العامان ١٨٧٦-١٨٧٧م
١
سيدي الكريم٣
بيتر إيفانوفيتش المحترم٤
أنا شخص مجهول لديكم تمامًا، وحيث إني متعاطف معكم، فإنني أتجاسر بكتابة هذه السطور إليكم. إنني على دراية تامة بما تملكونه من نبل وكرم؛ ولذلك يحزُّ في نفسي أن تقوم إحدى الشخصيات القريبة منكم بخداعكم على نحو لا يليق بكم. إن هذه الشخصية تعيش على مسافة، ربما، ما يزيد على ألف فرسخ، وهي مثل يمامة سعيدة، ما إن تنشر جناحيها حتى تحلِّق في الفضاء غير آبهة بالعودة إلى بيت الأسرة. لقد تركتم لها العِنان وهي الآن على وشك الهلاك. لقد وقعت بين مخالبِ شخص يسومها العذاب، لكنه يَفتنها بمظهره المتملق، شخص ملَك فؤادها، وبات لديها أعزَّ من عينيها، فإذا لم يردد على أذنيها معسول الكلام، راحت تكره كل شيء حتى أطفالها. إذا أردت أن تعرف من هذا الوقح فلن أخبرك باسمه، ولكن عليك أن تحاذر أصحاب البشرة السمراء، فإذا ما رأيت أحدهم حريصًا على زيارتكم وكثرة التردد عليكم، فتدبَّر أمرك. هذا الأسمر يقطع الطريق عليكم منذ زمن بعيد دون أن تحزُرَ من هو. لا شيء في الأمر كله يهمني، لكني أكشف لكم هذا السر لما عهدته فيكم من كرم ونبل. فإذا لم تكن تصدقني فيما أقول، فإن زوجتك تعلق في رقبتها سلسلة لها قلادة، فانظر من تضع في هذه القلادة فوق قلبها. المجهول أبدًا، المخلص دومًا.
ينبغي أن أذكر هنا أنني في الفترة الأخيرة كنت في حالة نفسية رائعة: توقفتْ منذ فترة طويلة نوباتُ الصرع التي كانت تداهم زوجي، شُفي الأطفال من الأمراض تمامًا، كنا نسدد ديوننا شيئًا فشيئًا، أما نجاح «مذكرة الكاتب» فكان في صعود. كل ذلك دعَم داخلي المزاج المميز لشخصيتي المحبة للحياة. وهكذا إذا بي تحت تأثير هذا المزاج، وقراءتي لهذا الخطاب الذي أرسله مجهول، تخطر في ذهني فكرة عبثية هي أن أعيد كتابة هذا الخطاب (بعد أن أغير وأمحو سطرين/ثلاثة إلى جانب الاسم) وأرسله إلى فيودور ميخايلوفيتش. تصورت أنه، وقد قرأ هذا الخطاب بالأمس في رواية سميرنوفا، سوف يخمن على الفور أن هذا الخطاب ليس سوى مزحة وسوف نضحك عليه كلانا. وقد خطرت برأسي فكرة أخرى؛ أن زوجي سوف يأخذ الخطاب على محمل الجد، وفي هذه الحالة شاقني أن أعرف كيف سيتصرف عندما يتسلم خطابًا مجهولًا: هل سيعرضه عليَّ أم سيلقي به في سلة المهملات؟ وكعادتي رحت أنفذ ما فكرت فيه. في البداية أردت أن أكتب الخطاب بخطي المعتاد، ولما كنت أعيد يوميًّا كتابة «مذكرة الكاتب» بعد أن يمليها عليَّ فيودور ميخايلوفيتش، من لغة الاختزال إلى الكتابة العادية، فقد بات خطي معروفًا على نحو جيد له. وهنا لجأتُ إلى بعض التمويه لهذه المزحة، فتوصلت لكتابة الخطاب بخط مختلف الحروف، فيه أميل للاستدارة التي لا تميز خطي. وقد كلفني هذا جهدًا بالغًا، فقد اضطررت لإفساد عدد من الصفحات قبل أن تتخذ الكتابة شكلًا متسقًا. وفي صباح اليوم التالي وضعت الخطاب في الصندوق ليسلمه لنا البريد في منتصف اليوم ومعه باقي المراسلات.
في هذا اليوم تأخر فيودور ميخايلوفيتش في مكانٍ ما، ومن ثَم فقد عاد إلى المنزل في الخامسة تمامًا، وحيث إنه لم يرغب في تأخير الأطفال عن الغداء، فقد ارتدى ملابس المنزل ولم يتفحص البريد واتجه مباشرة إلى غرفة الطعام. كان فيودور ميخايلوفيتش في حالة نفسية طيبة، كان يتحدث كثيرًا ويضحك وهو يجيب عن أسئلة الأطفال. وبعد تناول الغذاء، وما هي إلا عشر دقائق حتى توجهت لاستطلاع أثر الخطاب المجهول عليه.
دخلت إلى الغرفة وجلست في مكاني المعتاد بالقرب من المكتب، وتعمدت أن أنحو بالحديث منحًى يتطلب إجابة من فيودور ميخايلوفيتش. لكنه ظل صامتًا وقد علا وجهَه العُبوس، ثم راح يذرع الغرفةَ بخطوات ثقيلة. لاحظت أنه متوتر وأحسست في لحظة خاطفة بشعور من الأسى عليه. وحتى أقطع الصمت الذي ساد المكان سألته: فيديا، لماذا أنت متجهم هكذا؟
نظر إليَّ فيودور ميخايلوفيتش غاضبًا ثم واصل سيره مرتين في الغرفة ثم توقف في مواجهتي مباشرة: هل تحملين قلادة؟ سألني بصوت مختنق.
– نعم، أحمل.
– أريني إياها!
– لماذا؟ لقد شاهدتها مرارًا.
أريني القلادة! صاح فيودور ميخايلوفيتش بأعلى صوته.
أدركت عندئذٍ أن مزحتي وصلت إلى طريق مسدود، وحتى أهدئ من روعة رحت أفك أزرار ياقة ثوبي. لكنني لم أستطع أن أسحب القلادة بنفسي. لم يستطع فيودور ميخايلوفيتش أن يملك غضبه الذي اجتاحه، وإذا به يميل نحوي بسرعة وينزع السلسلة عن رقبتي بكل قوته. كانت سلسلة رقيقة، اشتراها بنفسه لي في فينيسيا. وعلى الفور قُطعت السلسلة واستقرت القلادة في يد زوجي. استدار نحو مكتبه وانكبَّ فوقه يتفحص القلادة. لم يكن يعرف كيف يضغط على الزُّنبُرك؛ ولذلك راح يعالجه مدة طويلة. كنت أرى كيف راحت يديه ترتعشان، حتى كادت القلادة تسقط من يديه على المكتب. كنت أشعر بالأسى الشديد نحوه والحزنِ على نفسي. بدأت أتحدث إليه بشكل ودي فعرضت عليه أن أفتحها بنفسي، لكن فيودور ميخايلوفيتش أشاح برأسه غاضبًا رافضًا مساعدتي. أخيرًا نجح زوجي في معالجة الزنبرك، وعندما فتح القلادة وجد بداخلها صورة لوباتشكا على جانب، وعلى الجانب الآخر صورتي. أصابه الذهول التام، وواصل تفحُّص الصورة صامتًا.
– حسنًا، ماذا وجدت؟ فيديا، يا عزيزي، كيف استطعت أن تصدق خطابًا من مجهول؟ التفت إليَّ فيودور ميخايلوفيتش بحماس.
– وأنتِ من أين عرفتِ بشأن الخطاب من مجهول؟
– مِن أين؟ إنني أنا الذي أرسلته بنفسي!
– كيف أرسلتِه بنفسك؟! ماذا تقولين؟! أمر لا يُصدق!
– سوف أُثبت لك!
اقتربت بسرعة من المكتب الآخر، حيث وُضعت عليه أعداد من «حوليات الوطن». فتَّشت فيها وأخرجت بعضًا من الأوراق، التي كنت أجرب فيها بالأمس كيف أنتحل خطًّا غير خطي.
