راءول ليجارد
سمع جرانت عبر الهاتف شيئًا أدَّى إلى إخراج كل الأفكار المتعلقة بالشاي من رأسه. كان بانتظاره رسالةٌ عُنوانها مكتوبٌ بالأحرف الكبيرة. عرَف جرانت جيدًا ما يعنيه ذلك. فلدى شرطة سكوتلانديارد خبرةٌ واسعة في الرسائل المعنوَنةِ بأحرفٍ كبيرة. ابتسمَ لنفسه وهو يُلوح لسيارة أجرة. يا ليت الناس تُدرك أن الكتابة بالأحرف الكبيرة لا تُخفي خطَّ اليد على الإطلاق! لكنه كان يأمُل بصدقٍ ألا يُدركوا ذلك أبدًا.
قبل أن يفتح الرسالة التي كانت في انتظاره نفَضَها بمسحوقٍ فوجدها مغطَّاة ببصمات الأصابع. قطع الجزء العُلوي برفق، ممسكًا بالرسالة، التي كانت سمينةً ورقيقة إلى حدٍّ ما، بملقط، وسحب رِزْمةَ نقود من بنك إنجلترا فئة خمسة الجنيهات ونصف ورقة من أوراق الملاحظات. وكُتِب على ورقة من أوراق المفكرة: «لدفن الرجل الذي عُثر عليه في الصف.»
كان هناك خمسُ ورقات. ٢٥ جنيهًا.
جلس جرانت وسرح بنظره. طَوال هذا الوقت في إدارة التحقيقات الجنائية لم يحدث شيءٌ غير متوقَّع أكثر من هذا. في مكانٍ ما في لندن الليلة كان هناك شخصٌ ما اهتم بالقتيل بما فيه الكفاية، وأنفق ٢٥ جنيهًا لإبعاده عن مقابر الفقراء، لكنه لم يُطالب به. هل كان هذا إثباتًا لنظريَّته في التخويف؟ أم أنه مالٌ دُفع لإراحة ضميره؟ هل كان لدى القاتل رغبةٌ متوهَّمة في فعلِ ما هو صوابٌ بجثة ضحيته؟ لا يعتقد جرانت ذلك. فالرجل الذي طعَن آخَرَ في ظهره لن يهتمَّ على الإطلاق بما يحدث للجثة. كان للرجل رفيقٌ أو رفيقة في لندن الليلة، بلَغَت قيمة اهتمامه ٢٥ جنيهًا.
استدعى جرانت ويليامز، وتناقشا معًا حول المظروف الأبيض البسيط الرخيص، والحروف الكبيرة القوية الواضحة.
قال جرانت: «حسنًا، ماذا تعرف؟»
قال ويليامز: «رجل. ليس ميسورَ الحال. غير معتاد على الكتابة كثيرًا. نظيف. يدخِّن. محبط.»
قال جرانت: «ممتاز! أنت لا تصلح للعبِ دور واطسون، ويليامز. فأنت تحظى بكلِّ المجد.»
ابتسم ويليامز، الذي كان يعرف كل شيء عن واطسون — ففي سنِّ الحادية عشرة، أمضى لحظاتٍ وهو يُطارَد في مخزن تبن في وستشاير وهو يحاول قراءةَ لغز «العصابة الرَّقْطاء» دون أن تكتشفَه الإدارة التي حظَرَته، وقال: «أتوقع أنك ستحصل على أكثرَ من هذا بكثير يا سيدي.»
لكن جرانت لم يفعل. «باستثناء عدم إتقانه للعمل. تخيل إرسال أيِّ شيء يسهل تتبُّعه مثل الأوراق النقدية الإنجليزية فئة خمسة الجنيهات!» نفخ المسحوقَ الناعم الخفيف على نصف الورقة، لكنه لم يجد بصماتِ أصابع. استدعى شرطيًّا وأرسل المظروف الثمين ورِزمة الأوراق النقدية لتصوير جميع بصمات الأصابع. وأرسل الورقة التي تحمل الرسالة المطبوعة إلى خبير الخطوط.
«حسنًا، لسوء الحظ البنوك مغلقةٌ الآن. هل أنت في عجلة من أمرك للعودة إلى زوجتك، ويليامز؟»
لا، لم يكن ويليامز في عجَلة من أمره. كانت زوجته وطفله في ساوثيند مع حماته لمدةِ أسبوع.
