الآنسة دينمونت تقدم المساعدة
محكمة جنح جاوبريدج لم تكن قطُّ مبنًى مبهجًا. فهي تتميز بأجواء الأضرحة المتعفِّنة ممزوجة بالبهجة المُعقَّمة والاصطناعية للمستشفيات، وجدب الفصول الدراسية، وسوء تهوية قطارات مترو الأنفاق، وقُبح قاعات الاجتماعات. كان جرانت يعرفها جيدًا، ولم يدخلها قطُّ دون أنينٍ غير واعٍ، ليس من أجل الأحزان التي كانت تتدلى حولها مثل الشبكات غير المرئية، ولكن من أجل حُزنه بسبب الاضطرار إلى قضاءِ صباح في مثل هذه البيئة. في مناسَبات مثل قضاء صباح في محكمة جنح جاوبريدج، اعتاد على الإشارة إلى مِهنته على أنها حياةٌ صعبة وتعيسة. واليوم كان في حالة مِزاجية سيئة. لقد وجَد نفسه ينظر نظرةً متحيِّزة إلى ضباط الشرطة الممثَّلين من خلال أولئك المناوبين في المحكمة، وإلى القاضي القوي المغرور، وإلى المتسكِّعين على مقاعد الجمهور. وإدراكًا لحالته العقلية المتأثرة، فقد بحَث كالمعتاد عن السبب بهدف إبعاده، وبعد قليلٍ من التأمُّل، عثَر عليه. لم يكن سعيدًا بإدلائه بشهادته! أراد أن يقول في أعماق قلبه: «انتظر قليلًا! هناك شيءٌ هنا لا أفهمه. فقط انتظر حتى أكتشف المزيد.» لكن لكونه مفتشَ شرطة معه أدلةٌ جيدة ويحظى بدعم رؤسائه، لم يستطع فِعلَ ذلك. لم يستطع تأكيدَ صحة ما سيقوله بأي ملاحظات من هذا النوع. نظر عبر المحكمة إلى المكان الذي كان يجلس فيه المحامي الذي ينظر في قضية لامونت. ربما رغب لامونت في الحصول على مُحامين أكثر أهميةً من ذلك عندما جاء للمحاكمة في أولد بيلي، وإلا فلن يكون لديه أدنى فرصة. لكنَّ المحامين المهمِّين يُكلفون مالًا، فالمحامون رجال محترفون، وليسوا فاعِلي خير.
نُظِر في قضيتَين بصفة معجَّلة، ثم قُدِّم لامونت إلى المحكمة. بدا مريضًا، لكنه تمالكَ نفسه جيدًا. حتى إنه أدرك وجود المفتش بابتسامة خفيفة. أثار وصولُه ضجةً في الجزء المخصص للجمهور في المحكمة. لم يكن هناك إشعارٌ صحفي بأنه سيُنظَر في القضية هناك اليوم، وكان جميع الحاضرين إما عاطلين فضوليِّين أو مُحامين ذَوي مبادئَ في القضايا الأخرى. بحث جرانت عن السيدة إيفريت، لكنها لم تكن هناك. بدا أن صديق لامونت الوحيد في المحكمة هو الشخص المدفوع الأجر المسئول عن مصالحه. ومع ذلك، بحث جرانت مرةً أخرى الآن عن علامة تدلُّ على الاهتمام الشخصي على أي وجه. لقد عثَر من قبل أنه يمكن الحصول على معلومات مفيدة من تعبيراتِ وجه الغرباء المفترَضين في المحكمة. لكن الفحص الدقيق لم يكشف عن شيء؛ لا شيء كان واضحًا سوى الفضول في ملامح وجوهِ الجمهور. ولكن عندما غادر المقعد، بعد أن أدلى بشهادته، رأى وافدًا جديدًا في الجزء الخلفي من المحكمة، وكان هذا الوافدُ الجديد الآنسة دينمونت. الآن لم تنتهِ عطلة الآنسة دينمونت لمدة أسبوع بعد، وقد قالت عند احتساء الشاي المشئوم بمنزل القس إنه بسبب أنها كانت تقضي عطلاتها مرةً واحدة فقط في السنة، كانت تقضيها جميعًا في الوطن؛ وبينما كان المفتش جرانت يجلس، كان مندهشًا من الفتاة التي لن تلينَ تجاه رجلٍ اعتقدت أنه مذنب بارتكابِ شيء فظيع، لكنها ستقطع إجازتها وتسافر ٥٠٠ ميل لتسمع الشهادة بنفسها. كان ظهر لامونت يواجهها، وكان من غير المحتمل، ما لم يتعمَّد النظرَ في أرجاء الغرفة أثناء خروجه، أنه سيكون على درايةٍ بوجودها. لفتَت نظرَ المفتش إليها، وانحنَت له دون اضطراب. بدَت في قبَّعتها الصغيرة الأنيقة الداكنة المصمَّمة خِصيصَى كامرأةٍ جذابة، مثالية، متَّزنة، ذات خبرة كبيرة في الحياة. ربما كانت كاتبةً تبحث عن نسخة، لكلِّ المشاعر التي أظهَرَتها. حتى عندما أُعيد لامونت إلى الحبس وأُخرج من المحكمة، لم يهتزَّ وجهها الجميل. يعتقد جرانت أنهما كانتا متشابهتَين للغاية، الخالة وابنة الأخت؛ ربما كان هذا هو السبب في أن كلًّا منهما لم تُحب الأخرى. ذهب إليها وهي تغادر وحيَّاها.
