العامان ١٨٧٨–١٨٧٩م
١
ولدى عودتنا من إحدى هذه المحاضرات سألني زوجي: ألم تلاحظي كيف تصرف معنا نيكولاي نيكولايفيتش (ستراخوف) على نحو غريب؟ وأنه لم يعُدْ يزورنا كما كان يفعل دائمًا، وفي الاستراحة حيَّانا على نحو عابر، ثم راح يتحدث مع شخصٍ ما. ألا تظنين أنه قد يكون غاضبًا منا! ما رأيكِ؟
– لقد بدا لي أيضًا أنه كما لو كان يتحاشانا — أجبته — زد على ذلك أنني عندما قلت له مودعة: «لا تنسَ الأحد.» أجاب: «سأحل ضيفًا عليكم.»
كنت أشعر بشيء من الانزعاج لعلي أكون، بطبيعتي المندفعة، قد ذكرت شيئًا ما أثار استياء ضيف الأحد المعتاد. كان زوجي يحرص بشدة على النقاش مع ستراخوف، وكان دائمًا يذكِّرني بضرورة الاحتفاظ بنبيذ جيد أو تقديم طبق من السمك الذي كان ضيفنا يحبه.
في أول أحدٍ زارنا نيكولاي نيكولايفيتش على الغداء، وقد قررت أن أستوضح منه الأمر فسألته مباشرةً إن كان غاضبًا منا.
– ما الذي يدعوكِ، آنَّا جريجوريفنا، لتفكري في ذلك؟ سألني ستراخوف.
– لقد بدا لي ولزوجي أنك، في محاضرة سولوفيوف الأخيرة، تحاشيت لقاءنا.
– أوه، لقد كان ظرفًا استثنائيًّا — ضحك ستراخوف — لم أتحاشاكم وحدكم، وإنما تحاشيت كل معارفي. لقد جاء معي إلى المحاضرة الكونت ليف نيكولايفيتش تولستوي، وقد طلب مني ألا أقوم بتعريفه لأي أحد، هذا هو السبب الذي جعلني أبتعد عن الجميع.
– مستحيل! كنت مع تولستوي؟ — صاح فيودور ميخايلوفيتش بدهشة ممزوجة بالحزن — كم أشعر بالأسف لأنني لم أره! بالطبع لم أكن لأُلحَّ على التعارف، ما دام لم يرغب في ذلك، ولكن لماذا لم تهمس لي بأنه معك؟ كنت على الأقل سأنظر إليه.
– أنت تعرفه، لا شك، من خلال صوره. قال نيكولاي نيكولايفيتش ضاحكًا.
فيما بعد لم يعبر فيودور ميخايلوفيتش لأحد عن أسفه أنه لم يتعرف على وجه تولستوي.
٢
عدت إلى المنزل فوجدت ابني المسكين على نفس حالته؛ كان فاقدًا للوعي، يهتز جسده الصغير كلَّ فترة من التشنج. ولكن، يبدو أنه لم يكن يتألم، لم يكن يئنُّ أو يصرخ. بقينا ملازمين لابننا الصغير المريض؛ وقد عيل صبرُنا في انتظار الطبيب، وأخيرًا في حوالي الثانية ظهرًا حضر الطبيب. فحص المريض وقال لي: «لا تبكي، لا تقلقي، سوف ينتهي كلُّ ذلك سريعًا!» ذهب فيودور ميخايلوفيتش يودع الطبيب ليعود وقد كسا وجهَه شحوبٌ رهيب، ركع على ركبتيه إلى الأريكة التي نقلناها لينام عليها الصبي، حتى نسهِّل على الطبيب فحصه. وركعت بدوري على ركبتيَّ إلى جانب زوجي. أردت أن أسأله ماذا قال له الطبيب لكنه أشار إليَّ بالصمت (وقد علمت منه فيما بعدُ أن الطبيب أخبره أن سكرة الموت قد بدأت). مرت حوالي ساعة وبدأنا نلاحظ أن نوبات التشنج قد قلَّت على نحو ملحوظ. كنت مسرورةً بعد أن هدَّأ الطبيب من روعي؛ ظنًّا مني أن اهتزازه الذي تحول إلى نوم هادئ، ربما ينبئ بشفائه. وكم كان يأسي عندما توقف الصبي عن التنفس فجأةً لتصعد روحه إلى بارئها! قبَّله فيودور ميخايلوفيتش ثم رسم عليه علامة الصليب ثلاث مرات، وراح في بكاء مرير. بكيت أنا أيضًا بحرقة وشاركَنا أطفالُنا الذين كانوا يحبون ليوشا البكاء.
كان لوفاة طفلنا الغالي أثره البالغ على حياتي، كنت مصدومة إلى حدِّ أنني غرقت في حزني ودموعي، حتى بات الناس يتعرفون عليَّ بالكاد. اختفى حبي للحياة كما اختفت معه حيويتي وطاقتي، ليحل محلَّهما الخمول واللامبالاة تجاه كل شيء: أعمال البيت وحتى تجاه أطفالي، ولم يعُدْ أمامي إلا أن أنكبَّ على كتابة مذكراتي عن السنوات الثلاث الأخيرة. وقد سجَّل فيودور ميخايلوفيتش العديد من شكوكي وأفكاري وحتى كلماتي بنصها في رواية «الإخوة كارامازوف» في الفصل المعنون «النساء المؤمنات»، حيث تحكي المرأة التي فقدت طفلها عن حزنها إلى الأب زوسيما.
كانت حالتي تعذب فيودور ميخايلوفيتش بشدة، كان يسعى لإقناعي ويرجوني أن أخضع لإرادة الله، وأن أستسلم لقضائه، وأقْبل المُصاب الذي أنعم به الله علينا، وأن أرحم أطفالنا، الذين أصبحت، في رأيه، لا مباليةً تجاههم. وقد أثمرت توسلاته ومواعظه؛ فرُحت أغالب نفسي حتى لا يزيد حزني الفائض من كدر زوجي المكلوم.