أُسقط في يد فيودور ميخايلوفيتش من الذهول.
– وأنتِ التي صُغتِ هذا الخطاب؟
– لم أصُغْه إطلاقًا! لقد نقلتُه حرفيًّا ببساطة من رواية صوفيا إيفانوفنا. وقد كنت تقرؤه أمس، لقد اعتقدت أنك ستحزُر الأمر على الفور.
– حسنًا، الآن تذكرت! على هذا النحو تمامًا يكتبون الخطاباتِ المجهولةَ المرسِل. لكني لا أدري لماذا أرسلته لي!
– أردت فقط أن أمزح. شرحت له الأمر.
– إذن كنت تمزحين يا آنيتشكا — قالها وقد امتلأ صوته بالإحساس بالذنب — ألم تفكري أن الأمر كان يمكن أن يؤدي إلى مصيبة! كان من الممكن أن أخنقك في لحظة غضب! ليس هناك ما يقال سوى إن الله قد لطف بنا رأفةً بأطفالنا! تصوَّري، على الرغم من أنني لم أجد صورة هناك، لكن كان من الممكن أن يبقى في صدري قدْرٌ من الشك في إخلاصكِ، ولَبقيتُ طوال عمري أتعذب بذلك. أتوسل إليكِ ألا تمزحي بمثل هذه الطريقة، فلست مسئولًا عما أفعل في لحظة الغضب!
كنت أشعر أثناء حديثنا ببعض الألم عندما أحرك رقبتي. وضعت عليها منديلي، فإذا بشريط من الدم ينطبع عليه، بداهة فقد جرحت رقبتي عند نزع السلسلة بقوة. أحسَّ زوجي بالذعر عندما شاهد الدم على المنديل.
– يا إلهي، ماذا فعلت! آنيتشكا، عزيزتي، سامحيني! لقد جرحتك! هل تشعرين بالألم؟ أخبريني، هل الألم شديد؟
رحت أهدئ خاطره. شرحت له أنه لا يوجد أي جرح، وأن الأمر لا يزيد عن خدش بسيط ما يلبث أن يلتئم غدًا. كان فيودور ميخايلوفيتش في غاية القلق، والأهم أنه كان ما يزال تحت تأثير سَورة غضبه. ظل طوال المساء يعتذر ويأسف ويعاملني بكل حنان ومودة. كنت في غاية السعادة أن مزحتي السخيفة انتهت على خير. كنت أشعر بالندم لما سببتُه من ألم لفيودور ميخايلوفيتش، وعاهدت نفسي ألا أمزح مطلقًا في حياتي في مثل هذه الأمور، بعد أن علَّمتني التجربة كيف يمكن لدقائق من الغيرة أن تدفع بزوجي إلى حالة من الجنون والخبل.
ما زلت أحتفظ حتى الآن بالقلادة والخطاب الغفل من التوقيع (المؤرخ الثامن عشر من مايو ١٨٧٦م).
٢
وذات يوم صادفني فاجنر وكنت أتنزه في إحدى الحدائق، وقال لي: لقد أدهشني بالأمس فيودور ميخايلوفيتش!
– كيف؟ أجبتُ وقد أخذني الفضول.
– كنت أتنزه في المساء، وأردت أن أمرَّ بكما، وإذا بي ألتقي عند تقاطع الطريق بزوجك فسألته: «هل أنت ذاهب للنزهة، فيودور ميخايلوفيتش؟»
– لا، لست ذاهبًا للنزهة، وإنما في عمل.
– وهل يمكنني أن آتي معك؟
– يمكنك إذا كنت تريد. أجاب دون ترحاب.
كان مظهره يدل على أنه مهموم، وكان من الواضح أنه لا يرغب في تبادل الحديث معي. وعندما وصلنا إلى أول تقاطع التقينا امرأةً ما في طريقنا، وعلى الفور سألها فيودور ميخايلوفيتش: يا عمة، ألم تقابلي في طريقك بقرة بنية داكنة؟
– لا، يا أبتاه، لم أقابل. أجابت المرأة.
بدا لي أمر البقرة ذات اللون البني الداكن أمرًا عجيبًا. وقد أرجعت الأمر للمعتقد الشعبي الذي يؤمن بأنه يمكن التنبؤ بالطقس القادم تبعًا لأول بقرة تكون عائدةً لتوها من الحقل. وقد ظننت أن فيودور ميخايلوفيتش يستفسر عن بقرة بغرض معرفة الجو المتوقع غدًا. ولكننا عندما بلغنا الحي التالي وتوجه فيودور ميخايلوفيتش بنفس السؤال إلى صبي قابلناه، لم أتمالك نفسي من سؤاله: ما حاجتك يا فيودور ميخايلوفيتش إلى بقرة؟
– كيف ما حاجتي؟ إنني أبحث عنها.
– استمِرَّ في البحث. قلت متعجبًا.
– إنني أبحث عن بقرتنا، إنها لم تعُدْ من الحقل. لقد ذهب كلُّ من في المنزل للبحث عنها، وأنا أيضًا أبحث عنها.
وهنا فقط أدركت لماذا ينظر فيودور ميخايلوفيتش بإصرار عند القنوات وعلى جوانب الطرق ولماذا كان متكدرًا.
– وما الذي أدهشك في ذلك؟ سألتُ فاجنر.
– وكيف لا أندهش؟ — أجابني — كاتب عظيم، عقله وخياله مشغولان دائمًا بالأفكار الرفيعة، وإذا به يسير في الطريق يبحث عن بقرة بنية داكنة.
– بداهة، إنك لا تعرف أيها المحترم نيكولاي بتروفيتش — قلت له — أن فيودور ميخايلوفيتش ليس كاتبًا موهوبًا فحسب، ولكنه ربُّ أسرة بالغُ الحنان والعطف، يمثل له كلُّ ما يحدث في البيت أهميةً كبرى. فلو أن هذه البقرة لم ترجع إلى البيت أمس، لَمَا وجد أطفالنا، وبخاصة الرضيع، حليبًا يشربونه، ولاضطُرِرنا للحصول عليه من بقرة غريبة، ربما لا تكون في حالة صحية جيدة؛ ولهذا خرج فيودور ميخايلوفيتش للبحث عنها.
من الضروري أن أخبرك أننا لم نكن نملك بقرةً خاصة بنا، ولكننا عندما حضرنا إلى روسا في فصل الصيف، راح نفر من الفلاحين من جيراننا يتنافسون فيما بينهم محاولين أن يعطينا كلٌّ منهم بقرته، أملًا في أن تنال غذاءً جيدًا في الربيع، عوضًا عن ضمورها طوالَ الشتاء. كنا ندفع للفلاحين خمسة عشر روبلًا مقابل استغلال البقرة طوال فصل الصيف، ولكن في حالة نفوق البقرة أو استغلالها؛ بحيث تصاب على نحو أو آخر، فقد كنا ملزمين بدفع تسعين روبلًا. وفي كل صيف كانت البقرة تختفي هنا أو هناك ثلاث/أربع مرات، فلا تعود من الحقل مع القطيع، فيخرج كلُّ من في البيت عن بكرة أبيهم، عدا المربية والرضيع، لينتشروا في شتى الطرقات بحثًا عنها. وكان فيودور ميخايلوفيتش، الذي كان يضع أسرته في موضع الاهتمام البالغ في السراء والضراء، كان يندفع لمساعدتنا. وقد حدث أنْ ذهب بنفسه مرتين/ثلاثًا يسوق بقرتنا إلى البيت ليدخلها إلى الحظيرة. كانت هذه العناية الفائقة من جانب زوجي بأسرته تمس دائمًا شِغافَ قلبي بقوة.
٣
في هذا الشتاء ازداد تعارف دستويفسكي بشخصيات اجتماعية متنوعة بشكل كبير. كان الجميع يستقبلونه في كل مكان بترحاب شديد؛ إذ كانوا يقدِّرون فيه فكره وموهبته؛ فضلًا عن امتلاكه قلبًا طيبًا يتعاطف مع أحزان الناس وآلامهم.
