داني مرة أخرى
خرج جرانت من مارليبون إلى ضوء شمس الصباح، ونظَر من نافذة عربته وشعَر بتفاؤل أكثرَ مما كان لديه منذ أن أجرى أول مقابلة مع المسئولين في مركز شرطةِ جاو ستريت. لم يعد القاتلُ كائنًا أسطوريًّا. أصبح لديهم الآن وصفٌ كامل له، وقد يكون إلقاء القبض عليه مسألةَ وقت فقط. وربما بحلول هذه الليلة سيكون قد حدَّد هُوية القتيل. مدَّ ساقَيه في المقصورة الفارغة وترك الشمسَ تنزلق ببطءٍ ذَهابًا وإيابًا عليهما بينما كان القطار يتقدم في طريقه. إن إنجلترا بلدٌ لطيف في الساعة العاشرة من صباحٍ مشرق. حتى الفيلات الصغيرة الموحشة في الضواحي فقَدَت العُدوانية التي نشأَت من عُقدة النقص لديها، وكانت تتألَّق برزانةٍ ودون أنانية في ضوء النهار الصافي. لم تَعُد أبوابها الضيقة غيرُ المضيافة قبيحةَ المنظر بسبب بشاعة الطِّلاء الرخيص والقوالب المزخرفة؛ بل كانت مداخلَ مزيَّنةً باليشم، والعقيق، واللازَوَرْد، والعقيق اليماني تؤدِّي إلى جنانٍ منفصلة خاصة. وكانت حدائقها، بصُفوفها من زهور التيوليب الجذابة غير المشذبة، والأعشاب الهزيلة المزروعة بالبذور، جميلةَ المنظر مثلما كانت حدائقُ بابل المعلَّقةُ دائمًا. هنا وهناك، تراقصَ صفٌّ من ملابس الأطفال المرحة المتعددةِ الألوان وانتفخَت بالنسيم في شكل قِلادة من الضحكات الملوَّنة. وبعد ذلك، عندما اختفى آخِرُ بقايا المدينة، ابتسمَت مساحاتٌ واسعة من الريف العُشبي ابتسامةً كبيرة في ضوء الشمس مثل لوحة صيدٍ قديمة. كانت كل إنجلترا جميلةً هذا الصباح، وعرَف جرانت ذلك. حتى قنوات نوتنجهام كانت تتمتَّع بلونٍ أزرق اليوم قادمٍ من مدينة البندقية، وكانت جُدرانها القذرة التي تُشبه السجن ورديةَ اللون مثل جدران مدينة البتراء.
خرج جرانت من المحطة إلى أزيز عربات الترام وصخبها. لو سُئل عما تُمثله منطقة ميدلاندز في ذهنه، لكان يقول بلا تردُّد عربات الترام. فلطالما بدَت عرباتُ الترام في لندن بالنسبة إليه تضاربًا غريبًا، قرويون فقراء أغرَتْهم العاصمة، وكدَحوا ليخرجوا من الكيان المحتقر الكارهِ للبشر؛ لأنهم لم يَجْنوا قطُّ ما يكفي من المال للخروج منه. لم يسمع جرانت قطُّ الصوتَ المميز القادم من بعيد لعربة ترامٍ تقتربُ من دون أن يجد نفسَه قد عاد للأجواء الميتة الخالية من الهواء لمدينة ميدلاند حيث وُلد. لم يُخفِ سكانُ مدينة ميدلاند عربات الترام الخاصة بهم في الشوارع الخلفية؛ لقد تتبَّعوها بفخرٍ عبر أهمِّ شوارعهم، جزئيًّا من باب التباهي، وجزئيًّا بسبب فكرةٍ في غير محلِّها عن المنفعة. كان هناك صفٌّ أصفرُ طويلٌ منها يقف في سوق نوتنجهام، مما يحجب الرؤيةَ عن الميدان العريض شبهِ القاري، ويجعل المرورَ من الرصيف على أحد الجانبين إلى أكشاك السوق على الجانب الآخر مثلَ لعبة الغميضة الأكثر إثارة. لكنَّ السكان الأصليِّين، برغم هذه القدرة على التكيف مع الظروف التي هي أعظم أعجوبة للطبيعة، بدا أنهم يستمتعون بالأعمال ذات المسافات القصيرة، ويجدون أنه ليس من الخطورة الشديدة الانغماسُ فيها. ولم يُقتَل أحدٌ خلال الوقت الذي سار فيه جرانت في الشارع على أي حال.