وقد تبين لي من أحاديث فيودور ميخايلوفيتش على أي نحو من الخبرة بالقلوب وحدَّة البصيرة كان هذا «الأب» الذي كان الجميع يكنُّون له الاحترام.
بعد عودتنا في الخريف إلى بطرسبورج قررنا ألا نقيم مرةً أخرى في هذه الشقة التي تمتلئ جنباتها بذكرياتنا عن ابننا الراحل، ومن ثم انتقلنا للسكنى في حارة كوزنيتثني، في المنزل رقم ٥ حيث قُدِّر لزوجي أن يُتوفى فيه بعد عامين ونصف العام.
كانت هذه الشقة مكونة من ست غرف ومخزن كبير للكتب، مدخل ومطبخ، وكانت تقع في الطابق الثاني. كانت هناك سبع نوافذ تطل على حارة كوزنيتشني، وكان مكتب زوجي موجودًا في المكان الذي تُعلَّق فيه الآن لوحة من المرمر. يقع المدخل الأمامي (وقد تم إغلاقه الآن) أسفل حجرة الاستقبال (بجانب المكتب).
حاولنا كثيرًا أنا وزوجي أن نستسلم لإرادة الله، وأن نقاوم الحنين وننسى أليوشا الحبيب، لكننا لم نستطع، وبقينا طوال الخريف، ومن بعده الشتاء، نكابد الذكريات الحزينة. كان لهذا الفقد أثره البالغ على زوجي الذي ازداد ولعه بأطفاله، فراح يعاملهم بحب أكثر وبقلق أشد.
كانت حياتنا تسير، ظاهريًّا، على سابق عهدها: فيودور ميخايلوفيتش يعمل بجد في وضع خطة روايته الجديدة (كان وضْع خطة للرواية يمثل دائمًا الأمر الأهم والأصعب في أعماله الأدبية، فقد كان يعيد إعداد خطط رواياته أحيانًا أكثر من مرة، مثلما حدث مع رواية «الشياطين» على سبيل المثال). كان العمل يسير بقدر كبير من النجاح، إلى حدِّ أنه بحلول شهر ديسمبر من عام ١٨٧٨م كان قد تم إنجاز حوالي عشر ملازم من رواية «الإخوة كارامازوف»، وقد نشرت جميعًا في عدد يناير من مجلة «البشير الروسي» عام ١٨٧٩م؛ فضلًا عن الخطة التي وضعها فيودور ميخايلوفيتش.
٣
«لن تصدِّق إلى أي حد وجدت تعاطفًا من الشعب الروسي خلال هذين العامين المنصرمين من إصدار «المذكرة». لقد وصلتني مئات الخطابات التي تثني عليها، بل والتي تعبر بصدق عن حبها لها. ومنذ شهر أكتوبر الماضي، عندما أعلنت عن توقف إصدارها، راحت هذه الخطابات تنهال عليَّ شهريًّا من كل أنحاء روسيا ومن كل طبقات المجتمع (على تباينها الشديد)، يعرب أصحابها عن أسفهم ويطلبون مني ألا أتخلى عن القضية. إن ضميري فقط هو الذي يمنعني أن أصف إلى أي حد عبروا عن تعاطفهم معي، ولعلمت قدر ما تعلمته أنا نفسي في هذين العامين من إصدار «المذكرة» من خلال هذه الخطابات التي تلقيتها من الشعب الروسي، الذي هو بحق — من وجهة نظر صادقة وعادلة لإنسان روسي، لا من وجهة نظر مثقفي بطرسبورج المشوهة — أعظم بدرجة لا تقارن مما كنت أظنه عنه قبل عامين. وإنه لأكبر إلى حد أنني لم أستطع، في أكثر أبعد أحلامي وخيالاتي، أن أصل إلى هذه النتيجة. صدِّقني، إن لدينا في روسيا الكثير من الأمور، ليست بهذا السوء الذي كنا نتصوره من قبل، إن الكثير من الناس يعبرون عن طموحهم الشديد لحياة جديدة عادلة، عن إيمانهم العميق بقرب حدوث تغير كبير في الطريقة التي يفكر بها مثقفونا، الذين تخلَّوا عن الشعب، والذين لا يفهمونه على الإطلاق. أنت غاضب على كرايفسكي، ولكنه ليس وحده؛ إنهم ينكرون الشعب، سخروا، وما زالوا يسخرون، على حركته، وعلى هذا التجلي الواضح المضيء لإرادته وللشكل الذي صاغ من خلاله طموحَه. وبذلك سوف يختفي هؤلاء السادة، سوف يَهرَمون ويصمتون. إن الذين لا يفهمون الشعب عليهم الآن أن ينضموا إلى سماسرة البورصة واليهود، هذه نهاية ممثلي فكرنا «التقدمي». إن أمرًا جديدًا يجري داخل جيش شبابنا ونسائنا (أخواتنا) أمر مختلف تمامًا عما توقعه الجميع أو تنبأ به، ولسوف ننتظر.
في السادس من فبراير عام ١٨٧٨م تلقى فيودور ميخايلوفيتش الرسالة التالية من السكرتير الدائم لأكاديمية العلوم:
«إن أكاديمية العلوم الإمبراطورية إذ تُعرب عن احترامها لجهودكم الأدبية، فإنها قد اختارت سعادتكم ضمن أعضائها المراسلين في قسم اللغة الروسية وآدابها.»
وقد جرى تدشين هذا الاختيار في اجتماع احتفالي جرت مراسمه في الأكاديمية في التاسع والعشرين من ديسمبر عام ١٨٧٧م.
آنذاك كان فيودور ميخايلوفيتش مستغرقًا في وضع خطة رواية «الإخوة كارامازوف»، وكان انقطاعه عن هذه الرواية أمرًا بالغ الصعوبة، لكن رغبة القيصر المحرر كانت، بطبيعة الحال، قانونًا بالنسبة إليه. كان فيودور ميخايلوفيتش يشعر بالرضا كونه يدرك أن لديه إمكانية أن يحقق ولو جزءًا يسيرًا من رغبة شخصية كان يكنُّ لها دائمًا تقديرًا كبيرًا لما قامت به من عمل عظيم تمثَّل في تحرير الفلاحين من القنانة، ولتحقيقه الحلم الذي كان عزيزًا عليه في شبابه والذي عانى من أجله بشدة في هذا الزمن.