وفي نفس هذا الشتاء قررت ألا أخرج إلى المجتمع؛ كنت مرهقة بشدة من جراء العمل في «مذكرة الكاتب» ومن الانهماك في شئون البيت؛ ناهيك عن جلبة الأطفال وصخبهم، حتى إنني كنت بحلول المساء لا أطمع في شيء سوى أن أخلد للراحة والاطلاع على كتاب شيق. أما الحياة الاجتماعية فلعلي كنت أبدو فيها مملة على نحوٍ ما، زد على ذلك أنني لم أشعر بالأسف مطلقًا لكوني لم أشارك في المناسبات الاجتماعية، ويرجع السبب في ذلك أنه، ومنذ اللحظة الأولى لعودتنا إلى روسيا، لم تتوقف الزيارات إلى بيتنا، إلى أن صعِدت روح فيودور ميخايلوفيتش إلى بارئها. ولما كنت أشعر دائمًا بالأسى لأنني لا أرتاد المجتمعات، ومن ثم أشعر بالوحشة، فقد أراد فيودور ميخايلوفيتش أن يسليني بعض الشيء بأن يحكي لي كل ما يراه في زياراته؛ ما سمعه من أحداث وما دار من مناقشات بينه وبين هذا أو ذاك من الحضور. كانت أحاديث زوجي شيقةً للغاية، وكان له أسلوب في الحكْي شديد الجاذبية، إلى حد أنه كان يغنيني تمامًا عن صحبة الآخرين، أذكر أنني كنت دائمًا ما انتظر عودة زوجي من زياراته على أحر من الجمر، ولدى عودته التي ما تكون عادةً في تمام الواحدة أو الواحدة والنصف، يكون الشاي معَدًّا له لتوه، فيخلع عنه ملابسه ويرتدي ثوبًا منزليًّا صيفيًّا فضفاضًا (يستخدمه بدلًا من روب المنزل)، ثم يحتسي كوبًا من الشاي الساخن ليأخذ بعده في الحديث عن المقابلات التي أجراها اليوم في المساء. كان فيودور ميخايلوفيتش على علم بولعي بالتفاصيل؛ ولهذا لم يكن يضنُّ عليَّ بها، فيخبرني بكل ما دار من أحاديث، وأروح أنا أستوضحه: «حسنًا، وهي ماذا قالت لك؟ وأنت بماذا أجبته؟»
لم يكن فيودور ميخايلوفيتش يشرع في عمله بعد عودته من زياراته مباشرة. وحيث إنه اعتاد أن يخلد إلى فراشه في وقت متأخر، فقد كنا نجلس لنتبادل الحديث حتى الخامسة فجرًا، وكثيرًا ما كان فيودور ميخايلوفيتش يُلحُّ عليَّ في الذهاب للنوم مؤكدًا أنني سأصاب حتمًا بالصداع، وأنه سوف يكمل حديثه لي في الغد.
أحيانًا ما كان يتسنى لفيودور ميخايلوفيتش أن يتباهى أمامي بانتصار أحرزه في جدلٍ ما، أدبيٍّ أو سياسي. وأحيانًا أخرى كان يقص عليَّ كيف جانَبه التوفيق عندما عجز أن يعرف أو يعترف بشيءٍ ما، وما ينتج عن ذلك من سوء فهم، ثم يروح يطلب مني أن أخبره برأيي أو أسديَ إليه نصيحةً من شأنها أن تصلح ما أرتكبه من خطأ. وكثيرًا ما كان فيودور ميخايلوفيتش يبُثُّني شكواه صراحةً لأن بعضهم عامله بإجحاف، أو أن نفرًا من الناس حاول إهانته أو المساسَ بكرامته. يجب الاعتراف حقيقةً أن بعضًا من زملاء المهنة، حتى ممن يملكون فكرًا وموهبةً، كانوا يعاملونه بجفاء وغلظة، ويتعرضون له بالأذى بالقول والفعل؛ محاولين أن يُثبتوا له أن موهبته ضئيلة في أعينهم. على سبيل المثال، كان هناك أشخاص آخرون يتحدثون مع فيودور ميخايلوفيتش عن عمله الجديد كما لو كانوا لا يريدون أن يغضبوه بآرائهم، على الرغم من أنهم كانوا يعرفون، بطبيعة الحال، أنه لا ينتظر منهم مديحًا أو مجاملة، وإنما رأيًا صريحًا فيما إذا كان قد نجح أن يقدم في الرواية الفكرة التي قصدها. أو يجيب «صديق» له على سؤاله المباشر إن كان قد قرأ الفصل الأخير من روايته (بعد شهر من ظهوره)، فيجيب «الصديق» أن «الرواية استحوذ عليها الشباب، وأنهم راحوا يتبادلونها ويثنون عليها.» على الرغم من أن هذا المتحدث يعلم تمامًا أن ما يهمُّ فيودور ميخايلوفيتش هنا ليس رأيَ الشباب الغض، وإنما رأي المتحدث نفسه، وأن من المؤسف بالنسبة إليه أن هذا «الصديق» لم يُبدِ اهتمامًا كبيرًا بروايته، حتى إنه لم يجد متسعًا من الوقت لقراءتها.
أذكر، على سبيل المثال، أن أحد الأدباء، وكان قد التقى بزوجي في أحد المجتمعات، أنه قد نجح أخيرًا في قراءة رواية «الأبله»، وكانت الرواية قد ظهرت منذ خمس سنوات مضت، وأنه أعجب بالرواية، لكنه وجد فيها شيئًا من عدم الدقة.
– وفي أي موضع لاحظتم عدم الدقة؟ أبدى فيودور ميخايلوفيتش اهتمامه، متوقعًا أن يكون الأمر وثيق الصلة بالفكرة أو في شخصيات أبطال الرواية.
– لقد قضيت هذا الصيف في بافلوفسك — أجاب محدِّث زوجي — وعندما كنت أتجول مع بناتي، أخذنا نبحث عن هذه الداتشا الفاخرة على طراز الأكواخ السويسرية، التي عاشت فيها بطلة الرواية، أجلايا إبانشينا. ما قولكم أن هذه الداتشا غير موجودة في بافلوفسك!
كما لو كان فيودور ميخايلوفيتش ملزَمًا أن يصور في روايته داتشا موجودة بالفعل وليست من بنات أفكاره.
أديب آخر (فيما بعد) أعلن أنه قرأ بفضول عظيم مرتين خطابَ المدعي العام (في رواية «الإخوة كارامازوف) وكانت القراءة الثانية جهرًا وقد أمسك في يده بساعة.
– ولماذا بساعة؟ أعرب زوجي عن دهشته.
في البداية اعتقد فيودور ميخايلوفيتش أن خطاب المدعي العام قد أثار اهتمام الأديب حتى إنه أعاد قراءته مرة ثانية، كما يحدث عندما يعجبنا شيءٌ ما، ولكن اتضح أن هناك سببًا آخر لا يمثل أهميةً تُذكر، اللهم إلا رغبة هذا الأديب في الإساءة أو في جرح فيودور ميخايلوفيتش. مثل هذه العلاقة من جانب الأدباء المعاصرين نحو زوجي كانت كثيرة.
كل هذه الأمور كانت، بطبيعة الحال، مساسًا بعزة نفسه، لا تليق بأناس أذكياءَ موهوبين، ولكنها كانت تؤثر في الوقت نفسه تأثيرًا بالغًا على الأعصاب المتوترة لزوجي المريض. كنت أشعر أحيانًا بالغضب على هؤلاء الأشرار، وكنت أميل إلى تفسير هذه التصرفات المهينة (سامحوني إن كنت مخطئة) إلى «الغيرة المهنية»، والتي، إن شئنا العدل، لم تكن من بين خصال فيودور ميخايلوفيتش، الذي كان دائمًا ما يعطي أعمال الكُتَّاب الآخرين الموهوبة حقَّها من التقدير، مهما كان مختلفًا مع فكر هذا الشخص الذي يتحدث معه أو يكتب عنه.
كنت أستمتع دائمًا بوصف فيودور ميخايلوفيتش لملابس السيدات اللائي يشاهدهن في المجتمعات التي يرتادها. وكثيرًا ما عبَّر لي عن ضرورة أن أمتلك ثوبًا مثل ثوبٍ كان قد أعجب به.
