داني ميلر
فتح جرانت عينَيه ونظر إلى سقف غرفة نومه متأملًا. في الدقائق القليلة الماضية، كان يقِظًا من الناحية الفنية، لكن عقله، الذي كان لا يزال مُشوَّشًا من تأثير النوم ويَعي برودةَ الصباح البغيضة، منعَه من التفكير. ولكن على الرغم من أن جزء التفكير منه لم يكن قد تيقَّظ بعد، فقد ازداد إدراكًا لعدم ارتياحه العقلي. شيء مزعج كان بانتظاره. شيء مزعجٌ للغاية. بدَّدَت القناعةُ المتزايدة نُعاسَه، وفُتحت عيناه على السقف المجْدولِ بأشعة الشمس المبكِّرة وظلال شجرةٍ من أشجار الدُّلْب؛ وعلى إدراك الإزعاج. تلك كانت صبيحةَ اليوم الثالث من تحقيقاته، يوم الاستجواب، ولم يكن لديه ما يعرضه على الطبيب الشرعي. لم يكن لديه حتى أثرٌ ليتعقَّبَه.
عادت أفكارُه إلى أمس. في الصباح، كان الرجل الميت لا يزال مجهولَ الهُوية؛ لذا أعطى ويليامز ربْطةَ عنقه، حيث كانت أحدثَ وأكثر شيء شخصي له، وأرسله للبحث بدقةٍ في لندن. اشتُريت ربطة العنق، مثل بقية ملابس الرجل، من فرع شركةٍ متعددة الفروع، وكان هناك أملٌ ضئيل في أن يتذكر أيُّ مساعد متجر الشخص الذي باع ربطة العنق له. وحتى لو فعل ذلك، لم يكن هناك ما يضمن أن الرجل الذي تذكَّره هو رجُلُهم. لا بد أن فيث بروذرز قد باعوا العديد من ربطات العنق بالنمط ذاتِه في لندن وحدها. ولكن كانت هناك دائمًا تلك الفرصةُ الغريبة الأخيرة، وكان جرانت قد رأى الكثيرَ من الفرص الغريبة غير المتوقعة بحيث لا يُهمِل أيَّ طريق للاستكشاف. عندما كان ويليامز يغادر الغرفة خطَرَت له فكرة. وكان أولُ ما خطر بباله أن الرجل كان بائعًا في شركة ملابس. ربما لم يشترِ أغراضه من متجر. ربما كان يعمل لدى فيث بروذرز. قال لويليامز: «اكتشِفْ ما إذا وظَّف أيُّ فرع من الفروع مؤخرًا أيَّ شخص يُطابق وصف القتيل. إذا رأيت أو سمعت أي شيء مثير للاهتمام على الإطلاق — سواءٌ كنت تعتقد أنه مهم أو لا — فأعلِمْني به.»
بعدما تُرك بمفرده، تصفَّح صحافة الصباح. لم يُزعج نفسه بالروايات المختلفة لجريمة القتل التي وقعَت في الصف، ولكنه فحص بقية الأخبار بعناية؛ بدْءًا بعمود الرسائل الشخصية. ومع ذلك، لم يُجب أيٌّ منها عن تساؤلاته. وتسبَّبَت صورةٌ له بعُنوان «المفتش جرانت، المسئول عن التحقيقات الخاصة بجريمة القتل الواقعة في الصف»، في تجهُّمه. وقال بصوتٍ عالٍ: «حمقى!» ثم شرع بعد ذلك في تجميع ودراسة قائمة بالأشخاص المفقودين مرسَلة من جميع مراكز الشرطة في بريطانيا. فُقد خمسة شبَّان من أماكن مختلفة، وربما تتطابق أوصافُ أحدهم، الذي فُقد من بلدةٍ صغيرة بدورهام، مع أوصاف القتيل. وبعد انتظار طويل، نجح جرانت في التحدُّث عبر الهاتف إلى شرطة دورهام، فقط لمعرفة أن الرجل المفقود كان في الأصل عاملَ مَنجم وكان، في رأي مفتش مركز شرطة دورهام، رجلًا قويًّا. ولا ينطبق وصف «عامل منجم» ولا «رجل قوي» على الرجل الميت.