في فيث بروذرز، عرَض عليهم ربطة العنق التي تخصُّ القتيل، وأوضح أنه يريد أن يعرفَ ما إذا كان أيُّ شخص يتذكر بيعها. لم يتذكر الرجل الموجود بمكان دفع الحساب إجراءَ هذه المعاملة، لكنه استدعى زميلًا كان يقلب سبابةً بيضاء ومرنةً للغاية لأعلى وأسفل جدارٍ من الصناديق الكرتونية، في محاولةٍ للعثور على عنصرٍ يحظى بموافقةِ عميله. شيءٌ ما أخبر جرانت أنه في الأمور المتعلقة بالملابس، سيتمتَّع هذا الشابُّ بذاكرةِ أحد السكان الأكبرِ سنًّا، وكان على حق. فبعد إلقاء نظرةٍ واحدة على ربطة العنق، قال إنه أخرجها من نافذة العرض — أو أخرج ربطة عنق تُشبهها تمامًا — لرجل نبيل منذ نحوِ شهر. رآها الرجل النبيل في نافذة العرض، ولأنها كانت تتناسب مع البدلة التي كان يرتديها، فقد دخل واشتراها. لا، لم يكن يعتقد أنه كان رجلًا من نوتنجهام. لماذا؟ حسنًا، أولًا لم يتحدث بلهجة نوتنجهام، وثانيًا لم يرْتَدِ ملابسَ تُشبه ملابس أهل نوتنجهام.
هل يمكنه وصف الرجل؟
كان بإمكانه، وفعل ذلك، بدقَّةٍ وبالتفاصيل. قال هذا الشاب المدهش: «يمكنني أن أخبرك بالموعد، إذا أردت. أتذكره لأنه …» تردَّد، وفي النهاية تسلَّل بانتعاش من طريقته الخبيرة بالحياة والناس إلى سذاجةٍ يتخلَّلها الشعورُ بالارتباك «بسبب شيءٍ حدَث في ذلك اليوم. كان الثاني من فبراير.»
دوَّن جرانت التاريخ وسأل عن انطباعه بشأن الشخص الغريب. هل كان بائعًا متجولًا؟
لم يعتقد الشابُّ ذلك. لم يتحدث عن العمل ولم يُبدِ اهتمامه بنمو نوتنجهام أو أي شيء.
سأل جرانت عما إذا كان هناك أيُّ فعالية أُقيمت في المدينة في ذلك التاريخ من شأنها أن تجلبَ شخصًا غريبًا إلى نوتنجهام، وقال الشاب نعم، بتأكيدٍ بالغ. كان هناك مهرجانٌ موسيقيٌّ ضخم — مهرجان لجميع سكان ميدلاندز — وكان هناك عددٌ قليل من الأشخاص من لندن أيضًا. كان يعلم ذلك، لأنه هو نفسه قد شاركَ فيه. فقد غنَّى في جَوْقة الكنيسة وكان يعرف كلَّ شيء عن المهرجانات. بدا الغريب وكأنه شخص مهتمٌّ بالمهرجان أكثرَ من كونه بائعًا متجولًا. كان يعتقد في ذلك الوقت أن هذا على الأرجح سببُ وجود الرجل في نوتنجهام.
يعتقد جرانت أن هذا محتملٌ جدًّا. ثم تذكر يدَي الرجل الحساستَين. وكان أيضًا كثيرَ التردد على وفينجتون، الذي إن لم يكن رفيع المستوى الثقافي، فهو على الأقل مقصدٌ موسيقيٌّ دائم. لم ينسجم هذا مع نظرية العصابة، لكنه لم يستطع تجاهل الأمر لهذا السبب. في الواقع لم يكن هناك ما يدعم نظريةَ العصابة. لقد كانت مجردَ نظرية لا أكثر ولا أقل — مجرد تكهُّن. شكر الشابَّ وسأل عن اسم شخصٍ ما في نوتنجهام يعرف كل شيء عن المهرجان والأشخاص الذين أتَوا إليه. قال الشابُّ إنه من الأفضل له الذَّهابُ لرؤية المحامي يودال. لم يكن يودال السكرتير، لكنه كان نوعًا ما رئيسَ مجلس إدارة، وكانت هذه هوايته. جلس هناك من الصباح إلى المساء، طيلةَ أيام المهرجان الثلاثة، ومن المؤكد أنه يعرف أيَّ شخص كان مهتمًّا بما يكفي ليأتيَ من لندن من أجل ذلك.
