السيدة إيفريت
كان برايتلينج كريسينت يتكوَّن من صفٍّ من المنازل المبنيَّة بالطوب الأحمر، والمكوَّنة من ثلاثة طوابق، والمزيَّنة بدانتيل نوتنجهام وأصُص النباتات. تجمع سلالمها الحجرية بين النظافة والقبح؛ بسبب كثرةِ استخدام الصلصال الفخَّاري الملوَّن. تورَّد بعضُها خجلًا من إيجاد نفسه ظاهرًا على نحوٍ صارخ، واصفرَّ لون بعضِها بشدة بسبب الاهتمام غير المرحَّب به، وحدَّق بعضها في رعبٍ باهت كما لو أنها استشاطت غضبًا. لكنَّ جميعها يحمل شعار اسكتلندا اللاتيني «لا حَصانة لمن يستفزُّني». قد تسحب مقابض الجرس النحاسية اللامعة — في الواقع، يدعوك لَمعانُها الفائق بإلحاحٍ إلى القيام بذلك — لكنك لا تجتازُ عتبة الباب إلا متجنبًا بخطواتٍ واسعة أفخاخَ الدرجة المصنوعة من الصلصال الفخاري المجدَّدة باستمرار. سار جرانت في الشارع الذي كثيرًا ما سار فيه سوريل، وتساءلَ عمَّا إذا كان الشاميُّ يعرفه أيضًا. السيدة إيفريت، امرأة نحيلة وقصيرة النظر تبلغ من العمر ٥٠ عامًا أو نحوَ ذلك، فتحَت بنفسِها بابَ العقار رقم ۹۸ له، واستفسرَ جرانت عن سوريل.
قالت إن السيد سوريل لم يَعُد موجودًا هناك. كان قد غادر قبل أسبوع فقط للذَّهاب إلى أمريكا.
إذن كانت هذه هي القصةَ التي رواها أحدُهم.
مَن قال إنه ذهَب إلى أمريكا؟
«السيد سوريل، بالطبع.»
نعم، ربما روى سوريل هذه القصةَ لإخفاء انتحاره.
هل عاش وحده هناك؟
سألت: «مَن أنت وماذا تريد أن تعرف؟» وقال جرانت إنه شرطيُّ تَحرٍّ ويودُّ الدخول والتحدث معها لحظة. بدَت مندهشةً بعض الشيء، لكنها تلقَّت الخبر بهدوء، وأرشدته إلى غرفة جلوس في الطابق الأرضي. قالت: «كانت هذه مِلكًا للسيد سوريل. تسكن بها معلمةٌ شابة الآن، لكنها لن تُمانع في استخدامنا لها مرةً واحدة. السيد سوريل لم يرتكب أيَّ خطأ، أليس كذلك؟ لن أُصدِّق عنه ذلك. فهو شابٌّ هادئ.»
طمْأنَها جرانت، وسألها مرةً أخرى هل سوريل كان يعيش بمفرده؟
أجابَتْه بالنفي؛ فقد شارك شقتَه مع رجلٍ نبيل آخَر، ولكن عندما ذهب السيد سوريل إلى أمريكا، كان على الرجل الآخر أن يبحث عن شقةٍ أخرى لأنه لا يستطيع تحمُّلَ تكاليفِها بمفرده، وأرادت سيدةٌ شابة أن تسكن بها. كانت حزينة لفقدان كلٍّ منهما. فقد كانا شابَّين لطيفَين، وكانا صديقَين حميمين.
«ماذا كان اسم صديقه؟»
قالت: «جيرالد لامونت.» كان السيد سوريل يعمل وكيلَ مراهنات لحسابه الخاص، وكان السيد لامونت في مكتبه. أوه، لا، لم يكن شريكًا، لكنهما كانا صديقَين رائعَين.
«ماذا عن أصدقاء سوريل الآخرين؟»
قالت إنه لم يكن لديه الكثير. وكان يذهب هو وجيري لامونت إلى كل مكانٍ معًا. بعد تفكير مرهق، تذكَّرَت رجلَين أتَيا إلى المنزل ذاتَ مرة، ووصَفَتهما جيدًا بما يكفي للتأكد من أنَّ كليهما لم يكن الشاميَّ.
«هل لديك أيُّ صور لسوريل أو صديقه؟»
ظنَّت أن لديها بعضَ الصور الفوتوغرافية في مكانٍ ما، إذا كان المفتش لا يمانع في الانتظار حتى تبحثَ عنها. لم يكن لدى جرانت ما يكفي من الوقت لفحصِ الغرفة قبل أن تعود ومعها صورتان التُقِطتا بأيدٍ غير محترفة وكانتا بحجم البطاقة البريدية. وقالت: «هاتان الصورتان التُقطتا في الصيف الماضي عندما كانا عند النهر.»
التُقِطَت الصورتان بالتأكيد في المناسبة ذاتِها. وأظهَرَت كِلتاهما الخلفيةَ ذاتَها لضفَّة نهر التيمز المظلَّلة بشجر الصفصاف ونفس الجزء من القارب. كانت إحداهما صورة لسوريل مرتديًا سروالًا خفيفًا، ومُمسكًا بغليونٍ في يدٍ ووسادة في اليد الأخرى. كانت الصورة الأخرى أيضًا صورةً لشابٍّ يرتدي سروالًا خفيفًا، وكان ذاك الرجل الأجنبي.