كان للقاء الأميرين العظيمين أثر طيبٌ للغاية على فيودور ميخايلوفيتش، وجد لديهما قلبًا طيبًا وعقلًا راجحًا، وقدرةً على التنازل عن آرائهما التي أحيانًا ما تبدو ما تزال مفتقدةً إلى الخبرة؛ فضلًا عن تعاملهما باحترام تجاه آراء الطرف الآخر المخالفة.
استمرت علاقة الأميرين العظيمين بفيودور ميخايلوفيتش حتى وفاته. وعندما ذهب سموهما إلى الخارج في عام ١٨٨١م، أرسلا إليَّ برقية تتضمن خالص عزائهما لي في مصابي الجلل.
«الفرقاطة الدوق إينبورجسكي» ١٤
(١٦) فبراير ١٨٨١م.
المحترمة آنَّا
جريجوريفنا
لقد تكبدتم خسارة فادحة لا تعوض، ولكنكم لست وحدكم من تكبدها، فروسيا بأسرها تشعر بالحزن العميق تجاه خسارتها رجلًا عظيمًا ضحى بعمره كله من أجلها. إن الله الرحيم، وقد حمَّلك عبء هذا المصاب الجلل، لَسوف ينعم عليكِ في ذات الوقت بالصبر الجميل؛ لسوف يشارككم هذا الحزنَ كلُّ مواطنينا الذين عرَفوا فيودور ميخايلوفيتش عن قرب أو لم يعرفوه.
لقد منعني السفر بحرًا إلى بلاد بعيدة أن أعرف بالمصيبة التي حلت بوطننا في حينها. وقد وقع عليَّ هذا النبأ الحزين، الذي عرفته بالأمس فقط، وقْعَ الصاعقة. وعلى الرغم من أن الفرصة لم تتح لي حتى الآن للتعرف عليكم، فإنني لا أملك في هذه الظروف العصيبة إلا أن أعبر لكم عن رغبتي التي لا تقاوم في وصف حزني العميق ومشاركتكم أحزانكم. ولما كنت محبًّا مخلصًا لزوجكم خالد الذكر، فإنني لا أملك إلا أن أُعرب لكم عن عزائي في هذه المصيبة التي أشعر بها الآن، والتي لا يمكن لكلماتي أن تصفها. اغفري رفْعَ الكلفة وأن أخاطبكم في هذه المحنة، التي لا يستطيع أي شيء على وجه الأرض أن يبدِّدَ فيها روعكِ. ثقي في مشاعري المخلصة.
فيما بعد، وعندما تأسست في ستاريا روسا مدرسة تحمل اسم فيودور ميخايلوفيتش، انضم الأمير العظيم قنسطنطين قنسطنطينوفيتش للشخصيات التي أرادت لهذه المدرسة النمو والإزهار بمساهمة مالية سنوية بلغ مقدراها خمسمائة روبل، قبِلتها المدرسة بامتنان عميق.
٤
ذات يوم من أيام الربيع الأولى لعام ١٨٧٨م كانت أسرتنا جميعًا تجلس إلى مائدة الغداء في سلام. كان فيودور ميخايلوفيتش يتمتع في هذا اليوم بمزاج حسن، وقد استعاد نشاطه وحيويته، بعد جولة خلوية طويلة، وقد راح يتبادل أطراف الحديث مع الطفلين. فجأةً دوى صليل الجرس بقوة، هُرعت الخادمة لتفتح الباب. وإذا بنا نسمع عبر الباب المفتوح جزئيًّا عند المدخل صوتًا نسائيًّا عاليًا يصرخ قائلًا: هل ما يزال حيًّا؟
لم تفهم الفتاة السؤال فالتزمت الصمت.
– أنا أسأل هل ما يزال فيودور ميخايلوفيتش على قيد الحياة؟
– كلهم أحياء. أجابت الفتاة على عجل.
أردت أن أذهب لأستوضح الأمر، لكن فيودور ميخايلوفيتش، الذي كان جالسًا بالقرب من الباب، سبقني مندفعًا بسرعة نحو المدخل.
قفزت عن الكرسي امرأةٌ متوسطة العمر مهرولة وقد مرت يديها نحوه صائحة: ما زلت حيًّا، فيودور ميخايلوفيتش؟ كم أنا مسرورة أنك حي!
– ما الذي بك يا سيدتي؟ صاح بدوره وقد أخذته الدهشة. أنا حي أُرزَق وعازم على أن أعيش طويلًا!
– لقد انتشرت الشائعات عندنا في خاركوف — أجابت المرأة باضطراب — أن زوجَتك قد هجرتك وأنك رقدت طريح الفراش بسبب خيانتها، دون أن تجد من يمد لك يد العون، وعلى الفور سافرت حتى أقوم على رعايتك. إنني قادمة إليك مباشرة من القطار.
خرجت إلى المدخل أنا أيضًا بعد أن سمعت الضجة والصياح لأجد فيودور ميخايلوفيتش في حالة من الغضب الشديد: هل سمعت يا آنيا؟ التفت مخاطبًا إياي، بعض السفلة نشروا شائعات تقول إنكِ هجرتِني، كيف يبدو لكِ الأمر؟! كيف يبدو لكِ الأمر؟!
– اهدأ يا عزيزي، لا تقلق — قلت له — لا شك أن هناك سوء فهم ما. اذهب من فضلك، الهواء هنا شديد عند المدخل. وبهدوء شديد دفعت فيودور ميخايلوفيتش باتجاه غرفة الطعام. استجاب لي؛ وبعد أن خرج استمعت إلى صياحه الغاضب آتيًا من غرفة الطعام.
