عودة المُسافرَيْن الهائمَيْن
كان براكسفيلد — الذي كان كبيرَ الخَدَم لدى السيد أنطوني ماركنمور، بارونيت قصر ماركنمور كورت، طَوال ثلاثين عامًا — رجلًا منظَّمًا. فقد اعتاد فعل أشياءَ معينةٍ في أوقاتٍ معينة، وغرس في نفسه هذه العادة على مرِّ حياته؛ فكلما تقدَّم به العمر (وقد كان متجاوزًا الستين بقليل وقت أحداث هذه القصة)، ازداد تقديرًا لهذه العادة. كان بمثابةِ سيد المنزل الفعلي تقريبًا؛ فالسير أنطوني كان قعيدًا يُلازم غرفته، والسيد جاي ماركنمور، الابن الأكبر، لم يَخطُ عتبة بيت أبيه منذ سنوات، والسيد هاري ماركنمور، الابن الأصغر، كان يُفضِّل أن يتولَّى أيُّ شخص سواه كل مقاليد السيادة على الشئون المنزلية؛ أمَّا الآنسة فالنسيا ماركنمور، الابنة الوحيدة، فلم تتخرَّج في المدرسة إلَّا مؤخرًا؛ ومن ثَمَّ، استبدَّ براكسفيلد، بصورةٍ أو بأخرى، بالتحكُّم في شئون البيت استبدادًا غير صارم ولا ملحوظ، ومن دون أن يبدو عليه أنَّه يفعل ذلك. وقد كان يفرض قواعدَ جيدة، لكنَّ بعض قواعده الأخرى كانت أشبه قليلًا ببدعٍ قائمة على هوًى شخصي، وكان من بين تلك الأخيرة إيصاد باب المنزل في تمام الساعة الثامنة من كل مساء.
لو كان أيُّ شخص قد سأل براكسفيلد عن سر هذه القاعدة الغريبة، لكان كبير الخَدَم العجوز سيُبرِّر إصراره عليها بأسبابٍ يراها وجيهة. كان ماركنمور كورت بيتًا عتيقًا وكبيرًا جدًّا؛ إذ شُيِّد أصلًا في السنوات الأخيرة من عهد الملكة إليزابيث، ثم وُسِّعَت مساحته في عهد تشارلز الثاني، وأخيرًا شهد ترميمًا وتحديثًا في عصر جورج الرابع. كان البيت يقع على تلَّةٍ مائلة ذات انحدارٍ طفيف على بُعد مِيلٍ من قريةٍ سُمِّيت على اسم عائلة ماركنمور، التي استقرَّت في هذه المنطقة منذ الأيام الأولى للغزو النورماندي، ولم يكن يُوجَد أيُّ مسكن بالقُرب من القصر، عدا كوخٍ عند بوابات دخوله. كان للقصر عدد هائل من الأبواب؛ أبواب تُفتَح على الشرفة، وأخرى تُفتَح على الفناء، وأخرى على الحدائق، وأخرى على المروج، وعلى حظائر الخيل، وعلى ممرَّات خاصة تمتدُّ مُلتوية عبر الشجيرات الكثيفة، وكان يحوي أيضًا أروقة وصالات عرض وغرفًا قلَّما كان أفراد الأسرة والخَدَم يستخدمونها.
كانت الأسرة صغيرة وكان الخَدم قليلين؛ لأن آل ماركنمور كانوا فقراء نسبيًّا ولم يحفظوا سوى أقل القليل من ثرائهم القديم. ولكن بالرغم من فقرهم، كانوا يملكون نصيبًا كبيرًا من الأواني الذهبية والفضية، والأوعية الخزفية النادرة، والأشياء الزجاجية القيِّمة، وكان البيت يحوي كذلك صورًا تُقدَّر بأموال طائلة، ونادرًا ما يتوانى أصحابُ أيِّ بيتٍ يحوي بعض المُقتنيات السهلة الحَمل، التي قد تُباع بثمن باهظ في المزادات، عن عرضها علانية.