جلس جرانت مدةً طويلة ينظر إلى ذلك الوجه الداكن. كانت الصورة جيدة. لم تكن العينان مجردَ ظلٍّ كما هي الحال في معظم الصور؛ كانتا واضحتَين. وتمكَّن جرانت أن يرى مرةً أخرى الرعبَ المفاجئ الذي لمع في عينَيه مثلما لمع في شارع ستراند. حتى في الاستراحة اللطيفة في تلك اللَّحظة على النهر، كانت هناك نظرةٌ مُعادية في عينيه. لم يكن هناك أيُّ صداقة في الوجه ذي العظام البارزة.
سأل دون أن تظهر أيُّ تعبيرات على وجهه: «أين قلت إن لامونت ذهب؟»
لم تعرف السيدة إيفريت.
تفحَّصَها جرانت بدقة. هل كانت تقول الحقيقة؟ كما لو كانت مدركةً لشكِّه، أكملَت جملتها بأخرى. كان لديه شقةٌ في مكانٍ ما على الجانب الجنوبي من النهر.
ملَأه الشك. هل كانت تعرف أكثرَ مما كانت تقول؟ مَن أرسل المال لدفن سوريل؟ كان صديقه والشاميُّ شخصًا واحدًا، والشامي، الذي كان لديه ٢٢٣ جنيهًا، لم يُرسل المال بالتأكيد. نظر إلى وجه المرأة القاسي. ربما كانت تكتب مثل الرجال؛ فخُبراء الخطوط غيرُ معصومين من الخطأ. ولكن حينها، كان الشخص الذي أرسل المال يمتلك المسدَّس. واستدرَك مدقِّقًا كلامَه قائلًا إن الشخص الذي أرسل المال بالبريد كان يمتلك المسدس.
سأل عما إذا كان يمتلك أحدُ الرجلين مسدسًا.
لا؛ لم ترَ مثل هذا الشيء مع أيٍّ منهما. لم يكونا من هذا النوع.
وها هي مرةً أخرى تتحدث عن هدوئهما. هل كان مجردَ تحيز أم كانت محاولةً واهية لإبعاده عن المسار؟ أراد أن يسألَ عما إذا كان لامونت أعسَرَ، لكنَّ شيئًا ما أوقَفه. إذا لم تكن صريحةً معه، فإن هذا السؤال المتعلِّق بلامونت سيُثير قلقها على الفور. وسيكشف عن كاملِ نطاق تحقيقاته. ربما تُعطي تحذيرًا وتجعل الطائرَ يهرب من مخبئه قبل استعدادهم لإطلاق النار عليه بوقتٍ طويل. ولم يكن ذلك ضروريًّا في الوقت الراهن. كان الرجل الظاهر في الصورة هو الرجلَ الذي عاش مع سوريل، وهو الرجل الذي هرَب عند رؤيته في شارع ستراند، وهو الرجل الذي كان لديه كلُّ أموال سوريل، وكاد يكون بالتأكيد الرجلَ الذي كان في صفِّ الانتظار. تمكَّن ليجارد من التعرُّف عليه. كان الأمرُ الأكثرُ أهميةً في الوقت الحاليِّ عدمَ إخبار السيدة إيفريت بما يعرفونه.
«متى غادر سوريل إلى أمريكا؟»
قالت: «أبحرَ قاربُه في الرابعَ عشر من الشهر، لكنه غادر المكان هنا في يوم الثالثَ عشر.»
قال جرانت، على أملِ نقل المحادثة إلى مستوًى أقلَّ رسميةً وأقلَّ عدوانية: «يوم مشئوم!».
قالت: «أنا لا أومن بالخرافات. فالأيام يُشبِه بعضها بعضًا.»
لكن جرانت كان يُفكر بعمق. فيومُ الثالثَ عشر كان ليلةَ جريمة القتل.
سأل: «هل غادر لامونت معه؟».
نعم، لقد غادَرا معًا في الصباح. كان السيد لامونت سيأخذ أغراضه إلى شقته الجديدة ثم يلتقي بالسيد سوريل. كان السيد سوريل ذاهبًا إلى ساوثهامبتون بقطارٍ سيوصله إلى الميناء في الليل. لقد أرادت مُرافقته لتوديعه، لكنه كان شديدَ الإصرار على ألَّا تفعل ذلك.
سأل جرانت: «لماذا؟».
«قال إن الوقت كان متأخرًا جدًّا، وعلى أي حال لم يكن يحب أن يتمَّ توديعه.»
«هل كان لديه أي أقارب؟»
لا، لم تسمع عن أحدٍ من قبل. وماذا عن لامونت؟
نعم، كان لديه أبٌ وأم وأخٌ واحد، لكنهم هاجروا إلى نيوزيلندا مباشرة بعد الحرب ولم يرَهم منذ ذلك الحين.
كم من الوقت مكث الرجلان معها؟
مكث السيد سوريل معها لمدة ثماني سنوات تقريبًا والسيد لامونت لمدة أربع سنوات.
من شارك الشقة مع سوريل في السنوات الأربَع التي سبقَت وصولَ لامونت؟
كان هناك العديد من الأشخاص، ولكن في معظم الأوقات كان ابنَ أخٍ لها موجودًا الآن في أيرلندا. نعم، كان السيد سوريل دائمًا على علاقة جيدة بهم جميعًا.
سأل جرانت: «هل كان دائمًا مشرقًا ومبهجًا؟».