دوَّن جرانت عُنوان يودال، مدركًا أن عقل الشابِّ الفضولي كان يُدقِّق فيه كما فعَل مع القتيل، وفي السنوات التالية، إذا طلب منه شخصٌ ما أن يصفَ الرجل الذي أخذ عُنوان يودال، فإنه سيفعل ذلك بإخلاص. كان ضائعًا في محلٍّ لبيع القبعات والجوارب. سأل الشاب: «هل تبحث عن الرجل الذي اشترى ربطة العنق؟». ووضع «تبحث» بين علامتَي اقتباس، مضفيًا عليها الحسَّ الشُّرطي.
قال جرانت: «ليس بالضبط، لكنني أريد أن أتعقَّبَه إن استطعت.» وغادر لمقابلة السيد يودال.
كانت المكاتب الصغيرة والقاتمة الخاصة بيودال، ليستر آند يودال، تقع في شارع جانبيٍّ صغير، بالقرب من القلعة — هذا النوع من الشوارع الذي لم يسبق له أن رأى عربةَ ترام والذي كان يتردَّد صدى خُطى المرء فيه حتى ينظرَ لاإراديًّا إلى الخلف. كان عُمر تلك الشوارع ٣٠٠ عام، وكانت غرفة الانتظار مكسوَّةً بألواح من خشب البلُّوط التي أخمدَت آخرَ شعاع ضوءٍ شجاع كان يشق طريقه عبر زجاج النافذة المخضرِّ القديم. انطفأ الضوءُ على عتبة النافذة كما يموت آخرُ ناجٍ من تهمةٍ على حاجز العدو، مقتولًا ولكن بمجد. لكن السيد يودال، من شركة «يودال، ليستر آند يودال»، كان سيعتبر اقتراحَ أن تكون الأمورُ خلافَ ذلك هَرْطقةً. خلاف ذلك! هذا يعني مبنًى مثل ثلاجة اللحوم، مزيَّنًا بالنوافذ حتى أصبحَت الجدران عمليًّا غيرَ موجودة. مجموعة من الألواح الزجاجية مرتبطة ببعضها البعض بأعمدةٍ مزيَّنة بأشكالٍ دنيئة لا تُصدَّق! تلك كانت العمارة الحديثة! ولكن، تعويضًا عن القذارة القاتمة التي تحيط به، ابتسمَ السيد يودال بابتهاج وإشراق ورحَّب بالإنسانية جَمْعاء بهذا الافتقار الشديد إلى الشكِّ الذي يتميَّز به الأصدقاء و«المحتالون»، ولكن ليس المحامينَ أبدًا. ولكونه الوحيدَ من الجيل الثالث لآل يودال، فقد حصَل في شبابه على زاويةٍ تُشبه الخِزانة في المنطقة المكتظَّة بالغرف الصغيرة في مكاتب يودال، وبما أنه أحبَّ ألواح البلوط والعوارض والزجاج المخضر في المرتبة الثانية بعد السمفونيات والسوناتا، فقد مكَث هناك. والآن أصبح مالكًا لشركة «يودال، ليستر آند يودال» — على الرغم من أن الموظف الكُفءَ يمنع أيَّ شيء شديد الفظاعة من الحدوث.