«هل أنتِ مشغولة يا آنسة دينمونت؟ ما رأيكِ أن تأتي لتناول الغداء معي؟»
«اعتقدت أن المفتشين كانوا يعيشون على أقراصٍ من خلاصة اللحم البقري المجفَّف، أو شيء من هذا القبيل، خلال النهار. هل لديهم حقًّا وقتٌ للجلوس من أجل تناول وجبة؟»
«ليس هذا فقط، لكنهم يستمتعون بوجبة جيدة جدًّا. تعالي وشاهدي!» وابتسمَت وذهبت معه.
أخذها إلى مطعم لورانتس، وخلال الوجبة كانت صريحة تمامًا بشأن تغيير خططها. قالت: «لم أستطع البقاء في كارنينيش بعد ما حدث. وكانت لديَّ رغبة في سماع إجراءات المحكمة، لذلك جئت. لم أقصد محكمةً في حياتي من قبل. إنه ليس مشهدًا مثيرًا للإعجاب.»
اعترف قائلًا: «ربما ليس محكمة الجنح؛ لكن انتظري حتى تُعقَد محاكمة كبيرة.»
«آمُل ألا أفعل ذلك أبدًا — ولكن يبدو أنني سأفعل ذلك. لديك قضية جميلة، أليس كذلك؟»
«هذه هي الكلمة التي يستخدمها رئيسي بشأنها.»
سألت بسرعة: «ألا توافق؟»
«أوه، نعم، بالتأكيد.» كان الاعتراف للسيدة إيفريت بأنه غيرُ راضٍ شيئًا آخر، لكنه لن يُصرح بذلك للآخرين. وهذه الفتاة المستقلَّة كانت بالتأكيد من «الآخرين».
بعد قليلٍ ذكَرت لامونت مباشرة. قالت بطريقة قضائية: «يبدو في حالة سيئة» مستخدِمةً كلمة «سيئة» بمعناها المهني. «هل يعتنون به في السجن؟»
قال جرانت: «أوه، نعم؛ إنهم يعتنون بهم جيدًا.»
«هل هناك احتمالٌ أن يُضايقوه؟ ذلك لأنني أحذرك أنه لن يتحمَّل أي مضايقة في حالته الآن. إما أنه سيصبح مريضًا بشكل خطير أو سيقول إنه ارتكب الجريمة.»
«إذن أنت لا تصدقين أنه ارتكبها؟»
«أعتقد أنه من غير المحتمل، لكنني أدرك تمامًا أن حقيقة أنني أعتقد ذلك لا تجعل الأمرَ كذلك. أنا فقط أريده أن يحصل على صفقة عادلة.»
علَّق جرانت على قَبولها الواقعيِّ لكلامه في كارنينيش فيما يتعلق بإدانة الرجل.
قالت: «حسنًا، لقد كنتَ تعرف الكثير عن الأمر أكثر مما كنتُ أعرفه. لم أرَه قطُّ إلا منذ ثلاثة أيام. لقد أعجبت به، لكن ذلك لم يجعله مذنبًا أو بريئًا. علاوةً على ذلك، أفضل أن أكون متوحِّشة على أن أكون حمقاء.»
فكر جرانت في هذا التصريح غيرِ الأنثوي في صمت، وكرَّرَت سؤالها.
قال جرانت: «أوه، لا؛ هذه ليست أمريكا. وعلى أي حال، فقد أدلى بإفادته كما سمعت، وليس من المرجَّح أن يُغير إفادتَه أو يُبدلها.»