قال جرانت: «في هذه الحالة، سنتناول العشاء معًا ويمكنك أن تشرحَ لي بالتفصيل أفكارَك حول موضوع جرائم القتل في الصفوف.»
قبل ذلك ببضع سنوات، ورث جرانت إرثًا كبيرًا — إرثًا يكفي للسَّماح له بالتقاعد والتحوُّل إلى شخصٍ تافه كسول إذا كانت هذه هي رغبتَه. لكن جرانت أحبَّ عمله حتى عندما كان يسبُّ ويقول إنه مثل الحياة الصعبة التعيسة، وكان الإرث يُستخدَم فقط لتيسير الحياة وتجميلها حتى يتمَّ القضاءُ على ما يمكن أن يكون أماكنَ قاتمة، وجعل بعض الأماكن القاتمة في حياة الآخرين محتملة. كان هناك محلُّ بقال صغير في ضاحية جنوبية، مشرق مثل الجوهرة بسِلَعه المتنوعة، ويَدين بوجوده للإرث ومقابلة جرانت صدفةً لرجل يحمل بطاقةَ إطلاق سراح في أول صباح له خارج السجن. لقد كان جرانت مَن تسبَّب في «سجنه»، وكان جرانت من وفَّر وسيلةَ إعادة تأهيله. لذلك، فإنه بسبب الإرث وحده، كان جرانت يرتاد مكانًا حصريًّا للغاية لتناول الطعام مثل مطعم لورنس، كما أنه بفضل ذلك الإرث أصبحَ الشخصَ المفضل لكبير النوادل — وهي حقيقة أكثرُ إثارةً للدهشة والإعجاب. خمسة أشخاص فقط في أوروبا هم المفضَّلون لرئيس النوادل بلورنس، وكان جرانت مدركًا تمامًا لهذا الشرف وكان واعيًا تمامًا بالسبب.
التقى بهم مارسيل في منتصف الطريق المؤدي إلى الغرفة ذات اللونين الأخضر والذهبي، وعلى وجهه تعبيرٌ عن الحزن الشديد. لقد كان عابسًا لعدم وجود طاولةٍ تليق بالسيد. لم تكن هناك طاولات شاغرة على الإطلاق باستثناء واحدة في تلك الزاوية كانت غيرَ صالحة للاستخدام على الإطلاق. فالسيد لم يخبره أنه قادم. لقد كان عابسًا، وحزينًا حقًّا.
قَبِل جرانت بالطاولة دون تذمُّر. فقد كان جائعًا، ولم يهتمَّ بالمكان الذي يأكل فيه ما دام الطعام جيدًا، وباستثناء حقيقة أن الطاولة كانت خارج باب الخدمة مباشرة، لم يكن هناك أيُّ عيب آخَر بها. توارى البابُ خلف ستائرَ خضراء لمنع دخول الهواء، وأما الباب، فلكونه متأرجحًا، فقد جعل خشخشةَ الأواني مثل موسيقى خافتةٍ منبعثةٍ من صَنْج، تعلو بين الحين والآخَر في نغمةٍ صارخة مفاجئة عندما ينفتح البابُ على مِصراعَيه ثم ينغلق مرةً أخرى. أثناء العشاء، قرَّر جرانت أنه في الصباح يجب على ويليامز زيارةُ البنوك في المنطقة المشار إليها بالختم البريدي للرسالة، وباستخدام ذلك كأساس، يتتبع تاريخ الأوراق النقدية. لا ينبغي أن يكون الأمرُ صعبًا؛ فدائمًا ما كانت البنوك متعاونة. ومن هذا المنطلق بدَآ مناقشةَ الجريمة ذاتِها. كان رأي ويليامز أن الأمر يتعلَّق بعصابة، وأن القتيل قد وقَع في مشكلاتٍ مع عصابته، وكان يعلم خطورةَ الوضع؛ لذا استعار المسدسَ من العضو الوحيد الوَدود في الحشد، ولم تُتَح له الفرصةُ قطُّ لاستخدامه. والأموال التي وصلَت الليلةَ أتت من الشخص الودود سرًّا. كانت نظريةً جيدة بما فيه الكفاية، لكنها أهملَت أشياء.