– ما رأيك يا آنَّا؟ قال زوجي، كانت السيدة ترتدي ثوبًا رائعًا، ذو طراز بسيط للغاية، مرفوع، وذو ثنيات من اليمين، منسدل من الخلف حتى الأرض ولكنه لا يجرجر، لا أذكر كيف كان من اليسار، أظن أنه كان مرفوعًا قليلًا أيضًا. فصِّلي لنفسك واحدًا مثله، سوف يكون جميلًا.
وعدته أن أفصِّل ثوبًا، على الرغم من أنه كان من الصعوبة بمكان أن أضع تصورًا محددًا لطرازه بناءً على الوصف الذي ذكره فيودور ميخايلوفيتش.
كان فيودور ميخايلوفيتش يخطئ أحيانًا في معرفة الألوان، بل كان يميزها على نحو سيئ. كان أحيانًا ما يسمي الألوان بأسماء اختفت تمامًا من الاستخدام، على سبيل المثال، لون الماساك؛ أكد لي فيودور ميخايلوفيتش أن هذا اللون يلائم لون وجهي بالتأكيد، وطلب مني أن يكون هذا اللون هو لون ثوبي الجديد. حاولت إرضاء زوجي ورحت أسأل في المحالِّ عن قماش بهذا اللون. لم يفهم التجار ما أقصد، إلا سيدة عجوزًا عرَفتُ منها أن الماساك ما هو إلا البنفسجي الداكن، وأن المخمليَّ منه كان يُستخدم قديمًا في موسكو في تبطين النعوش. ربما يكون البنفسجي الداكن ملائمًا لشخص آخر، وقد يكون ملائمًا لي أيضًا، لكنني لم أنجح في إعداد ثوب لي بهذا اللون، ومن ثم لم أستطع أن أحقق رغبة زوجي.
وقد وقعت حادثة طريفة على أثر شراء القمصان الفاخرة أزالت عني كثيرًا من الهموم؛ فذات مرة وقد اقتربت الساعة من الثانية صباحًا، دخل عليَّ زوجي غرفتي وأيقظني بصوت مرتفع وهو يسأل: «آنيا، هل هذه قمصانك؟»
– «أي قمصان؟ لعلها قمصاني.» أجبت دون أن أعي السؤال جيدًا.
– «وهل يُعقل أن ترتدي مثل هذه القمصان الخشنة؟» قال زوجي بلهجة غاضبة.
– «بالطبع، ممكن، لا أدري عمَّ تتحدث يا عزيزي، دعني أنام!» وفي الصباح جاء تفسير تصرف زوجي وسبب استيائه. وقد قصَّت عليَّ الخادمة كيف أفزعها «السيد» هي والطاهية، ثم أدهشهما بعد ذلك. كانت الخادمة قد غسلت قمصانها في المساء ونشرتها على الحبل خلف النافذة. وفي الليل اشتدت الريح وراحت القمصان المتجمدة تضرب الزجاج. كان فيودور ميخايلوفيتش يعمل في غرفته، وعندما سمع الطَّرْق على الزجاج خشي أن يستيقظ الأطفال، فذهب إلى المطبخ ووقف على كرسي صغير، ثم فتح جزءًا من النافذة وراح يسحب القمصان المنشورة إلى الداخل واحدًا بعد الآخر، ثم نشرها بعناية على حبل فوق المدفأة، وهنا تمكن فيودور ميخايلوفيتش من رؤية القمصان (وكانت مصنوعة بالطبع من قماش أشبه بالخيش الخشن) فأصابه الذعر وهُرِع ليوقظني. في الصباح قصصت على زوجي الأمر فابتسم ساخرًا من خطئه. وعندما سألته ولماذا لم يوقظ الخادمة، أجاب: «من الظلم أن أوقظها، إنها تكدح طوال اليوم، تركتها لتستريح.» على هذا النحو كانت علاقة زوجي بالخادمة؛ حتى إنه لم يكن يكلفها عناء بعض أموره الشخصية فيتولى بنفسه إنجازها.
لكن أكثر ما أدخل البهجة والسعادة على قلب زوجي بشكل خاص، عندما استطاع، قبل وفاته بعامين، أن يُهديني زوجًا من الأقراط في كل قرطٍ حجرٌ من الماس. كلفته مائتي روبل، وقد لجأ زوجي عند الشراء إلى بيوتر فومين بانتيلييف الخبير في الأشياء الثمينة.
أذكر أنني علَّقت في أذني هدية زوجي للمرة الأولى في إحدى الأمسيات الأدبية التي ألقى فيها زوجي كلمة. آنذاك، عندما راح الأدباء الآخرون يلقون بكلماتهم، جلست بجوار زوجي بالقرب من حائط تزينه المرايا. وقد لاحظت فجأةً أن زوجي ينظر جانبًا ويبتسم لشخصٍ ما؛ ثم التفت إليَّ وهمس في فرح: «يتلألآن، يتلألآن على نحو رائع!» وقد تبين لي أن الحجرين الكريمين كأنا يبرقان مع اهتزاز الأضواء العديدة بشكل جميل، وهو ما جعل زوجي يفرح كالأطفال.
٤
اكد السيد أوتو على استلام النقود من أنينكوف، لكنه قال إن تورجينيف يذكر أنه أرسل لفيودور ميخايلوفيتش في فيسبادن لا خمسين طالرًا وإنما مائة طالر، ومن ثم فإنه يرى أن فيودور ميخايلوفيتش ما يزال مَدينًا له بخمسين طالرًا. اضطرب زوجي بشدة وقد ظن أنه أرتكب خطأ، وعلى الفور استدعاني.
– أخبريني يا آنيا، بكم كنت مَدينًا لتورجينيف؟ سألني زوجي بعد أن قدَّمني لضيفه.
– بخمسين طالرًا.
– أكيد؟ هل تذكرين جيدًا؟ ألا يمكن أن تكوني مخطئة؟
– أذكر جيدًا؛ إذ إن تورجينيف ذكر في خطابه إليك تحديدًا المبلغ الذي سيرسله إليك.
– أريني الخطاب، هل ما يزال عندكِ؟ سألني زوجي.
لم يكن الخطاب في حوزتي في هذه اللحظة بطبيعة الحال، ولكنني وعدته بالبحث عنه، وقد طلبنا من الشاب أن يمر بنا بعد يومين.
كان فيودور ميخايلوفيتش شديد القلق خوفًا من أن يكون هناك احتمال للخطأ من جانبي، ومن ثَم ظل متكدرًا، أما أنا فقد قررت السهر طوال الليل إلى أن أجد الخطاب. انتقل القلق الذي يعاني منه زوجي إليَّ، ورُحت أسأل نفسي، ألا يمكن أن يكون هناك ثمةَ سوءُ تفاهم في هذا الموقف. للأسف كانت مراسلات زوجي على مدى الأعوام الأخيرة في فوضَى تامة، وكان عليَّ أن أراجع ما لا يقل عن ثلاثمائة أو أربعمائة خطاب، إلى أن عثرت أخيرًا على خطاب تورجينيف. بعد أن قرأنا الخطاب وتأكدنا أنه لم يحدث خطأ من جانبنا، هدأ زوجي.
عندما زارنا السيد أوتو بعد يومين أطلعناه على خطاب تورجينيف، كان في حالة ارتباك شديد، وطلب منا أن نعطيه الخطاب حتى يتسنى له إرساله إلى تورجينيف، وفي الوقت نفسه وعدنا أن يعيد لنا الخطاب.
٥
في مطلع عام ١٨٧٧م وقع لي «حادث» تعرفت بفضله على التعرف على نُظم قسم مباحث العاصمة؛ وذلك عندما سرق اللصوص معطفي الجديد المصنوع من فراء الثعلب.
عندما رأيت أن زوجي يروقه عملُ معطفٍ بهذه المواصفات، لم أصرَّ على موضة المعطف المستدير. وعندما أحضروه لنا بعد أسبوعين ارتديته، وعندما قال لي فيودور ميخايلوفيتش بإعجاب: حسنًا، الآن سيدة تشبه تاجرات موسكو! الآن لن أخشى عليك الإصابة بالبرد.