«هل لديه أصدقاء؟»
«فقط خالتك، السيدة إيفريت.»
«ومن سيدفع أتعابَ الدفاع عنه؟»
أوضح جرانت.
«إذن لا يمكنه الحصول على أيٍّ من المحامين الجيدين. لا يبدو لي ذلك عادلًا للغاية؛ حتى يحتفظ القانون بالمحامين المشهورين ليقوموا بمرافعاتهم والمحامين المغمورين ليدافعوا عن المجرمين الفقراء.»
ابتسم جرانت. «أوه، سيحصل على صفقة عادلة، لا تقلقي. إن الشرطة هي التي يشقُّ عليها الأمرُ في قضايا القتل.»
«ألم تعرف قطُّ، من واقع كلِّ خبرتك، قضيةً أخطأ فيها القانون؟»
اعترف جرانت بمرح: «بلى أعرف العديد منها. لكنها كانت كلها قضايا تتعلق بالخطأ في تحديد الهُوية. وهذا ليس موضعَ تساؤل هنا.»
«لا، لا؛ ولكن لا بد أن هناك قضايا لا تكون فيها الأدلة سوى الكثير من الأشياء غير المترابطة التي يُوضع بعضها بجانب بعضٍ بحيث تبدو كشيءٍ معيَّن. ذاك أشبهُ بغطاءِ فِراشٍ حِيكَ من أقمشةٍ بألوان مختلفة.»
كانت «غاضبة» للغاية بحيث لم تكن مرتاحة في استجلائها للأمور، وطمْأنَها جرانت وغيَّر الموضوع بلا تفاخر، وصمتَ بعض الوقت؛ وخطرت له فكرةٌ مفاجئة. إذا ذهب إلى إيستبورن بمفرده، فقد ترتابُ السيدة راتكليف، مهما كان مظهره غيرَ رسمي، في حسن نيته. ولكن إذا ظهر مع رفيقة، فسيتم قبوله في الحال على أنه خارج الخدمة، وأي شك قد يُثيره وجوده سيهدأ حتى يتمكنَ من إبعاد السيدة راتكليف تمامًا عن حذرها. وكان النجاح الكامل للمهمة يعتمد على ذلك؛ أنها يجب أن تكون غيرَ متأهبةٍ لأي توضيح من جانبه.
قال: «بالمناسبة، هل لديك ما تفعلينه بعد ظهر اليوم؟».
«لا؛ لماذا؟»
«هل أديتِ عملَكِ الصالحَ لهذا اليوم؟»
«لا، أعتقد أنني كنتُ أنانية تمامًا اليوم.»
«حسنًا، أزيحي ذلك عن صدركِ بالذهاب معي إلى إيستبورن هذا المساء بصفتِك ابنةَ عمي، وكوني ابنةَ عمي حتى العشاء. هلا فعَلتِ؟»
نظرَت إليه بجدية. «لا أعتقد ذلك. هل تُلاحق شخصًا آخر غير سعيد؟»
«ليس تمامًا. أنا ألاحق شيئًا ما، على ما أعتقد.»
قالت ببطء: «لا أعتقد ذلك. إذا كان الأمر يهدف إلى الاستمتاع فحسب، كنتُ سأفعله دون تردُّد. ولكن عندما يكون شيئًا لا أعرفه لشخص لم أقابله من قبل … هل تفهم؟»
«اسمعي، لا يمكنني إخبارُكِ عن الأمر، ولكن إذا وعدتك بأنك لن تندمي أبدًا، فهل ستصدقينني وتأتين؟»
قالت بلطف: «لكن ما الذي يدعوني إلى تصديقك؟»
اندهش المفتش نوعًا ما. كان قد أثنى على عدم ثقتها في لامونت، لكن تطبيقها المنطقي لذلك على نفسه أربكه.
اعترف: «لا أعرف لماذا. أفترض أن ضباط الشرطة قادرون على الكذب كأي شخص آخر.»
أضافت بجفاء: «ومنعدمو الضمير إلى حد كبير أكثر من معظم الناس.»
«حسنًا، الأمر يتعلق فقط بقرارك، إذن. لن تندمي على قدومك. أُقسم بذلك، إذا أردتِ ذلك — وضباط الشرطة لا يحنثون بقسمهم، مهما كانوا مُنعدمي الضمير.»