«لماذا لم يكن هناك أيُّ علامات لتحديد هُويته، إذن؟»
قال ويليامز بمنطقٍ حماسي: «ربما هذه إحدى عادات العصابة. يصعب تحديد الهُوية حالَ الوقوع في الأَسْر.»
كانت تلك نظريةً محتملة، وكان جرانت صامتًا بعضَ الوقت، يفكر في الأمر. أصبح واعيًا مع تقديم الطبق الرئيسي، وشعر أن هناك من يُراقبه بفضل تلك الحاسة السادسة التي تطوَّرَت إلى فطنةٍ غير طبيعية نتيجةً لأربع سنوات على الجبهة الغربية والكثير من السنوات في إدارة التحقيقات الجنائية. كان جالسًا وظهرُه إلى الغرفة يكاد يُواجِه باب النوادل — ألقى نظرةً خاطفة عرَضًا على المِرآة، كابحًا الدافعَ للالتفات. لكن لا يبدو أن أحدًا أبدى أيَّ اهتمام به. واصل جرانت تناول الطعام، وفي غضون لحظةٍ أو اثنتين حاول مرةً أخرى. فرَغَت الغرفة بشكل كبير منذ وصولهما، وكان من السهل فحصُ مختلِفِ الأشخاص الذين يجلسون على مقربةٍ منهما. لكن المرآة لم تُظهر سوى مجموعة من الأشخاص المستغرقين في التفكير، يأكلون، ويشربون، ويُدخنون. ومع ذلك كان لدى جرانت هذا الشعورُ بأنه يخضع لفحصٍ دقيق طويل. لقد جعل ذلك الفحصُ المستمر غيرُ المرئيِّ جسدَه يَنْمَل. رفع عينَيه فوق رأس ويليامز إلى الستائر التي أخْفَت الباب. وهناك، في الفجوة بين الستائر، كانت العينان اللتان تُراقبانه. وكما لو كان قد أدرك انكشافَ أمره، اضطربت العينان واختفَتا، وواصل جرانت بهدوءٍ وجبتَه. كان يعتقد أنه نادلٌ فضولي للغاية. ربما يعرف مَن أنا، وأراد فقط أن يُحدق في أي شخص ذي صلةٍ بجريمةِ قتل. فقد عانى جرانت كثيرًا من المحدِّقين. لكن بعد وقت قصير، نظر إلى أعلى في منتصف حديثه، ووجد العينين تفحصانه مرةً أخرى. زاد الأمر عن الحد. وفي المقابل كان يُحدق ببلادة. لكن من الواضح أن صاحب العينَين كان لا يُدرك أنه كان مرئيًّا على الإطلاق لجرانت، وواصل مراقبته دون انقطاع. بين الحين والآخر، بينما كان النادل يأتي أو يذهب خلف الستائر، اختفت العينان، لكنهما كانتا تعودان دائمًا إلى تحديقِهما الخفي. كان يستولي على جرانت الرغبةُ في رؤية هذا الرجل الذي استحوذ على اهتمامه. قال لويليامز، الذي كان جالسًا أمام الستائر بما لا يتجاوز الياردة: «هناك شخصٌ في الجزء الخلفي من الستائر خلفَك يهتمُّ بنا على نحوٍ غير عادي. عندما أُطقطق أصابعي، ادفع بيمينِك للخلف وأزِح الستائر جانبًا. اجعَل الأمر يبدو وكأنه حادثٌ بقدرِ ما تستطيع.»
انتظر جرانت حتى هدَأَت حركةُ النادل قليلًا وكانت العينان ثابتتَين في التحديق، ثم بلطفٍ طقطق إصبعَه الوُسطى وإبهامه. وانطلقَت ذراع ويليامز القويَّة، واهتزَّت الستائرُ لحظةً وتداعَت إلى جنب. ولكن لم يكن أحدٌ هناك. فقط أظهَر التأرجحُ الهائج للباب المكانَ الذي خرج منه أحدُهم على عجَل.