إن القول بأن السيد يودال رحَّب بالمفتش هو تصريحٌ غير مناسب. شعَر جرانت أنه لا بد أن يكون قد التقى بالرجل من قبلُ ونسِيَه. لم يُفصح عن الفضول الذي كان ينتشر عادةً على وجه المرء عندما يتبع المفتش بطاقته إلى إحدى الغرف. كان جرانت بالنسبة إليه مجردَ رفيق آخرَ لطيف، وقُبيل أن يوضِّح جرانت عملَه، وجد نفسه يُقاد لتناول الغداء. كان من الأجمل التحدثُ أثناء تناول وجبة، وكان قد مرَّ وقتٌ طويل بعد الساعة الواحدة، وإذا لم يأكل المفتشُ منذ الإفطار، فلا بد أنه يتضوَّر جوعًا. تبع جرانت مضيفَه غيرَ المتوقع بإذعانٍ كافٍ؛ لم يكن قد حصل على معلوماته بعد، ويبدو أن هذه هي الطريقةُ الوحيدة للحصول عليها. علاوةً على ذلك، لا يتجاهل ضابطُ مباحثَ أبدًا فرصةَ التعرف على أحد. إذا كان لدى شرطة سكوتلانديارد شعارٌ فهو «لن تعرف أبدًا».
أثناء الغَداء علم أن السيد يودال لم يسبق له أن رأى الرجلَ الذي كان يبحث عنه على حدِّ علمه. كان يعرف شكلًا أو شخصيًّا جميعَ فناني المهرجان بالإضافة إلى عددٍ كبير من أولئك المهتمين به فقط. لكن لا شيء يتوافقُ تمامًا مع الوصف الذي قدمه جرانت.
«إذا كنتَ تعتقد أنه كان موسيقيًّا، فجرِّب فرقة ليون الموسيقية أو مَعارض الأفلام. ففنانوهم الموسيقيون غالبًا ما يكونون من سكان لندن.»
لم يُكلف جرانت نفسَه عناء توضيح أن فرضية كون الرجل موسيقيًّا قد نشأَت من خلال علاقته المفترَضة بالمهرجان. كان من الأسهل والأكثر إمتاعًا السماحُ للسيد يودال بالتحدث. ومع ذلك، في وقت ما بعد الظهر، بعد أن ودَّع مضيفه المبتهج، قام بغربلةِ الفِرَق الموسيقية المختلفة في المدينة، مع عدم تحقيق أيِّ نجاح كما توقَّع. ثم اتصل هاتفيًّا بشرطة سكوتلانديارد ليعرف كيف أبلى ويليامز في سعيه وراء تاريخ الأوراق النقدية، وتحدثَ إلى ويليامز نفسِه، الذي عاد لتوِّه بعد صباحٍ طويل مليء بالعمل. كانت الأوراقُ النقدية مع البنك الآن. لم يحدث شيءٌ حتى الآن، لكن تم تعقُّبها، وكان البنك يعمل على ذلك.
اعتقد جرانت، وهو يضع سماعةَ الهاتف، أن أحد الخيوط المعقَّدة بدأ ينحلُّ ببطء ولكن بشكلٍ مؤكدٍ على ما يبدو. لا شيء يترك تاريخًا واضحًا لا جدال فيه مثلَ ورقةٍ نقدية من بنك إنجلترا. وإذا أخفق في نوتنجهام في تتبُّع القتيل بنفسِه، فإن اكتشافهم لهُويَّة الصديق سيقودهم حتمًا إلى معرفةِ هُوية القتيل. وما هي إلا خطوةٌ واحدة من الميت إلى الشامي. ومع ذلك، كان يائسًا بعضَ الشيء. كان لديه حَدْسٌ هذا الصباحَ أنه قبل حلول الليل ستضعُه معلومةٌ غيرُ متوقعة على المسار الصحيح؛ مما جعله يستطلعُ يومه الضائع بشيءٍ من الاشمئزاز، ولم تُخفف عنه حتى الآثارُ اللاحقة للغداء الجيدِ الذي قدَّمه له السيد يودال، ولا الذِّكرى الوردية لحُسن نية ذلك الرجل تجاه الآخرين. في المحطة وجد أن أمامه نصفَ ساعةٍ لانتظار قطاره، وذهب إلى صالةِ أقرب فندق؛ على أملٍ غامض في التقاط معلوماتٍ تافهة غير مدروسة في أكثر الأماكن العامة ثرثرةً. تفحَّص النادلَين بعينه التي لا ترى سوى الجانبِ السيِّئ في الأشخاص. كان أحدُهما متعجرفًا يُشبه كلبَ بج سمينًا، والآخَر كان شاردَ الذهن يُشبه كلب داشهند. شعر جرانت غريزيًّا أنهما لن يُساعداه. لكن الشخص الذي أحضَر له قهوته كان نادلةً فاتنة في منتصف العمر. أضاءت روحُ جرانت المرهَقة عند رؤيتها. في غضون بضع دقائق، كان ينغمس في حوار ودي، غير مترابط، عن أمورٍ عامة، وعندما غادرت مؤقتًا لتلبيةِ رغبات شخصٍ آخر، كانت تعود دائمًا وتحوم بالقربِ منه حتى استئنافِ المحادثة. بعد أن أدرك جرانت أن الوصفَ اللفظيَّ لرجلٍ لم يكن أحدبَ أو أعمى أو غيرَ طبيعي بطريقة أخرى لن ينقلَ شيئًا إلى هذه المرأة، التي رأت في يومٍ واحد على الأقل ستةً من الرجال الذين قد تتطابقُ أوصافهم مع أوصاف القتيل، أقنع نفسه بإعطاء أدلةٍ قد تُثير معلوماتٍ مفيدةً نسبيًّا.