ضحكَت. وقالت بسعادة: «هذا أثَّر فيك، أليس كذلك؟». وبعد صمت، قالت: «حسنًا، يُسعدني أن آتي وأكونَ ابنة عمك. لا أحد من أبناء عمومتي بالقدر نفسِه من وسامتك.» لكن السخرية في نبرة صوتها كانت واضحةً جدًّا، لدرجة أن جرانت لم يجد الكثير من الاستمتاع في الإطراء.
ومع ذلك، ذهَبا عبر الريف الأخضر إلى البحر في وئامٍ تام، وعندما نظر جرانت فجأةً ورأى المنحدرات، فوجئ. هناك وقفا أمام المنظر الطبيعي، مثل شخص يمشي على أطراف أصابعه في غرفة دون أن يسمعه أحد، ويفاجئ الساكن بالظهور في منتصف الأرضية. لم يعرف قط أن رحلةً إلى الساحل الجنوبي تمرُّ بهذه السرعة. كانا وحدهما في المقصورة، وشرع في منحها التوجيهات.
«أنا أُقيم في إيستبورن — لا، لا أستطيع، فأنا لا أرتدي ملابسَ مناسبة — لقد أتى كِلانا لقضاء وقتِ ما بعد الظهر، إذن. سأحظى بمحادثة مع امرأتين تعرفانني بالفعل بصفتي المهنية. عندما يتحول الحديث إلى دبابيس البروش على القبعة، أريدك أن تُخرجي هذا من حقيبتك، وتقولي إنك اشتريتِه للتوِّ لأختك. بالمناسبة، اسمك إلينور ريموند واسمُ أختك ماري. هذا كل شيء. فقط اتركي البروش حتى أضبطَ ربطة عنقي. ستكون هذه الإشارة لحصولي على كل ما أريده.»
«حسنًا. ما اسمك الأول بالمناسبة؟»
«آلان.»
«حسنًا، آلان. كدتُ أنسى أن أسألك عن ذلك. لو لم أعرف اسم ابن عمي لصار الأمرُ مزحة! … إنه عالم غريب، أليس كذلك؟ انظر إلى تلك الزهور في الشمس وفكِّر في كل الناس الواقعين في ورطة رهيبة هذه اللحظة.»
«لا، لا تفعلي. هذا ضربٌ من الجنون. فكري في الشاطئ المهجور اللطيف الذي سنراه في غضون بضع دقائق.»
سألت، وكانا لا يزالان يُخبر أحدُهما الآخَرَ كم كانت الآنسة بايليس رائعة عندما ركَضا إلى المحطة: «هل سبق لك أن ذهبت إلى مسرح أولد فيك؟» وقال جرانت: «تعالَي، إلينور»، وأمسكها من ذراعها، والتقطها من العربة مثل صبيٍّ صغير، غير صابر لتجربة الرفش على الرمال.
كان الشاطئ، كما تنبَّأ جرانت، مهجورًا بشكلٍ ممتع مما يجعل منتجعات الساحل الجنوبي جذابةً للغاية خارج الموسم. كان الجو مشمسًا ودافئًا للغاية، واستلقت مجموعات قليلة على الحصى، مستمتعين بأشعة الشمس في عزلةٍ أرستقراطية غير معروفة لزوَّار الصيف.
قال جرانت: «سنذهب على طول الطريق ونعود على طول الشاطئ. لا بد أنهما سيخرجان في يومٍ مثلِ هذا.»
قالت: «أتمنى ألَّا يكونا في المنحدرات. لا أمانع في المشي، لكن الأمر سيستغرق حتى الغدِ لنزولها.»
«أعتقد أنه تم استبعاد المنحدرات. فالسيدة التي أهتمُّ بأمرها لا تحب المشي.»
«ما اسمها؟»
«لا، لن أخبرَكِ بذلك حتى أُقدِّمَك لها. من المفترض ألَّا تكوني قد سمعتِ عنها، وسيكون من الأفضل ألَّا تكوني قد سمعتِ عنها حقًّا.»
سارا في صمت على طول الطريق المشذب نحو هوليويل. كان كل شيء مشذبًا، مع هذا التنظيم المنسق جيدًا الذي هو من عادات إيستبورن. حتى البحر كان في حالة جيدة، ومخصوصًا بعض الشيء. وكان جرف بيتشي هيد يتمتَّع بأجواء الوجود هناك كدليل على نهايةٍ جيدة للطريق، والإدراك التام للحقيقة. لم يمشيا أكثر من ١٠ دقائق عندما قال جرانت: «سنذهب إلى الشاطئ الآن. أنا شبهُ متأكد من أننا مررنا بالزوجين اللذين أريدهما منذ قليل. إنهما على الحصى.»