قالت حسنًا، لا، إن الإشراق والبهجة لا يَصِفان السيد سوريل على الإطلاق. كان هذا ما يتَّصف به السيد لامونت، إذا أحبَّ ذلك. فالسيد لامونت كان الشخصَ المشرق والمبهج. بينما كان السيد سوريل هادئًا، لكنه كان لطيفًا. في بعض الأحيان يكون كئيبًا نوعًا ما، حينها يَزيد إشراقُ السيد لامونت لإبهاجه.
تساءل جرانت، متذكرًا مدى امتنانِ المرء عندما يُحاول شخصٌ عمدًا أن يُزيح الغمَّ عن صدره، لماذا لم يكن الأمر قد حدَث بالعكس، وقتل سوريل لامونت.
هل تشاجَرا من قبل؟
لا، لم تكن على علمٍ بذلك من قبل، وكانت ستعرف بالسرعة الكافية.
قال جرانت أخيرًا: «حسنًا، أظن أنكِ لا تُعارضين إقراضي هاتين الصورتين يومًا أو يومين؟»
قالت: «ستُعيدهما إليَّ سالمتَين، أليس كذلك؟ فهما الصورتان الوحيدتان اللتان أملكُهما، وقد كنتُ مغرمةً جدًّا بهما.»
وعَدَها جرانت، ووضعهما في محفظته بعناية، آمِلًا أن يكون عليهما بصماتُ أصابع ثمينة.
سألَت مرةً أخرى وهو يرحل: «لن تُقحِمَهما في مشكلات، أليس كذلك؟ لم يرتكبا خطأً في حياتهما.»
قال جرانت: «حسنًا، إذا كان الأمر كذلك، فهما آمِنان تمامًا.»
سارَع بالعودة إلى سكوتلانديارد، وأثناء تسجيل بيانات بصمات الأصابع على الصورتين، سمع تقرير ويليامز عن يوم غيرِ مثمرٍ بين مكاتب المراهنات في لندن. وبمجرد أن أصبحَت الصورتان في حوزته مرةً أخرى، انطلق إلى مطعم لورنس. كان الوقت متأخرًا جدًّا وكان المكان خاليًا. كان هناك نادلٌ وحيد يجمع الفتات من فوق إحدى الطاولات وهو شارد الذهن، وكانت تفوح عبر الهواء رائحةُ المرق الغنية، والنبيذ، ودخان السجائر. ترك العاملُ المشتَّتُ التفكيرِ مغرفةَ تجميع الفتات، وانحنى ليحظى بسعادته بتلك الطريقة التي لا يأمُل فيها شيئًا في المقابل، وتلك السعادة الكئيبة لكونه مُحقًّا، وهذا ما يُقدمه النادل للشخص المتهوِّر الذي يحاول تناول الطعام بعدما ينتهي الآخرون. عندما تعرَّف جرانت، أعاد تشكيلَ ملامحه في صورةٍ جديدة تهدف إلى إيصال رسالةٍ مفادها «يا لها من متعةٍ لخدمةِ عميل مفضَّل!» لكنها كانت في الواقع واضحةً للأسف على أنها «يا إلهي، كان هذا خطأً شنيعًا! إنه ذلك الشخص المفضَّل لمارسيل.»
سأل جرانت عن مارسيل، وسمع أنه غادر ذلك الصباح إلى فرنسا على عجَل. لقد مات والده وكان هو الابنَ الوحيد، وقد فهم أن هناك موضوعًا يتعلَّق بشركة جيدة ومزرعة كَرْم يجب عليه تسويتُه. لم يحزن جرانت بشدة عند التفكير في عدم رؤية مارسيل مرةً أخرى. كانت السلوكيات التي كان مارسيل يفخر بها دائمًا قد تركَت جرانت يشعر بالغثيان قليلًا طوال الوقت. طلبَ طبقًا، وسأل عما إذا كان راءول ليجارد موجودًا، وإذا كان الأمرُ كذلك، فهل سيُسمَح له بالحضور والتحدُّث معه لحظة. بعد عدة دقائق، خرج جسد راءول الطويل، المغطَّى بالكتان الأبيض من أوله لآخرِه وقُبَّعة، من الستائر عند الباب وتبع النادلَ بخجلٍ إلى طاولة جرانت. كان يبدو مثلَ طفل خَجول يصعد لاستلام جائزةٍ يعلم أنه قد فاز بها.
قال جرانت بلطف: «مساء الخير، ليجارد. لقد ساعدتَني كثيرًا. أريدك أن تنظر إلى هذه وترى ما إذا كان بإمكانك التعرفُ على أيٍّ منهم.» عرَض ١٢ صورة على المنضدة في هيئةٍ تُشبه المروحة وترك راءول لفحصها. أخذ الصبيُّ وقته — في الواقع، كانت مدةُ التوقف طويلةً جدًّا لدرجة أن جرانت كان لديه الوقتُ للتساؤل عمَّا إذا كان تصريح الصبي بأنه سيتعرف الرجل الذي رآه كان مجردَ تفاخر. لكن عندما تحدث راءول لم يكن هناك أيُّ تردد بشأنه.
قال وهو يضع إصبَع السبابةِ النحيلةَ على صورة سوريل: «هذا هو الرجل الذي كان يقفُ بجانبي في صفِّ الانتظار. وهذا» هذه المرةَ وَضع إصبع السبابة على صورة لامونت «هو الرجل الذي أتى للتحدُّث معه.»
سأل جرانت: «هل تُقسِم على ذلك؟»
كان راءول يعرف كلَّ شيء عن القسَم على شيءٍ ما هذه المرة. قال: «أوه، نعم؛ سأُقسم على ذلك في أي وقت.»
كان هذا كلَّ ما أراده جرانت. قال بامتنانٍ: «شكرًا لك، ليجارد. عندما تُصبح رئيسَ الفندق، سآتي وأبقى وأُحضر نصفَ الطبقة الأرستقراطية في بريطانيا.»
ابتسم راءول له ابتسامةً عريضة. قال: «قد لا تتحقَّق أبدًا مسألة رئيس الفندق هذه. إنهم يُقدمون الكثيرَ في الأفلام، ومن السهل أن يتم تصويرك لتبدوَ …» حاول العثورَ على الكلمة المناسبة. قال: «أنت تعرف!» وفجأةً علا وجْهَه الجميل الذكيَّ تعبيرٌ ينمُّ عن الوهن الغبيِّ الذي لم يكن متوقَّعًا لدرجة أنَّ بعضًا من طعام جرانت الذي يحتوي على البطِّ والبازلاء الخضراء ذهَب في الاتجاه الخطأ. قال: «أعتقد أنني سأجرب ذلك أولًا، ثم، عندما أكبر» حرك يدَيه للإشارة إلى شيء كبير «يمكنني شراءُ فندق.»
ابتسم جرانت بلطفٍ بينما كان يُشاهد هذا الجسدَ الجميل وهو يشقُّ طريقه عائدًا إلى الملاعق وخرقِ تنظيف أدوات المائدة. كان يعتقد أنه فرنسيٌّ نمَطي، في إدراكه الفطِن للقيمة التِّجارية لجماله، في روح الدعابة، في انتهازيَّته. كان من المحزن الاعتقادُ بأن السِّمنة سوف تفسد رشاقته ووسامته. وكان جرانت يأمُل في أن يحافظ على روح الدعابة وسط الأنسجةِ الدُّهنية. عندما عاد إلى سكوتلانديارد، كان من المقرَّر أن يحصل على مذكرةٍ لإلقاء القبض على جيرالد لامونت بتهمة قتلِ ألبرت سوريل، خارج مسرح وفينجتون، مساءَ الثالث عشر من مارس.
عندما أغلقَت سيدة برايتلينج كريسينت البابَ خلف المفتش، بقيَت مدةً طويلة بلا حَراك، وعيناها على المشمع المنقوش باللون البنيِّ الذي يُغطي أرضية الرَّدهة. بلَّل لسانُها شفتَيها الرفيعتين بطريقةٍ تأمُّلية. لم تبدُ منفعلةً، لكن كِيانها كله بدا مركزًا يُفكر؛ كان يتردد بداخلها أفكارٌ تشبه ذبذباتِ المولِّد الكهربائي. ربما لمدة دقيقتين وقفَت هناك بلا حَراك تمامًا، ساكنةً كقطعةِ أثاث، في صمتٍ يتخلَّلُه دقاتُ الساعة. ثم استدارت وعادت إلى غرفة الجلوس. نفشَت الوسائد التي هبطَت بسبب وزن المفتش — لقد اتخذَت هي نفسها الاحتياطاتِ الغريزيةَ الكاملة بالجلوس على كرسيٍّ صُلب — كما لو كان هذا هو أهمَّ شيء في الحياة حاليًّا. وأخرجَت مفرش مائدة أبيضَ من دُرج في الخِزانة وبدأت في إعداد وجبة، متنقلةً ذَهابًا وإيابًا بين غرفة الجلوس والمطبخ بتأنٍّ وببطءٍ، واضعةً السكاكين والشوكات بشكل مُتوازٍ تمامًا بطريقة مُضْنية كان من الواضح أنها عادة. وقبل أن تنتهي، سمعت صوتَ خشخشة مِفتاحٍ في القُفل، ودخلت عاهرةٌ تبلغ من العمر ٢٨ عامًا أو نحو ذلك، يعلن عن مهنتها معطفُها الرماديُّ الباهت، ووشاحُها البُني الباهت، وقبعتها غيرُ العصرية ذات اللون الأخضر الباهت، وأسلوبها المباغت. أزالت حذاءها الواقيَ في الردهة ودخلَت غرفة الجلوس، بملاحظةٍ متكلَّفة مبهجة عن اليوم الممطر. اتفقَت معها السيدة إيفريت وقالت: «كنت أفكر، بما أن اليوم العشاء بارد، فقد لا تُمانعين إذا ترَكتِه جاهزًا وخرجت. أودُّ مقابلةَ صديق، إذا لم يُشكل ذلك فارقًا بالنسبة إليك.» طمْأنَتها الساكنةُ أن ذلك لن يُشكل فارقًا على الإطلاق، وشكَرَتها السيدة إيفريت وذهبت إلى المطبخ. هناك أخذَت من موضع حفظ اللحوم لحمًا بقريًّا مشويًّا، وقطعَت منه شرائحَ سميكة، وشرَعَت في إعداد الشطائر. ولفَّتها بدقةٍ في ورق أبيض ووضعَتها في سلة. ووضعَت في السلة بعض النقانق المطبوخة وبعض قطع اللحم على شكل المُعيَّن الهندسي، وعلبةً من الشوكولاتة. أضافت فحمًا للنار، وملأت الغلاية، ووضعَتها على جانب المدفأة حتى تكون ساخنةً عندما تعود، وصعدت إلى الطابق العلوي. في غرفة نومها، تزيَّنَت بتأنٍّ للخروج إلى الشارع، وأدخلَت بعناية خصلاتٍ متناثرةً من الشعر تحت قبعتها المتصلبة. أخذَت مفتاحًا من أحد الأدراج وفتحت آخر، وسحبَت لِفافةً من الأوراق النقدية وعَدَّتها، ثم وضعَتها في حقيبةِ يدها. فتحت دفترًا مشغولًا بالقماش والحرير وكتبَت رسالةً قصيرة، وغلَّفتها في مظروف ووضعتها في جيبها. نزلَت الطابق السفليَّ مرةً أخرى، وهي ترتدي قُفازَيها، وأخذت السلة الصغيرة من فوق طاولة المطبخ، وخرجت من الباب الخلفي، وأغلقته خلفَها. توجَّهَت إلى الشارع، دون أن تنظر يمينًا أو يسارًا، ظهرُها مُستوٍ، وذقنها مرتفع، تمشي بحزمٍ معلنةً عن مواطِنة ذات ضمير حي. في شارع فولام، انتظرت في محطةٍ للحافلات وأبْدَت اهتمامًا عرَضيًّا بالحاضرين برفقتِها مثل أي امرأة تعرف الصواب وتحتفظ بأمورها لنفسها. كانت أرثوذكسيةً تمامًا لدرجة أنها عندما غادرَت الحافلة، لم يكن بإمكان أحدٍ سوى قاطعِ التذاكر بالحافلة، الذي كانت قوةُ ملاحظته غريزيةً بالكامل، أن يقول إنها كانت من الركاب. وفي الحافلة التي نقلتها إلى بريكستون كانت غيرَ واضحة أيضًا؛ لم يُلاحظها المسافرون المرافقون لها كما لو كانت عصفورًا أو عمودَ إنارة. في وقتٍ ما قبل أن تصل إلى ستريتم هيل نزلَت من الحافلة واختفَت في المساء الضبابي، ولم يتذكر أحدٌ أنها كانت هناك؛ ولم ينزعج أحدٌ من الحاجة الملحَّة المكبوتة الهائلة التي خبَّأها مظهرها الخارجي المستسلم.
سلَكَت شارعًا طويلًا حيث كانت مصابيحُ الشوارع معلَّقةً مثل أقمارٍ ضبابية، ثم آخرَ يُشبهه تمامًا — واجهاتُ مَبانٍ مسطحة، ومصباحٌ ضبابي، وطريق مهجور؛ وتوجَّهَت إلى شارعٍ ثانٍ وشارع ثالثٍ. في منتصف الشارع الأخير استدارت فجأةً وسارت عائدةً إلى أقرب عمود إنارة. سارعت فتاةٌ من أمامها، متأخرة عن موعدٍ ما، وجاء صبيٌّ صغير يُخشخش بنسَين في راحَتَيه المضمومتَين. لكن لا أحدَ آخر. تظاهَرَت بالنظر إلى ساعتها في الضوء ومضَت مرةً أخرى في الاتجاه الأصلي. إلى يسارها كان هناك صفٌّ من المنازل المرتفعة ذاتِ المظهر المهيب التي هجَرَتها العائلات الاجتماعية ببريكستون، والجص يتقشَّر من الجدران في شكل رقائقَ كبيرة، وستائر النوافذ الملوَّنة تُعلن وصول ساكن الشقة. لا يمكن رؤيةُ شيء في هذه الساعة من تفاصيل الأشخاص؛ فقط بصيصٌ من الضوء هنا وهناك وشُرَّاعات الأبواب المتواترة تُخبر عن وجود مَن يسكن المكان. اختفَت في واحدةٍ من هذه، وأغلقت البابَ بهدوءٍ خلفها. صعِدَت مجموعتَين من الدَّرَج، مضاءتَين بضوء خافتٍ ومتهالكتَيْن، حتى وصَلَت إلى المجموعة الثالثة، حيث لم يكن هناك ضوء. ألقت نظرةً سريعة على الظلام بالأعلى واستمعَت. لكن لم يتردَّد سوى الصرير العابر للخشب القديم في أرجاء المنزل. صعدَت ببطء، وهي تتحسَّس طريقَها خطوةً بخطوة، ووصلت إلى المنعطف دون أن تتعثَّر، وتوقفت لاهثةً في الجزء العلويِّ من المنزل في ردهةٍ غير مُضاءة. وبثقةِ من يعرف الطريق، مدَّت يدها لتحديدِ مكان الباب غيرِ المرئي، وبعد أن وجَدَته طرقَت برِفق. لم يكن هناك ردٌّ، ولم ينمَّ أيُّ شعاعِ ضوء أسفل الباب عن وجود أحدٍ خلفه. لكنها طرَقَت الباب مرةً أخرى وقالت بهدوء، وشَفتاها على الشقِّ حيث التقى البابُ بالقائم: «جيري! هذا أنا.» بشكل شبهِ فوري رُكِل شيءٌ ما بعيدًا عن الباب من الداخل، وفُتح ليُظهِر غرفةً مُضاءة بمصباح، وظِلَّ رجلٍ يقف أمام الضوء باسطًا ذراعَيه أفُقيًّا.
قال الرجل: «ادخُلي»، وسحَبها بسرعة إلى الداخل وأغلق الباب بالقفل. وضعَت سلتها على الطاولة بالقرب من النافذة ذات الستارة واستدارت لتُواجهه عندما أتى من الباب.
قال: «ما كان يجب أن تأتي! لماذا فعلتِ ذلك؟»
«جئتُ لأنه لم يكن هناك وقتٌ للكتابة إليك، وكان عليَّ أن أراك. لقد اكتشَفوا هُويَّته. جاء رجلٌ من سكوتلانديارد هذا المساء وأراد أن يعرف كلَّ شيء عنكما. فعلتُ كلَّ ما بوُسعي من أجله. أخبرتُه بكل ما يريد معرفتَه، باستثناء مكانِ وجودك. حتى إنني أعطيتُه صورًا لك وله. لكنه يعلم أنك في لندن، وما هي إلا مسألةُ وقت إذا بقيتَ هنا. عليك أن ترحَل.»
«لماذا أعطيتِه الصور؟»
«حسنًا، فكَّرتُ في الأمر عندما انصرفتُ لأتظاهر بالبحث عنها، وعرَفتُ أنني لا أستطيع أن أعود وأن أقول إنني لم أتمكَّن من العثور عليها وجعله يُصدِّقني. أعني، كنتُ أخشى ألَّا أفعل ذلك جيدًا بما فيه الكفاية. ثم فكَّرتُ حينها، حيث إنهم قد وصَلوا إلى هذا الحدِّ في اكتشاف كل شيء عنكما، فإن الصورة لن تُحدِثَ فارقًا كبيرًا بطريقةٍ أو بأخرى.»
قال الرجل: «حقًّا؟ غدًا سيعرف كلُّ شرطي في لندن كيف أبدو بالضبط. الوصف أحدُ الأشياء التي يعلم الرب كم هو سيِّئ بما فيه الكفاية — لكن الصورة أمرٌ بغيض جدًّا. لقد قضى هذا على كل شيء!»
«نعم، قد يكون الأمر كذلك إذا كنتَ ستمكث في لندن. ولكن إذا مكثتَ في لندن فسيُلقى القبضُ عليك على أي حال. إنها مسألة وقت فقط. عليك أن تُغادر لندن الليلة.»
قال بمرارة: «لا أريد شيئًا أفضلَ من ذلك، ولكن كيف وإلى أين؟ إذا غادرتُ هذا المنزل، فهذا يعني ذَهابي مباشرة إلى الشرطة بنسبة كبيرة، وبوجود صورتي، لن يكون من السهل كثيرًا إقناعُهم أن هذا ليس أنا. لقد عانيتُ كثيرًا في الأسبوع الماضي. يا ألله، يا لي من أحمق! — ومن أجل سببٍ بسيط جدًّا. أن أضع حبلًا حول عُنقي بلا مقابل!»
قالت ببرود: «حسنًا، وها قد فعلتَها. لا شيء يمكن أن يُغير ذلك. ما عليك التفكير فيه الآن هو كيفية الهروب. وبأسرع ما يمكن.»
«نعم، لقد قلت ذلك من قبل — ولكن كيف وإلى أين؟»
«تناوَلْ بعض الطعام وسأخبرك. هل تناولتَ وجبة مناسبة اليوم؟»
قال: «نعم، تناولتُ الفطور.» لكنه لم يَبدُ جائعًا، وكانت عيناه الغاضبتان المحمومتان تراقبانها بحزم.
قالت: «ما تريده هو الخروج من هذه المنطقة، حيث يتحدَّث الجميع عن الأمر، إلى مكانٍ لم يسمع به أحدٌ من قبل عنه.»
«إذا كنتِ تقصدين خارج البلاد، فهذه ليست محاولةً جيدة على الإطلاق. حاولتُ أن أُحمل على متن قارب منذ أربعة أيام كنوع من المساعدة، وسألوني عمَّا إذا كنت تابعًا لنقابة أو شيء من هذا القبيل، ولم يهتمُّوا بي. أما بالنسبة لقوارب المانش، فيمكنني تسليم نفسي أيضًا.»
«أنا لا أتحدث عن الخارج على الإطلاق. أنت لستَ مشهورًا كما تعتقد. أنا أتحدث عن المناطق الجبَلية. هل تعتقد أن الناس في دياري على الساحل الغربي قد سمعوا من قبلُ عنك أو عمَّا حدث ليلة الثلاثاء الماضي. صدِّقني، لم يفعلوا. إنهم لا يقرَءون أيَّ شيء سوى الجريدة المحليَّة، والجرائد المحلية تتحدث عن شئون لندن في سطرٍ واحد. يقع المكان على بُعد ٣٦ ميلًا من محطة السكك الحديدية، ويعيش الشرطي في القرية التالية، على بُعد أربعة أميال، ولم يرَ قط أيَّ شيء أكثر إجرامًا من صياد سمك سلمون غيرِ قانوني. هذا هو المكان الذي ستذهب إليه. لقد أرسلتُ لهم رسالةً أقول فيها إنك قادمٌ لأنك في حالة صحية سيئة. اسمك جورج لو، وتعمل صحفيًّا. يوجد قطار متجه إلى إدنبرة من كينجز كروس في الساعة العاشرة و١٥ دقيقة وستلحق به الليلة. ليس هناك الكثيرُ من الوقت؛ لذلك أسرع.»
«ستقبض عليَّ الشرطة عند حاجز الرصيف.»
«لا يوجد حاجزٌ عند محطة كينجز كروس. لم أتجول في اسكتلندا بأكملها منذ ما يقربُ من ٣٠ عامًا دون أن أعرفَ ذلك. فالرصيف الاسكتلندي مفتوحٌ لأي شخص يريد السير عليه. وحتى لو كان هناك محقِّقون، فإن طول القطار يبلغ نحوَ نصفِ ميل. يجب أن تُخاطر بشيء ما إذا كنت ستهرب. لا يمكنك البقاءُ هنا والسماحُ لهم بالقبض عليك! كان يجب أن أعلم أن المقامرة هي أكثرُ ما تستمتع بفعله إلى حدٍّ بعيد.»
قال: «تعتقدين أنني خائف، أليس كذلك؟ حسنًا، أنا خائف. أنا مرعوب. إن الخروج إلى الشارع الليلةَ سيكون بمثابة السير في منطقة محرَّمة، وهناك جنديٌّ ألماني يُطلق النيران من مدفع رشاش.»
«عليك إما أن تُلملم شتات نفسك أو تذهبَ وتُسلم نفسك. لا يمكنك الجلوس دون حَراك وتدَعهم يأتون ويأخذونك.»
قال: «كان بيرت مُحقًّا عندما أطلق عليكِ اسم ليدي ماكبث.»
قالت بحدَّة: «توقَّف!»
تمتم: «حسنًا. لقد فقدتُ عقلي نوعًا ما.» كان هناك صمتٌ غير مفهوم. «حسنًا، لنجرب هذا باعتباره آخرَ حيلة.»
ذكَّرتْه: «ليس هناك متَّسَع من الوقت. ضع شيئًا ما في حقيبة سفر بسرعة — حقيبة يمكنك حملُها بنفسك — فأنت لا تريد حمالين.»
انتقَل تنفيذًا لأوامرها من غرفة الجلوس إلى غرفة النوم، وبدأ في قذف الأشياء في حقيبة سفر، بينما كانت تضع رزمًا نظيفة من الطعام في جيوب المعطف المعلَّق خلف الباب.
قال فجأة: «ما الغرضُ من ذلك؟ إنه أمر غير نافع. كيف برأيكِ يمكنني ركوبُ قطار على الخط الرئيسي خارج لندن دون أن يتم إيقافي واستجوابي؟»
قالت: «لا يمكنك إذا كنتَ بمفردك، لكن معي الأمر مختلف. انظر إليَّ. هل أبدو من النوع الذي سيُساعدك على الهروب؟»
وقف الرجل في المدخل يتأمَّلها لحظة، وعلَتْ فمَه ابتسامةٌ ساخرة وهو يوافقها على كلِّ ما لديها من معتقدات أرثوذكسية سليمة. قال: «أعتقد أنكِ على حق.» وضحك ضحكةً قصيرة كئيبة وبعد ذلك لم يضع أي صعوبات في طريق خُططها. في غضون ١٠ دقائق كانا جاهزَين للمغادرة.
سألت: «هل لديك أيُّ أموال؟»
قال: «نعم؛ كثير.»
بدَت على وشك طرح سؤال.
قال: «لا، ليس هذا. إنه ملكي.»
حملت غطاءً ومعطفًا إضافيًّا: «يجب ألا تُوحي أنك على عجَل بأي شكل من الأشكال؛ ويجب أن تبدوَ كما لو كنتَ مسافرًا في رحلةٍ طويلة ولا يهمُّك من يعرف ذلك.» وحمل حقيبة السفر وحقيبة الجولف. لم يكن هناك أيُّ عمل خفي. كانت هذه هي الخدعة، وكلما كبرَت الخدعة، زادت فرصُ نجاحها. عندما دخَلا الطريق الضبابي، قالت: «سنذهب إلى شارع بريكستون الرئيسي ونستقلُّ حافلة أو سيارة أجرة.»
تصادفَ أن ظهرَت أولًا سيارةُ أجرة. لقد خرجت من الظلام قبل أن يصلا إلى الطريق الرئيسي، وبينما كان الرجل يضَع ما كانا يحملانه على متن السيارة، أعطت المرأة عُنوان وجهتهما.
قال السائق: «هذا سيُكلفك الكثيرَ يا سيدتي.»
قالت: «حسنًا، حسنًا، إن ابني ليس لديه عطلةٌ كلَّ يوم.»
صاح السائق بلُطف. قال: «أمر رائع! سأحصل على مبلغٍ وفير. لا شيء يُضاهي ذلك.» وصعدت للداخل، وتوقَّفَت سيارة الأجرة عن اهتزازها الهائج وانطلقت.
بعد صمتٍ قال الرجل: «حسنًا، لم يكن بإمكانك فعل المزيد من أجلي لو كنت كذلك.»
قالت: «أنا سعيدةٌ لأنك لستَ كذلك.» كان هناك صمت طويل آخر.
سألت فجأة: «ما اسمك؟».
فكر لحظة واحدة. وقال: «جورج لو.»
قالت: «نعم؛ لكن لا تُفكر في المرة القادمة. يوجد قطارٌ شمالًا متَّجهٌ إلى إنفرنيس، يغادر ويفرلي في الساعة العاشرة من صباح الغد. سيكون عليك قضاءُ ليلة الغد في إنفرنيس. لقد كتبتُ على ورقةٍ ما ستفعله بعد ذلك.»
«يبدو أنكِ متأكدة تمامًا من أنه لن يحدث شيءٌ في كينجز كروس.»
قالت: «لا، لستُ متأكدة. فرجال الشرطة ليسوا حمقى — وهذا الرجل من سكوتلانديارد لم يُصدق نصف ما قلتُه — لكنهم مجرد بشر. ومع ذلك، لن أُعطيك تلك الورقة حتى يغادر القطار.»
قال: «أتمنى لو كان لديَّ هذا المسدس الآن!»
«أنا سعيدةٌ لأنه ليس معك. لقد جعلتَ من نفسك أضحوكةً كبيرة بالفعل.»
«لن أستخدمَه. سيمنحني الشجاعةَ فقط.»