قال: «الأمور هادئةٌ هنا الآن.»
وافقت على صحة ذلك؛ فقد كان هذا وقتَهم الهادئ. كانت لديهم أوقاتٌ هادئة وأوقات صاخبة. هكذا تجري الأمور.
هل يعتمد ذلك على عدد الأشخاص المقيمين في الفندق؟
لا، ليس دائمًا. لكنه عادةً ما يعتمد على ذلك. كان الفندق الشيء نفسه؛ فقد كان لديهم أوقاتٌ هادئة وأوقاتٌ صاخبة.
هل كان الفندق كاملَ العدد من قبل؟
نعم؛ كان كاملَ العدد عن آخِرِه عندما جاءت الجمعيةُ التعاونية. المائتا غرفةٍ جميعها. كانت هذه هي المرةَ الوحيدة التي تتذكر فيها مثلَ هذا الحشد في نوتنجهام.
سأل جرانت: «متى كان ذلك؟». قالت: «في بداية فبراير. لكنهم يأتون مرتَين في السنة.» في بداية فبراير!
من أين أتى أفراد الجمعية التعاونية؟
من جميع أنحاء ميدلاندز.
ليس من لندن؟
لا، لم تعتقد ذلك؛ ولكن قد يكون البعضُ منهم قد جاء من هناك.
ذهب جرانت للَّحاق بقطاره، مفكرًا في الاحتمال الجديد واجدًا إياه غيرَ مقبول، رغم أنه لم يكن متأكدًا تمامًا من السبب. لم يَبدُ القتيل من ذلك النوع. إذا كان مساعدًا في متجر، فقد كان يعمل لدى شركة تتطلَّب قدرًا كبيرًا من الأناقة من جانب موظَّفيها.
لم تتضمَّن رحلةُ العودة إلى المدينة تعاقبًا بطيئًا ولطيفًا لأفكارٍ مضاءة بنور الشمس. فقد كانت الشمس قد غابت، ومَحا ضبابٌ رمادي خطوطَ البلاد. بدا الأمر فاترًا، وكئيبًا، ومُضرًّا في المساء الشاحب. تلألأت هنا وهناك بقعةٌ من الماء على نحوٍ مؤذٍ من بين أشجار الحور مع سطح القصدير المسطح غير العاكس. كرَّس جرانت وقتَه للجرائد، وعندما فرَغ منها، شاهدَ المساء الرمادي الذي لا شكل له وهو يَمضي سريعًا، وترك عقلَه يتسلَّى بمشكلة وظيفةِ القتيل. كان هناك ثلاثة رجال آخَرين في المقصورة، وكانت تصريحاتُهم الفصيحة والصاخبة في بعض الأحيان حول موضوع الأغلفة، أيًّا ما تكون، تُشتِّت انتباهَه وتُضايقه كثيرًا. مجموعة متشابكة من أضواء الإشارة، معلَّقة معزولة ومنفصلة بألوانها التي تُشبه الياقوتَ والزمرُّد عبر ضوء النهار المتلاشي، أعادت له روحَ الدعابة قليلًا. كانت هذه الأضواءُ أمرًا عجيبًا وموحيًا. كان أمرًا لا يُصدَّق أن شيئًا خياليًّا هكذا كان يتمتَّع بدعمٍ غير مرئيٍّ في شكل أعمدةٍ قوية وقضبان متقاطعة، ويعمل بمولِّد. لكنه كان سعيدًا عندما أعلن الهديرُ الطويل والقعقعةُ فوق النقاط نهايةَ الرحلة، وكانت مصابيح لندن القوية تتدلى فوقه.
