الخاتم والغليون
أخذ المُحامي غليون التبغ وفحصه، ثم مرَّرَه إلى قاضي التحقيق، الذي عاينه سريعًا هو الآخر ثم سلَّمه إلى السيد فرانسيمري وزملائه المُحلَّفين. فمُرِّر الغليون على المُحلَّفين الاثني عشر وعاد إلى المحامي، الذي رفعه إلى جريمسدِل لينظُر إليه مرةً أخرى.
وسأله قائلًا: «وجدتَ هذا — وهو غليونُ تبغٍ مصنوعٌ بجودة فائقة من خشب أشجار الخلنج ومُزيَّن بحلية فضية — على مائدة العشاء في حجرة الجلوس في نزلك بعدما رحل الرجال الثلاثة يا جريمسدِل؟ هل استنتجتَ أنَّ أحدَهم قد تركَه هناك؟»
«أنا واثق من ذلك يا سيدي.»
«ما السبب الذي يجعلك واثقًا من ذلك؟ فأنا أفترض أنَّك استقبلتَ زبائن آخرين في تلك الحجرة في اليوم السابق؟»
«هذا صحيح يا سيدي. لكني أعددتُ مائدة العشاء بنفسي. وكان ذلك الغليون يا سيدي، حين وجدته، موضوعًا على طبقٍ صغير، حيث كان أحد الرجال الثلاثة جالسًا. وكان قد استُخدِم للتوِّ يا سيدي؛ إذ كان وعاء التبغ دافئًا.»
قال المحامي مبتسمًا: «أهنئك على قوة ملاحظتك يا جريمسدِل.» ثم وضع الغليون على المنضدة التي أمامه، وسط أوراقه، والتفت إلى قاضي التحقيق. وأردف قائلًا: «أظنك يا سيدي قد تحدَّثتَ عن إرجاء استكمال التحقيق عند هذه المرحلة.» ثم استطرد قائلًا: «إذا كان لي أن أطرح اقتراحًا، فأظنُّ أنَّ من الأفضل أن تكون مدة الإرجاء كافيةً لإتاحة مُتَّسع من الوقت لإجراء مزيدٍ من التحريات الدقيقة؛ إذ يبدو لي أننا بحاجةٍ إلى تقصِّي الكثير من الحقائق، و…»
فقال قاضي التحقيق: «سنُرجئ التحقيق إلى مثل هذا اليوم بعد أسبوعين.» ثم التفت إلى هيئة المُحلَّفين وأصدر إليهم بعض التعليمات والنصائح بألَّا يتبنَّوا أيَّ حُكم نهائي إلى أن يُعرَض أمامهم مَزيد من أقوال الشهود والأدلة. ثم قام من كرسيه وهو يُتمتِم مُعربًا عن أمله في أن تكون الشرطة قد كشفت مزيدًا من غموض تلك القضية المُفجِعة بحلول الوقت الذي سيلتقون فيه مُجددًا لاستكمال التحقيق، وكان جليًّا أنه يشعر بالارتياح لانتهاء فعاليات جلسة ذلك الصباح.
سرعان ما خَلَت قاعة الطعام القديمة. فقد بدأ الحاضرون والشهود والمسئولون يُخرِجون أنفسهم من الأركان والزوايا، ويُغادرون القاعة جماعاتٍ مُتفرقة وأخرى متكدِّسة وهُم يناقشون الأحداث والمعلومات التي شهدوها هذا الصباح. فرحلت السيدة تريزيرو مع ضيفيها، فيما غادر هاري ماركنمور وشقيقته القاعة برفقة هاربورو، وخرَج المحلَّفون مُصطفِّين مَثنى وثلاث بعضهم خلف بعض. ولكن في وسط هذه المحكمة المؤقتة، وحول المنضدة الكبيرة التي كان المُحامون والمسئولون جالسين إليها في أثناء التحقيق، وأمامهم دفاتر وأوراق، اجتمع عدة رجال وبدءوا يناقشون الأوضاع نقاشًا غير رسمي، وهُم: قائد الشرطة، وبليك، ومحامي السلطات، وتشيلفورد، ووكينشو، والسيد فرانسيمري، الذي شعر بأنَّ لديه مُسوِّغًا لمحاولة سماع كلِّ ما يُمكن سماعه، بالرغم من التحذير الذي وجَّهه قاضي التحقيق إلى المُحلَّفين.