اعتقدَ جرانت أن هذا يكفي، بينما كان ويليامز يعتذرُ عن حادث الستائر. لا يمكنك التعرفُ على زوجَين من العيون. أنهى عشاءه دون مزيدٍ من الانزعاج وعاد ماشيًا إلى سكوتلانديارد مع ويليامز، على أملِ أن تكون صورُ بصمات الأصابع على المظروف جاهزةً ليفحصها.
لم تأتِ أيُّ صور، ولكن كان هناك تقريرٌ عن ربطة العنق التي أُرسلت إلى مصنع فيث بروذرز في نورثوود. الشحنة الوحيدة من ذلك الطِّراز التي أُرسِلَت العام الماضيَ كانت عُلبة من ستِّ ربطات عنق بألوان مختلفة أُرسِلَت كطلبٍ متكرِّر بناءً على طلب فرعهم في نوتنجهام. أعادوا ربطة العنق وتمنَّوا أنه إذا كان من الممكن أن يكون لهم أيُّ فائدة أخرى، فبإمكان المفتش طلبُ ذلك.
قال جرانت: «إذا لم يظهر شيء مهم بين الآن والغد، فسوف أذهب إلى نوتنجهام أثناء إنجازك بالمهامِّ البنكية.»
بعد ذلك دخَل رجلٌ يحمل صورًا لبصمات الأصابع على المظروف، وأخذ جرانت من مكتبه صورَ البصمات الأخرى في القضية: بصمات أصابع القتيل والبصمات الموجودة على المسدس. وذكر التقرير أنه لم يُعثَر على شيءٍ على أيٍّ من الأوراق النقدية سوى بُقَع؛ لذا فحص جرانت والرقيب البصمات الموجودة على المظروف. ظهرَت مجموعة متنوِّعة من البصمات حيث تعاملَ العديدُ من الأشخاص مع المظروف منذ أن أرسَل الكاتب الرسالة. لكن بصمة السبَّابة على يمين لسان المظروف كانت واضحةً ومثالية دون أدنى شك، وكانت هي السبَّابةَ ذاتَها التي تركَت بصمتها على المسدس الذي عُثر عليه في جيب القتيل.
قال جرانت: «حسنًا، هذا يُناسب نظريتك عن الصديق الذي زوَّده بالسلاح، أليس كذلك؟».
لكن الرقيب أصدر صوتًا مخنوقًا واستمرَّ في النظر إلى البصمة.
«ما الأمر؟ إنها واضحةٌ كالشمس.»
نصَب الرقيبُ قامته ونظر إلى رئيسه بغرابة. «أقسم أنني لم أشرب أكثرَ من اللازم، يا سيدي. لكن إمَّا هذا أو أن نظام بصمات الأصابع بأكمله به خطْبٌ ما. انظر إلى ذلك!» أشار بإصبَعِه السبابة غير الثابتة إلى بصمةٍ في أقصى الزاوية اليُمنى السُّفلية، وأثناء قيامه بذلك، دفع بصمات القتيل، التي كانت بعيدةً قليلًا، أمام عينَي جرانت. ساد الصمتُ قليلًا بينما قارن المفتشُ البصماتِ وأثبت الرقيبُ رأيه السابق بتحفُّظ وقليلٍ من الخوف. لكن لم يكن هناك مفرٌّ من الحقيقة التي واجَهَتهما في الخطوط والثنيات التي لا تَقبل الجدل. كانت البصمةُ هي بصمةَ القتيل.
لقد كانت لحظةً أو اثنتين فقط قبل أن يُدرك جرانت الأهميةَ البسيطة لتلك الحقيقة المذهلة على ما يبدو.
قال دون تفكير: «ورقةُ ملاحظات مشتركة، بالطبع»، بينما سخر منه نصفُه المشاهد لأنه سمح لنفسه بأن يقَع ضحيةً ولو للحظة بسبب الدهشة الطفولية التي تغلَّبَت عليه. «نظريتك تزدهر، ويليامز. فالرجل الذي أعاره المسدسَ وأرسل المال عاش مع القتيل. ولما كان الأمر كذلك، فيمكنه بالطبع تلفيقُ أي قصة يُحبها لصاحبة منزله أو زوجته أو أيِّ شخص مهتم باختفاء صديقه الحميم.» رفع الهاتف من فوق مكتبه. «سنرى ما سيقوله خبراءُ الخطوط عما كُتب بالورقة.»
لكن خبراء الخطوط لم يكن لديهم ما يُضيفونه إلى ما يعرفه جرانت أو خمَّنه بالفعل. فقد كانت الورقة من النوع الشائع الذي يمكن شراؤه من بائعي أدوات الكتابة أو أكشاك الكتب. وكانت الكتابة لرجل. بالنظر إلى عيِّنة من خط يدِ المشتبَهِ به، من المحتمل أن يكونوا قادرين على تحديدِ ما إذا كان قد تمَّت الكتابة من قِبَله أم لا، ولكن حتى الآن لا يمكنهم تقديمُ المزيدِ من العون أكثر مما أُشير إليه بالفعل.
غادر ويليامز إلى منزله الخاوي مؤقتًا لتهدئةِ عقله المفتون بزوجته بتذكير نفسه بمَدى قِصَر الأسبوع، وكم ستبدو السيدةُ ويليامز جميلةً عندما تعود من ساوثيند؛ وبقي جرانت في مكانه، محاولًا تنويمَ الخنجر مِغناطيسيًّا ليرويَ قصته. كان يرقد على سطح مكتبه المصنوع من الجلد الأخضر الداكن، شيء رشيقٌ وشرير يُشبه اللعبة، طرَفُه الحادُّ بوحشيته النحيفة يتسبَّب في وجود تبايُنٍ غريب مع القديس المخادع على المقبض بوجهه السخيف الخالي من التعبيرات. تأمَّلَ جرانت سِمات القديس بسخرية. ما الذي قالته راي ماركابل؟ قد ترغب في الحصول على مباركةٍ لمُهمَّة بهذا الحجم. لذا اعتقدَ جرانت أنه سيختار قديسًا أكثرَ سلطةً من القديس غير المجدِّ الموجود على المقبض بما يمتلكه من علاقات الضابط المسئول. ذهبَت أفكاره إلى راي ماركابل. كانت صحافةُ هذا الصباح مليئةً برحيلها المتوقَّع إلى أمريكا، حيث عبَّرَت الصحف الشعبية في أسًى، والصحف الأكثرُ ثقافةً بمرارة واستياء أن المديرين البريطانيِّين سمحوا لأفضلِ نجمة لعروض الكوميديا الموسيقية في الجيل بمغادرة البلاد. تساءل جرانت عما إذا كان يجب أن يذهب إليها قبل أن تغادر ويسألها صراحةً لماذا بدَت متفاجئةً من وصف الخنجر؟ لم يكن هناك ما يربطها بالجريمة ولو من بعيد. كان يعرف تاريخها — الفيلا الصغيرة شِبهُ المنفصلة في إحدى الضواحي الكئيبة التي كانت تُطلق عليها الديار، والمدرسة الحكومية التي التحقَت بها، واسمها الحقيقي هو روزي ماركهام. حتى إنه التقى السيد والسيدة ماركهام بشأن مسألة الحقيبة. كان من غير المرجَّح للغاية أن تُلقيَ أي ضوء على جريمة القتل في الصف. وكان لا يزال من غير المرجح أن تفعل ذلك إن استطاعت. لقد أُتيحت لها فرصةُ أن تكون صريحةً معه عندما احتَسَيا الشاي في غرفة تبديل الملابس الخاصة بها، وقد أبقَتْه عن عمدٍ بعيدًا عن أي معلومة قد تكون لديها. هذه المعلومات، بالطبع، قد تكون بريئةً تمامًا. ربما كانت مفاجأتها ناتجةً عن التعرف على وصف الخنجر، ومع ذلك فلا علاقة لها بجريمة القتل. كان الخنجر بعيدًا عن كونه فريدًا من نوعه، ولا بد أن العديد من الأشخاص قد رأَوا أسلحةً مماثلة واستعمَلوها. لا، في كلتا الحالتين لم يكن من المرجح أن يشعر بمزيدٍ من الرضا من إجراء مقابلةٍ أخرى مع الآنسة ماركابل. كان عليها أن تُغادر إلى الولايات المتحدة دون استجواب.
بتنهيدةٍ ناجمة عن عدم الجدوى، حفظ الخنجر في دُرجه مرةً أخرى وانطلق إلى المنزل. خرج إلى الجسر ليجدَ أنها كانت ليلةً رائعة يكسوها ضبابٌ خفيف بارد في الهواء، وقرَّر أنه سيعود إلى المنزل ماشيًا. شوارع منتصف الليل في لندن — دائمًا ما تكون أجملَ بكثير وأقوى أثرًا في نفسه من شوارع النهار المزدحِمة المتقلِّبة. ففي الظهيرة، تقدم لك لندن هديةً ترفيهية غنية، ومتنوعة، ومُسلية. لكنها تُقدم لك في منتصف الليل هديةً تُعبر عن ذاتها؛ ففي منتصف الليل يمكنك سَماعُ أنفاسها.
عندما وصل أخيرًا إلى الشارع الذي كان يعيش فيه، كان قد وصل إلى مرحلة المشي تلقائيًّا، وكان الضباب المتلألئ بالنجوم قد سيطرَ على دماغه. لبعض الوقت، كان جرانت قد «أغمض عينيه». لكنه لم يكن نائمًا، فِعليًّا أو مَجازيًّا، وأولُ ما شَغل تفكيرَه عند فتحِ عينَيه جسمٌ معتم كان ينتظر في الزاوية المقابلة خارج ضوء المصباح. من كان يتسكَّع في هذه الساعة؟
فكَّر بسرعةٍ فيما إذا كان يجب أن يَعبر الشارع ويمشيَ على الجانب الآخر أم لا، ومن ثَم يكون على مسافةٍ كافية لفحص الجسم. لكن الوقت كان قد فات لتغيير اتجاهِه. واصل طريقَه، متجاهلًا ذلك المتسكِّع. لم ينظر إلى الوراء إلا عندما كان يدخل عند بوابته. كان الجسمُ لا يزال هناك، يكاد لا يمكن تمييزه في الظلام.
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة عندما سمَح لنفسه بالدخول بمفتاحه، لكن السيدة فيلد كانت تنتظرُه. «اعتقدتُ أنك قد ترغب في معرفة هل من رجلٍ جاء إلى هنا ليسأل عنك. لم ينتظر ولم يترك رسالة.»
«كم مضى على ذلك؟»
قالت السيدة فيلد أكثر من ساعة. لم ترَه بشكل صحيح. فقد وقف بالخارج وراء عتبة الباب. لكنه كان صغيرًا في السن.
«ألم يترك اسمه؟»
لا، رفض إعطاءَ اسم.
قال جرانت: «حسنًا. اذهَبي أنتِ إلى الفراش. وإذا عاد، فسوف أسمحُ له بالدخول.»
تردَّدَت في طريقها إلى المدخل. وقالت بقلق: «لن تفعلَ أيَّ شيء طائش، أليس كذلك؟ لا أحبُّ فكرة وجودك هنا بمفردك مع شخصٍ قد يكون فَوضويًّا حسَب علمنا.»
«لا تقلقي يا سيدة فيلد. لن يتم تفجير المنزل الليلة.»
قالت: «أنا لا أخشى تفجير المنزل. ما يَشغلني أنك قد ترقد هنا وتنزف حتى الموت دون أن يدريَ أحد. فكِّر في شعوري عندما آتي في الصباح وأجدُك هكذا.»
ضحك جرانت. «حسنًا، يمكنك أن تُريحي نفسك. ليس هناك أدنى فرصةٍ لحدوث أيِّ شيء مثير للغاية. لم يسبق لأحدٍ أنْ سفَك دمي على الإطلاق باستثناء جيري في كوتالميزو، وكان ذلك بسبب الحظ أكثرَ من التحكُّم الجيد.»