عندما وصل إلى شرطة سكوتلانديارد، انتابَهُ شعورٌ غريب بأن الشيء الذي انطلق ليبحث عنه كان ينتظرُه هنا. لم يخدَعْه حَدسُه. تلك المعلومة الصغيرة التي من شأنها أن تكون مِفتاحَ قصة القتيل بالكامل كانت على وشك أن توضَع بين يديه. تسارعَت خطواته دون وعي. كان لا يكاد يستطيع الانتظار. لم تبدُ المصاعدُ بطيئة جدًّا أو الممرات طويلة جدًّا لهذه الدرجة من قبل.
وبعد كلِّ هذا، لم يكن هناك شيءٌ — لا شيء سوى التقريرِ المكتوب الذي ترَكه ويليامز، الذي كان قد ذهَب لاحتساء الشاي، له ليراه عندما يعود — كان تلخيصًا أكثرَ تفصيلًا لما سمعه بالفعل عبر الهاتف.
ولكن في اللحظة ذاتِها التي وصل فيها المفتش جرانت إلى سكوتلانديارد، حدث شيءٌ غريب لداني ميلر. لقد كان جالسًا بجنبٍ على كرسيٍّ مريح في إحدى الغرف العُلوية بالمنزل في بيمليكو، وقدَماه الدقيقتان في حذائهما الأنيق تتدلَّيان بكسلٍ من فوق ذراعه المنجَّدة، وتبرز بزاوية حادَّة سيجارةٌ في مَبسِم طوله ستُّ بوصات من فمه الرفيع. وكانت تقف في منتصف الغرفة «عشيقته». كانت تُجرب مجموعةً من الفساتين المسائية، التي انتزعَتها من أغلفتها الكرتونية كما يخرج المرءُ البازلاء من قرونها بإبهامه. أدارَت جسدها الجميلَ ببُطء حتى التقط الضوءُ السطحَ المخرَّز للقماش الهشِّ وأبرز الخطوطَ الطويلة لجسدها.
قالت، وعيناها تبحثان عن عينَي داني في المرآة: «هذا لطيف، أليس كذلك؟» ولكن حتى عندما نظرَت، رأت أن عينَيه، المركَّزتَين على منتصف ظهرها، تُحدقان بشراسة. التفتت. وسألت: «ما الأمر؟» لكن يبدو أن داني لم يسمَعْها؛ لم يتغيَّر تركيزُ عينيه. فجأة انتزع مبسم السجائر من فمه، وألقى السيجارة في المدفأة، وقفز على قدَميه باحثًا عن أشيائه بهمجية.
قال: «قبعتي! أين قبعتي؟ أين قبعتي بحق الجحيم!»
قالت مندهشة: «إنها على الكرسيِّ خلفك. ما الذي يُغضبك؟»
انتزع داني القبعة وفرَّ خارج الغرفة كما لو أن جميع عفاريت المناطق السفلية تُطارده. سمعته يُلقي بنفسه أسفلَ الدرَج، ثم أغلق الباب الأمامي بشدة. كانت لا تزال واقفة بعينين مشدوهتين على الباب عندما سمعته يعود. صعد الدرج، ثلاث درجات في المرة الواحدة، بخفةِ قِطة، وانفجر فيها.
قال: «أعطيني بنسين. أنا لا أملك بنسَين.»
دون تفكير، مدَّت يدها إلى حقيبة اليد الباهظةِ الثمن الجميلة التي كانت إحدى هداياه لها، وأخرجَت بنسين. قالت في محاولةٍ لحثِّه على الشرح: «لم أكن أعلم أنك مفلس. فيمَ تحتاجُ إليهما؟»
استشاط غضبًا وقال: «اغرُبي عن وجهي!» واختفى مرةً أخرى.