وإذا بالمعطف الذي «تم تجهيزه» بعد سنوات عديدة من الانتظار يتعرض للسرقة!
الذي حدث أن السرقة وقعت في وضح النهار، خلال عشر دقائق. عدت من مكانٍ ما، وعندما علمت أن فيودور ميخايلوفيتش قد استيقظ منذ فترة، وأنه قد سأل عني، ذهبت إليه في مكتبه بعد أن تركت المعطف على المشجب في بهو الاستقبال، على الرغم من أنني عادةً ما آخُذه لأضعه في غرفتي. ما إن انتهيت من حديثي مع زوجي حتى عدت إلى بهو الاستقبال، لأكشف اختفاء المعطف من على المشجب. جُن جنوني، أخبرتني الفتاتان، اللتان كانتا في المطبخ، أنهما لم يشاهدا أحدًا. نظرنا خارج الباب، إلى السلم، كان المكان خاويًا. بداهة، فقد نسيت الفتاة التي نزعت المعطف أن تغلق الباب، وقد نجح اللص في استغلال هذه الهفوة.
كان فيودور ميخايلوفيتش حزينًا للغاية لضياع المعطف، وبخاصة أنه ما يزال أمامنا شهران من البرد القارس. كنت في حالة من اليأس الشديد «أرغى وأزبد»، أشتم الخادمتين، غاضبة حتى من نفسي؛ لماذا تركت المعطف في البهو! استدعينا البواب العجوز الذي أبلغ الشرطة عن ضياع المعطف. في المساء جاءنا أحد رجال الشرطة ليستجوب الخادمة وأشار عليَّ أن أذهب بنفسي لقسم المباحث، وأن أطلب منهم أن يقوموا بالبحث على نحو أكثر دقة.
ذهبت في اليوم التالي إلى قسم الشرطة. ونظرًا للاسم الأدبي الذي أحمله، فقد استقبلني على الفور أحد الضباط من ذوي الرتب الرفيعة، كان اسم عائلة زوجي الذي أحمله (دستويفسكي) له أثر كبير إبان حياة زوجي في إدارات الشرطة («ربما لأن الأديب لديه القدرة على الكتابة في الصحف!»)
هناك استمعوا إليَّ باهتمام بالغ، وسألني الموظف لمن أوجه شكوكي؟
أخبرته أنني أثق في خادمتيَّ، لقد جئت بهما من ستاريا روسا، يعملون لديَّ منذ ثلاث سنوات ولم ألحظ عليهما أيَّ تصرف مَعيب. كما أنني لا أشك في أي شخص آخر.
– أخبريني، من هم زواركم الدائمون؟ سألني الموظف.
– ألا يحضر إليكم أحيانًا ذوو الحاجة، أقصد من يطلبون المساعدة لفقرهم؟
– هؤلاء يأتون، هم كثير. لا بد أن أخبرك أن زوجي في غاية الطيبة، وهو لا يملك القدرة على رد من يطلب المساعدة، على قدر إمكاناتنا بطبيعة الحال، أحيانًا، عندما يطلب أحدهم صدقة، ولا يكون لدى زوجي بعضُ النقود الصغيرة، فإنه يقود الفقراء إلى شقتنا وهنا يعطيهم بعض المال. بعد ذلك يبدأ هؤلاء الزوار في الحضور إلينا دون دعوة، وبعد أن تعرفوا على اسم زوجي من اللوحة المثبتة على الباب، صاروا يسألون عن فيودور ميخايلوفيتش. وعند خروجي من المنزل، كانوا يحكون لي عن فقرهم، فكنت أعطيهم ثلاثين أو أربعين كوبيكًا. وعلى الرغم من أننا لسنا أغنياء، ولكن كان باستطاعتنا دائمًا أن نقدم بعض المساعدة في هذه الحدود.
– إذن فاللص هو واحد من هؤلاء السائلين. قال الموظف.
– لا أظن. اسمح لي أن أشفع لفقرائنا هؤلاء — قلت له — فعلى الرغم من إلحاحهم وأنهم يستغرقون في ذلك وقتًا طويلًا، فإنني لا أصدق أنهم لصوص؛ إن لهم مظهرًا ينمُّ عن البؤس وسوء الحال.
– سننظر في الأمر، قال الموظف، إيفانوف، أحضر لي ألبوم صور.
أحضر المساعد ألبومًا سميكًا ووضعه أمامي على المائدة.
– قد يكون من المفيد تفحص الصور — أردف قائلًا — لعلكِ تجدين صورة وجه مألوف لك.
أخذت بكثير من الفضول أقلِّب الألبوم، وفي الصفحة الثالثة لاحظت ملامح مألوفة لي.
– يا إلهي! صِحت بدهشة. أعرف هذا الشخص معرفة جيدة، إنه كثير التردد علينا، وهذا أيضًا أعرفه. أردفت قائلة وأنا أقلب الصفحات. وتحت كل صورة من صور «معارفي» كُتبت عبارة «لص مداخل شقق»، وتحت إحدى الصور لشخص أعرفه معرفةً تامة عبارة «محطم أبواب»، أُلقي القبض عليه ومعه سلاح ناري.
كنت في حالة شديدة من الذهول، فهؤلاء الذين ترددوا علينا مرارًا، والذين كنت أتحدث معهم بمفردي، إذا بهم من اللصوص، بل والقتلة، الذين لا يكتفون بالسرقة أحيانًا، بل كان بإمكانهم قتلي أو قتل فيودور ميخايلوفيتش، وكان من الممكن أن تتعرض أسرتنا لخطر داهم. انتابتني قشعريرة سرَت في ظهري؛ من جرَّاء الخوف والجزع، لقد خطرت على بالي فكرة مرعبة، فهؤلاء الناس سوف يواصلون التردد علينا، وليس هناك على الإطلاق ما يضمن حمايتنا في المستقبل من موت محقق. وحتى لو امتنعنا الآن عن مساعدتهم، لأصبحوا، ربما، أكثر قوةً، ولدفعنا بالخطر في اتجاهنا.
دقائقُ قليلة مضت وأنا أجلس في أشد حالات الإحباط.
– يا للأسف — قلت — إن زوجي لم يشاهد هذه الصور لأناس أعرفهم ويعرفهم هو أيضًا، ولعله لم يكن ليصدق أنهم لصوص.
– قد يكون من المفيد أن تختاري صورَ مَن تعرفين، إن لدينا العديد منها. وسأشرح لكِ كيف تستفيدين منها؛ إذا ظهر واحد منهم لديكم، فأخبريه أنكِ ذهبت لقسم المباحث وأنهم أعطوكِ صورًا لهم، صدقيني، سوف يخبرون بعضهم بعضًا بذلك، وسوف تتخلصين من زيارتهم عامًا بأكمله.
نادرًا ما كنت أسعد بهدية مثل مجموعة الصور «الرائعة» التي أهداني إياها موظف القسم، والتي ما زلت أحتفظ بها حتى الآن. وقد وعدني الرجل بإرسال عميل من عندهم من ذوي الخبرة الطويلة، رأى أن من الممكن أن يعثر على المعطف الذي سُرق مني، وبخاصة وقد أصبح معروفًا لهم أي دائرة يمكنهم البحث فيها.
لم يكن فيودور ميخايلوفيتش أقل مني دهشةً عندما رأى الصور وقد كُتبت تحتها نوعية هؤلاء الناس. وقد تعرَّف على بعضهم على الفور؛ إذ كان كثيرًا ما يقابلهم أثناء جولته المسائية عند أبواب مستشفى الأمير أولديبورجسكي، حيث كانوا يسألون المارة نقودًا لدفن من يدَّعون أنهم توفُّوا في مستشفى الأطفال من أطفالهم أو أقاربهم. وكم من مرة توجهوا إلى فيودور ميخايلوفيتش بهذا الرجاء أو غيره! وقد كان يستجيب لهم دائمًا، رغم علمه بأنهم يختلقون أسبابًا ملفقة للتسول.