غادرا الرصيف وبدَآ في نزهة بطيئة منزلقَين بأقدامهما للعودة إلى الأرصفة الممتدَّة على البحر مرة أخرى. بعد قليل اقتربا من امرأتين كانتا متكئتين على كرسيَّين قابلين للطيِّ في مواجهة البحر. واحدة منهما، الأرفع، كانت ضامةً ذراعَيها وساقَيها وظهرها إلى الآنسة دينمونت والمفتش، ويبدو أنها كانت تقرأ. وكانت الأخرى مغطَّاة بالمجلات، ودفتر الكتابة، ومِظلة الشمس، وجميع الأدوات الأخرى المعروفة إلى وقتِ ما بعد الظهر على الشاطئ، لكنها لم تكن تفعل شيئًا وبدَت وكأنها نصف نائمة. عندما وصلا بجانب الكرسيَّين، ترك المفتشُ نظراته تسقط عليهما بشكل عرَضي ثم توقف.
قال: «يا إلهي السيدة راتكليف! هل أنت هنا تتعافَين؟ يا له من طقس رائع!»
رحَّبَت به السيدة راتكليف بعد نظرة مندهشة. «هل تتذكر أختي، الآنسة ليثبريدج؟»
صافَحها جرانت وقال: «لا أعتقد أنك تعرفين ابنة عمي …»
لكن الآلهة كانت في صف جرانت في ذلك اليوم. فقبل أن يتمكن من إكمال جملته، قالت الآنسة ليثبريدج بطريقتها البطيئة اللطيفة:
«يا إلهي، أليست هذه داندي دينمونت! كيف حالك عزيزتي؟»
سأل جرانت، وهو يشعر وكأنه رجلٌ فتح عينيه ليجدَ أن خطوة أخرى كانت ستأخذه إلى الهاوية: «هل تعرف كلٌّ منكما الأخرى، إذن؟».
قالت الآنسة ليثبريدج: «بالطبع! كان لديَّ التهاب الزائدة الدودية في غرفةٍ في مستشفى سانت مايكلز، وكانت داندي دينمونت تمسك رأسي ويدي بالتناوب. كانت تحملهما جيدًا، حقًّا فعَلَت. صافحي الآنسة دينمونت، ميج. أختي، السيدة راتكليف. من كان يظن أن لديكِ أبناءَ عمومة في الشرطة!»
قالت السيدة راتكليف: «أعتقد أنك تتعافى أيضًا، أيها المفتش؟».
قال المفتش: «أعتقد أنك يمكنك أن تعتبريها هكذا. فابنة عمي في إجازة من المستشفى، وقد أنهيتُ قضيتي، لذلك نحن نقضي يومًا هنا.»
قالت الآنسة ليثبريدج: «حسنًا، لم يحن وقتُ الشاي بعد. اجلسا وتحدثا إلينا قليلًا. لم أرَ داندي منذ زمن طويل.»
قالت أختها وهي تستريح على الحصى: «أعتقد أنك سعيد بالتخلص من هذه القضية المروعة، أيها المفتش.» تحدثَت كما لو أن جريمة القتل كانت مجرد حدث في حياة جرانت كما كانت في حياتها، لكن المفتش ترك الأمرَ يمر، وبعد قليلٍ انحرف الحديث بعيدًا عن جريمة القتل وانتقل من الصحة، والمطاعم، والفنادق، والطعام إلى الملابس، أو نقصها.
قالت الآنسة دينمونت بتكاسلٍ لصديقتها: «يُعجبني بروش قبعتك. لا يمكنني التفكير في شيء سوى بروش القبعة بعد ظُهر هذا اليوم؛ لأننا كنا نشتري واحدًا لابنة عمٍّ مشترَكةٍ ستتزوَّج. كما تعلمين — مثل الحصول على معطف جديد ورؤية معاطف الناس كما لم تريها من قبل. إنه هنا في مكان ما.» مدَّت يدها إلى حقيبتها دون تغيير وضعية الاستلقاء، وبحثت فيها حتى أخرجَت الصندوق القطيفة الأزرق. «ما رأيك؟» فتحته وقدمته لهما.
قالت الآنسة ليثبريدج: «جميل!»، لكن السيدة راتكليف لم تقل شيئًا لبعض الوقت.