كان الوقت المتبقِّي من الصباح مليئًا بالأعمال الروتينية — تسوية الأمور الخاصة بالاستجواب والإجراءات الشكلية الضرورية. بحلول وقت تناول الغَداء، اتصل به ويليامز هاتفيًّا من أكبر فرع لفيث بروذرز في شارع ستراند. كان قد قضى صباحًا حافلًا ولكن دون جَدْوى. لم يتذكَّر أحدٌ مثلَ هذا المشتري فحسب، بل لم يتذكر أحدٌ حتى بيع ربطة عنق مثلِ هذه. لم تكن ربطةُ العنق هذه واحدةً من المجموعة المتوفرة في متاجرهم مؤخرًا. وقد جعله ذلك يرغب في الحصول على مزيدٍ من المعلومات حول ربطة العنق ذاتِها، وذهب إلى المقر الرئيسي وطلب مقابلةَ المدير، الذي شرح له الموقف. اقترح المديرُ الآن أنه إذا سلَّمه المفتش ربطة العنق بعضَ الوقت، فسيُرسلها إلى مصنعهم في نورثوود، حيث يمكن إعدادُ قائمة بوجهة جميع شحنات ربطات العنق هذه خلال العام الماضي، على سبيل المثال. سعى ويليامز الآن للحصول على إذنٍ لتسليم ربطة العنق إلى المدير.
وافق جرانت على تصرُّفه، وعلى الرغم من أنه كان يُثني داخليًّا على الفطرة السليمة لدى ويليامز — حيث كان الكثيرُ من الرقباء سيتجوَّلون في لندن؛ لأن هذا ما قيل لهم وهذا واجبُهم — لم يكن متفائلًا كثيرًا بسبب كثرة فروع فيث بروذرز في جميع أنحاء اسكتلندا وإنجلترا. ومع ذلك، تقلَّصَت الاحتمالات قليلًا عندما جاء ويليامز بشرحٍ أوفى. يبدو أن ربطات العنق من هذا القبيل كانت تُباع في عُلبة بها ستُّ ربطات عنق، كل ربطة في العلبة بلونٍ مختلف على الرغم من أنها عادةً ما تكون بنمط الألوان ذاتِه. كان من غير المحتمل أن يكون قد أُرسل أكثرُ من ربطة عنق واحدة، أو اثنتين على الأكثر، من اللون ذاتِه للعيِّنة الخاصة بهم إلى أيِّ فرع. لذلك كان هناك أملٌ أكبر في أن يتذكر البائع العميل الذي اشتراها أكثر مما كان سيئول إليه الوضع لو كانت ربطة العنق مجردَ واحدة من علبةٍ كلُّها باللون ذاتِه. استمَع الجزءُ المحقِّق من جرانت باستحسان بينما ابتسم الجزء المُشاهِد على طلاقة الرقيب في مصطلحات المهنة. أضافت نصفُ ساعة مع مدير فيث بروذرز دررًا فنِّية مدهشة لكلمات الرقيب البسيطة المعتادة وعباراته. فقد تحدث بعفوية عن «الخطوط والموديلات المكرَّرة» وأشياء عميقة مماثلة، بحيث تجسَّد أمام جرانت في تليفزيون غريب صورةٌ حية للمدير ذاتِه. لكنه كان مُمتنًّا لويليامز وقال له ذلك. كان ذلك جزءًا من جمال جرانت؛ فهو لم ينسَ أن يُعبر عن سروره.
فيما بعد الظهر، وبعد أن فقدَ الأمل في معرفة أيِّ شيء آخر، أرسل الخنجر إلى المختبر لتحليله. وقال: «أخبرني بأي شيء تعثر عليه بشأنه»؛ وفي الليلة الماضية عندما غادر كان لا يزال ينتظر الرد. الآن مدَّ ذراعه في الهواء البارد وأمسك بالهاتف. وعندما حصل على الرقم الذي طلبه، قال:
«معك المفتش جرانت. هل هناك أيُّ تطورات؟»
لا، لم تكن هناك أي تطورات. شاهد شخصان الجثةَ الليلة الماضية — شخصان منفصلان — لكن لم يتعرَّفه أيٌّ منهما. نعم، أُخذت أسماؤهما وعناوينهما وهي موجودة الآن على مكتبه. كان هناك أيضًا تقريرٌ من المختبر.