وبالفعل فقد كانت الصور التي أهديت لي ذات نفع كبير. ينبغي أن أشير إلى أنه على مدى الشهر الأول بعد السرقة لم يحاول أحد إزعاجنا بطلب المساعدة. ثم ظهر بعد ذلك أحدُ أكثر المتسولين إلحافًا، وقد سبق أن ساعدته من خلال هباتي الصغيرة على دفن أمه المريضة؛ فضلًا عن عدد من عماته. وقد جاء مرةً أخرى طلبًا للمساعدة في شراء دواء لعمته المريضة. وحتى أشعر بالحماية ناديت لوكيريا (وهي فتاة فارعة الطول) من المطبخ، وطلبت منها أن تحضر ثلاثين كوبيكًا، فجاءت ووضعتها على المائدة، ثم خاطبت «لص المداخل» بحزم قائلة: اسمع، خذ هذه الكوبيكات الثلاثين ولا تأتِ إلى هنا مرة أخرى من فضلك. لقد سُرق مني منذ فترة معطف، وقد ذهبت بسبب ذلك إلى قسم المباحث وقد أعطوني هناك «صورًا للصوص المداخل»، وقالوا لي أن أقدِّم إلى الشرطة كل من يأتي إلى هنا للتسول. وقد وجدت صورتك من بينها، هل تود أن تراها؟
– لا، ولماذا ترهقين نفسكِ؟ أجاب السائل ثم اختفى في لمح البصر. بداهة فقد أخبر المتسول رفاقه بشأن الصور، ومنذ ذلك الحين مر زمن طويل لم يأتِ إلينا فيه واحد من هؤلاء. وحتى فيودور ميخايلوفيتش لم يعد يصطحب معه أحدًا من الشارع منذ ذلك الوقت، فإذا لم يكن معه شيء يعطيه للسائل، فقد كان يطلب منه الانتظار عند مدخل البيت ويرسل له نقودًا مع الخادمة.
زارنا في اليوم التالي العميل، الذي وعدني قسم المباحث بإرساله، وطلب مني أن أقص عليه أدقَّ التفاصيل التي حدثت، مستفسرًا على نحو غامض عن أتفه الأمور. وبالمناسبة فقد سألته إن كانوا يعثرون أحيانًا على الأشياء المسروقة، فجاءت إجابته على النحو التالي: هذا يتوقف، سيدتي، بشكل رئيسي، على ما إذا كان الشخص الذي فقد شيئًا يرغب في أن يسترجع هذا الشيء من عدمه؟
– أظن أن كل شخص لا بد وأنه يرغب في ذلك.
– نفترض أن كل شخص يرغب في ذلك، لكن هناك شخصًا يهتم أكثر من شخص آخر يهتم على نحو أقل. على سبيل المثال، ذات مرة وقعت سرقة في بيت الأمير، بلغت قيمة الأشياء الثمينة التي سُرقت خمسة آلاف روبل، عندئذٍ قال لي الأمير مباشرة: ابحث لي عن الأشياء وسأعطيك عشرة بالمائة من قيمتها، وقد تم العثور على المسروقات. إن كل عميل يعلم جيدًا أن جهوده المضاعفة سوف تكافأ.
وعاد العميل ليضرب لي مثلين/ثلاثة آخرين. غادرت الغرفة لعدة دقائق متجهة إلى زوجي وأخبرته أن عليَّ، بداهة، أن أعِدَ العميل بإعطائه عشرةً بالمائة وأن أعطيه ولو خمسة روبلات تحت الحساب. اكتفى فيودور ميخايلوفيتش بهز رأسه لكنه ذكر أن البحث لا طائل من ورائه. بعد أن عدت إلى العميل وعدته بأن أعطيه عشرة بالمائة وأعطيته خمسة روبلات، بعد أن وعدني بدوره باتخاذ إجراءات استثنائيةٍ ما.
بعد يومين جاءني العميل مرة أخرى وقال لي إنه عثر على أثر من آثار لص المعطف، وإنه، خشية انتشار الخبر قبل الأوان، فقد قرر ألا يخبرني باسمه. ثم عاد مرة أخرى يسألني عن تفاصيلَ ليست بذات أهمية مضيعًا ساعةً من وقتي. وقد خمنت أنه ما إن يحصل على رشوة مني حتى ينصرف، فأعطيته خمسة روبلات وقلت له إنني مشغولة دائمًا، وأرجوه أن يأتي فقط عندما تكون لديه إمكانية لأن يخبرني بشيء هام حول الموضوع.
مر أسبوع ونصف، وذات يوم وكنا نجلس في غرفة الطعام أنا وزوجي، إذا بلوكيريا تدخل علينا وهي تصيح: تعالي يا سيدتي، لقد وجدوا المعطف! لقد أخبرنا العميل بذلك، وهو قادم الآن.
فرِحنا جميعًا بطبيعة الحال. أخبرنا العميل أن اللص رهن معطفي المسروق لدى أحد محالِّ الرهونات (في مويكا) وأنه عثر على الإيصال، وأن المحل المحترم ملزَم برد المعطف دون أتعاب، إذا ما قمت بإثبات أن هذا المعطف يخصني. وقال إن عليَّ أن أعلن حقي في ملكيته فورًا، وأن أذهب معه الآن إلى محل الرهونات وأن أستعيد منه معطفي.
لم يعجَب فيودور ميخايلوفيتش بهذا الاقتراح من جانب العميل؛ وأعرب عن عزمه الذهاب بنفسه، ولكن العميل رفض قائلًا إنه باعتباره، أي زوجي، رجلًا، فلن يكون باستطاعته أن يذكر بعض العلامات المميزة للمعطف المسروق. كنت أرغب بشدة في استعادة المعطف لدرجة أنني أقنعت زوجي أن يسمح لي بالذهاب مع العميل، وأنني سوف أغطي وجهي بالخمار في حالة إذا ما التقينا صدفةً بأحد من معارفنا. وهكذا سِرت، في وضح النهار المشمس، مخترقة وسط مدينة بطرسبورج بصحبة عميل قسم المباحث؛ وأنا أضحك في سري وأنا أتخيل أن كل لصوص العاصمة، الذين يتنزهون في شارع نيفسكي وقد أربكتهم المفاجأة لرؤية لصة مجهولة تسير الآن بصحبة عميل من قسم المباحث يعرفونه حق المعرفة.
وصلنا إلى شارع مويكا وأردت أن أدفع للحوذي أجرته، لكن العميل قال لي إنني سوف أحتاج للحوذي ليوصلني للمنزل بعد أن يعطوني المعطف. طلبت من الحوذي أن ينتظر. دخلنا إلى الإدارة ومنها قادونا إلى غرفة منفصلة، وبعد عشر دقائق أحضروا لنا معطفًا نسائيًّا من فرو الثعالب. تبين لي من النظرة الأولى أن المعطف ليس معطفي، فأخبرت العميل بذلك.
– انظري إليه جيدًا — طلب مني العميل ذلك — لعلك تتعرفين عليه، انظري إلى الأكمام، النساء يتعرفن أكثر من خلال الأكمام.
ما هي إلا لحظة حتى استدعوا العميل، ألقيت نظرة على بطاقة المحل المثبتة على طرف المعطف. انحنيت لأقرأ، وكم كانت ثورة غضبي، عندما قرأت على البطاقة أن المعطف قد جرى تسليمه للمحل في نوفمبر عام ١٨٧٦م؛ أي قبل أربعة شهور من سرقة معطفي! كان من الواضح أن العميل على علم بذلك، لكنه افترض أنني إما لن أتعرَّف على معطفي، وإما أن يكون لديَّ استعداد أن آخذ شيئًا لا أملكه ما دمت لم أجد ما سُرق مني.