قالت أخيرًا: «إم آر. يا إلهي، الأحرف الأولى هي نفس الأحرف الأولى من اسمي. ما اسم ابنة عمك؟»
«ماري ريموند.»
علقت الآنسة ليثبريدج: «تبدو كأنها بطلةٌ فاضلة في كتاب. هل هي فاضلة؟»
«لا، ليس على وجه الخصوص، على الرغم من أنها ستتزوج من شخص أخرق فظيع. هل يعجبك إذن؟»
قالت الآنسة ليثبريدج: «بالطبع!»
قالت شقيقتها: «جميل! هل يمكنني إلقاء نظرة عليه؟» حملت العلبة في يدَيها، وفحصت البروش من الخلف والأمام، وأعادته لها. قالت مرة أخرى: «جميل! وغير شائع. هل يمكنك الحصول عليه جاهزًا، إذا جاز التعبير؟»
هز جرانت رأسه هزةً بسيطة إجابة على طلب الآنسة دينمونت للمساعدة. قالت: «لا، لقد طلبنا أن يُصنَع خِصِّيصى.»
«حسنًا، يا لها من محظوظة، ماري ريموند! وإذا لم يعجبها، فإن ذوقها سيئ للغاية.»
قال جرانت: «أوه، إذا لم يعجبها، فبإمكانها فقط أن تكذب وتقول إنه يعجبها، ولن نعرف الحقيقة أبدًا. فجميع النساء خبيراتٌ في الكذب.»
قالت الآنسة ليثبريدج: «حقًّا! يا لك من مخلوق مسكين خائب الأمل!»
«حسنًا، أليس هذا صحيحًا؟ فحياتك الاجتماعية هي سلسلةٌ طويلة من الأكاذيب. أنت آسفة جدًّا … لست في المنزل … كنت ستأتين، لكن … كنت تتمنَّين أن يبقى أحدُهم مدةً أطول. إذا كنتِ لا تكذبين على أصدقائك، فأنت تكذبين على خادماتك.»
قالت السيدة راتكليف: «قد أكذب على أصدقائي، لكنني بالتأكيد لا أكذب على خادماتي!»
قال جرانت، وهو يستدير بكسلٍ لينظر إليها: «حقًّا؟». لا أحد، عندما يراه هناك وقبَّعتُه مائلةٌ فوق عينيه وجسدُه مُسترخٍ، كان سيقول إن المفتش جرانت كان في الخدمة. «كنتِ ذاهبة إلى الولايات المتحدة في اليوم الذي يلي جريمةَ القتل، أليس كذلك؟» أومأتْ بهدوء. «حسنًا، لماذا أخبرتِ خادمتَكِ أنك ذاهبةٌ إلى يوركشاير؟»
تحركَت السيدة راتكليف لتجلس منتصِبةً ثم استرخَتْ مرةً أخرى. «لا أعرف ما الذي تتحدث عنه. بالتأكيد لم أخبر خادمتي مطلقًا أنني ذاهبة إلى يوركشاير. قلت نيويورك.»
كان ذلك واردًا بشدة لدرجة أن جرانت سارع إلى التحدث أولًا بالقول: «حسنًا، إنها تعتقد أنك قلتِ يوركشاير» قبل أن تقول السيدة راتكليف لا محالة: «كيف تعرف؟».
قال: «ليس هناك أي شيء لا يعرفه مفتش الشرطة.»
قالت غاضبةً: «تقصد أنه لا يوجد شيء لن يفعله. هل خرجتَ مع آني؟ لا ينبغي أن أُفاجَأ إذا شكَكتَ في أنني ارتكبتُ جريمة القتل بنفسي.»
قال جرانت: «لا عجب في ذلك. فالمفتشون يشتبهون في كل العالم.»
«حسنًا، أعتقد أنه لا يسَعُني إلا أن أشعر بالامتنان لأن شكوكَك لم تؤدِّ إلى شيء أسوأ من الخروج مع خادمتي.»
رأى جرانت نظرة الآنسة دينمونت إليه من تحت الحافة القصيرة لقبعتها، وكان هناك تعبيرٌ جديد فيهما. لقد كشَفَت المحادثةُ عن حقيقة أن السيدة راتكليف كان لها علاقة بجريمة القتل في صف الانتظار، وكانت الآنسة دينمونت تُفكر بغضب. ابتسم لها جرانت مطمئنًا. وقال: «إنهم لا يعتقدون أن معرفتي أمرٌ جيد. ولكن على الأقل يمكنك تأييدي. فالعدالة هي الشيء الذي أعيش من أجله.» من المؤكد أنها ستفهم، إذا فكَّرت في الأمر، أن استفساراته في هذا الاتجاه لا يمكن أن تُدين لامونت. يجب أن تكون الفرص في الاتجاه المعاكس.