قال جرانت: «جيد!»، وعلَّق سماعة الأذن على الخطاف، وقفز من فراشه؛ لقد تبدَّد إحساسه بحدوث أمر سيِّئ في ضوء صفاء ذهنه. أثناء حمامه البارد، كان يُصفر، وطوال الوقت الذي كان يرتدي فيه ملابسَه، كان يصفر، حتى قالت صاحبة المنزل لزوجِها، الذي كان يُغادر لِلَّحاق بحافلة الساعة الثامنة: «أعتقد أنه لن يمضيَ وقتٌ طويل حتى يُلقى القبض على ذلك الفوضويِّ الشنيع.» إن مصطلحَي «فوضوي» و«قاتل» كانا مترادفَين بالنسبة إلى السيدة فيلد. ربما لم يكن جرانت نفسُه ليَصوغها بتفاؤلٍ شديد هكذا، لكن فكرة ذلك الطرد المغلق المنتظر على مكتبه كانت بالنسبة إليه مثل كيس الألعاب لصبيٍّ صغير. قد يكون شيئًا لا أهمية له وقد يكون ذا قيمةٍ كبيرة. لاحظَ نظرة السيدة فيلد اللطيفة وهي تُعدُّ فطوره، وكان مثلَ طفل صغير عندما قال لها: «هذا يوم سَعدي، هل تعتقدين ذلك؟»
«لا أعرفُ شيئًا عن الحظ، سيد جرانت. لا أعرف إذا ما كنت أُومِن به. لكنني أومن بالعناية الإلهية. ولا أعتقد أن العناية الإلهية ستسمح لشابٍّ لطيف مثل هذا أن يُطعَن حتى الموت ولن تقدم المذنب إلى العدالة. ثِق في الرب، سيد جرانت.»
«وإذا كانت الأدلة ضعيفة للغاية، فإن الأمور بيد الربِّ وإدارة التحقيقات الجنائية»، أخطأ جرانت في الاقتباس منها وهجم على لحم الخنزير المقدَّد والبَيض. تباطأت لحظةً وهي تُراقبه، وهزَّت رأسها بلطفٍ ينتابهُ رِيبة، وتركته يتصفَّح الجرائد وهو يمضغ الطعام.
في طريقه إلى المدينة، شغَل نفسه بالتفكير في مشكلة عدم التعرُّف على هُوية الرجل، الأمر الذي كان سيصبح أكثرَ إثارةً للدهشة عما قريب. صحيحٌ أن لندن تتخلى كلَّ عام عن عدد قليل من الأشخاص الذين لا يُطالب بهم أحدٌ لمدة يوم أو اثنين ثم يختفون في قبور الفقراء. لكنهم جميعًا — إما كبارُ سنٍّ أو معدمون أو كِلاهما — حثالة المدينة، الذين ينبذهم أقاربُهم وأصدقاؤهم قبل وفاتهم بوقتٍ طويل؛ ولذا، عندما تأتي نهايتهم، لا يعرفون أي شخص قد يروي قصتَهم. في جميع تجارِب جرانت، لم يبقَ أحدٌ من هذا النوع من الموتى — الرجل الذي كان لديه دائرةُ معارفَ عادية إن لم يكن أكثر من ذلك — مجهول الهُوية. حتى لو كان قرَويًّا أو أجنبيًّا — ولم يعتقد جرانت أنه كذلك؛ فقد كان مظهر الرجل بأكمله قد أعلن عن أنه لندني — لا بد أن له مسكنًا في لندن أو بالقرب منها؛ فندقًا، أو غرفة مستأجرة، أو ناديًا، هو الآن متغيِّب عنه. ومن المؤكَّد أن مناشدات الصحافة بضرورة إبلاغ سكوتلانديارد بحقيقة الشخص المفقود دون تأخير حتمًا ستدفع شخصًا ما للإبلاغ عنه.
إذن، بالتسليم بأن الرجل كان من سكان لندن — كما آمنَ جرانت بشدة — لماذا لم يحضر أهله أو مالكُ العقار؟ من الواضح، إما لأن لديهم سببًا للاعتقاد بأن الرجل الميت رجل حقير، أو لأنهم هم أنفسهم لا يرغبون في جذب انتباه الشرطة. هل هي عصابة؟ عصابة تتخلص من عضو غير مرغوب فيه؟ لكن العصابات لم تنتظر حتى يقفَ ضحيتهم في صفٍّ قبل الاستغناء عن خدماته. لقد كانوا يختارون طرقًا أكثرَ أمانًا.
إلا إذا — نعم، ربما كان ذلك عقابًا وتحذيرًا في آنٍ واحد. فالجريمة كانت تشتمل على العديد من الإيحاءات — السلاح، ضرب الضحية أثناء وجودها في مكانٍ من المفترض أن يكون آمنًا، التبجُّح الكامل بالجريمة. لقد قضى على المرتدِّ وأرهبَ الناجين في الوقت ذاتِه. وكلما فكَّر في هذا الأمر، بدا أنه تفسيرٌ معقول للغموض. لقد رفض فكرةَ الجماعة السرية وما زال يرفضها. فانتقام جماعةٍ سرِّية لن يمنع أصدقاء الرجل من الإبلاغ عن فقدانه والمطالبة به. لكن العضو المتخلِّف عن عصابة — كان ذلك شيئًا مختلفًا. في هذه الحالة، سيعرف جميع أصدقائه أو يُخمِّنون طريقة وفاته وسبَبَها، ولن يكون أيٌّ منهم غبيًّا بما يكفي للحضور.
عندما وصل جرانت إلى سكوتلانديارد، كان منشغلًا بالتفكير في مختلف عصابات لندن التي ازدهرَت في الوقت الحالي. وكانت عصابة داني ميلر هي العصابةَ المهيمنة، بلا شك، وكانت كذلك بعضَ الوقت. لقد مرَّت ثلاث سنوات منذ أن دخل داني مقرَّ الشرطة، ولو أنه لم يرتكب خطأً جسيمًا، لَطالت مدةُ عدم دخوله. لقد جاء داني من أمريكا بعد أن قضى عقوبته الثانية بتهمة السطو، وجلَب معه عقلًا ذكيًّا، وإيمانًا بالمنظومة وهو ما يُعَد شيئًا معتادًا لدى الأمريكيِّين — فاللصوص البريطانيون ذَوو طبيعة فردية — كما جلب معه احترامًا تامًّا لأساليب الشرطة البريطانية. كانت النتيجة أنه على الرغم من أن أتباعه يُخطئون من حينٍ لآخَر ويقضون عقوباتٍ قصيرةً بسبب إهمالهم، إلا أن داني كان حرًّا طليقًا وناجحًا — ناجحًا للغاية لدرجةٍ أعجبت بها إدارة التحقيقات الجنائية. الآن، كان يتمتع داني بكل القسوة التي يتعامل بها المحتال الأمريكي مع العدو. كان من عادته استخدام المسدس، لكنه لن يفكرَ في غرس خنجر في رجل أكثرَ مما يُفكر في ضرب الذبابة التي أزعجَته. فكَّر جرانت في دعوة داني ليأتيَ ويُقابله. في هذه الأثناء كان هناك الطرد على طاولته.
فتحَه بشغف وانتقل إلى الشيء البارز متخطيًا بفارغ الصبر النقاطَ غيرَ المهمة المملَّة إلى حدٍّ ما التي كانت في البداية — فقد كان بريثرتون من الجانب العِلمي يميل إلى أن يكون متعصبًا لرأيه مغرورًا؛ فإذا أرسلت له قطة شيرازي لكتابة تقريرٍ عنها، فسيملأ الورقةَ الأولى الفولسكاب بالإقرار بأن شعرها كان رماديًّا وليس مزيفًا. قال بريثرتون إن هناك بقعةَ دم فوق تقاطُع المقبض مع النصل لم تكن مثل الدم على النصل. كانت القاعدة التي وقف عليها القديس مجوَّفة ومكسورةً من جانبٍ واحد. كان الكسر مجردَ شرخ لم ينفرج، وكان بالكاد مرئيًّا بسبب بقعة الدم. ولكن عندما تم الضغط على السطح، رُفعت إحدى حواف الشرخ الخشن قليلًا فوق الأخرى. أثناء إمساك القاتل للأداة، انفرج الشرخ في المعدن بما يكفي لإصابة يده. سيُعاني الآن من جرح محزَّز في مكانٍ ما في سبابة اليد اليسرى من ناحية الإبهام، أو في الإبهام من ناحية السبابة.
يعتقد جرانت أن الأمور جيدةٌ حتى الآن، لكن لا يمكن للمرء أن يُغربل لندن بحثًا عن رجل أعسرَ بيدٍ مجروحة ويقبض عليه بسبب ذلك. أرسل بطلب ويليامز.
سأل: «هل تعرف أين يعيش داني ميلر الآن؟».
قال ويليامز: «لا يا سيدي، لكن باربر سيعرف. لقد جاء من نيوبري الليلة الماضية، وهو يعرف كلَّ شيء عن داني.»
«حسنًا، اذهب واعرِف منه. لا، من الأفضل أن ترسل لي باربر.»
عندما جاء باربر — رجل طويلٌ وبطيءٌ ذو ابتسامة هادئة ومضللة — كرَّر سؤاله.
قال باربر: «داني ميلر؟ نعم، لديه شقة في منزل في شارع آيمبر، بيمليكو.»
«أوه؟ لقد كان هادئًا جدًّا مؤخرًا، أليس كذلك؟»
«هذا ما فكرنا فيه، لكنني أعتقد أن سرقة الجواهر التي ينشغل بها ساكنو جوبريدج الآن هي مِن فعل داني.»
«اعتقدتُ أنه متخصص في سرقة البنوك.»
«نعم، لكن لديه «اهتمام» جديد. ربما يريد المال.»
«أفهم قصدك. هل تعرف رقم هاتفه؟»
كان باربر يعرف رقم هاتفه.
بعد ساعة، أُبلغ داني، الذي كان يأخذ حمَّامًا متأنيًا وشاملًا في الغرفة في شارع آيمبر، أن المفتش جرانت يريد بشدةٍ أن يُجرِيَ حديثًا قصيرًا معه في سكوتلانديارد.
فحصَت عينا داني الحذِرتان الرماديَّتان الشاحبتان شرطيَّ التحري بزيِّ المدني الذي نقل الرسالة. قال: «إذا كان يعتقد أن لديه أيَّ دليل إدانة لأحدهم، فعليه أن يراجع نفسه.»
لم يعتقد شرطيُّ التحري أن المفتش كان يريد منه شيئًا سوى بعضِ المعلومات.
«أوه! وفيم يُحقق المفتش حاليًّا؟»
لكن شرطي التحرِّي إما أنه لا يعرف وإما أنه لن يقول.
قال داني: «حسنًا. سأذهب في الحال.»
عندما قاده شرطيٌّ بدين إلى مكان جرانت، أشار داني، الذي كان صغيرًا ونحيفًا، إلى الشخص المغادر برجة رأس خلفية ورفع حاجبه بشكلٍ هزلي. قال: «نادرًا ما يتكبَّد أحدٌ عناء الإعلان عن حضوري.»
قال جرانت مبتسمًا: «لا، يتم الإعلان عن حضورك عادةً بعد مغادرتك، أليس كذلك؟»
«أنت ذكيٌّ أيها المفتش. لم يكن عليَّ أن أظن أنك بحاجةٍ إلى أي شخص ينشط ذاكرتك. أنت لا تعتقد أن لديك أيَّ دليل ضدي، أليس كذلك؟»
«لا على الإطلاق. اعتقدت أنك قد تكون مفيدًا لي بعض الشيء.»
«أنت بالتأكيد تجاملني.» كان من المستحيل معرفة متى يكون ميلر جادًّا أو خلاف ذلك.
«هل عرَفت من قبل رجلًا بمثل هذه الأوصاف؟» بينما كان يصفُ بالتفصيل الرجلَ المقتول، كانت عينا جرانت تفحصان داني، وكان دماغه مشغولًا بما تراه عيناه. القفَّازان. كيف يُمكنه إزالة القفاز عن يدِ داني اليسرى دون أن يطلبَ ذلك عمدًا؟
عندما وصل إلى نهاية وصفِه، الذي كان مفصَّلًا ويذكر حتى اعوجاجَ إصبَع القدَم للداخل، قال داني بأدبٍ: «إنه الرجل الذي قُتل في الصف. لا، أنا آسفٌ جدًّا لتخييب ظنك، أيها المفتش، لكنني لم أرَ الرجل قطُّ في حياتي.»
«حسنًا، أعتقد أنه ليس لديك أيُّ اعتراضات على المجيء معي وإلقاء نظرة عليه؟»
«ليس لديَّ أيُّ اعتراض إذا كان هذا سيُريح عقلك، أيها المفتش. سأفعل أي شيء تريده.»
وضع المفتش يده في جيبه وأخرجها مليئةً بالقطع النقدية، كما لو كان يتأكد من وجود فكة معه قبل الانطلاق. انزلقَت قطعةٌ قيمتها ستة بنسات من بين أصابعه وتدحرجَت بسرعة عبر السطح الأملس للطاولة باتجاه ميلر، واندفعت يدُ ميلر بشكلٍ مفاجئ حيث كانت القطعة النقدية على وشك السقوط من حافَةِ الطاولة على الأرض. تحسسها لحظةً بيده المغطَّاة بالقفاز ثم وضعها على الطاولة.
علَّق بصوته اللطيف المنخفض: «يا لها من أشياءَ تافهة». لكنه استخدم يده اليمنى ليُوقفها.
بينما كانا يقودان السيارة متجهَين إلى المشرحة، التفتَ إلى المفتش وهو يُطلق زفيرًا يكاد يكون غيرَ مسموع ويحل محلَّ ضحكه. قال: «أعتقد أنه إذا رآني أيٌّ من رفاقي الآن، فسيتَّجهون جميعًا نحو ساوثهامبتون في غضون خمس دقائق ولن ينتظروا حَزْم أمتعتهم.»
قال جرانت: «حسنًا، سنحزمُ أمتعتنا — في طريق العودة.»
«لقد تمكَّنتم منا جميعًا بهذه الطريقة، أليس كذلك؟ هل تُراهن على هذا؟ سأدفع لك خمسة دولارات لكل دولار — لا، جنيه — خمسة جنيهات لكل جُنيه إذا لم تقبض على أحدٍ منا لمدة عامين. ألن تقبل بذلك؟ حسنًا، أعتقد أنك حكيم.»
عندما رأى ميلر وجهًا لوجه جثةَ الرجل المقتول، لم تستطع عينا جرانت المتلهِّفتان أن تستشفَّا أي تعبير على هذا الوجه الصخري. تفقدَت عينا داني الرماديَّتان اللطيفتان ملامحَ الرجل الميت في لامبالاةٍ وقليل من الاهتمام. وكان جرانت يعلم بالتأكيد أنه حتى لو عرَف ميلر الرجل، فإن أمله في إيماءةٍ أو تعبير خائن كان عبثًا.
كان داني يقول: «لا لم أرَ الرجل في …» ثم توقَّف. كان هناك وقفةٌ طويلة. قال: «أعتقد أنني رأيته! أوه، يا إلهي، دعني أفكر! أين كان ذلك؟ أين كان ذلك؟ انتظر لحظة، وسوف أتذكَّر.» ضرَب وشمًا محمومًا على جبهته بكفِّه المغطَّاة بالقفاز. فكَّر جرانت فيما كان هذا تمثيلًا. يا له من تمثيلٍ جيد، لو كان الأمر كذلك. ولكن حينها لن يرتكبَ ميلر خطأَ التمثيل على نحوٍ سيِّئ. «أوه، يا إلهي، لا يمكنني التذكر! تحدثتُ معه أيضًا. لا أعتقد أنني عرَفت اسمه من قبل، لكنني متأكدٌ من أنني تحدثت معه.»
في النهاية، تخلى جرانت عن الأمر — فقد كان أمامه الاستجواب — لكنه كان أكثرَ مما فعل داني ميلر. كان لا يمكنه تحملُ حقيقة أن ذاكرتَه قد خانته والغضب يملأ عينَيه. ظل يقول: «لم يحدث قطُّ أن نسيتُ شخصًا. اللهم إلا بقدرِ ما تنسى «الثيران».»
قال جرانت: «حسنًا، يمكنك التفكير مَليًّا في الأمر والاتصالُ بي. في غضون ذلك، هلا تفعل شيئًا آخرَ من أجلي؟ … هلا تخلع قفَّازَيك؟»
ضاقت عينا داني فجأة. وقال: «ماذا يدور في بالك؟».
«حسنًا، ليس هناك أيُّ سبب يمنعك من خلعِهما، أليس كذلك؟»
قال داني غاضبًا: «كيف يمكنني معرفة ذلك؟»
قال جرانت بلُطف: «اسمع، لقد أردتُ مقامرةً قبل دقيقة. حسنًا، هاك واحدة. إذا خلعتَ قفازيك، فسأخبرك ما إذا كنت قد فزتَ أم لا.»
«وإذا خَسِرت؟»
«حسنًا، ليس لدي أيُّ مذكرة، كما تعلم.» وابتسم جرانت بكل بساطة في عينيه الثاقبتين اللتين كانتا تُحدقان به.
رفع داني جفنَيه. وعادت لامبالاتُه القديمة. وخلع قفازه الأيمن ومدَّ يده. نظر جرانت إليها وأومأ. ثم خلع قفازه الأيسرَ ومد يده، وأثناء فعله ذلك عادت يده اليمنى إلى جيب معطفه.
كانت اليد اليسرى المبسوطة أمام عينَي جرانت نظيفةً وخالية من الجروح.
قال جرانت: «لقد فزتَ يا ميلر. أنت ذو روح رياضية.» واختفى الانتفاخُ الطفيف في جيب معطف داني الأيمن.
قال جرانت وهما يغادران: «ستخبرني في اللحظة التي تتذكَّر فيها، أليس كذلك؟» ووعده ميلر.
قال: «لا تقلق. أنا لا أترك ذاكرتي تخونُني وتنجو بفعلتها.»
وشقَّ جرانت طريقه لتناول الغداء وإجراء الاستجواب.
بعد أن أنهى أعضاءُ هيئة المحلفين بسرعةٍ وباشمئزاز مهمةَ رؤية الجثة، استقرُّوا في أماكنهم مدركين أهميتَهم ومتصنِّعين التواضع، تلك الطريقة التي تنتمي إلى أولئك الذين بصددِ لُغز غامض. كان حُكمهم مؤكَّدًا بالفعل؛ ومن ثَم لم يكونوا بحاجةٍ إلى القلق بشأن الأمور الصحيحة أو الخاطئة في القضية. كان بإمكانهم الانغماسُ بالكامل في المهمة الرائعة المتمثلة في سماع كلِّ شيء عن أكثرِ جرائم القتل شيوعًا اليوم من شِفاه شهود العيان. تفحَّصَهم جرانت بسخرية، وشكَر الآلهة على أنْ لا قضيته ولا حياته تعتمد على ذكائهم. ثم نسي أمرَهم وانغمس في كوميديا الشهود المضحكة. كان من الغريب مقارنةُ الأشياء المقيتة التي خرَجَت من شِفاههم بالكوميديا اللطيفة التي قدَّموها. لقد كان يعرفهم جيدًا الآن، وقد تصرَّفوا جميعًا بشكلٍ ممتع للغاية كما كان متوقعًا. كان هناك الشرطيُّ المناوب في طابور صفِّ وفينجتون، متأنقًا ولامعًا، تلمع جبهته المتعرِّقة قليلًا أكثر من أي شيء آخر؛ دقيقًا في تقريره وممتنًّا للغاية بدقته. وكان هناك جيمس راتكليف، صاحب المنزل النموذجي، الذي يكرهُ شعبيته غيرَ المتوقَّعة، ويتمرَّد على ارتباطه بمثلِ هذه القضية البغيضة، لكنه مُصِرٌّ على أداء واجبه كمواطن. لقد كان من أكثر الحلفاء فائدةً للقانون، وقد أدرك المفتش الحقيقة وحيَّاه بداخله على الرغم من حقيقة أنه لم يكن مفيدًا. قال إن الانتظار في الصفوف يُصيبه بالملل، وما دام الضوء جيدًا بما يكفي فإنه يقرأ حتى تُفتحَ الأبواب ويُصبح الضغط أكبرَ من أن يفعل أيَّ شيء سوى الوقوف.
وكانت هناك زوجتُه التي رآها المفتش آخر مرةً تبكي في غرفة نومها. كانت لا تزال تُمسك منديلًا، ومن الواضح أنها تتوقَّع أن يتم تشجيعها وتهدئتها بعد كل سؤالَين. وقد خضعت لاستجوابٍ أطولَ من أي استجوابٍ آخَر. فقد كانت هي التي وقفَت خلف القتيل مباشرة.
قال الطبيب الشرعي: «هل علينا أن نفهم، سيدتي، أنك وقفتِ على مقربةٍ من هذا الرجل لمدة ساعتين تقريبًا ومع ذلك لا تتذكَّرينه أو تتذكَّرين رفاقه، إن وُجدوا؟»
«لكنني لم أكن بجانبه طَوال ذلك الوقت! أقول لك إنني لم أرَه حتى سقط عند قدمَي.»
«إذن مَن كان أمامك معظم الوقت؟»
«لا أتذكَّر. أعتقد أنه كان صبيًّا … شابًّا.»
«وماذا حدث للشاب؟»
«لا أعرف.»
«هل رأيتِه يترك الصف؟»
«لا.»
«هل يمكنك أن تصفيه؟»
«نعم، كانت بشَرتُه داكنةً ذاتَ ملامح أجنبية، إلى حدٍّ ما.»
«هل كان بمفرده؟»
«لا أعرف. لا أعتقد ذلك، بطريقة أو بأخرى. أعتقد أنه كان يتحدث إلى شخص ما.»
«كيف لا تتذكرين بوضوحٍ أكبرَ ما حدث قبل ثلاث ليالٍ فقط؟»
قالت إن الصدمة أخرَجَت كل شيء من رأسها. وأضافت بعدما تحجَّر عمودها الفقري الجيلاتيني فجأةً بسبب ازدراء الطبيب الشرعي الواضح: «علاوةً على ذلك، في الصف، لا يُلاحظ المرء الأشخاصَ بجواره. كنت أنا وزوجي نقرأ معظمَ الوقت.» وانتابتها نوبةُ بكاء هستيري.
ثم كانت هناك المرأة البدينة، التي كانت تتألَّق بفستان من الساتان الأسود، وقد تعافت الآن من الصدمة والنفور اللذَين ظهَرا عليها في لحظة القتل المزدحِمة، وأصبحَت على أتم الاستعداد لسردِ روايتها. كان هناك رضًا لا يتزعزع عن دورها، يشعُّ من وجهها الأحمرِ الممتلئ وعينيها البُنِّيتين اللتين تُشبهان أزرار الأحذية. بدَت محبَطةً عندما شكرها الطبيب الشرعي وصرَفها في منتصف حديثها.
كان هناك رجلٌ قصير وديع، دقيق مثل الشرطي، لكنه مقتنعٌ بوضوح بأن الطبيب الشرعي لا يتمتَّع بالكثير من الذكاء. عندما قال ذلك الموظف الذي طالت مُعاناته: «نعم، كنت على علم بأنه عادةً ما يقف اثنان كلٌّ بجوار الآخَر في الصفوف»، سمحَت هيئة المحلَّفين لأنفسها بالضحك بصوتٍ منخفض وبدا الرجل القصير الوديع متألمًا. ونظرًا إلى أنه لا هو ولا الشهود الثلاثة الآخَرون من الصفِّ يمكنهم تذكر القتيل، أو إلقاء أيِّ ضوء على أي خروج من الصف، فقد صُرفوا بقليلٍ من الاهتمام.
أخبر الحارس، مشوشًا بسعادته لكونه مفيدًا للغاية، الطبيب الشرعي أنه رأى الرجل الميت من قبل — عدة مرات. وأنه قد جاء كثيرًا إلى وفينجتون. لكنه لم يكن يعرف شيئًا عنه. وكان دائما يرتدي ملابسَ أنيقة. لا، لم يستطع الحارس أن يتذكر أيَّ رفيق، رغم أنه كان على يقينٍ من أن الرجل لم يكن بمفرده عادة.
أحبَطَت جرانت أجواءُ العبث التي اتَّسم بها الاستجواب. رجلٌ لم يصرح أحدٌ بمعرفته، طعَنَه في ظهره شخصٌ لم يرَه أحد. كان أمرًا مثيرًا بحقٍّ. لا يوجد دليلٌ على القتل سوى الخنجر، وهذا لا يُخبرنا سوى أن الرجل أصيب بندبةٍ على أحد أصابعه أو إبهامه. ولا يوجد دليلٌ ضد الرجل المقتول سوى أن أحد موظَّفي فيث بروذرز ربما يكون قد عرَف الشخص الذي باع له ربطةَ عنق لونها بُني مصفرٌّ منقوشة ببقعٍ ورديةٍ باهتة. بعد صدور الحكم الحتميِّ الذين يُدين شخصًا أو أشخاصًا مجهولين بجريمة القتل، ذهب جرانت إلى هاتفٍ وفي ذهنه تدور روايةُ زوجة راتكليف عن الشابِّ الأجنبي. هل كان هذا الانطباعُ مِن نسج خيالها، خرج إلى الوجود بسببِ ما يوحي به الخنجر؟ أم أنه تأكيد حقيقي لنظريته الخاصة بالشامي؟ لم يكن الشابُّ الأجنبي الذي تحدثَت عنه السيدة راتكليف موجودًا عند اكتشاف جريمة القتل. لقد كان الشخصَ الذي اختفى من الصف، والشخصُ الذي اختفى من الصف قتَل الرجلَ الميت بكل تأكيد.
حسنًا، سوف يكتشف من سكوتلانديارد ما إذا كان هناك أيُّ شيء جديد، وإذا لم يكن فسيُقوِّي نفسه بالشاي. فقد كان في حاجةٍ إليه. فالارتشاف البطيء للشاي يُساعد على التفكير. وجد جرانت أن التفكير التأمليَّ في الأشياء أكثرُ إنتاجية، وليس عمليات الجدولة المؤلمة الخاصة بباركر، كبيرِ مفوضي الشرطة. كان مِن بين معارفه شاعرٌ وكاتبُ مقالات يحتسي الشايَ بوتيرة منتظمة في الوقت التي كان يُنتج فيه روائعه. وبالرغم من أن جهازه الهضميَّ كان في حالة مروعة، لكنه كان يتمتع بسُمعة طيبة للغاية بين الأدباء المعاصرين الأعلى مكانةً وشأنًا.