عندما عاد العميل أشرت له إلى البطاقة، ثم عبرت له عن غضبي بصوت مرتفع في وجود مدير المحل؛ لخداعه الواضح لي. انعطف بجسده بشدة وعلى الفور ابتعد ليتفحص شيئًا ما في نافذة المحل. قلت للحوذي وأنا أغادر المكان إنني لن أعود معه، وسألته كم يطلب أجرًا على توصيلي إلى هنا من شارع جريتشسكايا لا أكثر ولا أقل. كم كان أسفي شديدًا عندما أخبرني الحوذي أنه يطلب سبعة روبلات حيث إنه أوصل «السيد» منذ الصباح، وإذا بهذا السيد يخرج من مدخل المحل ليقول إن «السيدة سوف تدفع المبلغ كله.» بالطبع كنت مضطرة لأدفع المطلوب. وهكذا تحققت نبوءة فيودور ميخايلوفيتش وانتهى بحثي عن المعطف دون طائل. بل واضطررت أن أضيف سبعة عشر روبلًا أنفقتها على العميل على قيمة المعطف المسروق. كان من رأي زوجي أن اللجوء للموظف المختص للشكوى ضد العميل الذي أوصى به أمرٌ لا معنَى له؛ فقد يرسل عميلًا آخر لنبدأ في المماطلة ذاتها من جديد. كان من الأفضل أن أستسلم لضياع المعطف، وأن أعاهد نفسي ألا ألجأ في المستقبل لمساعدة هذه المؤسسة.
٦
كان فيودور ميخايلوفيتش يخشى من الحرائق، التي تأتي أحيانًا على مدن مشجرة عن آخرها (أورينبورج مثلا)، ومن ثم كان يقدِّر هذه العزلة التي كانت تميز بيتنا الصيفي، كما كان معجبًا أيضًا بحديقته وارفة الظلال والفناء المرصوف بالحصى، حيث كان يمارس نزهته الضرورية لصحته في الأيام الممطرة، عندما تغرق المدينة كلها في الأوحال، ويصبح السير في الطرق غير المرصوفة أمرًا مستحيلًا. كذلك كنا معجبين، أنا وزوجي، بالغرف الصغيرة للمنزل الموزعة على نحو مناسب، وقد وُضع بها أثاث ثقيل عتيق مصنوع من خشب الماهوجني مفروشًا فرشًا وثيرًا يوفر الدفء، وبالإضافة إلى كل ذلك، كانت فكرة ولادة ابننا أليوشا في هذا البيت يجعلنا نشعر أنه كان مكانًا حميميًّا. أحيانًا كان ينتابنا الخوف الشديد من احتمال أن نفقد هذا الركن الذي نحبه حبًّا عظيمًا، ولكن سرعان ما اتضحت الأمور:
لقد رحلت وريثة السيد جريبي من المدينة بعد أن قررت بيع البيت، وطلبت في المقابل (بما في ذلك الأثاث بل وحتى الحديقة المشجرة) ألف روبل، وهو مبلغ كان باهظًا آنذاك بالنسبة إلى الأهالي في روسا. لم يكن بحوزتنا مثل هذا المال في تلك الفترة، ولكني لم أكن أرغب أن أتنازل عن هذه الداتشا حتى إنني طلبت من أخي، إيفان جريجوريفيتش، أن يشتري البيت باسمه، على أن يعيد بيعه لنا عندما نتوفر على ثمنه. وقد لبَّى أخي رغبتي واشترى البيت، وقد أعدت شراءه من أخي بعد وفاة زوجي باسمي.
وبفضل شرائنا لهذا البيت أصبحنا نمتلك، على حد تعبير زوجي، «عشًّا خاصًّا بنا نلجأ إليه بسرور منذ بواكير الربيع، ونرحل عنه بمشقة مع قرب انتهاء الخريف.» كان فيودور ميخايلوفيتش يعتبِر بيتنا الصيفي في ستاريا روسا المكان الذي تجد فيه روحه سكينتها ويجد بدنه فيه راحته، أذكر أنه كان دائمًا ما يرجئ قراءة كتبه المفضلة والشيقة إلى حين وصوله إلى روسا، حيث يجد العزلة المحببة إليه، والتي لا تقطعها زيارات الفضوليين إلا نادرًا.
في عام ١٨٧٧م كنا ما نزال نواصل إصدار «مذكرة الكاتب»، وعلى الرغم من النجاح المادي والمعنوي الذي كانت تحققه، فقد زادت معه أيضًا المتاعب المرتبطة بإصدار مجلة شهرية؛ أي توزيع الأعداد، إدارة الاشتراكات، المراسلات مع المشتركين، وما إلى ذلك من تبعات. وحيث إنني لم أكن أمتلك مساعدين في هذا الأمر (اللهم إلا ساعٍ وحيد)، فقد كنت أبذل جهدًا فائقًا أوصلني للإرهاق الشديد، الذي ترك أثره على صحتي حتى الآن. لقد فقدت جزءًا كبيرًا من وزني على مدى العامين الأخيرَين، وبدأت في السعال. راح زوجي الطيب، الذي كان يعتني بصحتي دائمًا، يصر على أن أخلد إلى الراحة التامة طوال الصيف، ولكن وحيث إنني كنت مسئولة عن رعاية البيت في ستاريا روسا، فلم يكن هناك من سبيل إلى مثل هذه الراحة المنشودة؛ ولذلك فقد قرر زوجي أن يقبل دعوة أخي لقضاء الصيف بطوله في الريف. وفي مطلع شهر مايو اصطحبنا الأسرة كلها إلى محافظة كورسكايا؛ حيث ضيعة أخي المسماة «مالي بريكول» بالقرب من مدينة ميروبولي.
عندما أتذكر هذه الرحلة الطويلة، أقول إن ما كان يدهشني دائمًا هو أن فيودور ميخايلوفيتش، الذي كان يغضب لأتفه الأسباب في الحياة العادية، يبدو رفيقًا سهل المعشر، شديد التحمل في السفر، يوافق على كل شيء دون أن يبدي أي نوع من التذمر أو يصر على بعض المطالب، بل على العكس من ذلك، كان يبذل قصارى جهده ليوفر لي وللمربيتَين أسباب الراحة ليتمكنا من العناية بالأطفال، الذين كانوا يشعرون بالتعب سريعًا فيبدءون في المشاكسة. لكن أكثر ما كان يدهشني هو قدرة زوجي على تهدئتهم، فما إن يبدأ أحد من الثلاثة في ممارسة الشقاوة، حتى يأتي فيودور ميخايلوفيتش من ركنه (كان يجلس معنا في نفس العربة ولكن على مسافة منا)، ويأخذ الطفل إليه الذي سرعان ما يهدأ. كان لدى زوجي موهبةٌ خاصة في التحدث إلى الأطفال، وأن يعرف ما الذي يثير اهتمامهم، يكتسب ثقتهم (وهو ما كان يحدث أيضًا مع الغرباء من الأطفال الذين يلتقيهم صدفة)، وهكذا يروح يسلي الطفل فتسودُه البهجة ويصبح مطيعًا. لعلي أفسر ذلك بحبه الدائم للأطفال الذي يلهمه كيفية التصرف في مثل هذه المواقف.
في نهاية شهر يونيو اضطر فيودور ميخايلوفيتش للذهاب إلى بطرسبورج تاركًا الريف؛ لكي يتولى أعمال تحرير وإصدار العدد المزدوج من «مذكرة الكاتب» لشهرَي مايو ويونيو. ذهبت بصحبة زوجي والطفلين الكبيرَين إلى محطة كورينيوفو متجهين لزيارة الأماكن المقدسة في كييف. كان فيودور ميخايلوفيتش يولي اهتمامًا كبيرًا في تربية الأطفال للمؤثرات النورانية البديعة التي يعيشونها في طفولتهم المبكرة. وحيث إنه كان يعلم أنني أحلم منذ زمن بعيد بالذهاب إلى كييف والصلاة في رحاب الأماكن المقدسة هناك، فقد اقترح عليَّ زوجي أن أنتهز فرصة غيابه والذهاب إلى كييف، وهو ما أنجزناه على خير ما يرام.