قالت الآنسة ليثبريدج: «لنذهب ونشرب الشاي. تعالَيَا إلى فندقنا. أم نذهب لمكان آخر يا ميج؟ لقد سئمتُ من شطائر الأنشوجة وكعكة الكشمش.»
اقترح جرانت متجرًا للشاي يشتهر بالكعك، وبدأ في تجميع ممتلكات السيدة راتكليف المتناثرة معها. وأثناء قيامه بذلك، ترك دفتر الكتابة يسقط بحيث ينفتحُ على الرمل، وكانت الورقة الأولى تعرض خطابًا غير كامل. حدَّقَت في ضوء الشمس الساطع في الأحرف الكبيرة المستديرة لخط يد السيدة راتكليف. قال: «آسف!» وأعاد الدفتر إلى كومة الأوراق والمجلات.
قد يكون الشايُ ناجحًا فيما يخص المذاق الطيب، ولكن كمناسبة اجتماعية شعر جرانت أنه فشل فشلًا ذريعًا. كانت اثنتان من رفيقاته الثلاث تنظران إليه بارتيابٍ لا يمكن أن يفشل في الشعور به، والثالثة — الآنسة ليثبريدج — كانت مُصرَّةً بمرحٍ على التظاهر بأنها لم تكن على علمٍ بتقلُّب مِزاج أختها لدرجة أنها اعترفَت ضِمنيًّا بإدراكها التوتر. عندما غادر كلٌّ منهما، وكان جرانت ورفيقته في طريقهما إلى المحطة في ضوء النهار المتلاشي، قال: «لقد كنت شخصًا جيدًا يمكن الاعتماد عليه، آنسة دينمونت. لن أنسى ذلك أبدًا.» لكنها لم تُجب. كانت هادئةً للغاية في طريق العودة لدرجة أن أفكاره المستاءة بالفعل كانت مشتَّتةً أكثر. لماذا لا تثق به الفتاة؟ هل اعتقدت أنه شخص رهيب يستغلُّها بلا ضمير كما كانت تشك. وطَوال الوقت كان نصفه المُشاهِد يبتسم بسخرية ويقول: «أنت، مفتش شرطة، تطلب الثقة! كان مكيافيلي شديدَ الحساسية مقارنةً برجل يعمل في إدارة التحقيقات الجنائية.»
عندما كان جرانت في حالة حرب مع نفسه، ظهرت ابتسامةُ استنكار على فمه، وكانت الابتسامة ملحوظة جدًّا الليلة. لم يجد إجابة واحدة محددة للمشكلات التي أزعجَته. لم يعرف ما إذا كانت السيدة راتكليف قد تعرفت على البروش أم لا. لم يعرف ما إذا كانت قد قالت نيويورك لخادمتها أم لا وعلى الرغم من أنه رأى خط يدها، فإن ذلك لم يساعد في التوصل إلى نتيجة؛ فنسبةٌ كبيرة من النساء يكتبن بخطٍّ كبير ومستدير للغاية. وقد يكون صمتها عند رؤية البروش مجردَ صمت أثناء قراءتها للأحرف الأولى المتشابكة. قد تكون أسئلتها غيرُ الواضحة عن أصله بريئةً تمامًا. ومن ناحية أخرى، قد لا تكون كذلك قطعًا. إذا كان لها أي علاقة بجريمة القتل، فيجب الاعتراف بأنها كانت ذكيةً ومن غير المرجح أن تكشف عن نفسها. لقد خدَعَته بالفعل مرةً عندما طرَدها ببساطةٍ من عقله في اليوم الأول من التحقيقات. لم يكن هناك ما يمنعها من الاستمرار في خداعه إلا إذا وجَد حقيقة دامغة لا يمكن التهرب منها.
سأل الآنسة دينمونت: «ما رأيك في السيدة راتكليف؟». كانا وحدهما في المقصورة باستثناء مُزارع ريفي وفتاته.
سألت: «لماذا؟ هل هذه مجرد محادثة أم مزيدٌ من التحقيقات؟»
«آنسة دينمونت، هل هناك ما يُضايقك مني؟»
قالت: «لا أعتقد أن هذا هو التعبير الصحيح لما أشعر به. لا أشعر أنني حمقاءُ في كثير من الأحيان، لكنني شعرت بذلك الليلة.» وفزع من مرارة صوتها.