رحت أتحدث مع المرأة الغريبة وقد تبين أنها مُدرسة، طيبة للغاية، ولكن لا يعني هذا بالضرورة أنها تتمتع بالذكاء على نحو خاص. يبدو أنها قد وقعت تحت إغراء فكرة رعاية كاتب شهير هجرته زوجته السافلة، وأنها، من الجائز، يمكن أن تنقُله إلى عالم أفضل، ثم تفخر بعد ذلك طوال حياتها أنه مات على يديها. كنت أشعر بالأسف الشديد لهذه المرأة المجهولة، التي كانت، بداهة، في حالة شديدة من الاضطراب. استأذنتها وذهبت لدقيقة إلى غرفة الطعام، وقلت لزوجي إنني أريد أن أقدم لها بعض الطعام.
هز فيودور ميخايلوفيتش يديه وقال بصوت خفيض: «نعم، نادي عليها، ولكن انتظري برهةً لأذهب بعيدًا أولًا!» غادر مقعده وتوجه إلى غرفته.
عدت إلى المرأة المجهولة وعرضت عليها أن تستريح وتتناول طعام الغداء، لكنها كانت، كما يبدو، غاضبة من استقبال زوجي لها، وطلبت أن تقوم الخادمة بتوصيل سلَّتها الكبيرة، التي أحضرها لها البواب بعد وصولها، إلى الحوذي. لم ألحَّ عليها في العرض ولكنني استفسرت منها عن مكان إقامتها وعن اسمها كاملًا.
عندما عدت إلى زوجي وجدته على حال كبيرة من العصبية.
– فقط، فكِّري — قال زوجي وقد اشتد اضطرابه وراح يذرع الغرفة — أي حقارة يخترعونها! أنتِ هجرتِني! يا لها من افتراءات وقحة! مَن هذا العدو الذي يروج هذه التلفيقات؟
٥
وهؤلاء الطالبات رُحن ينادينني باسمي بنبرة ملؤها المودة. لحسن الحظ لم يكن بحاجة للنداء طويلًا، إذ اقتربت من زوجي على الفور.
حلَّ موسم الربيع، وبدأنا كعادتنا في الإسراع بالسفر إلى ستاريا روسا، وبخاصة أن البروفيسور كوشلاكوف كان قد أوصى فيودور ميخايلوفيتش بالذهاب إلى إمْس، بينما كان زوجي يرغب في السفر مع الأسرة إلى الداتشا، وأن يواصل عمله بحرية، إذا ما أُتيح له ذلك.
لسوء حظنا كان الربيع باردًا وممطرًا، ومن ثَم لم يجد زوجي فرصة للتعافي في الداتشا؛ بل إن وزنه قد تراجع إلى حدٍّ أثار قلقنا بشدة.
ولذلك فقد سعدنا ببدء حلول فصل الصيف، وقد حضرت إلى روسا في الموسم أ. ف. جاكلر كورفين بصحبة عائلتها. وكنا نحبها، أنا وزوجي، للغاية. كان فيودور ميخايلوفيتش يحرص على المرور يوميًّا تقريبًا بعد عودته من جولته، ليتناقش معها باعتبارها امرأةً ذكية طيبة القلب، تشغل مكانة مهمة في حياته.
شعرت بالإحباط الشديد والقلق من جرَّاء هذا التحليل للوضع، والذي قدمه الدكتور أورت. وحيث إنني كنت أشاهد زوجي في أعوامه الأخيرة قويًّا مليئًا بالحيوية، لم أظن أن مرضه قد نجح في إحداث هذه النتائج السيئة. ولكن لعلمي أن مياه كرينخن كانت مفيدة دائمًا لزوجي، فقد عللت نفسي بالأماني وبفكرة أن صحته سوف تتحسن كثيرًا في هذه المرة.
٦
كنت متفقة تمامًا، من حيث المبدأ، مع زوجي في هذه المسألة، ولكنني وجدت أنه في مثل ظروفنا هذه، فإن التفكير في تأمين مصير الأولاد من خلال ضيعة يمكن أن يبدو أمرًا غير قابل للتحقيق. كان الأمر الأول والأهم يتمثل فيمن ستقع على أكتافه مسئولية القيام بأعمال الضيعة إذا ما نجحنا في امتلاكها؟ إن فيودور ميخايلوفيتش، على الرغم من فهمه لشئون الزراعة لكنه مشغول بالعمل الأدبي، وعلى الأرجح لن يكون باستطاعته أن يكون له نشاط يُذكر في هذا الأمر. أما أنا فلم أكن على دراية مطلقًا بالأعمال الريفية، ومن المحتمل أن يتطلب الأمر بضع سنين قبل أن أتعلم أو أتأهل لهذا العمل الذي أجهله تمامًا. لم يبق أمامنا سوى تفويض الضيعة لشخص يديرها. على أنه وبناءً على خبرة العديد من معارفنا من مُلاك الأراضي، توقعت النتيجة التي يمكن أن تئول إليها الضيعة إذا ما قام على إداراتها شخص غريب.
وحيث إن ورثة كومانينا كان عددهم كثيرًا، فقد واجه الاتفاق معهم صعوباتٍ جمة. لم يكن هناك مشترٍ قادرٌ على شراء الضيعة بأكملها، وفي الوقت نفسه فقد كان مطلوبًا منا ومن باقي الورثة تسديدُ ما على الأرض من التزامات، وكذلك طلب وكيلنا أيضًا نقودًا مقابل سفره إلى الضيعة وإعداد الأوراق والمصروفات القضائية وما إلى ذلك. وهكذا لم يعُدْ علينا هذا الميراث إلا بالمتاعب والمصروفات.
أخيرًا توصل الورثة إلى قرار أن يأخذوا الأرض على ما هي عليه، وحيث إن الأرض كانت متنوعة، من غابة قديمة إلى مستنقعات ممتدة، فقد قررنا، أنا وزوجي، أن نأخذ مساحة أقل فيها، على أن تكون من نوعية جيدة. ولكن وحتى نختار نصيبنا، كان علينا أن نسافر وأن نعاين الضيعة. كان الحديث يدور كلَّ ربيع حول اجتماع الورثة في الضيعة بهدف اختيار وتقسيم الأنصبة، ولكن كان يحدث في كل مرة أن يعتذر هذا الوريث أو ذاك عن الحضور، فيتم تأجيل الأمر إلى العام التالي.