وصل إلى أقربِ هاتف عمومي لاهثًا بعض الشيء ولكنه مسرورٌ جدًّا بنفسه، ودون التنازل لفعل أيِّ شيء مملٍّ مثل استشارةِ دليل الهاتف، طالبَ بالتواصل مع شرطة سكوتلانديارد. خلال التأخير الذي لحق ذلك، جرَّ قدميه ببراعة على أرضيةِ كابينة الهاتف كوسيلةٍ للتعبير في الحال عن نفاد صبره وانتصاره. أخيرًا كان هناك صوتُ جرانت على الطرف الآخر من الخط.
«مرحبًا أيها المفتش، معك ميلر. لقد تذكرتُ للتو أين رأيت ذلك الرجل الذي كنت تتحدثُ عنه. عضو؟ … حسنًا، لقد سافرتُ معه في قطارِ سباق إلى ليستر، في نهاية يناير، أعتقد أنه كان … بالتأكيد؟ أتذكَّر الأمر كما لو كان البارحة. تحدثنا عن السباقات، وبدا أنه يعرف الكثيرَ عنها. لكنني لم أرَه قبل ذلك أو منذ ذلك الحين … ماذا؟ … لا، لم أرَ أيَّ أشياء متعلقة بالمراهنة … لا شكر على واجب. يُسعدني أن أكون قادرًا على المساعدة. أخبرتُك أن ذاكرتي لن تخونني مدةً طويلة!»
خرج داني من كابينة الهاتف وانطلق، بشكلٍ أكثرَ رصانة هذه المرة، لتهدئةِ أنثى ترتدي فستانًا مَسائيًّا مطرَّزًا ترَكَها غاضبة، وأغلق جرانت سماعةَ الهاتف وأخرج نفَسًا طويلًا. قطار سباق! تماشى الأمر تمامًا مع الحقيقة. يا لي من أحمق! يا لي من أحمقَ كريهٍ بكل ما تحمله الكلمة من معنًى! ألا أفكِّر في ذلك. ألا أتذكَّر أنه على الرغم من أن نوتنجهام بالنسبة إلى ثُلثَي بريطانيا قد تعني دانتيل، فإنها بالنسبة إلى الثلث الآخَر تعني السباق. وبالطبع أعطى السباقُ مزيدًا من الإيضاح للرجل — ملابسه، وزيارته لنوتنجهام، وميله إلى الكوميديا الموسيقية، بل وربما العصابة.
وأرسل في طلب نسخةٍ من النشرة الدورية الرياضية «راسينج أب تو ديت». نعم، كان هناك اجتماعٌ مفاجئ في منتزَه كولويك في الثاني من فبراير. كما كان هناك اجتماعٌ آخَر في ليستر نهايةَ شهر يناير. أثبت هذا صحةَ تصريح داني. وهكذا قدَّم داني المفتاح.
فكَّر جرانت بمرارةٍ في إمكانية أن تأتيَ معلوماتٌ كهذه مساءَ يوم السبت عندما يصير وكلاءُ المراهنات كأنهم غير موجودين، بقدرِ ما يتعلق الأمر بمكاتبهم. وبالنسبة إلى يوم الغد لا يوجد وكيل مراهنات في المنزل يوم الأحد. إن مجرد التفكير في قضاء يوم كاملٍ دون السفر أدى إلى تشتُّتِهم في جميع أنحاء إنجلترا في سياراتهم مثلما يتشتَّت الزئبق عند انسكابه. سيُعرقل تداخلُ عطلة نهاية الأسبوع كلًّا من التحقيقات المصرفية وتحقيقات المراهنات.
ترك جرانت رسالةً عن مكان وجوده، وذهب إلى مطعم لورنس. يوم الإثنين سيكون هناك المزيدُ من العمل الروتيني — جولة في المكاتب بربطة العنق والمسدس — المسدس الذي لم يدَّعِ أحدٌ حتى الآن رؤيتَه. ولكن ربما قبل ذلك الوقت تكون الأوراق النقدية قد وفَّرَت دليلًا من شأنه تسريعُ الأمور وتجنبُ الطريقة الشاقة للإقصاء. في غضون ذلك، سيتناول عَشاءً مبكرًا ويُفكر في الأمور.