شَعَر براكسفيلد، الذي كان يحظى بضميرٍ شديد اليقظة، بأنَّه مسئول عن حفظ هذه الكنوز العائلية، وعاش في خوفٍ مُتوتر دائم من أن تُسرَق. ولو كان القرار بيده، لشيَّد منذ أمدٍ بعيد غرفةَ تخزين مُحصنة ضد الحرائق والسرقة، ووضع فيها كل شيءٍ قَيِّم يحويه المنزل القديم. لكنَّ آل ماركنمور، وإن كانوا يتساهلون في السماح لكبير خُدَّامهم بأن يتحكَّم في بعض شئون بيتهم، كانوا أناسًا لا يسمحون بالتدخُّل في العادات والنظام المُتعارَف عليه منذ قديم الزمان؛ ومن ثَمَّ كانت الكئوس الذهبية والصواني الفضية، التي كانت تلمع بإتقانٍ شديد وتُنظَّف من الغبار بعناية مُتناهية، تتلألأ على الخِزانات الجانبية الضخمة المصنوعة من خشب البلوط حيث كانت أعداد هائلة منها تُترَك بمُنتهى اللامبالاة، وكانت المشغولات العاجية النادرة والمُقتنيات الخزفية التي لا تُقدَّر بثمن تُوضع على الخِزانات الكبيرة المفتوحة القديمة، كأنَّها ليست أقْيمَ من الأشياء التافهة المرصوصة في متحف سوق المدينة المجاور، كما قال براكسفيلد بنبرة حزينة. ولذا كان يُوصِد أبواب المنزل في الساعة الثامنة كل ليلة، ويضع مفاتيح الأبواب التي يبلغ عددها ثلاثة عشر تقريبًا في غرفته؛ وبذلك كان أيُّ مَن يريد الخروج من ماركنمور كورت بعد تلك الساعة، سيدًا كان أو رجلًا عاديًّا، خادمة كانت أو سيدة، يُضطر إلى اللجوء إلى براكسفيلد طلبًا لوسيلةٍ للخروج.
وذات مساء في ثالث أسابيع شهر أبريل من عام ١٩١٢، بدأ براكسفيلد جولته المُعتادة على أبواب المنزل ليوصِدها بعد انتهاء العشاء البسيط الذي كان السيد هاري ماركنمور يتناوله مع شقيقته فالنسيا في الساعة السابعة من كل ليلة. ودائمًا ما كان براكسفيلد يبدأ جولته بالأبواب الأصغر ويُنهيها بالباب الكبير ذي المصاريع الثلاثة الذي كان يُفتَح على الشرفة. وهنا كانت تأتي عادة أخرى من عاداته المُبتدَعة؛ فقبل أن يغلق هذا الباب ويوصده أخيرًا، دائمًا ما كان يخرج إلى الشرفة، ويتخطَّاها إلى أن يبلغ الدرابزين الذي كان يُحيط بها ويفصلها عن المُتنزَّه الواسع المُمتد أمامها، ثم يُلقي نظرة على المشهد كله المُمتد أمامه، وكان يفعل ذلك بغض النظر عن فصول السنة؛ لذا أحيانًا لم يكن يرى سوى ظلامٍ كئيب، كما في أمسيات الشتاء المُعتمة، وأحيانًا ما كان يرى قدرًا هائلًا من الجمال، كما في أمسيات الصيف. وفي هذه المرة تحديدًا، رأى الشفق يُسدِل أستاره على أشجار الدردار والزان العتيقة، وفوق المروج المُموَّجة التي تقع بين قرية ماركنمور والسهول المُستوية الواقعة جنوبها. كان الشفق يُسدِل أستاره سريعًا، ثم صار براكسفيلد يراه من خلال الغسَق في غضون الدقائق القليلة التي كان واقفًا فيها هناك وهو ينظر حوله، وصارت الغابات والأجمات أشكالًا ضبابية وغير واضحة، ومن ورائها على بُعد ميلٍ واحد منها، بدأت أضواء القرية تتلألأ في الظلام. حينئذٍ استدار براكسفيلد نحو الباب، ثم توقَّف فجأة. ففي مكانٍ ما كان خلفه رجلٌ يعبُر المرج الواقع تحت الشرفة بخطوات سريعة واسعة.
كان يُوجَد مصباح قوي الإضاءة داخل المدخل الكبير مباشرة، وكانت أشعته منتشرة كالمروحة عبر الشرفة وفوق الدرجات المؤدية إلى المرج. وحين أبطأ براكسفيلد الخطى، مُتسائلًا في قرارة نفسه عن هوية ذاك الشخص المُقترِب (لأنَّ بيت ماركنمور كورت نادرًا ما كان يستقبل زوَّارًا في تلك الأيام)، خَطَت قامةٌ طويلة خطوةً واسعة داخل هذا القوس الذي شكَّله الضوء، وصعدت الدرجات سريعًا مُتجهة نحو الباب، كانت قامة رجل رياضي ضخم البنيان يرتدي معطفًا خفيفًا مفتوح الأزرار يَستر جزءًا من ثياب السهرة الرسمية التي يرتديها. وكان جليًّا أنه لم يأتِ من مكانٍ بعيد لأنه كان حاسر الرأس، بل بدا كرجلٍ قام على عجل من مائدة عشائه وأتى مُسرعًا إلى منزل أحد جيرانه. ومع ذلك، أطلق كبير الخدَم صيحة تعجُّب حادة متفاجئة حين رآه.
قال وهو ينتفض خارجًا من الظل الذي كان واقفًا فيه: «ليُبارك الرب حياتي وروحي! السيد جون هاربورو؟ مرحبًا بعودتك يا سيدي، لم أكن أعلم أنَّك عُدتَ إلى الديار مُجددًا.»
وهنا التفت الرجل الذي خُوطِب بهذه الكلمات — والذي صار آنذاك في وهَج المِشكاة الكامل، بوجهه البرونزي وعينيه العميقتَين الداكِنتَين الحادتَين — نحو خدَّي كبير الخَدَم العجوز المُستديرين وقامته المُكتنزة. ومَدَّ يده اليُمنى ضاحكًا.
قال بابتهاج ونبرة شخصٍ يُحيِّي أحد معارفه القُدامى: «مرحبًا يا براكسفيلد!» واستطرد قائلًا: «أهذا أنت؟ ما زلتَ مُفعمًا بالنشاط كما كنتَ دائمًا، هاه؟ لا يبدو أنَّ العمر قد تقدَّم بك يومًا.»
رَدَّ براكسفيلد وهو يصافحه باحترام وتبجيل، قائلًا: «الرجال في عمري هذا لا يتغيَّرون كثيرًا يا سيدي. بل يحدُث هذا بعد ذلك بقليلٍ يا سيد هاربورو. ولكن هل عُدت حقًّا يا سيدي؟ لم أسمع بذلك، وإن كنا لم نَعُد نسمع الكثير عمَّا يحدُث حولنا الآن؛ إذ صار ماركنمور كورت أهدأ من أي وقتٍ مضى، يا سيدي.»
رَدَّ هاربورو قائلًا: «لم أعُد إلى الديار إلَّا عصر اليوم يا براكسفيلد. وبينما كنتُ على وشك الانتهاء من العشاء، سمعتُ أنَّ السير أنطوني مريض؛ لذا جئتُ فورًا لمعرفة حالته. أهي خطيرة؟»
قال براكسفيلد: «حسنًا، يا سيدي، لقد ساءت حالته قليلًا في اليوم أو اليومين الماضِيَين. إن حاله يتبدَّل بالطبع؛ لقد مرَّ عامان كاملان منذ آخر مرةٍ غادر فيها غرفته. وبيني وبينك يا سيد هاربورو، قد يُفارِق الحياة في أي لحظة … في أي لحظة. هذا ما يقوله الأطباء يا سيدي.»