أذعنَت لوجهة نظره. وقالت مشيرةً إلى الطعام على المنضدة: «تناوَلْ بعضَ الطعام قبل أن تذهب إلى الفراش. أعددتُ لك بعض الطماطم الإنجليزية، وأفضل لحم بقري مملَّح لدى تومكينز.» قالت ليلة سعيدة وذهبَت، لكنها سمعَت طَرْقًا على الباب قبل أن تصلَ إلى مطبخها. سمعها جرانت وهي تذهبُ إلى الباب، وحتى حين كان دماغُه يتكهَّن بشأن زائرِه، كان الجزءُ المشاهد بداخله يتساءل عمَّا إذا كانت الشجاعة أم الفضول هو الذي أرسل السيدة فيلد عن طيبِ خاطر لإجابة الطارق. بعد لحظات، فتحَت باب غرفة الجلوس وقالت: «رجلٌ نبيل شابٌّ يودُّ رؤيتك، سيدي»، ودخل على جرانت المتلهف شابٌّ يبلغ من العمر ١٩ أو ٢٠ عامًا، طويل القامة إلى حدٍّ ما، داكن البشرة، عريض المنكبَين، لكنه نحيل، ويقف على قدمَيه مثل الملاكم. ألقى نظرةً خفيَّة، وهو يتقدم إلى الأمام، من عينَيه الداكنتَين اللامعتَين إلى الزاوية خلف الباب، وتوقفَ على بُعد عدة ياردات من المفتش في منتصف الغرفة، مقلبًا قبعةً ناعمة في يدَيه النحيفتَين اللتَين يُغطيهما القفَّازان.
سأل: «هل أنت المفتش جرانت؟».
أشار إليه جرانت للجلوس على كرسي، وبطريقة غيرِ إنجليزية تمامًا جلس الشاب عليه بجنب، وبدأ يتحدث وهو لا يزال ممسكًا بقبعته.
«رأيتك الليلة في مطعم لورنس. أنا أعمل في حجرة المؤن هناك. أنظف أدوات المائدة الفضِّية وأشياءَ من هذا القبيل. أخبَروني مَن أنت، وبعد القليل من التفكير، قرَّرتُ أن أخبرك بكل شيء.»
قال جرانت «فكرة جيدة جدًّا. أكمل. هل أنت إيطالي؟»
«لا، أنا فرنسي. اسمي راءول ليجارد.»
«حسنًا، أكمل.»
«كنتُ في الصف ليلةَ مقتل الرجل. كانت ليلةَ إجازتي. كنت أقفُ بجانب الرجل وقتًا طويلًا. داس على قدمي دون قصد، وبعد ذلك تحدثنا قليلًا — عن المسرحية. كنت أقف ناحيةَ الخارج وكان هو بجوار الحائط. ثم جاء رجلٌ ليتحدث معه ووقف أمامي. أراد الرجل الجديد شيئًا من الرجل الآخَر. بقي حتى فُتح الباب وتحرَّك الناس. كان غاضبًا من شيءٍ ما. لم يكونا يتشاجران — ليس كما نتشاجر — لكنني أعتقدُ أنهما كانا غاضبَين. عندما وقعَت جريمةُ القتل هرَبت. لم أرغب في التورُّط مع الشرطة. لكنني رأيتُك الليلة، وكنتَ تبدو لطيفًا؛ ولذا قررتُ أن أخبرك بكل شيء.»
«لماذا لم تأتِ إلى سكوتلانديارد وتخبرني؟»
«أنا لا أثقُ في الشرطة. إنهم يُهولون الأمور. وليس لديَّ أصدقاء في لندن.»
«عندما جاء الرجل ليتحدثَ إلى الرجل المقتول، ودفعك إلى الوراء، مَن كان واقفًا بينك وبين حائط المسرح؟»
«امرأة ترتدي فستانًا أسود.»
السيدة راتكليف. حتى الآن كان الصبيُّ يقول الحقيقة.
«هل يمكنك وصفُ الرجل الذي جاء وذهب مرةً أخرى؟»
«لم يكن طويل القامة. كان أقصرَ مني. كان يرتدي قبعةً مثل قبعتي، فقط لونها بُني غامق، ومعطفًا مثل معطفي» أشار إلى معطفه الضيِّق، خاصة من عند الخصر ذي اللون الأزرق الداكن «لكنه بُنيٌّ أيضًا. وكانت بشرته داكنةً جدًّا، دون شارب، وهذه بارزة.» لمس عظامَ خدَّيه وذقنه الجميل.
«هل ستعرفه إذا رأيته مرةً أخرى؟»
«نعم بالتأكيد.»
«هل يمكنك أن تُقسم على ما تقول؟»
«ماذا؟»
«أن تُقسِم على شهادتك.»
«نعم بالتأكيد.»