حين انضم السيد فرانسيمري إلى هذه المجموعة، كان تشيلفورد يقول: «رأيي في ذلك هو هذا بالضبط — وأقوله بصفتي محامي آل ماركنمور — لا بدَّ من إجراء تحريات دقيقة شاملة عن أعمال جاي ماركنمور وحياته الخاصة في لندن! فهذا الأمر لم يبدأ هنا، ولم يُدبَّر له هنا! لذا إن أراد المُحقِّق الرقيب بليك الوصول إلى أصل المسألة، فعليه أن يبدأ في لندن، حيث عاش ماركنمور طوال بضع سنوات مضت.»
فقال مُحامي السلطات، الذي حين أنهى عمله أشعل سيجارة، وكان يُدخِّن بكل ارتياح وهو جالس على حافة المنضدة: «أتظنُّ أن أحدًا قد تتبَّعَه إلى هنا؟» وأردف قائلًا: «أتظن أنها جريمة دُبِّرَت في لندن؟»
فأجاب تشيلفورد قائلًا: «أظنُّ أنَّ ثمة احتمالًا كبيرًا جدًّا أنَّ يكون كلُّ ما سمِعناه صباح اليوم ليس له أي علاقة تقريبًا بالحقيقة الفعلية وراء مَقتل جاي ماركنمور!» وأضاف: «أنا مُتيقن تمامًا — في رأيي الشخصي — أنَّ جون هاربورو بريء مِثلي، ولستُ أقلَّ يقينًا من أنَّ الرجلَين اللذين كانا مع جاي في سيبتر أيضًا بريئان. أغلب الظن أنَّ أقوال هذين الرجلين ستُسمَع، سوف يتطوَّعان بتقديم معلومات. وستجدون أنَّ ذاك اللقاء الذي جرى في سيبتر — ولنقُل إنه كان غريبًا، إن كنتم تريدون ذلك! — لم يكن سوى لقاء عمل. كلَّا، لم نتوصَّل إلى أي شيءٍ بعد! وكما قلت، إذا أراد بليك أن يُجري بعض البحث والتحري، فعليه العودة والبدء من لندن. فكيف لنا أن نعرف ماهية شئون جاي ماركنمور، أو أسراره؟ فرغم كلِّ ما نعرفه، ربما كان يُوجَد سبب قوي لدى شخصٍ أو آخر للتخلُّص منه.»
قال قائد الشرطة: «ما يُحيرني بشدة هو: كيف دخل الرجلان اللذان كانا مع جاي ماركنمور في سيبتر المنطقة وخرجا منها دون أن يراهما أحد؟ لقد أجرى رجالي بالفعل تحرياتٍ دقيقة للغاية في كل محطات القطارات في الحي، ولم نتوصَّل إلى أي شيء!»
قال ووكينشو: «غريبان أيضًا!»
تساءل تشيلفورد قائلًا: «وكيف لنا أن نعرِف ذلك؟» وأضاف: «يُوجَد رجال كثيرون في نطاق عشرين ميلًا ربما كانت لهم تعامُلات مع جاي ماركنمور في إطار العمل. ربما كانت مهمة جاي التي جاء من أجلها إلى هنا في تلك الليلة مع هذَين الرجلَين لا تختلف عن المهمة التي جاء لتسويتها مع أخيه وأخته. هذا احتمال مُرجَّح.»
فقال ووكينشو: «يؤكد جريمسدِل أنَّ الرجل الأول كان أمريكيًّا. ليس لدَينا أمريكيون كثيرون يعيشون هنا في هذه المنطقة. أستطيع أن أعُدَّهم على أصابع يدي.»
فقال قائد الشرطة: «هذا صحيح. إذا كان الرجل أمريكيًّا — وجريمسدِل يقول إنه التقى عددًا كبيرًا من الأمريكيين إبَّان عمله السابق، ومن المؤكد أنه يعرِف ذلك يقينًا — فقد جاء ذلك الرجل من خارج منطقتنا. لكن ما يُحيرني هو: كيف غادر هو والرجل الآخر المنطقة صباح الثلاثاء دون أن يراهما أحد؟»
كان السيد فرانسيمري، مثل بليك، يُصغي باهتمامٍ طَوال هذا الوقت إلى هذه الآراء والأفكار المتبادلة، ولكن في صمت، وهنا سَعَل بلُطفٍ كما لو كان يُحاول تفادي وصول أي انطباعٍ بأنه يريد التدخُّل في الحديث.
ثم قال: «بمناسبة الحديث عن … عن أمريكا. قد يكون هذا غير مُهم؛ بل وغير مُرتبط بموضوع النقاش، ولكن ربما لي أن أذكر أنَّ باخِرةً بريدية قد غادرت ساوثهامبتون مُتجهة إلى نيويورك في الساعة الواحدة بعد ظهر الثلاثاء الماضي. وماركنمور تقع في نطاق ثلاثين ميلًا من ساوثهامبتون برًّا، وإذا كان هذا الرجل — أي الرجل الأول — أمريكيًّا، فمن المُحتمَل أنه سافر إلى ساوثهامبتون، واستقلَّ تلك الباخِرة، وصار بعيدًا في عُرض البحر قبل أن يعرف ما أصاب الرجل الذي كان قد استضافه على العشاء. أعرف هذه الباخرة؛ لأنني أرسلتُ بعض الوثائق القديمة النادرة عبر البريد إلى أحد أصدقائي في الولايات المتحدة بواسطتها.»
وهنا بَرَم قائد الشرطة شاربه العسكري، ورمق السيد فرانسيمري بنظراتٍ مُتأملة.
ثم قال: «امم!» واستطرد قائلًا: «ربما يُوجَد قدْر كبير من المنطق في ذلك، ربما يكون من المؤكد أنه مكث في هذا المكان في طريقه من لندن إلى ساوثهامبتون. لكنَّ الشيء الغريب أننا لا نسنطيع العثور على أيِّ أثر لمجيئه أو ذهابه!»
فتساءل ووكينشو: «لماذا لم يعُد قَط إلى نزل سيبتر، حيث كان له ثلاثة جنيهات وأربعة عشر شلنًا؟»
فقال قائد الشرطة: «لا أعرف. لكنِّي مُتيقن تمامًا من أنه، بغض النظر عن هويته، لم يستقلَّ قطار الصباح الباكر من سيلكاستر إلى لندن، لا من محطة سيلكاستر ولا من محطة ميتبورن، في صباح ذلك اليوم. فلم يستقلَّ القطار آنذاك سوى خمسة ركاب من محطة سيلكاستر، وراكبَين اثنين من محطة ميتبورن، وعمال السكة الحديدية يعرفون كلَّ رجل منهم!»
فقال ووكينشو: «ليس بالضرورة أن يستقلَّ المرء قطارًا ليدخل منطقةً ما أو يخرج منها. اعتقادي الشخصي أنَّ هذين الرجلَين أتيا إلى هنا ورحلا عن هنا بسيارة.»
فنظر قائد الشرطة إليه وأصدر صوت نخر تعبيرًا عن معارضته.
وقال له: «أتظنُّ أنني لم أفكِّر في ذلك؟» وأضاف قائلًا: «لقد جعلتُ رجالي يُجرون تحرِّيات من هذا النوع في كل أنحاء المنطقة! كل قرية مجاورة وكل مزرعة بمبانيها على جوانب التل! ولم نحصل على مثقال ذرة من المعلومات!»
رَدَّ ووكينشو قائلًا: «هذا لا يُفاجئني ولا يؤثِّر فيما قلتُه. لعلك تعرفُ مثلي أننا موجودون الآن في وسطِ ما يُمكن أن نصِفه بالمثلث. على كل ضلع من أضلاعه الثلاثة يقع طريق رئيسي كبير. وعلى كل طريق من هذه الطرق تمرُّ سياراتٌ لا حصرَ لها في الوقت الحاضر. أنا مُتيقن من ذلك؛ لأنني أسكن على طريقٍ منها. أُقدِّر أنَّ ما لا يقلُّ عن أربعين سيارة من أنواع مختلفة تمر ببيتي كل ساعة.»
قاطَعه قائد الشرطة مُشككًا: «ليس في بداية الصباح الباكر!»
فقال ووكينشو: «ما أذكرُه لك هو مُتوسط عددها. من الساعة الخامسة صباحًا فصاعدًا، بالأحرى. هل تظنُّ أنَّ أحدًا سيستطيع ملاحظة سيارة واحدة مُعينة من وسط مئات السيارات التي تأتي وتذهب؟ هذا هراء!»
سأله قائد الشرطة: «أين وضعا سيارتهما حين جاءا إلى سيبتر إذن؟»
ردَّ ووكينشو قائلًا: «لا أجد صعوبة في ذلك. أتعهَّد بإخفاء أيِّ سيارة، مهما كانت كبيرة، في أحد طرُقنا الجانبية أو إحدى مزارعنا، أو في مكانٍ مُواتٍ في منخفضات الروابي، بضع ساعات دون أن يراها أحد. منطقة معزولة مهجورة كهذه، وفي جنح الليل أيضًا! هذا سهل جدًّا!»
وهنا قال تشيلفورد: «لو كان هذان الرجلان قد جاءا معًا في سيارة واحدة، فلِماذا ذهب أحدُهما إلى نزل جريمسدِل في التاسعة مساء، وذهب الآخر في الثانية صباحًا؟»
رَدَّ ووكينشو قائلًا: «بخصوص تلك المسألة، إذا كنتَ تودُّ الخوض في الأسباب والتفسيرات، فأين ذهب الرجل الأول حين خرج من باب سيبتر بعد أول مرةٍ ذهب فيها إلى هناك؟ لقد ظل بعيدًا حتى قرابة الساعة الحادية عشرة. فأين كان؟»
فقال قائد الشرطة بنبرة شبه مُتحدية: «حسنًا، لقد تحرَّينا عن ذلك أيضًا!» وأردف قائلًا: «لا أحدَ في القرية رأى أي شخصٍ غريب طوال تلك الليلة!»
«ولكن لا أحد كان يعرف بشأنه حتى أدلى جريمسدِل بشهادته.»
فقال تشيلفورد ساخرًا: «أو بالأحرى، مَن سيعترِف بأنه كان يعرف بشأنه؟» وأضاف: «من المؤكد أنَّ ذلك الرجل ذهب إلى مكانٍ ما والتقى شخصًا ما.» ثم أخرج ساعته من جيبه. وقال: «سأعود إلى المنزل لتناول الغداء. فهذه مَضيعة للوقت. نصيحتي لبليك أن تعود أدراجك وتبدأ العمل عند منبع القضية الأصلي؛ في لندن!»
تساءل محامي السلطات ضاحكًا: «ما قول بليك في ذلك؟» كان يُدخِّن السجائر بلا توقفٍ في أثناء حوار الآخرين وقد التزم الصمت. «هيا قُل يا بليك؟»
قال قائد الشرطة: «بليك شابٌّ حكيم. لن يقول شيئًا. ستَتَّبِع نهجك الخاص يا بليك، أليس كذلك؟»
أجاب بليك مُبتسمًا: «كما اقتُرِح للتو. ومع ذلك، فأنا مُستعد دائمًا لسماع أيِّ اقتراحات.»
قال تشيلفورد: «تعالَوا معي، الساعة الثانية الآن. سأسعد بتقديم بعض الغداء لأيٍّ منكم — بل كلكم — إذا أتيتُم معي. إنه طعام بارد، ولكنْ لديَّ كمٌّ وفيرٌ منه.»
خرج الرجال من القاعة زُمرةً واحدة إلى الرَّدهة. وهناك، رأَوا هاري ماركنمور وأخته آتيَين من غرفة الجلوس النهارية. فتقدَّم هاري نحوَهم وأومأ لبليك.
ثم التفت إلى قائد الشرطة قائلًا: «تريد أختي أن تسأل الرقيب بليك سؤالًا. إنه بخصوص متعلقات أخي الراحل الشخصية.»
التفت بليك إلى فالنسيا، وتوقَّف الرجال الآخرون في اهتمامٍ وانتباه. ونظرت فالنسيا إلى المُحقِّق بشيءٍ من القلق.
وسألته قائلة: «أنت مَن فحصَ ثياب أخي جاي والمُتعلقات التي كانت بحوزته، أليس كذلك؟» وأردفت: «لقد ذكرتَ أشياءَ كثيرة في مقصورة الشهود صباح اليوم. فهل ذكرتَ كلَّ الأشياء؟»
أجاب بليك: «كلها، نعم.»
«كل شيءٍ وجدته؟»
«كل شيء!»
فازدادت عينا فالنسيا قلقًا. ونظرت حولها إلى الوجوه المُنتبِهة.
ثم التفتت مجددًا إلى بليك، قائلة: «لكن … لكنك لم تذكر شيئًا ما من المؤكد أنَّه كان بحوزة أخي حين خرج من هذا المنزل في الساعة العاشرة والنصف من ليل الإثنين. خاتم! … خاتم مصوغ بتعقيد بالِغٍ وحرفية شديدة كان يرتديه حول الإصبع الوسطى من يدِه اليُمنى.»
قال بليك: «كان يلبس خاتمًا واحدًا حول الإصبع الوسطى من يده اليمنى. خاتمًا ألماسيًّا فاخرًا جدًّا به فصٌّ واحد.»
فأكَّدت فالنسيا قائلة: «كان يلبس خاتمَين حول الإصبع الوسطى من يده اليُمنى. الخاتم الألماسي الذي تتحدَّث عنه، وذاك الخاتم الآخر. لقد حدَّثته عن ذاك الخاتم حين كان هنا. كان خاتمًا ذا شكل غريب جدًّا، بدا لي كخاتمٍ نحاسي مُطعَّم ببعض المينا. وقد جذب انتباهي لأن … لأنني أعرف شخصًا لديه خاتم مُشابه له تمامًا، بل نسخة طبق الأصل منه، في الحقيقة.»
فقال بليك بهدوء: «أكملي.» مُضيفًا: «مَن هذا الشخص؟»
أجابت فالنسيا: «السيدة تريزيرو.»
نظر الرجال الواقفون بعضهم إلى بعض.
سألها بليك: «هل أنتِ مُتيقنة من أنَّ أخاكِ كان يرتدي هذا الخاتم الثاني الغريب الشكل حين ترككم؟»
قالت فالنسيا مؤكِّدة: «مُتيقنة من ذلك. بكل تأكيد!»
«وتقولين إنَّ السيدة تريزيرو لديها خاتم مُماثل؟»
قالت فالنسيا: «وترتديه دائمًا.»
قال بليك: «لم يكن يُوجَد خاتم كهذا حول إصبع أخيكِ حين أجريتُ فحصي. ولكن الآن سأتحرَّى عن هذا الأمر.»
عاد هاري وفالنسيا إلى غرفة الجلوس النهارية، وذهب الآخرون إلى الباب الأمامي. ولكن قبل أن يصِلوا إليه، قُوطِع تقدُّمهم نحو مائدة تشيلفورد المِضيافة مرة أخرى. فقد جاءهم شاب تبدو عليه اليقظة والتأهُّب، حاملًا دفترًا في إحدى يديه، وقلمًا رصاصيًّا في الأخرى.
قال بثقة كبيرة: «السيد قائد الشرطة، اسمح لي بتقديم نفسي: أنا السيد سامرز، من صحيفة «ديلي سينتينل»، وقد أُرسِلتُ إلى هنا خصيصى يا سيدي.»
فسأله قائلًا: «ماذا تريد؟» كان قائد الشرطة آنذاك يُفكِّر في لحم البقر المشوي البارد الذي سيأكله لدى تشيلفورد، وكان يضمِر نفورًا غريزيًّا من المُراسِلين الصحفيين. «ليس لديَّ ما أخبرك به أكثر ممَّا سمعتَه.»
فقال السيد سامرز: «سأكون مُمتنًّا إذا أريتني الورقةَ النقدية فئة الخمسة جنيهات التي سلَّمها ذاك الرجل الذي يُفترَض أنه أمريكي إلى جريمسدِل، وغليون التبغ الذي تُرِك في سيبتر.»
فالتفت قائد الشرطة إلى بليك.
وسأله: «ألديك أيُّ اعتراض على ذلك؟»
تدخَّل السيد سامرز، الذي كان واضحًا أنه أحد أولئك الشبَّان الذين لا يألون جهدًا في سبيل إنشاء مادة خبرية جيدة، قائلًا: «أظن أنَّ السيد بليك — من واقع معرفتي بقُدراته العظيمة — ليس لديه اعتراض. فالسيد بليك يا سيدي يُدرك أهمية التغطية الإعلامية — لا سيما في صحيفة واسعة الانتشار كصحيفتنا — مثلما أُدركها.»
قال بليك ضاحكًا: «لا اعتراض إطلاقًا. ها هي الورقة، أظنك تريد رقمها المسلسل؟ بي إتش ٨٨٧٥٦٣. أمَّا الغليون، فهو على الطاولة في الداخل في حيازة الشرطة. هنا، سأريك إيَّاه.»
وعاد إلى قاعة الطعام القديمة مع سامرز، فيما انتظر الآخرون وظلُّوا يتحادَثون عن المعلومات التي ذكرَتْها فالنسيا عن الخاتم. مرَّت بضع دقائق، ثم أخرج بليك رأسه من باب الغرفة إلى الصالة وقد بدا مُتحيرًا بعض الشيء.
نادى قائلًا: «يا قائد الشرطة!» وأضاف: «ذاك الغليون! هل هو بحوزتك؟»
فالتفت قائد الشرطة إليه بتيقُّظ تولَّد فجأة.
وصاح قائلًا: «أنا؟» وأضاف: «لا، ليس بحوزتي. أليس موجودًا هناك؟»
هزَّ بليك برأسه نافيًا، وتحوَّل تعبير الحيرة على وجهه إلى تعبير من الانزعاج والتبرُّم. دخل قاعة الطعام مُجددًا، وسار قائد الشرطة وراءه بخطواتٍ مهرولة. ثم تبعهما الرجال الآخرون، وكان كلٌّ منهم مدفوعًا بفضول كان سيصعُب عليهم تفسير سببه. كان بليك يُفتِّش بعشوائية وسط الأوراق والدفاتر الموضوعة على الطاولة. وكان في القاعة شرطيَّان أو ثلاثة، كما كان فيها عدد مُماثل من مساعدِي المحامين، والضابط المساعد لقاضي التحقيق، وكان عند أحد طرفي الطاولة مُراسِلان صحفيَّان محليَّان مُنهمكان في تدوين ملاحظاتهما.
قال رقيبٌ شرطي كان بليك يُخاطبه: «لم أرَه قَط؛ على الأقل منذ أن رُفع أمام الملأ. رأيت جريمسدِل يُخرجه، ورأيت قاضي التحقيق والمُحلَّفين يتناقَلُونه بين أياديهم، ولم أرَه قَط منذ ذلك الحين.»
تساءل بليك: «مَن آخِر شخص كان الغليون بحوزته؟»
فأجاب محامي السلطات قائلًا: «أنا!» وأردف: «لقد أخذته من هيئة المُحلَّفين، ووضعته على الطاولة، هناك بالضبط.»
قال بليك: «حسنًا، لقد اختفى!» ثم التفت إلى الرقيب الشرطي. وقال له: «هل رحل من رجالك أيُّ شخص ربما يكون قد أخذه معه؟»
أجاب الرقيب: «لم يرحَل أيٌّ منا بعد. جميعنا هنا، كلُّ مَن جاء منا.»
قلَّب بليك كلَّ ما تبقَّى على الطاولة. واكتسى وجهه بفضولٍ شديد، ولم يقُل شيئًا.
قال الرقيب: «كلُّ مَن خرج مِن الغرفة قد مرَّ بهذا الجانب من الطاولة. وإذا أراد أيُّ شخصٍ أن يأخُذه ويسرقه، فما كان عليه سوى أن يمدَّ يدَه. ولم يكن أحد ليلاحِظ ذلك، وسط هذا الزحام.»
فسأل بليك بحدة: «ومَن ذا الذي قد يريد سرقته؟»
ضحك سامرز ضحكةً مكتومة فجأة بينما كان يساعدهم في البحث عن الغليون.
ثم صاح قائلًا: «يُوجَد رجل واحد في الكون ربما كان يرغب بشدة في سرقته!»
فرفع بليك ناظرَيه نحو سامرز عابسًا.
وقال بسرعةٍ وانفعال: «ماذا تقصد؟» وأضاف: «مَن؟ أيُّ رجل؟»
رَدَّ سامرز بضحكة مكتومة أخرى قائلًا: «الرجل الذي تركه سهوًا على مائدة العشاء في سيبتر بالطبع!» واستطرد قائلًا: «كيف لك أن تعرف أنه لم يكن موجودًا بين جمهور الحاضرين الذين كانوا في غاية الاهتمام والاستغراق بالقضية؟ ربما كان موجودًا!»
رمى بليك مجموعةً أخيرة من الأوراق جانبًا، واستدار نحو الباب.
وتمتم قائلًا: «حسنًا، لقد اختفى، على أي حال!»
ناجى سامرز نفسه قائلًا: «واختفى دليل مهم أيضًا. ربما كان بإمكانك أن تَستخدِمه في تقفِّي أثر مالكه الشرعي حتى الوصول إليه يا سيد بليك. لكني أظنُّه بحوزته الآن، أليس كذلك؟ ذكي! ولكن إذا كان هو الشخص الذي اختلسَه من على هذه الطاولة، فقد صرتَ الآن تعرف شيئًا: إنه شخص موجود في مكانٍ قريب من هنا. أليس كذلك يا سيد بليك؟»
لكنَّ بليك كان قد خرج آنذاك إلى الصالة مُجدَّدًا، وتبِعَه قائد الشرطة والرجال الآخرون.
قال قائد الشرطة: «ما أغرب ذلك يا بليك!» وأضاف: «مَن الذي يُمكن أن يكون قد أخذه، ولماذا؟»
أجاب بليك بصوتٍ خفيض: «ربما يُوجَد بعض الصواب فيما يقوله ذاك المُراسِل الصحفي الشاب. ربما كان الرجل الذي تركه في سيبتر موجودًا هنا صباح اليوم، واغتنم الفرصة ليأخُذَه. ولكن …»
فقاطعه تشيلفورد قائلًا: «تعالَوا الآن إلى منزلي عَبر المُنتزَّه أيها الرفاق، وتناولوا بعض الغداء. كل شيء جاهز، تفضلوا!»
لكنَّ بليك اعتذر عن عدم الذهاب معهم، قائلًا إن لدَيه عملًا يجب أن يؤديه. كان بليك في اليوم السابق، حين وجد أنَّ عمله في ماركنمور سيَطول عمَّا كان يتوقَّع، قد استأجر غرفًا في نزل سيبتر، وكان يتَّجِه نحوه مُسرعًا في هذه اللحظة. فقد كان لديه الكثير ليُنجِزه، والكثير ليفكِّر فيه. وكان في ذلك الصباح، قبل ذهابه إلى التحقيق، قد أرسل مرسالًا إلى سيلكاستر طالبًا منه شراء بعض الأشياء له؛ ومن ثَمَّ كان أول سؤال سأله عند وصوله إلى سيبتر: هل عاد المرسال؟
فأجابه جريمسدِل قائلًا: «لديك طرود على منضدة غرفة جلوسك يا سيد بليك. والغداء أيضًا هناك.»
جلس بليك ليتناول غداءه وحدَه، وظلَّ يأكل ويشرب بلا توقفٍ طوال نصف ساعة. ثم، حين رُفعت الأطباق من على المنضدة، أشعل غليونه وأخرج مِطواته، وقطع خيَط الطردَين المُرسلَين إليه من سيلكاستر.