، ما بعد موت فيودور ميخايلوفيتش، التعليق رقم ٣٨].