«ما الذي تشاجرَ بشأنه الرجلان؟»
«لا أعرف. لم أسمع. لم أكن أُصغي بشكل متعمَّد، وعلى الرغم من أنني أتحدث الإنجليزية، فإنني لا أفهم عندما يتحدث الناسُ بسرعة كبيرة. أعتقد أن الرجل الذي جاء أراد شيئًا لن يُعطيَه له القتيل.»
«عندما ابتعد الرجلُ عن الصف، كيف لم يرَه أحدٌ يذهب؟»
«لأنه في ذلك الوقت، كان الشرطيُّ يسير ويقول للناس «أفسِحوا الطريق».»
كان حديثه عفويًّا جدًّا. أخرج المفتش دفترَ ملاحظاته وقلمه الرصاص، ووضع القلمَ الرصاص على الصفحة المفتوحة، وقدمها إلى الزائر. «هل يُمكنك أن تُريَني كيف وقفتَ في الصف؟ ضَع علاماتٍ للأشخاص، واذكر أسماءهم.»
مدَّ الصبي يدَه اليسرى للدفتر، وأخذ قلم الرصاص بيمينه، ورسم رسمًا تخطيطيًّا ذكيًّا للغاية، غير مُدرِك أنه في تلك اللحظة أحبط محاولةَ الشرطة التي لا يثقُ بها لتهويل الأمور.
راقب جرانت وجهه الجادَّ المستغرِق في التفكير وفكَّر بسرعة. كان يقول الصدق، إذن. لقد كان هناك حتى سقط الرجل، وتحرَّك مع الآخرين بعيدًا عن مسرح الجريمة المرعبة، واستمرَّ في تحرُّكه حتى تمكَّن من الابتعاد عن خطر الوقوع تحت رحمة الشرطة الأجنبية. وقد رأى القاتل بالفعل وبإمكانه التعرُّف عليه مرةً أخرى. بدأت الأمور تتحرك.
استعاد الدفتر والقلم الرصاص اللذَين قدَّمَهما له الصبي، وبينما كان يرفع عينَيه بعدما فرَغ من تأمُّل الرسم التخطيطي، لاحظ العينَين الداكنتَين تنظران بشوقٍ إلى الطعام الموجودِ على الخِزانة. خطر له أن ليجارد ربما جاء مباشرةً من عمله لرؤيته.
قال: «حسنًا، أنا ممتنٌّ جدًّا لك. تناوَلْ بعض العشاء معي الآن، قبل أن تذهب.»
رفَض الصبيُّ بخجل، لكنه سمَح لنفسه أن يقتنع، وتناوَلا معًا وجبةً كبيرة من أفضل لحوم السيد تومكينز المملَّحة. تحدث ليجارد بحُرِّية عن أهله في ديجون — الأخت التي أرسلَت إليه جرائدَ فرنسية، والأب الذي لا يوافق على الجِعَة منذ أن أكل أحدُهم العنبَ وليس نباتات الجنجل؛ وعن حياته في مطعم لورنس وانطباعه عن لندن والإنجليز. وعندما سمح له جرانت بالخروج في النهاية إلى السكون الأسود للصباح الباكر، استدار على عتبة الباب وقال معتذرًا بسَذاجة: «أنا آسفٌ الآن لأنني لم أخبرك من قبل، لكنك تفهمُ كيف كان الأمر، أليس كذلك؟ الهروب في البداية جعل الأمرَ صعبًا. ولم أكن أعلم أن الشرطة كانت لطيفة جدًّا هكذا.»
صرَفه جرانت بتربيتةٍ وُدِّية على كتفه، قفل الباب، والتقط سماعة الهاتف. بعد إجراء الاتصال، قال: «معك المفتش جرانت. أرسل هذا إلى جميع المحطات: «مطلوب، فيما يتعلَّق بجريمة الصفِّ بلندن، رجلٌ أعسر، ٣٠ عامًا تقريبًا، طوله أقل من المتوسط، بشرته وشعره داكنان جدًّا، عظام الخدِّ والذقن بارزة، حليق الذقن. عندما شُوهد آخِرَ مرة كان يرتدي قبعةً بُنِّية لينة ومعطفًا بنيًّا ضيقًا. لديه ندبةٌ حديثة على السبابة اليسرى أو الإبهام».»
ثم ذهب إلى الفراش.