وأخيرا، وفي صيف عام ١٨٧٩م، قرر الورثة الاجتماع في موسكو ليتوصلوا إلى اتفاق نهائي، فإذا ما نجحوا في ذلك، يتوجهون جميعًا إلى ريازان، ومن هناك إلى الضيعة؛ حيث يقررون أمرهم على الطبيعة بشكل نهائي.
كان فيودور ميخايلوفيتش يتلقى علاجه آنذاك في إمس، وكان من المتوقع أن يعود بعد شهر. كان من المؤسف أن تضيع هذه الفرصة السانحة للانتهاء من هذا الأمر بالغ الصعوبة. من ناحية أخرى، كنت أجد نفسي في مأزق؛ هل ينبغي عليَّ أن أُبلغ زوجي بهذه الرحلة المقترحة إلى الضيعة، وبخاصة أن هناك إمكانية ألا تحدث؟ وحيث إنني كنت على دراية بمدى ولع فيودور ميخايلوفيتش بأطفاله وحرصه على مستقبلهم، فقد خشيت، عندما علمت بطول الرحلة، أن أزعجه وأن أُفسد عليه علاجه. ولحسن الحظ، تسلمت موافقة من زوجي على اصطحاب الأطفال إلى دير القديس نيل ستولبينسكي (على بُعد مائة فرسخ من روسا)، وحيث إن هذه الرحلة تستغرق حوالي أسبوع، فقد قررت أن أعرِّج أولًا على موسكو لمدة يومين أو ثلاثة. ولكنني ما إن وصلت إلى هناك ووجدت الورثة الأساسيين المتجهين إلى الضيعة، حتى قررت أن أنتهز الفرصة وأن أذهب معهم بصحبة الأطفال؛ لأعاين الأرض وأحدد القطعة المناسبة لزوجي. استمرت رحلتنا إلى الضيعة حوالي عشرة أيام، وقد انتهت بسلام. وهناك نجحت في اختيار نصيب زوجي؛ مائتي ديسيانينا من الغابة، في منطقة تسمى «بيخوركا»، ومائة ديسانينا؛ أرض صالحة للزراعة. في خطاباته من إمس أعرب فيودور ميخايلوفيتش عن سروره البالغ لاختياري، ولكنه وبَّخني بشدة «لكتماني» عنه أمر سفري. كان من الصعب عليَّ، بطبيعتي، أن أكتم شيئًا عن فيودور ميخايلوفيتش، ولكني كنت أجد ذلك أمرًا ضروريًّا في بعض الأحيان؛ حتى لا أزعجه أو أثير اضطرابه (ما دام هذا ممكنا)؛ فكثيرًا ما يؤدي اضطرابه لإثارة نوبة من نوبات الصرع لا حاجة له بها، تكون نتيجتها وخيمة على صحته، وبخاصة عندما تحدث النوبة وهو بعيد عن أسرته.
عدنا إلى روسا في مطلع شهر سبتمبر، وعادت حياتنا سيرتَها الأولى: يتجمع لدينا كلَّ يوم في حوالي الساعة الثانية ظهرًا بعض الأشخاص، بعضهم نعرفهم، والبعض الآخر لا نعرفهم. يدخلون على فيودور ميخايلوفيتش تباعًا. يجلسون لديه أحيانًا لمدة ساعة. كنت أعلم أن الأحاديث الطويلة تثير ملل زوجي، ولذلك كنت أبعث إليه أحيانًا الخادمة لتبلغه بحاجتي إليه لمدة دقيقة، وعندما يخرج أناوله قدحًا من الشاي الطازج فيحتسيه على عجل، ثم يسأل عن الأطفال ويسرع عائدًا إلى صحبته. وأحيانًا كنت أُضطر، بسبب امتداد المناقشات، لاستدعاء فيودور ميخايلوفيتش إلى غرفة الطعام لكي يقابل مندوبًا ما جاء يطلب منه قراءة محاضرة في إحدى الأمسيات الأدبية (لصالح جمعيةٍ ما) أو لمقابلة أحد الأصدقاء، الذين يصعب عليهم الانتظار في طابور الزائرين المجهولين.
وفي هذا الشتاء ازداد تعاطف المجتمع مع فيودور ميخايلوفيتش (بفضل نجاح رواية «الإخوة كارامازوف»)، وأصبح يتلقى دعوات تكريم وبطاقات لحضور أمسيات أدبية وحفلات رقص وموسيقى. كان يضطر أحيانًا للرفض اللبق فيرسل خطابات اعتذار وشكر، وأحيانًا أخرى كان يرسلني للحضور خشيةَ أن يغضب أصحاب الدعوات. كنت أقضي حوالي الساعتين وقد استبدَّ بي الملل، ثم أذهب للبحث عن منظِّمات الاحتفال فأعبر لهم، نيابةً عن زوجي، عن امتنانه لاهتمامهم واعتذاره عن عدم الحضور بسبب أعمال طارئة. كل ذلك كان له أثر كبير في ارتباك حياتنا ولم يكن ليجلب لنا أي متعة.
٧
كان العدد الأكبر من الأمسيات الأدبية يقام في جمعية الائتمان، وتقع على الجانب المواجه لمسرح ألكسندروفسكي أو في الجمعية الخيرية بالقرب من جسر الشرطة.
للأسف، فإن ظهوري في المجتمع لم يكن يخلو أحيانًا من المنغِّصات المفاجئة تمامًا بسبب غيرة فيودور ميخايلوفيتش غير المبررة، والتي كانت تضعني في أوضاع محرجة. أورد هنا واحدًا من هذه المواقف:
ذات يوم تأخرنا بعضَ الشيء في الوصول إلى إحدى الأمسيات الأدبية، وهناك تجمَّع مختلف المشاركين في الأمسية في انتظارنا. وعند دخولنا أخذ الجميع يحيون فيودور ميخايلوفيتش بمودة صادقة، وراح الرجال يقبِّلون يدي، ويبدو أن هذه العادة الاجتماعية (تقبيل الأيدي) كان لها أثر سيئ على زوجي. رد على تحية الجميع بجفاء ثم انتحى جانبًا. أدركت على الفور كُنهَ غضبه. وبعد أن تبادلنا مع الموجودين عبارات المجاملة، جلست إلى جوار زوجي محاوِلةً أن أخرجه من حالته النفسية السيئة. لكنني لم أنجح في ذلك. توجهت إليه مرتين أو ثلاثًا بالسؤال لكنه لم يجب، ثم حدجني بنظرة «شرسة» قائلًا: اذهبي إليه!