حالف التوفيق فيودور ميخايلوفيتش في إصدار وتوزيع عدد الصيف من مجلة «مذكرة الكاتب»، ولكنه للأسف، عانى الكثير من القلق بسبب انتظاره الطويل لاستلام خطابات مني. أكثر ما كان يزعجه أنني، باتفاق معه، كنت أرسل إليه بالخطابات عن طريق كبير بوَّابي بيتنا. لكن زوجي، بتأثير نوبة من نوبات الصرع وقعت له، نسي أننا اتفقنا على أنه في حالة إرسالي خطابات على اسمه مباشرة، فإن مكتب البريد الرئيسي — بناءً على توجيهات سابقة منه، أعطاها له في الربيع قُبيل سفره إلى القرية — يعيد هذه الخطابات إلى ميروبولي، كما اعتاد المكتب أن يفعل مع عدد كبير من مراسلاتي إلى زوجي في بطرسبورج.
مر بنا صيف عام ١٨٧٧م على نحو غير مسبوق من المرح والسعادة، ولم ينقص من سعادتنا شيء سوى أننا لم نستطيع البقاء في القرية، حتى شهر سبتمبر. ولكن كان علينا أن نُصدر عدد الصيف المزدوج، يوليو-أغسطس، وقد عدنا إلى بطرسبورج مع نهاية شهر أغسطس.
مع اقتراب العام من نهايته، راح فيودور ميخايلوفيتش يُمعنُ التفكير في مسألة مواصلة إصدار «مذكرة الكاتب» في العام التالي. كان زوجي راضيًا تمام الرضا عن النجاح المادي للمجلة واستقبال المجتمع لها بمزيد من الثقة والإخلاص، وهو ما انعكس في الخطابات التي كان يتلقاها والأعدادِ الغفيرة من قرَّاء لا يعرفهم، وهو ما قدَّره تقديرًا رفيعًا، لكن حاجته للإبداع الفني تغلبت عليه؛ ومن ثم قرر فيودور ميخايلوفيتش أن يتوقف عن إصدار «مذكرة الكاتب» لمدة عامين أو ثلاثة وأن يشرع في كتابة رواية جديدة. وبالنسبة إلى المهام الأدبية التي شغلت زوجي وأرَّقته، يمكن الرجوع إلى دفتر مذكراته الذي وجدناه بعد وفاته، وقد سجَّل فيه في الرابع والعشرين من ديسمبر عام ١٨٧٧م ما يلي:
-
(١)
كتابة كانديد روسي.
-
(٢)
كتابة كتاب عن المسيح.
-
(٣)
كتابة مذكراتي.
-
(٤)
كتابة قصيدة الأربعين.٢٧
توطئة لعام ١٨٧٧م
٧
حضر فيودور ميخايلوفيتش القداس الجنائزي الذي أقيم لنكراسوف، وقرر الذهاب لحمل جثمانه ودفنه. وصلنا في ساعة مبكرة من صباح يوم الثلاثين من ديسمبر إلى حي لينيينانيا، حيث منزل كرايفسكي الذي عاش فيه نكراسوف، وهنا وجدنا جمهورًا غفيرًا من الشباب يحملون أكاليل الغار في أيديهم. سار فيودور ميخايلوفيتش خلف النعش حتى وصل إلى شارع إيتالينسكايا، وحيث إن السير في هذا البرد القارس دون غطاء رأس يُعتبر أمرًا خطيرا، فقد أقنعت زوجي بالعودة إلى المنزل، ثم الذهاب بعد ساعتين إلى كنيسة العذراء لحضور القداس. وهذا ما فعلناه، وفي الظهيرة كنا في الكنيسة.
وقفنا حوالي نصف ساعة في جو حارٍّ داخل الكنيسة، وهنا قرر فيودور ميخايلوفيتش الخروج للهواء. وقد خرج معنا صديق زوجي، أورست فيودوروفيتش ميلر، ورحنا معًا نبحث عن قبر نكراسوف. ترك الهدوء الذي خيم على المكان انطباعًا موحيًا بوجود الموت. وعندئذٍ قال لي: «آنيا، عندما أموت ادفنيني هنا أو حيث شئتِ، لكن تذكَّري، لا تدفنيني في جبَّانة فولكوفي، عند جسور الأدباء؛ لا أريد أن أرقد بين أعدائي، كفاني ما لقيت منهم في حياتي!» كان لوصيته بشأن الدفن وقْعٌ ثقيل على قلبي؛ رحت أقنعه وأؤكد له أنه بصحة جيدة وأنه لا ينبغي عليه التفكير في الموت. ورغبةً مني في تغيير مزاجه الحزين رحت أصور له أمورًا خيالية حول دفنه، متمنيةً له أن يعيش أطول عمر ممكن.
بلتيروف، بوبوريكين، أ. ن. أكساكوف، فاجنر، ليسكوف (انظر في هذا السياق: ن. ليرنر، «الملتقيات السرية. حادثة دستويفسكي». في كتاب «كراسنايا بانوراما»، ١٩٢٨م، أكتوبر، ص٣٦–٤٢). وقد ازدادت هذه الهواية قوة؛ الأمر الذي دفع بجمعية الفيزياء التابعة لجامعة بطرسبورج أن تشكل لجنة يرأسها العالم الشهير ديمتري مندلييف بهدف دراسة الظواهر الروحانية دراسة علمية. في هذه الفترة تحديدًا كتب دستويفسكي خطابه إلى هيئة تحرير صحيفة «العصر الحديث» «قضية البعد الرابع» (الخطابات، المجلد الرابع، ص١٠-١١)، والتي تؤكد اهتمام الكاتب بظاهرة استحضار الأرواح (انظر: ف. ب. فا) (ف. إ. بريبيتكوفا)، «ذكريات عن دستويفسكي». «ريبوس»، ١٨٨٥م، العدد ٢٥، ص٢٣٠–٢٣٢؛ العدد ٢٦، ص٢٤٠–٢٤٥. على أن ملاحظات دستويفسكي الثلاث عن استحضار الأرواح في «مذكرة الكاتب» عن العام ١٨٧٦م تكشف أن اهتمامه بهذه الظاهرة أخذ يفتُر تدريجيًّا. وقد أتى دستويفسكي مرتين، في ملاحظته الأخيرة «مرة أخرى كلمة موجزة عن ظاهرة استحضار الأرواح» على ذكر ن. ب. فاجنر (دستويفسكي، ١٩٢٦–١٩٣٠م، الجزء الحادي عشر، ص٢٧٤-٢٧٥)، ترجع آنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا خطأ تاريخ تعارف دستويفسكي وفاجنر إلى صيف عام ١٨٧٦م. والحقيقة أنهما تعارفا في صيف ١٨٧٥م. ويؤكد ذلك خطابات دستويفسكي الخمسة إلى فاجنر، التي لم تُدرج في مجلدات «الخطابات» الأربعة لدستويفسكي، والتي قام على تحريرها أ. س. دولينين (١٩٢٨–١٩٥٩م)، وقد نُشرت للمرة الأولى في تشيكوسلوفاكيا على يد التشيكي غ. كاوتمان المتخصص في الدراسات الأدبية في كتاب: (1962), Cis. 4. “Sbornik Nàrodniho Muzea v Praze,” SV. VII.
ثم في الاتحاد السوفيتي بعد ذلك (انظر: س. ف. بيلوف، «خطابات دستويفسكي» مجلة «الأرشيف السوفيتية»، ١٩٦٩م، العدد ٢). وقد نشر ف. كاوتمان خطابًا آخر أرسله دستويفسكي إلى فاجنر، يتعلق بالخطابات الخمسة الأخرى، ولم يُدرج أيضًا في مجلدات «الخطابات» الأربعة، نشره في مجلة Literàr ni archive (الأرشيف الأدبي، ١٩٦٧م، العدد ٢)، ونشره س. ف. بيلوف في مجلة «قضايا الأدب»، ١٩٦٧م، العدد ٥.
⋆ الخطابات، المجلد الثالث، ص٢٣٥.
لقد قرأت في مكانٍ ما أن بعض القدرات، مثل «التنبؤ»، هي أمر فطري لدى نساء الشمال؛ أي النرويجيات والسويديات. ترى هل يمكن تفسير قدرتي هذه لكوني من أم سويدية؟ هذه القدرة التي كانت السبب في بعض الحالات في العديد من الفترات التعيسة التي عشتها (ملاحظة لآنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا).