الخطوات الأولى
كان المرسال الذي بعثه بليك إلى سيلكاستر في صباح ذلك اليوم، قبل أن يذهب شخصيًّا إلى ماركنمور كورت لحضور التحقيق في ملابسات الوفاة، قد حمل رسالةً إلى أبرز بائع كتبٍ وورَّاق في المدينة القديمة. فقد وجد بليك نفسه في أمسِّ الحاجة إلى أشياءَ مُعينة ليستخدمها في حل المشكلات التي كانت قد بدأت تواجهه للتو، وكان بائع الكتب هو الرجل المناسب لتلبية هذه الاحتياجات. وها هما طَرْدا بائعِ الكتبِ قد صارا لديه، كان أحدهما يحوي شيئًا طويلًا مَلفوفًا ومُغلفًا بعنايةٍ بقماشٍ كتاني، فيما كان الآخر طردًا صغيرًا مُمتلئًا مُغلفًا بورقٍ بُنِّي. فتح بليك هذا الطرد الثاني أولًا، وأخرج منه خريطةَ طُرُق قابلة للطي، وخريطةً عامة للمقاطعة، ودليلَين إرشادِيَّين مَحليين أو ثلاثة، موضَّحة بالصور، وكتيبًا آخر أكثرَ استيفاءً بعنوان «المناطق المُحيطة بسيلكاستر»، كان أيضًا مليئًا بالصور، وأحد سجلات برادشو لمواعيد القطارات، وجدولًا مَحليًّا بمواعيد القطارات والحافلات. ووضَع كل هذه الأشياء على الطاولة وتأمَّلها كلها بإمعانٍ وهو يرتِّبها أمامه؛ إذ كانت تلك هي الأشياء التي يحتاج إليها بالضبط. ولكن خالَجَه اهتمامٌ أكبر بالطرد الطويل المُغلَّف بالقماش، الذي اتضح بعد تجريده من غلافه أنه يحوي خريطة هيئة المساحة الحكومية لقرية ماركنمور والمناطق المُلاصقة لها؛ كانت خريطة مُربعة كبيرة مرسومة على ورق مُقوًى، وكان فيها كل طريق، ودرب جانبي، وممشًى، وبيت، وكوخ ريفي، ومَرج، وغابة، وحقل، وأيكة، ونهر، ونُهير، وسياج نباتي، ومِرقاة لعبور الأسيجة، مُحددًا بعلامةٍ واسمٍ وقياسات دقيقة. ابتهجت غريزة بليك البوليسية حين رأى هذا العمل المُتقَن، ودعا الربَّ أن يُبارك رجال هيئة المساحة الحكومية لعنايتهم الشديدة بأدقِّ التفاصيل في إعداد هذه الخريطة. ثم خرج من غرفته بحثًا عن جريمسدِل، واشترى منه مساميرَ قصديرية، وثبَّت بها الخريطة على حَيِّز فارغ مناسب على حائط غرفة جلوسه، ووقف أمامها طوال نصف الساعة التالي مُدخنًا غليونه. وفي نهاية تلك الفترة، كان قد حفظ الموقع العام للمنطقة المُحيطة به عن ظَهر قلب، وحفظ أهم أسماء الأماكن الأكثر أهمية في الخلايا السرية في دماغه الألمعي.
بعد ذلك التفتَ إلى السجلات الإرشادية والخرائط وجداول مواعيد القطارات، وظلَّ يتفحصها ساعتَين بتركيزٍ واستغراق. فقد أراد أن يعرف كلَّ شيءٍ عن الطرُق، والسكك الحديدية، والمواعيد؛ صحيح أنَّ ذلك كان عملًا تمهيديًّا مُملًّا لكنه كان بالِغ الأهمية. وفي الحال رأى أنَّ قرية ماركنمور، كما قال ووكينشو في أثناء الحوار غير الرسمي الذي أعقب رفع جلسة التحقيق، تقع بالقُرب من مركزِ شكلٍ أشبه بالمُثلث، وأنَّ كل ضلعٍ من أضلاعه يمتدُّ عليه طرُق رئيسة. كان المثلث الذي شكَّلته هذه الطرق له ضلعان أطول من الثالث، لكنهما مُتساويان، فيما كان الضلع الثالث ذا امتدادٍ أطول. وكانت قرية ماركنمور تقع في الجزء الجنوبي الغربي من هذا المثلث، مائلةً نحو الزاوية التي يصنعها التقاء ضلع القاعدة بأطول الأضلاع الثلاثة، لتكون بذلك أقرب إلى ضلعَين منها إلى الضلع الثالث؛ أي أقرب إلى طريقَين رئيسيَّين منها إلى الطريق الرئيسي الثالث. ومن بين هذه الطرُق الرئيسة الثلاثة، كان اثنان منهما يمتدَّان من لندن إلى قصر ماركنمور كورت في نطاق بضعة أميال من قرية ماركنمور، فيما كان الطريق الثالث كله يمتدُّ على طول الساحل نفسه. أمَّا بخصوص الطرُق السريعة التي تربط بين المدن والبلدات الكبرى، فكانت قرية ماركنمور مُتصلة مباشرةً بلندن، التي كانت تقع عند شمالها الشرقي على بُعد خمسةٍ وستِّين ميلًا بالضبط، وكانت مُتصلة كذلك بعدة مدن ساحلية تقع على مسافاتٍ أقرب منها.
ولكن بالإضافة إلى المُثلث الذي كانت هذه الطرُق الرئيسة تُشكله، كانت القرية محاطة بمثلثٍ آخر تُشكِّله مسارات السكك الحديدية. كانت مسارات السكك الحديدية، في الواقع، موازية للطرُق السريعة وتمتدُّ بمُحاذاتها، بل وكانت تُماثلها تمامًا؛ إذ كان كل طريقٍ وكل مسار سكة حديدية يمتدَّان جنبًا إلى جنب، ولم تتجاوز المسافة الفاصلة بينهما، عند أي موضع، ميلًا واحدًا تقريبًا. وكانت ماركنمور تقع على مقربةٍ من مسارات السكك الحديدية الرئيسية هذه. لذا كان من الممكن الوصول منها إلى عدة محطات بسهولة. فكانت محطة سيلكاستر نفسها تقع عند جنوبها الشرقي على بُعد ميلَين ونصف منها، وكانت محطة ميتبورن تقع شرقها على المسافة نفسها، أمَّا عند جنوبها الشرقي على بُعد ثلاثة أميال منها، فكانت تُوجَد محطة تقاطُع مهمة بعض الشيء، فيما كانت محطةٌ رابعة تقع شمالها بالضبط بجانب أحد الطرُق على بُعد أربعة أميال منها. وحين رجع بليك إلى جدول مواعيد القطارات، اكتشف أنَّ عددًا كبيرًا من القطارات كان يتَّجِه شمالًا أو جنوبًا، شرقًا أو غربًا، من المحطات الأربع مُجتمعة، بين الساعة الرابعة والسادسة صباحًا، وأنَّ محطتَين من الأربع، محطة التقاطُع المذكورة سلفًا والمحطة الواقعة شمالًا، كانتا تشهدان في السادسة إلا ربعًا من صباح كل يوم انطلاق قطاراتٍ مُخصَّصة للعمال، ومن المؤكَّد أن هذه القطارات كانت تنقل أعدادًا كبيرة من الحِرفيين والصنَّاع والعُمال إلى ميناء الشحن الكبير الواقع على بُعد بضعة أميال على الساحل. وإجمالًا، رأى بليك أنَّ أيَّ رجلٍ ذكي فطِن ما كان سيجد صعوبة في الخروج من منطقة ماركنمور دون أن يُلاحظه أحد باستقلال قطار في الصباح الباكر إلى أي اتجاهٍ من ستة اتجاهات على الأقل.
حين عاود بليك التفكير في مسألة دخول المنطقة والخروج منها عَبر الطُّرُق بالسيارة، تذكَّر ما قاله ووكينشو عن التسهيلات التي أتاحتها المنطقة لإخفاء أيِّ سيارة بنجاح بينما يذهب راكبها أو صاحبها لقضاء حاجةٍ ما. وهنا قدَّمت له خريطة هيئة المساحة على الحائط عونًا جمًّا. فقد كانت تُوضِّح المُخطط العام الكامل لمعالِم البلدة وبِنيتها وتضاريسها. ففي شمال قرية ماركنمور وشمالها الشرقي، خلف بيت جرايكلويستر الكبير الذي يسكنه السيد جون هاربورو، كان منزل ذا وارن الذي يُقيم فيه السيد فرانسيمري، ووودلاند كوتيدج، الذي تملكه السيدة براكسفيلد وتعيش فيه، يقعان فوق الروابي التي، وإن كانت قاحِلة وجرداء عمومًا، كانت تتخلَّلها ممرَّات منخفضة عميقة، وكانت مُمتلئة بمحاجر طباشير مهجورة مُغطاة بطبقةٍ كثيفة من النباتات والشجيرات، وكان يُوجَد كذلك مَزارعُ وأيكات من أشجار تُقطع بصفة دورية، وغابات كثيفة عميقة في أماكنَ مُتفرقة. لذا فقد كان سهلًا على أي شخصٍ أن ينحرف عن الطريق الرئيسي إلى هذه المناطق المهجورة، ويترك سيارةً في ظلال أحد المحاجر المهجورة القديمة، أو وسط أشجار الدردار والزان في إحدى الغابات في الوقت الذي ينزل فيه إلى القرية. وفوق ذلك، لاحظ بليك أنَّ خريطة هيئة المساحة كانت تحمِل علاماتٍ تُميِّز عدة مسارات عُشبية عَبر الروابي، وعند هذه المرحلة كان قد رأى بالفعل ما يكفي من الروابي المُحيطة بمنخفض ماركنمور هولو على طبيعتها ليعرف أنَّ العشب الموجود في الأعلى هناك كان شديد الشبَهِ بالأسلاك النحيلة ومرِنًا وثابتًا جدًّا إلى حدِّ أنَّ المرء يستطيع أن يقود سيارةً عَبره، في أي جزءٍ منه تقريبًا، بسهولةٍ كبيرة كما لو كان يسير على طريقٍ مرصوف بالحصباء ودون تركِ أيِّ أثر.
ومن ثَم، ربما يكون رجلٌ ما قد انحرف عن الطرُق الرئيسة وعَبَر الروابي إلى موضعٍ ما في نطاق بضعة أميال من القرية، وترك سيارته في محجر طباشير قديم مناسب، وكان واثقًا أن لا أحد سيعرف كيف جاء ولا كيف رحل. فهناك في الأعلى، في تلك المناطق المُقفِرة المهجورة، لم يكن ظاهرًا على الخريطة أيُّ بيت أو كوخ أو حتى مزرعة نائية.
وبعدما انتهى بليك من دراسة هاتَين المسألتين من كل الجوانب المُمكنة، انتقل إلى مسألة ثالثة. كان جريمسدِل قد قال إنه، حين رحل الرجال الثلاثة عن نزله في الثالثة والربع من صباح الثلاثاء، رآهم يسيرون على الطريق ناحية جرايكلويستر وميتبورن؛ فوجَّه بليك انتباهه إلى هذا الطريق. كان طريق القرية الرئيسي، في الحقيقة، يقع مباشرةً أمام نزل سيبتر مجاورًا لحديقته الأمامية، وكان مُتفرعًا عند زاوية الحديقة إلى فرعَين: فرع، على اليمين، ينعطِف مباشرة إلى سيلكاستر، والآخر، على اليسار، مُتَّجِه إلى ميتبورن ويمرُّ ببوابات مدخل جرايكلويستر على بُعد حوالي ثلاثمائة ميل من سيبتر. والآن، وفق ما قاله جريمسدِل، سلك الرجال الثلاثة هذا الطريق وظلُّوا سائرين عبره حتى غابوا عن ناظرَيه. لكنَّ جاي ماركنمور، إذا صحَّت شهادة الطبيب، قد أُردِي قتيلًا بالرصاص في حوالي الساعة الرابعة عند مُنخفض ماركنمور هولو على بُعد حوالي ميل شمال هذا الطريق. فكيف وصل إلى هناك؟ أظهرت خريطة هيئة المساحة وعلاماتها الدقيقة المُحدَّدة بعناية شديدة إجابةَ هذا السؤال. فعلى بُعد مائتي ياردة من نُزل سيبتر إن، كان طريق ميتبورن مُحاطًا بممشًى على يمينه وآخر على يساره. كان المَمشى الأيمن، الواقع جنوبًا، يمتدُّ عبر المروج ناحية سيلكاستر، فيما كان المَمشى الأيسر، الواقع شمالًا، يتَّجِه إلى الأعلى نحو الروابي بين جرايكلويستر ووودلاند كوتيدج. وبالقُرب من ماركنمور هولو، بل في البقعة نفسها التي عثر فيها هوبز، عامل الحرث، على جثة جاي ماركنمور، كان هذا الممشى يلتقي بممشًى آخر يؤدي مباشرة إلى محطة ميتبورن. وحين رأى بليك ذلك، توصَّل إلى استنتاجٍ مَفاده أنه عندما وصل الرجال الثلاثة إلى هذين المَمشيَين، افترقوا. أحدهم إمَّا عاد إلى القرية (وقد رأى بليك ذلك مُستبعدًا)، أو سَلَك المَمشى الأيمن إلى سيلكاستر (وهو ما اعتبره بليك احتمالًا مُرجَّحًا جدًّا)، فيما سَلَك الرجلان الآخران، اللذان كان جاي ماركنمور واحدًا منهما بالتأكيد، المَمشى الأيسر، وصعدا جانب التلِّ إلى ماركنمور هولو. وهناك، قُتِل جاي ماركنمور بغتةً، وبغضِّ النظر عن هوية الرجل الذي كان معه، سواء ذلك الأمريكي المُفترَض الذي جاء إلى نزل سيبتر في التاسعة من مساء الإثنين، أو الرجل الذي أُدخِلَ إلى النزل في الثانية من صباح الثلاثاء، فقد كان هو القاتل.
حين توصَّل بليك إلى هذا الاستنتاج، شعر بشيءٍ من البهجة. أعاد ملء غليونه وأشعله، ثم وضع يدَيه في جيبيه وخرج مُتسكعًا من غرفة جلوسه وسار عبر الصالة ودخل حجرة الحانة. كان هذا قبل سنواتٍ من فرض قيود الترخيص الصارمة التي صارت الآن تمنع الرجل الحُر الإنجليزي المَولد من التصرُّف بأريحية في نزله وقتما يشاء، ومع أنَّ الساعة كانت الخامسة عصرًا فقط، كان في حجرة الحانة المُريحة عدة زبائن، كانوا عاطِلين قرويين يتحدَّثون عن التحقيق والمأساة التي أدَّت إليه. كان الجميع بالفعل وبلا استثناء قد عرفوا بليك بأنَّه المُحقِّق اللندني الشهير الذي أتى إلى البلدة ليعرف هوية قاتل السيد جاي الشاب المِسكين، ويشنق ذاك الحقير نفسه عند العثور عليه، وكانوا يُحدِّقون إلى شَعر بليك ذي اللون الفاتح وعينيه الزرقاوين ووجهه المستدير المُمتلئ وثيابه الأنيقة ذات الطراز المُتمدِّن كأنَّهم يتساءلون كيف يُمكن لهذا الطفل الملائكي ذي المظهر الشبابي أنَّ يتَّسِم بقدرات النمس ومثابرة كلب صيد الثعالب. لكنَّ بليك تجاهل هؤلاء العواجيز ومُدَّعِي الحِكمة والمعرفة مُكتفيًا بمنحهم إيماءةً ودِّية؛ صحيح أنَّه كان ينوي حقًّا أن يحاول بناء أواصر التعارُف معهم لاحقًا، لكنه في تلك اللحظة كان يريد أن يُحادِث جريمسدِل محادثةً قصيرة على انفراد.
كان جريمسدِل يُلمِّع الكئوس في الطرف الأقصى من نَضد الحانة مُرتديًا قميصًا بلا سترة، فمشى بليك نحوَه مُتسكعًا وانحنى فوق النضد مُقتربًا منه.
قال له هامسًا: «أصغِ إلي!» وأضاف قائلًا: «أريد أن أتحدَّث معك قليلًا على انفراد يا جريمسدِل. بخصوص ذاك الغليون الذي وجدته …»
فرَدَّ جريمسدِل وهو يميل عبر النضد: «نعم يا سيدي.»
تابع بليك قائلًا: «أظنُّك قد تفحَّصتَهُ جيدًا!»
«هذا صحيح يا سيدي.»
«هل لاحظتَ اسم الشركة المُصنعة أو الأحرف الأولى من اسمها؟»
«نعم يا سيدي. كان أحد غلايين شركة «إل آند كو». أعرف هذه الغلايين جيدًا جدًّا يا سيد بليك؛ فرَبُّ عملي القديم، السير جيمس مارشانت، كان مُعتادًا تدخينها. وكان عادةً ما يُعطيني واحدًا من غلايينه القديمة بين الحين والآخر.»
كان بليك قد تيقَّن بنفسه سلفًا من هذه الحقيقة لكنه أراد فقط أن يعرف ما إذا كان صاحب النزل يعرفها، فقال له: «أحد غلايين شركة «لويفي آند كومباني»، أليس كذلك؟»
«بل «إل آند كو» يا سيدي؛ فهكذا أُسمِّيها وهكذا كانت مدموغة، على الخشب، وعلى الحلية الفضية، وبالطبع كان الغليون يحمِل وسومًا على الحلية الفضية: وسوم أسدٍ وتاج وما إلى ذلك، مثل كل الأشياء الفضية.»
«هل لاحظتَ أيَّ شيء آخر في الغليون؟»
«لاحظتُ شيئَين يا سيد بليك؛ فأنا واحد من النزَّاعين إلى الملاحظة. لقد كان غليونًا جديدًا بعض الشيء، والملاحظة الأخرى أنَّه كان مخدوشًا خدشًا طفيفًا، بل طفيفًا جدًّا، عند حافة وعاء التبغ، كما لو أنَّ صاحبه قد ضربَ به شيئًا حادًّا عند نفض الرماد منه، ربما حافة سياج المدفأة أو كعب حذائه، فاصطدم بمسمارٍ هناك؛ لقد رأيتُ كثيرًا من الغلايين الجيدة مخدوشة هكذا، مهما كان الخشب مَتينًا.»
فقال بليك: «رائع!» وأضاف قائلًا: «لا شكَّ أنَّ لديك موهبةً في الملاحظة.»
ابتسم جريمسدِل.
وقال خافضًا صوته إلى نبرةٍ أخفض: «نعم، حسنًا!» واستطرد قائلًا: «لم أذكُر شيئًا عن ذلك في مقصورة الشهود، ولكن — بيني وبينك — حين عرفتُ كلَّ ما عرفته عن هذه الجريمة، وضعتُ علامةً خاصة بي على ذاك الغليون!»
صاح بليك مُتعجبًا: «أفعلتَ ذلك حقًّا؟» وأردف: «وما هذه العلامة؟»
قال جريمسدِل: «صليب صغير على الشريط الفضي المُحيط بالغليون.» وغَمَز إلى المُحقِّق غمزةً تنمُّ عن دراية. وأضاف: «سأعرف علامتي … حيثما أراها!»
فأومأ بليك. ثم ألقى نظرةً خاطفة حوله على الرجال الذين كانوا في الركن البعيد من الغرفة.
وسأل قائلًا: «أظنُّهم يثرثرون عن كل ذلك؟»
فأكد جريمسدِل ذلك قائلًا: «نعم.» وأضاف: «ليُباركك الرب! لن يتحدَّثوا عن أيِّ شيءٍ سواه لعدة أيام مقبلة، إلَّا إذا ظهرت دجاجة بأربع أرجل أو عِجلٌ بثلاثة رءوس! فكل ذلك بمنزلة وليمةٍ شهية لهم يا سيد بليك. فأنت كلندني، لا تعرف مدى حُب أهل القرية للثرثرة والقيل والقال!»
سأله بليك: «ومَن الثرثار الأكبر في المنطقة؟»
أجاب جريمسدِل فورًا: «بيني كريبس، خادم الكنيسة. إذا حادثته، سيُخبرك بكل تاريخ ماركنمور وكل رجلٍ وامرأة وطفل فيها، نبيلًا ووضيعًا، غنيًّا وفقيرًا، منذ صدور سجل دومسداي، بغضِّ النظر عن وقت صدوره، الذي من المؤكد أنه كان قبل زمنٍ طويل. فعلى سبيل المثال، يُقال إنه أدرى من آل ماركنمور أنفسهم بشجرة نسَبِهم!»