«أرجوك جيري، كن متعقِّلًا. لا ترتكب أي شيء سخيف وتُفسد الأمور.»
خيَّم الصمت مرة أخرى، المرأة تجلس منتصبةً ومتنبهة، والرجل منكمشٌ في الزاوية، يكاد لا يُرى. ذهبا على هذا النحو إلى غرب لندن، عبْرَ الميادين المظلمة شمال شارع أكسفورد، إلى طريق يوستون، وأخذا منعطفًا حادًّا جهة اليسار إلى كينجز كروس. حانت اللحظة المناسبة.
قالت: «ادفع أنت لسيارة الأجرة وسأحصل أنا على التذكرة.»
وبينما كان لامونت يدفع للسائق، أخفى ظلَّ قبعته المثنيةِ لأسفل وجهه؛ لذا كان ظهرُه المتراجع هو كلَّ ما لاحظَته نظرةُ السائق المحدقة غير المبالية. جاء حمَّال وأخذ منه أغراضَه، وسلَّمها له عن طِيب خاطر. والآن بعد أن حان الوقت، لم يستطع تمالُكَ «أعصابه». فإن عليه المخاطرةَ بكل شيء لنجاح المحاولة، وكان بإمكانه أن يلعبَ الدور بشكلٍ جيد. عندما انضمت إليه المرأةُ من مكتب الحجز، كان التغيير الذي طرأ عليه واضحًا في الاستحسان الذي ظهَر على وجهها البارد. ذهبا معًا إلى الرصيف وتبعا الحمالَ لأسفل، بحثًا عن مقعدٍ في الزاوية. لقد قدَّما صورةً مقنعة بما فيه الكفاية — الرجل مع الغطاء وحقيبة الجولف والشطائر، والمرأة التي تُساعد في حمل المعطف الإضافي للرجل.
غاص الحمال في أحد الممرات وخرج مرةً أخرى قائلًا: «حصلتُ لك على ركن يا سيدي. ربما تحتفظ بالجانب كلِّه لنفسك طول الطريق. فالأجواء هادئةٌ الليلة.»
أعطاه لامونت بقشيشًا وتفقَّد مكانه. وحدد شاغلُ الجانب الآخر منطقتَه الخاصة، لكنه لم يكن حاضرًا بشخصه. عاد إلى المدخل مع المرأة وتحدث معها. سمعا وقْعَ أقدام في الممر من خلفه، فقال لها: «هل يمارسون أيَّ نوع من الصيد، برأيك؟»
قالت: «الصيد فقط في البحيرة»، وواصلَت الحديث حتى مضت الخطواتُ بعيدًا. لكن قبل أن يبتعدا عن مرمى السمع توقَّفا. وألقى لامونت نظرةً عابرة على الممر قدر استطاعته، ووجد أن صاحب الخطوات قد توقفَ عند باب مقصورته المفتوح وكان يفحص الأمتعة الموجودة على الرف. حينها تذكَّر، بعد فوات الأوان، أن الحمال وضع حقيبتَه بالأعلى والأحرف الأولى للخارج. كان حرفا «جي» و«إل» واضحَين ليقرأَهما كلُّ العالم. رأى الرجل يتحرك استعدادًا للعودة. قال بسرعة للمرأة: «تكلَّمي!»
قالت: «هناك جدولٌ صغير بالطبع، حيث يمكنك التقاطُ ما يسمُّونه بالسمك الشائك. يبلغ طولُ الواحدة منها نحو ثلاث بوصات.»
قال: «حسنًا، سأرسل لكِ سمكةً شائكة»، وتمكَّن من أن يضحك ضحكةً خافتة نالت إعجابَ المرأة في الوقت الذي توقف فيه الرجلُ وراءه.
«معذرةً سيدي، هل اسمك لوريمر؟»
قال لامونت: «لا»، وهو يستدير لمواجهة الرجل بشكل مباشر. «اسمي لو.»
قال الرجل: «أه آسف! هل هذه أمتعتك في المقصورة، إذن؟»
«نعم.»
«أوه شكرًا لك. أنا أبحث عن رجلٍ يُدعى لوريمر، وكنت آمُل أن تكون هذه له. إنها ليلةٌ باردة لانتظار الأشخاص غير الموجودين.»
قالت المرأة: «نعم؛ ابني يتذمَّر بالفعل من فكرةِ رحلته الليلية الأولى. لكنه سوف يتذمَّر أكثرَ بكثير قبل أن يصل إلى إدنبرة، أليس كذلك؟»
ابتسمَ الرجل. قال: «لا أستطيع قولَ شيء؛ فأنا لم يسبق لي السفرُ بمفردي طَوال الليل.» وأضاف: «آسفٌ على الإزعاج»، وانصرف.
قالت وهو يبتعدُ عن مرمى السمع: «كان يجب أن تدعَني آخُذ ذلك الغطاءَ الآخر يا جورج.»
قال جورج بتلقائية: «أوه، لن أستعملَ الغطاء! فمن المحتمل أن يصبح الجوُّ حارًّا مثل الفرن قبل مُضيِّ ساعة.»
انطلقت صافرة طويلةٌ حادة. أُغلق الباب الأخير بقوة.
قالت وهي تضع رِزمةً في يده: «هذا من أجل النفقات، وهذا ما وعدتُك به. الرجل على الرصيف. كل شيء على ما يُرام.»
قال: «لقد أغفلنا شيئًا واحدًا.» نزع قبعته، وانحنى، وقبَّلَها.
ورحل القطار الطويل ببطءٍ نحو الظلام.