فسأله هاربورو وهو يُلقي نظرةً خاطفة على النوافذ المُضاءة في مقدمة المنزل: «مَن موجود هنا؟»
أجاب كبير الخدَم قائلًا: «لا أحد سوى السيد هاري والآنسة فالنسيا. أمَّا السيد جاي … آه، فلم نرَهُ في ماركنمور منذ … نعم، منذ سبع سنوات كاملة. لقد رحل … رحل في نفس وقت رحيلك بالضبط يا سيد هاربورو، ولم يَعُد قَط، ولا مرة واحدة! لا أعرف مكانه، وأعتقد أنهما لا يعرفان أيضًا.»
فقال هاربورو: «إممم!» وأضاف: «هاري، حسنًا … لقد كان صبيًّا حين غادرتُ، وفالنسيا كانت فتاةً صغيرة ضئيلة الجسد جدًّا.»
قال براكسفيلد: «نعم يا سيدي، لكنَّ السيد هاري صار الآن شابًّا في الثالثة والعشرين من عمره، والآنسة فالنسيا صارت شابة تخطَّت التاسعة عشرة. لقد ابتعدتَ فترة طويلة يا سيدي! ولكن تفضَّل بالدخول يا سيد هاربورو، تفضَّل! أنا سعيد برؤيتك في ماركنمور مرة أخرى يا سيدي.»
سار هاربورو وراء كبير الخدَم العجوز إلى داخل المنزل، وعبَرَ الصالة الحجرية القديمة، التي كانت مُزينة ببعض قرون الغزلان ووجوه الثعالب والبنادق القديمة وغيرها من غنائم الصيد والحياة الريفية، إلى غرفةٍ تذكَّرها جيدًا، صارت العائلة تستخدمها مُلتقًى مُعتادًا. كانت المِدفأة تحوي حطبًا مُشتعِلًا بنيران مُتوهجة، وسَحَب براكسفيلد كرسيًّا ووضعه بجوارها.
ثم أسرَّ إليه هامسًا: «لم نَعُد نستخدِم غرفة الضيوف قطُّ يا سيد هاربورو. لقد صارت هذه الغرفة تُلبِّي كل الأغراض؛ إذ أصبحت غرفة الطعام وغرفة الجلوس وما إلى ذلك. لم نَعُد موسرين كما كنا دائمًا يا سيدي، هاه؟ ولكن ما زالت لدينا زجاجة من النبيذ البرتغالي الفاخر النادر للأصدقاء القُدامى! هل أُحضِرُ لك أيَّ شيء يا سيد هاربورو؟ اطلُب ما شئت يا سيدي!»
أجاب هاربورو قائلًا: «لا شيء، لا شيء يا براكسفيلد، شكرًا لك.» ثم نظر حوله وأومأ برأسه نحو أشياءَ مُتنوعة. وتمتمَ قائلًا: «أتذكَّرُ كل شيء. لا شيء تغيَّر! حسنًا، أخبِر الشاب والفتاة بأنني هنا يا براكسفيلد.»
حين ذهب الخادم، وقف هاربورو بجوار رف المدفأة — الذي كان عبارة عن قطعةٍ ثقيلة منحوتة ببراعةٍ من خشب البلُّوط القديم — ونظر حوله مرةً أخرى إلى أرجاء الغرفة. كان يعرف تلك الغرفة في أيام صباه، قبل حوالي ثلاثين عامًا، كانت آنذاك غرفة الفطور وغرفة الجلوس النهارية والمكان الأكثر راحة في المنزل الكبير المُترامي الأطراف. كانت لا تزال مُريحة في هذه اللحظة، بأثاثها القديم وصُوَرها القديمة وكُتبها القديمة؛ إذ كان كلُّ ما فيها يوحي بعراقة العائلة التي كانت تملكها. ولكن بالرغم من هذه الراحة، التي كانت تكفي المرء وتُشعِره بأنه في بيته، لاحظت عينا هاربورو الحادَّتان وبصيرته الفطنة طابعًا عامًّا لخَّصه في كلمةٍ واحدة: التحلُّل! التحلُّل الذي كانت شواهده واضحة في كل مكانٍ من حوله. كان كل شيءٍ يَبلى بوتيرة بطيئة بالطبع، لكنه كان يَبلى بلا ريب.
رفع ناظريه فجأةً عن السجادة البالية التي كان واقفًا عليها ليرى الباب وهو يُفتَح بينما دخلت فتاةٌ واقتربت منه مادَّةً يدَها، كانت فتاة طويلة ليِّنة القوام وداكنة الشعر، كسائرأفراد آل ماركنمور، وحسناء، وتُوحي بطريقةٍ ما بالحياة والحيوية إيحاءً لم يستطِع تمييز ماهيته فورًا. كانت شابةً جميلة، وكانت نضارتها أشدَّ فتنةً بكثير في هذا المحيط القديم؛ إذ خَلَبت هاربورو بشدة إلى حدٍّ جعل لسانه ملجومًا، وأمسك يدَها وحدَّق إليها مذهولًا طوال دقيقة كاملة قبل أن يجد كلمة واحدة.
ثم صاح أخيرًا وهو خافض عينَيه إليها من علوِّ قامته التي كانت تبلُغ ستَّ أقدام وبوصتَين، مع أنَّ الفتاة كانت طويلة، وقال: «يا إلهي!» وأردف: «هل … هل أنت فالنسيا؟»
أجابت ضاحكة: «ولا أحد سِواها، على حدِّ علمي! ألم تعرفني؟ لقد عرفتك.»
فقال هاربورو: «آه! كنتُ رجلًا كبيرًا بعض الشيء حين رحلت! في حوالي الثلاثين من عمري. لكنَّكِ آنذاك كنتِ …»
فقاطعته قائلة بضحكة أخرى: «في الثالثة عشرة. ونحيلة للغاية على ما أظن. إذن فقد عُدتَ إلى الديار مرة أخرى حقًّا؟»
أشارت إلى كرسيٍّ وارتمت على آخَرَ، فيما جلس هاربورو أيضًا وواصل التحديق إليها وهو لا يزال مُتعجبًا من أنَّ تلك التي يتذكَّرها طفلةً عادية خرقاء بعضَ الشيء قد تحوَّلت إلى هذه المخلوقة الشابة المُفعمة بالحيوية والتألق.
أجاب قائلًا: «عُدت اليوم فقط، وحالما سمعتُ بمرض أبيكِ، جئت فورًا للسؤال عن حالته.»
فقالت ببساطة: «شكرًا لك. لكنِّي لا أرى حالته أسوأ ممَّا كانت على مدار فترة طويلة. إنه يمر بأيامٍ سيئة بالطبع — إذ لم يكن بخير حالٍ يوم أمس — ولا شكَّ أن هذا هو سبب مجيئك لتطمئن على حالته. لقد صار طاعنًا جدًّا في السن الآن كما تعلم، وواهنًا للغاية.»
فاقترح هاربورو تقديمَ المساعدة قائلًا: «هل بإمكاني فعل أي شيء؟» وأضاف: «فكما ترين، لقد عُدت إلى الديار إلى الأبد. بعد حوالي سبع سنوات من التَّرحال.»
قالت فالنسيا: «من المؤكَّد أنَّك قد رأيتَ الكثير.»
قال هاربورو مؤيدًا ما قالته: «أشياء لا حصر لها. في كل أنحاء العالم! ولكن راوَدَني شعورٌ بأنِّي لم أرَ أي شيءٍ يُضاهي نصف جاذبية بيتي القديم حين عُدتُ إليه اليوم! ولن أتركه مرة أخرى. إنه الاستقرار، كما تعلمين.»
قالت فالنسيا: «جرايكلويستر مكان جميل. كثيرًا ما كنت أتمشَّى في حديقتك في أثناء غيابك، وأتساءل كيف استطعتَ أن تترُكها كل هذه الفترة الطويلة.»
قال هاربورو: «كانت عندي أسباب. ومع ذلك، فها أنا ذا قد عُدتُ مُجددًا، ويُسعدني جدًّا أن أرى الجميع مرةً أُخرى. لقد أحضرتُ معي إلى الديار أشياء كثيرةً للغاية من كل الأنواع، أرجو أن تزوريني وتريها، ستفعلَين قريبًا، أليس كذلك؟»
ردَّت فالنسيا قائلة: «بكل سرور!» وأردفت: «أظنك ستُنشئ متحفًا أو ما شابه؟»
قال هاربورو: «أظنني سأتبرَّع بالكثير منها. فقد جلبتُ أشياءَ لا حصر لها من أماكنَ متفرقة. ولكن … يا إلهي، أهذا هاري؟»
كان الباب قد فُتِح مُجددًا، وفي هدوء دلفَ شاب إلى الغرفة. كان طويلًا نحيفًا داكن الشعر ويرتدي نظَّارة، وكان مظهره يتَّسِم بطابعٍ خجول مُتحفِّظ يوحي بأنَّه طالب. ابتسم ابتسامةً خفيفةً وهو يُصافح الزائر لكنه لم يقُل شيئًا.
ردَّت فالنسيا على استفسار هاربورو بالإيجاب قائلة: «إنه هاري بالتأكيد. لقد تغيَّر بالطبع، بقدْر ما تغيرتُ أنا أيضًا. ومع ذلك، فأنت تتذكَّره؟»
فقال هاربورو: «أتذكَّر أنه خرج معي للصيد في الغابة القريبة من بيتي قبل رحيلي بيومٍ أو اثنين.» ثم نقل عينَيه من الأخ إلى أخته بفضول ممزوج بتفكيرٍ عميق. كان يقول في قرارة نفسه إنَّ هذين الاثنين كانا أصغر فردَين في الأسرة، أمَّا جاي ماركنمور، شقيقهما الأكبر وابن السير أنطوني ماركنمور من زوجته الأولى، فكان يكبُرهما بعدة سنوات؛ لذا فمن المُؤكَّد أنَّ عمره في هذا الوقت سيكون قريبًا من عمر هاربورو نفسه. تابع حديثه وهو يرمق الأخ بنظرة خاطفة: «لا شكَّ أنَّك مارست الكثير من الصيد منذ تلك الأيام.» وأضاف: «فدائمًا ما كانت أراضيكم مشهورة بكل أنواع الرياضات.»
ابتسم هاري ماركنمور مُجددًا، ولم يقُل شيئًا هذه المرة أيضًا، فردَّت أخته نيابةً عنه.
قالت: «هاري لا يمارس الرياضة كثيرًا. إن اهتمامه منصبٌّ بالكامل على الكُتب وشئون المال والأعمال. إنه يبذل جهدًا من أجل … من أجل إصلاح الأوضاع. فبطريقةٍ ما، ساء الوضع المالي للعائلة. صحيحٌ أننا ربما نملك الكثير من حيوانات القواع والأرانب وطيور الدرَّاج والحجل، ولكن ليس لدَينا سوى قدر قليل جدًّا من المال!»
وهنا تكلَّم هاري ماركنمور أخيرًا؛ إذ علَّق قائلًا وهو يرمق هاربورو بنظرةٍ ذات مغزًى: «كان لدَينا مديرٌ ماليٌّ سيِّئ. ترك الأوضاع تسُوء. لذا تولَّيتُ إدارتها بنفسي في العامين الماضيين. لكنَّ كل أراضينا مؤجَّرة بأسعارٍ زهيدة للغاية، يجب رفع قيمة الإيجارات.»
قال هاربورو: «هذا اقتراح قاسٍ.»
وأضاف: «إن معظمهم يريد خفض الإيجارات بدلًا من رفعها. أظنُّني سأُضطر أنا أيضًا إلى الخوض في مثل هذه المسائل، وربما نستطيع التعاون والتفكير معًا في حل.»
فقالت له فالنسيا بنظرةٍ تنمُّ عن دراية: «آه، لكنَّك لستَ معتمِدًا على إيجارات مزرعتك!» وأضافت: «فلديك أملاك وعقارات في البلدة. أترى كم أنا فتاة مُطَّلعة! كلُّ ما نحصل عليه هو إيجار مزارِعنا، لكننا مُلَّاك أراضٍ تُعَساء الحظ؛ فلسْنا أثرياء كأولئك الذين أجَّرنا أراضينا لهم. ولو كان بإمكاننا، أنا وهاري، أن نتصرَّف كيفما نشاء، لكنا سنبيع الأراضي ونُنهي تلك المسألة.»
قال هاربورو: «أحيانًا ما تكون هذه طريقة جيدة. لِمَ لا؟»
نظر الأخ وأخته أحدهما إلى الآخر.
ثم قالت فالنسيا: «لأنَّ حقَّ ملكيتها مقصور على ورَثةٍ مُحدَّدِين.»
ونظرت إلى هاربورو نظرةً خاطفة ذات مغزًى ظاهرٍ في عينيها، وأومأ هاربورو برأسه.
ثم قال: «هكذا الأمر. ولكن … يُمكن التغلُّب على ذلك إذا … إذا كان شقيقكما الأكبر مُستعدًّا للموافقة.»
فتبادل الأخ وأخته النظرات مرةً أخرى.
وقال هاري: «لا نعرف مكان جاي. ولا أحد يعرف، أو على الأقل لا أحد ممَّن نعرفهم. فلم يُسمَع أيُّ خبرٍ عنه منذ … منذ حوالي سبع سنوات على ما أظن.»
قالت فالنسيا: «إنها سبع سنوات. أتذكَّر جيدًا.» ثم نظرت مرةً أُخرى إلى هاربورو. وأضافت: «لقد رحل فجأة، قُبيل رحيلك مباشرة. وكان ذلك منذ سبع سنوات.»
تملمَل هاربورو قليلًا في كرسيه. فلم يكن يريد أن يُجرَّ إلى مناقشة أسرارِ آل ماركنمور. لكنَّه شعر بفضولٍ ما.
سألها قائلًا: «هل تقصدين ذلك … حرفيًّا؟»
أجابت فالنسيا: «بكلِّ تأكيد!» وأردفت قائلة: «لم يسمع أحد منَّا — ولا من أقربائنا أو معارفنا — خبرًا واحدًا عنه منذ ذلك الحين.»
فقال هاربورو: «ولكن … ماذا عن المال؟» وأضاف: «من المُفترض أنَّه يريد أموالًا. ألم يرسِل إليكم في طلب أي أموال من قبل؟ مبلغ يُخصَّص له لتغطية نفقاته مثلًا؟»
فقال هاري: «كان لديه ماله الخاص. فقد آلت إليه كل أموال أُمِّه عند وفاتها. لا؛ كما تقول فالنسيا، لم نسمع عنه أيَّ شيء قَطُّ منذ أن غادر ماركنمور، ولا نعرف مكانه. ليتنا كنا نعرف! فوالدي لا يمكن أن يبقى على قيد الحياة طويلًا.»
قام هاربورو من كرسيه.
وقال: «حسنًا، أنا مُضطر إلى المغادرة. ستحرصان على إخباري إذا وُجِد أي شيء يُمكنني فعله، أليس كذلك؟ لكنَّكما تقولان إن السير أنطوني ليس مُهددًا بخطرٍ وشيك؟»
ردَّ هاري قائلًا: «ليس وشيكًا. لكنَّه قد يُباغته في أي لحظة. ولأنَّه لا يُطيق صبرًا على البقاء وحده، فهل ستلتمِس لي العُذر إن عُدتُ إليه؟ إذا بدا عليه شيء من التحسُّن يوم غد، فسأخبره بأنَّك عُدتَ إلى الديار مرةً أخرى، ومن المؤكد أنك تستطيع رؤيته حين تزورنا. ستأتي مُجددًا عمَّا قريب، أليس كذلك؟»
قال هاربورو: «بكل تأكيد.» وسار مع فالنسيا إلى داخل الصالة حين ذهب هاري، ورمقَها مُجددًا بنظرة تحذيرية. وأضاف: «لن تنسَي أن تستدعيني إن كان بوسعي تقديم أي مساعدة! ينبغي ألَّا تعتبروني مجرد جارٍ عادي، كما تعلمين، بما أنني قد عُدت الآن.»
فقالت: «لن أنسى.» ثم ألقت نظرةً خاطفة حولها تزامنًا مع ظهور براكسفيلد للتوِّ في الطرف الأقصى من الصالة المغمورة بالظل، حاملًا مفتاحًا في يده؛ فتنحَّت بهاربورو جانبًا. ثم همست له قائلة: «أريد أن أسألك عن شيءٍ ما. هل لديك أي فكرة عن سبب رحيل أخي جاي عن الديار، وعدم رجوعه قَط؟ إنني أسألك أنت، بذاتك؟»
كانت عيناها الكبيرتان الداكنتان تُحدِّقان إليه بجدية غريبة، ورأته ينتفض قليلًا ويضغط شفتيه.
قالت: «أخبِرني.» وأردفت: «أخبِرني أنا!»
وهنا ألقى هاربورو أيضًا نظرةً خاطفة على براكسفيلد؛ إذ كان كبير الخدم العجوز يقترب منهما لكنَّه لم يسمع ذاك السؤال الشائك ولا إجابته اللاحقة.
ثُم تمتم هاربورو قائلًا: «ربما أكون على درايةٍ بشيءٍ ما. وإذا … إذا رأيت، بعد التفكير مليًّا، أنَّني يجب أن أُخبرك، فسأفعل. لاحقًا.»
منحته إيماءةً مُتفهمة وكلمة شُكر هامسة، ثم تركته وصعدت الدرَج المظلم الذي كان خلفهما. وبعدئذٍ تحدَّث إليه براكسفيلد بكلمةٍ أو اثنتين وفتح له الباب لينصرف، وأوصد الباب الكبير، ثم وضع بعرضه كرسيًّا ثقيلًا كان يُستخدَم لهذا الغرض على مرِّ العديد من أجيال آل ماركنمور. وبهذا أُحكِمَ تأمين المنزل ليلًا.
عاد براكسفيلد إلى حُجرته، التي كانت غرفة جلوس دافئة مريحة تقع في نهاية الرواق الرئيسي الكبير. كانت في الغرفة نيرانُ تدفئة مُتوهجة، وكان كرسيه الوثير ذو الذراعين المحشو ببطانة كثيفة ليِّنة موضوعًا بجوارها. كان هذا الوقت هو وقت الراحة والاستجمام بالنسبة إليه. فكل المهام قد أُنجِزَت وعمَّ السكون أرجاء المكان؛ لذا كان يعمد إلى تدخين غليونه وقراءة الجريدة والاستمتاع بكأسٍ من الويسكي. كان غليونه في مُتناول يدِه، وكانت الجريدة تجاوره، واتجه براكسفيلد إلى الخزانة ليُخرِج إناء الويسكي والكأس. ولم يكد يضع يدَه على هذه الأشياء حتى سمع صوتًا. فأرخت أصابعه قبضتها عنها، ونزلت إلى جواره، وبدأت ترتجف. فقد كان يعرف هذا الصوت؛ إذ كان مألوفًا جدًّا له برغم مرور سبع سنوات منذ آخر مرةٍ سمعه. ثم وقف يُنصِت فسمعه مجددًا. كان صوت نقرة خفيفة لكنها مُحكَمة تكرَّرت ثلاث مرات على نافذة الحجرة. وحينئذٍ غادر الحجرة، وانعطف إلى مَمرٍّ جانبي وفتح بابًا يؤدي إلى حديقة الورد. فدخل منه رجل، وفي الضوء الخافت المُنبعث من مِشكاة مجاورة، رأى كبير الخدم وجهه.
فصاح وهو ينتفض مُتراجعًا إلى الحائط: «ليرحمنا الرب!» وأضاف: «السيد جاي؟»