قال وهو حزينٌ حقًّا: «لكن ليس هناك أدنى حاجة إلى ذلك. لقد أنجزتِ المهمة باحتراف، ولم يكن هناك شيء فيها يجعلكِ تشعرين بذلك. أنا أعارضُ شيئًا لا أفهمه، وأردتُ منكِ مساعدتي. هذا كل شيء. لهذا السبب سألتُك عن السيدة راتكليف للتو. أريد رأيًا نسائيًّا يُساعدني — رأي امرأة غير متحيز.»
«حسنًا، إذا كنتَ تريد رأيي الصريح، فإنني أعتقد أن المرأة حمقاء.»
«أوه؟ ألا تعتقدين أنها ماكرة، في قرارة نفسها؟»
«لا أعتقد أنها كذلك.»
«هل تعتقدين أنها مجردُ إنسانة سطحية؟ لكن بالتأكيد …» سكتَ مفكرًا.
«حسنًا، لقد سألتَني عن رأيي، وقلتُه لك. أعتقد أنها حمقاء سطحية.»
سأل جرانت، رغم أن ذلك لا علاقة له بالتحقيقات: «وماذا عن أختها؟».
«أوه، إنها مختلفة. لديها قدرٌ من العقل والشخصية، على الرغم من أنك قد لا تعتقد ذلك.»
«هل تعتقدين أن السيدة راتكليف قد ترتكب جريمة قتل؟»
«لا، بالطبع لا!»
«ولم لا؟»
قالت الآنسة دينمونت بأناقة: «لأنها لا تملك الشجاعة لفعل ذلك. قد تفعل ذلك في نوبةِ غضب، لكن العالم بأسره سيعرف في الدقيقة التالية، وبعد ذلك ما دامت على قيد الحياة.»
«هل تعتقدين أنها قد تعرف شخصًا ما وتحتفظ بالمعرفة لنفسها؟»
«هل تقصد معرفتَها للجاني؟»
«نعم.»
جلسَت الآنسة دينمونت تنظر بتمعُّن إلى وجه المفتش الجامد. وتحركت أضواء مصابيح المحطة ببطءٍ فوقه ومرَّت عليه حيث قلَّل القطارُ سرعته ليتوقَّف. وصاح الحمَّال، ماشيًا بخطوات ثقيلة على الرصيف المهجور: «إيريدج! إيريدج!» تلاشى الصوت غير المتوقع في الفراغ، وتحرك القطار مرة أخرى قبل أن تتكلم.
قالت بيأسٍ: «أتمنى أن أتمكن من قراءة ما تُفكر فيه. هل تستهزئ بي للمرة الثانية في يوم واحد؟»
«آنسة دينمونت، صدِّقيني، حتى الآن أنا لم أستهزئ بكِ قطُّ، وأُراهن بشدة على أنني لن أفعل ذلك أبدًا.»
قالت: «قد يكون ذلك مفيدًا للسيدة راتكليف. لكن دعني أقُل لك شيئًا. أعتقد أنها قد تظل صامتة بشأن جريمة القتل، لكن يجب أن يكون هناك سببٌ يهمها بشكل كبير. هذا كل شيء.»
لم يكن متأكدًا ممَّا إذا كانت الكلمتان الأخيرتان تعنيان أن هذا هو كلُّ ما يمكن أن تُخبره به، أو ما إذا كان ذلك مؤشرًا على توقف الأسئلة؛ لكنها أعطته مادةً للتفكير، وظل صامتًا حتى وصلا إلى فيكتوريا. سأل: «أين تعيشين؟ ليس في المستشفى؟»
«لا، أنا أقيم في شقةٍ في كافنديش سكوير.»
رافَقها إلى هناك رغمًا عن رغبتها، وتمنى لها ليلةً سعيدة على عتبة الباب؛ لأنها لن تقتنعَ بتناول العشاء معه.
قال بحسنِ نية: «لا يزال لديكِ بعض أيام العطلة. كيف ستقضينها؟»
«في المقام الأول، سأذهب لزيارة خالتي. لقد توصلتُ إلى استنتاج مفاده أن الشرور التي يعرفها المرء أقلُّ فظاعةً من الشرور التي لا يعرفها.»
لكن المفتش التقطَ بَريقَ ضوء القاعة على أسنانها، ورحل وقد قلَّ شعوره بأنه شهيدٌ للظلم مما كان عليه منذ بضع ساعات.