– اندهشت وسألته: إلى من أذهب؟
– ألم تفهمي؟
– لم أفهم. لمن عليَّ أن أذهب؟ قلت مبتسمة.
– إلى هذا الذي قبَّل يدك بِوَلَه!
وحيث إن جميع الحضور من الرجال في القاعة الذين قبَّلوا يدي فعلوا ذلك على نحو مهذب، فإنني لم أستطع، بطبيعة الحال، أن أقرر من منهم شريكي في الجريمة التي ارتكبتها من وجهة نظر زوجي. دار هذا الحديث بيني وبين فيودور ميخايلوفيتش الذي كان يتحدث بصوت واضح، حتى إن الذين كانوا يجلسون قريبًا منا استمعوا إليه بوضوح تام، وخوفًا من وقوع «مسرحية عائلية» قلت له: حسنا فيودور ميخايلوفيتش، أرى أنك منحرف المزاج ولا تود الحديث معي. الأفضل أن أذهب إلى القاعة لأبحث عن مكاني. وداعًا!
– لم تطيقي صبرًا؛ فذهبتِ للبحث عنه؟ قال معلقًا.
– حسنًا، نعم، بالطبع — قلت مبتسمة — ولكني أبحث عنك أيضًا. هل يلزمك شيءٌ ما؟
– لا يلزمني شيء.
– لكنك طلبت مني الحضور.
– لم أفكر في طلبك؟ لا تدَّعي شيئًا من فضلك!
– حسنًا، إذا لم تكن قد طلبتني فوداعًا، أنا ذاهبة.
مرت عشر دقائق وإذا بواحد من المنظِّمين يأتي إليَّ ليخبرني أن زوجي يرغب في رؤيتي. أجبته بأنني كنت لديه لتوِّي وأنني لا أريد أن أُفقده تركيزه في الاهتمام بما سيقرؤه. ولم أذهب. على أن المنظم جاءني من جديد في الاستراحة الأولى يخبرني أن زوجي يلحُّ في طلبه الذهاب إليه. أسرعت إلى زوجي العزيز لأجده في حالة من الإحباط وقد ارتسمت على وجهه علاماتُ الشعور بالذنب. انحنى عليَّ وهمس في أذني بصوت خفيض: سامحيني يا أنيتشكا، وأعطيني يدكِ. تمنَّي لي حظًّا سعيدًا؛ سأخرج الآن للقراءة!
بعد أن عدنا إلى بيتنا من الأمسية عاتبت زوجي عتابًا شديدًا على غيرته غير المبررة. وكعادته راح فيودور ميخايلوفيتش يرجوني المغفرة، معترفًا بذنبه، وهو يقسم أنه لن يعود إلى ذلك أبدًا، وأن الندم يعذبه، وفي الوقت نفسه ظل يؤكد أنه ظل على مدى ساعة بأكملها غير قادر على التغلب على سَورة الغيرة المفاجئة التي انتابته، والتي أحس بسببها بتعاسة عميقة.
وهذا النوع من المَشاهد كان يتكرر تقريبًا في كل أمسية ثقافية. كان فيودور ميخايلوفيتش يرسل حتمًا واحدًا من المنظِّمين أو من معارفه ليرى أين أجلس ومع من أتحدث. وأحيانًا ما كان يقترب من باب غرفة المكتبة بعد أن يواربه قليلًا ليبحث عني بنظره من بعيد إلى حيث أشاروا له عليَّ. (كان من المتبع آنذاك أن يجلس أقارب المحاضر في أماكن بامتداد الحائط الأيمن للقاعة على بُعد خطوات قليلة من الصف الأول.)
لم يكن فيودور ميخايلوفيتش يشرع في القراءة مباشرة، بعد أن يخرج إلى المنصة وينحني أمام تصفيق الجمهور، وإنما كان يبدأ في تفحص كل السيدات الجالسات على امتداد الحائط الأيمن. وحتى يتمكن زوجي من رؤيتي على الفور، كنت أمسح جبهتي بمنديلي الأبيض، أو أذهب واقفة عن مكاني، وما إن يتأكد فيودور ميخايلوفيتش من وجودي، حتى يبدأ في القراءة. وكان معارفي، وكذلك القائمون على تنظيم الأمسية، قد لاحظوا، بطبيعة الحال، هذه النظرات الخاطفة واستفسارات زوجي حول تحركاتي. فكانوا يمازحونني بشأنها تلميحًا إلى حدِّ أنني كنت أشعر بالغضب الشديد، وقد أشعرني ذلك بالضيق والملل. وذات مرة ونحن في طريقنا إلى إحدى الأمسيات الأدبية قلت لفيودور ميخايلوفيتش: أتعرف يا عزيزي أنك إذا ما استمررت اليوم في النظر والبحث عني وسط الجمهور، فإنني أعدك بأنني سوف أنهض من مكاني وأخرج من القاعة من الجانب التي تقع فيه المنصة.
– أما أنا فسأترك المنصة قفزًا وأُهرَع وراءكِ لأعرف ما الذي حدث لكِ وإلى أين تذهبين.
قال فيودور ميخايلوفيتش هذا بجدية تامة، وعندها أيقنت تمامًا أنه قادر على اقتراف هذه الفضيحة، في حالةِ إذا ما غادرت المكان فجأة.
٨
كان لنوبات الصرع أثرها البالغ على ذاكرة فيودور ميخايلوفيتش؛ وبخاصة على قدرته على تذكُّر الأسماء والأشخاص، وقد اكتسب بسبب عدم قدرته على التعرف على وجوه الناس أعداءً كثيرين، وعندما كانوا يذكرون لهم أسماءهم، لم يكن بمقدوره، دون اللجوء إلى سؤالهم عن كثير من التفصيلات، أن يحدد من هم هؤلاء الناس الذين يتحدثون إليه. كان هذا يثير حنَق الذين نسيهم أو الذين لا يعترفون بمرضه، معتقدين أن هذا نوع من الخُيَلاء، أو أنه نسيان متعمَّد بهدف إهانتهم. أذكر تلك الحادثة التي وقعت لنا، عندما كنا نزور ذات يوم آل مايكوف، يومئذٍ التقى فيودور ميخايلوفيتش على سلَّم بيتهم بالكاتب ف. ن. بيرج، الذي عمل في وقتٍ ما في مجلة «الزمن»، وقد غاب الرجل عن ذاكرة فيودور ميخايلوفيتش تمامًا. توجه بيرج بالتحية الودية إلى زوجي، ولما رأى أنه لم يتعرف عليه خاطبه قائلًا: فيودور ميخايلوفيتش، ألا تعرفني؟
– اعذرني، لا أستطيع أن أتعرف عليك.
– أنا بيرج.
– بيرج؟ نظر إليه فيودور ميخايلوفيتش نظرة استفهام (كل ما تذكره زوجي في هذه اللحظة، كما ذكر لي مؤخرًا، هو «بيرج»، الألماني القح، صهر آل روستوف في رواية «الحرب والسلام»).
– الشاعر بيرج — قال الرجل موضحًا — أحقًّا لا تذكرني؟
– الشاعر بيرج؟ أجاب زوجي ثم راح يكرر، تشرفنا، تشرفنا! لكن بيرج، الذي أصر على أن يعرِّف نفسه، كان يعتقد يقينًا أن فيودور ميخايلوفيتش لم يتعرف عليه عمدًا، وظل طوال حياته يتذكر هذه الإهانة. وكم من أعداء، وبخاصة من الأدباء، اكتسبهم فيودور ميخايلوفيتش بسبب آفة النسيان!
وقد وضعتني هذه الآفة وعدم التعرف على الأشخاص، الذين كان فيودور ميخايلوفيتش يلتقي بهم، وضعتني أنا أيضًا في مواقف شديدة الحرج.
أذكر حادثًا مضحكًا في هذا الصدد: كنا نذهب وزوجي ثلاثًا/أربع مرات في العام للاحتفال بالأعياد في ضيافة عائلة ابن عمي ميخائيل نيكولايفيتش سنيتكين، وكان يحب أن يجمع في بيته الأقارب. وفي كل مرة تقريبًا، كنا نلتقي هناك بإشبينتي، ألكسندرا بافلوفنا، والتي لم أزرها منذ زواجي، حيث كان زوجها يعتنق وجهاتٍ نظر سياسيةً لا تتفق ووجهات نظر فيودور ميخايلوفيتش. كانت ألكسندرا بافلوفنا تشعر بالاستياء لأن زوجي، الذي كان يقابلها دائمًا بكل لطف، لم يتبادل معها الحديث إطلاقًا، وقد ذكرت ذلك أمام كل أقاربنا، وهؤلاء أبلغوني بذلك. وفي أول زيارة لنا لآل سنيتكين، طلبت من زوجي أن يتحدث معها وأن يعاملها بمودة قدر استطاعته.
– حسنًا، حسنًا — وعدني بذلك فيودور ميخايلوفيتش — ما عليكِ إلا أن تخبريني أي من السيدات هي إشبينتك، وسوف أجد موضوعًا شيقًا للحديث. وسوف تشعرين بالرضا.
بعد أن وصلنا، أشرت إلى فيودور ميخايلوفيتش نحو السيدة الجالسة على الأريكة. نظر إليها في البداية باهتمام ثم نظر إليَّ، ثم عاد ينظر إليها مرة أخرى، ثم حياها بأدب جم، ثم إذا به يقضي بقية السهرة دون أن يقترب منها. وبعد أن عدنا إلى بيتنا عاتبته لأنه لم يحقق رغبتي البسيطة هذه.
– أخبريني يا آنيا من فضلك — أجابني فيودور ميخايلوفيتش والحيرة تبدو على وجهه — من منكم إشبينة الأخرى؟ أنت التي عمَّدتها أم هي؟ لقد أخذت أنظر إليكما بتمعن، كلاكما تشبه الأخرى، حتى إنني ارتبت في إمكانية التمييز بينكما، وحتى لا أخطئ، قررت أن من الأفضل ألا أقترب منها.
المسألة أن الفارق في العمر بيني وبين إشبينتي لم يكن بالغًا نسبيًّا (ستة عشر عامًا)، وحيث إنني كنت دائمًا أرتدي ملابس متواضعة، وغالبًا ما تكون قاتمة، بينما كانت هي تحب التزين وترتدي ملابس جميلة، فقد بدت أصغر مني سنًّا بدرجة ملحوظة، الأمر الذي أدى بزوجي للحيرة.
لكن الأمر الأكثر مدعاة للفضول؛ هو أنني علمت، بعد عام، أننا مدْعوون لقضاء عيد الميلاد لدى آل سنيتكين، وأننا حتمًا سنقابل هناك إشبينتي، فطلبت من زوجي أن ينفذ لي نفس الطلب، بعد أن شرحت له بإصرار مدى قربها مني. بدا أن زوجي قد استمع إليَّ باهتمام بالغ (بداهة كان مستغرقًا في التفكير في أمر آخر)، وعدني على أية حال أنه سوف يتبادل معها أطراف الحديث، وكما أنه لم يفِ بوعده في العام الماضي، فقد أخلَّ بوعده أيضًا هذه المرة؛ لقد تطرقت إلى نفسه نفسُ شكوك العام الماضي، لم يستطع أن يحسم أمر «من منا الذي عمَّد الآخر»، وقد اعتبر زوجي أن سؤالي أمام الأغراب أمرٌ غير لائق.
كان نسيان فيودور ميخايلوفيتش لأسماء أقرب الناس إلينا يضعه أحيانًا في مواقف شديدة الحرج: ذات مرة ذهب زوجي إلى قنصليتنا في درزدن لاعتماد تصديق بصحة توقيعي على تفويضٍ ما (حيث لم يكن باستطاعتي الذهاب بنفسي لمرضي). ما إن رأيت من النافذة أن فيودور ميخايلوفيتش قد رجع بسرعة إلى البيت، حتى هُرِعت لمقابلته. دخل إلى البيت منفعلًا وسألني غاضبًا: آنيا، ما اسمكِ؟ ما اسم عائلتكِ؟
– دستويفسكايا — أجبت في ذهول — وقد تعجبت لهذا السؤال.
– أعرف أنه دستويفسكايا، ولكن ما اسم عائلتكِ قبل الزواج؟ لقد سألوني في القنصلية عن اسم العائلة عند الميلاد، وقد نسيت، وسيكون عليَّ أن أذهب إلى هناك مرة ثانية. لقد سخر مني الموظفون لأنني نسيت اسم عائلة زوجتي. اكتبي الاسم في الاستمارة وإلا نسيته مرة أخرى في الطريق!
مثل هذه الأحداث وقعت كثيرًا في حياة فيودور ميخايلوفيتش، وللأسف، خلقت له أعداءً كثيرين.
⋆ وفي «ملاحظات على مؤلفات ف. م. دستويفسكي» تستشهد آنَّا جريجوريفنا بكلمات زوسيما في «الإخوة كارامازوف»: «سأذكر يا أماه، سأذكر حزنكِ عند صلاتي، سأذكر أيضًا زوجكِ وأدعو له بالصحة.» (دستويفسكي، ١٩٥٦–١٩٥٨م، الجزء التاسع، ص٦٦)، وتضيف قائلة: «نقل فيودور ميخايلوفيتش هذه الكلمات لي بعد عودته في عام ١٨٧٨م من دير أوبتينا؛ وقد تبادل هناك أطراف الحديث مع الأب أمفروسي، وحكى له عن حزننا وبكائنا على طفلنا الذي مات منذ زمن غير بعيد. وقد وعد الأب أمفروسي فيودور ميخايلوفيتش «أن يذكر أليوشا في صلاته» و«حزني عليه»، وأن «يدعو لنا ولأطفالنا بالصحة». وقد تأثر فيودور ميخايلوفيتش تأثرًا عميقًا بحديثه مع الأب ووعده أن يصلي من أجلنا» (جروسمان، السمينارت، ص٦٧). ويعتبر الأب أمفروسي إلى حد كبير هو النموذج الأصلي للأب زوسيما في رواية «الإخوة كارامازوف». ومن الأمور الشيقة المقارنة بين فصل «رائحة الجثة» في الفصل السابع من «الإخوة كارامازوف» وحديث الأب أمفروسي الذي سمعه دستويفسكي في دير أوبتينا، والذي كثيرًا ما راح أمفروسي يردده: «لقد استمعت من الناس إلى كثير من المديح في حياتي، ولهذا سوف يفوح النتن من جسدي.» وقد جرى إصلاح خلوة وقلاية الأب زوسيما في دير أوبتينا. وعن الأب أمفروسي، النموذج الأصلي لزوسيما، انظر: مقالة ر. ف. بليتنيف «حكماء القلب (عن «الآباء» عند دستويفسكي)»، في كتاب: «عن دستويفسكي». مجموعة مقالات حررها أ. ل. بيم، الجزء الثاني، براج، ١٩٣٣م، ص٧٣–٩٢.
وعن وصول دستويفسكي إلى تفير قادمًا من سيميبالاتينسك، كتب يانكوفسكي قائلًا: «كان دستويفسكي أول من ذهبت لزيارته من أصدقائي في هذه المدينة (…) لكي أراه وأعانقه فقط لمعزته لديَّ.» («العصر الحديث»، ١٨٨١م، ٢٤ فبراير (٨ مارس بالتقويم القديم)، العدد ١٧٩٣). ترك س. د. يانكوفسكي «مذكرات عن دستويفسكي»، وقد نشرت في «البشير الروسي»، ١٨٨٥م، العدد ٤، ص٧٩٦–٨١٩. وفي خطابه إلى دستويفسكي بخصوص موضوع «الزوج الأبدي»، كتب مايكوف يقول: «لقد تعرفت فيها على قصة يانكوفسكي وشخصيته.» (الخطابات، المجلد الثاني، ٤٧٦).
على أن صوت دستويفسكي المتهدج، شديد الانفعال، غطى على كل هذا الهمس.
ليكن غريبًا! ليكن حتى وليًّا من أولياء الله! ولكن الأهم ألا تموت الفكرة العظيمة!
كان هذا الصوت الحماسي النفَّاذ يهز أعماق قلوبنا … لم أكن وحدي التي شعرت بالاضطراب، وإنما شعر به كل من كان بالقاعة. أذكر كيف راح أحد الشباب الجالسين بالقرب مني يرتجف وهو يتنهد، كان وجهه يحمرُّ ثم يكسوه الشحوب، ينتفض رأسه تشنجًا، يغلق أصابعه كما لو كان يتحكم فيها بصعوبة نتيجة للتصفيق اللاإرادي … كان الجميع يصفقون وقد استولى عليهم الاضطراب، كان هذا التصفيق المفاجئ يقطع القراءة في وقت غير مناسب، كما لو كان يوقظ دستويفسكي، فيهتز جسده ثم يتوقف عن الحركة في مكانه برهة، بينما يستمر التصفيق أكثر حدَّة. هنا يستوي دستويفسكي واقفًا وكأنه يستيقظ بصعوبة من حلم لذيذ، ينحني احترامًا للحضور، ثم يعود للجلوس مرة أخرى ليستكمل القراءة» (دستويفسكي في مذكرات معاصريه، الجزء الثاني، ص١٨٢-١٨٣).
⋆ الخطابات، المجلد الرابع، ص٩٥.