قال بليك: «شخص مُثير للاهتمام. أين يعيش؟»
أجاب جريمسدِل: «في الكوخ المجاور لفناء الكنيسة. كوخ قديم مَسقوف بالقش.»
قال بليك وهو يرفع مرفقيه عن نضد الحانة: «حسنًا. سأذهب لأتمشَّى؛ كي أُلقي نظرةً تَفَقدية. هل بوسعك أن تُجهز عشاءً لي في حوالي الساعة الثامنة؟»
أجاب جريمسدِل: «حسنًا يا سيدي، سأُعِدُّ لك دجاجًا مشويًّا شهيًّا. في غاية اللذة!»
ضحك بليك وأومأ برأسه، ثم رحل وسار في شارع القرية. كان مُلاحِق المُجرمين هذا ذا قدرةٍ فِطرية على ملاحظة المناظر الخلَّابة، وقد استحسن تلك المُستوطنة الجنوبية الريفية الصغيرة، التي كان عمرها الكبير يُضاهي نصف عمر جوانب التلال التي تعلوها. كانت ماركنمور مليئةً بأكواخٍ صغيرة مسقوفة بالقش مُشيَّدة في حدائقَ وبساتينَ، وكان يُوجَد هنا وهناك مباني مزارع كبيرة، بعيدًا عن الطريق، في حقول رعي الخيول أو الأفنية المفتوحة، فيما كان مَعلَم القرية الرئيسي يقع وسطها، وهو كنيسة قديمة رمادية كان بُرجها وقِمته المُدببة مُرتفعين عاليًا فوق أشجار الدردار والحُور التي كانت تُشكِّل سياجًا حول فناء الكنيسة. وفي هذه الأيام التي تزامنت مع بداية الربيع، كان يُخيم على تلك المناطق الريفية المُحيطة شعور كبير بالسلام، واستغرب بليك أن يكون موجودًا هناك، وسط هذا السكون الطبيعي الجَم، في ظروفه الحالية. فقد كان كل شيء آنذاك، من الزهور والنباتات اليانِعة في حدائق الأكواخ إلى الأعشاش الجديدة المُرتفعة في غصون الأشجار النضرة الأوراق، ينضَح بالحياة، فيما كانت مُهمته هي معرفة مُرتكِب جريمة، معرفة سبب موتٍ عنيف.
وسرعان ما ذُكِّر بتلك الميتة وعواقبها حين رأى رجلًا عجوزًا كان يُشرف على حفْر قبرَين في أحد أركان فناء الكنيسة المُحاط بالأشجار. فقد تذكَّر بليك حينئذٍ أنَّ السير أنطوني ماركنمور وابنه الأكبر سيُدفنان مُتجاورين في اليوم بعد التالي؛ ومن ثَمَّ، كان من المؤكد أنَّ ذلك الرجل العجوز هو خادم الكنيسة، بيني كريبس، الذي كان جريمسدِل قد تحدَّث عنه للتو. دخل بليك فناء الكنيسة وسار نحوه، فأشاح خادم الكنيسة، الذي كان رجلًا عجوزًا كثيرَ التجاعيد يبدو في السبعين من عمره، بوجهه عن الحفارَيْن اللذين كانا يعملان تحت إمرته، والتفت إلى المُحقِّق بإيماءةٍ تنمُّ عن معرفته به. ثم جلس على قبرٍ صندوقيٍّ حجري مُجاور، وأخرج من حوزته غليونًا فخَّاريًّا قصيرًا وشَرع في إشعاله.
ثم قال وهو يرمُق بليك بنظراتٍ مُتفحِّصة: «أنت الشاب اللندني الذي سمعتُ أنه أتى إلى هنا لمعرفة قاتل السيد جاي الشاب.» وأضاف: «وأفهم أيضًا أنَّك رجل فطِن وذكي في أداء عملك. حسنًا، وأعتقد أنَّ مُهمتك شديدة الصعوبة أيها الشاب الرائع، أعتقد ذلك حقًّا! فهوية القاتل لن تُعرَف في يوم، بل ولا أسبوع حتى. وبالطبع لم تتوصَّل إلى الكثير في جلسة التحقيق الذي أُجري في ملابسات الوفاة!»
سأله بليك: «كنتَ حاضرًا هناك، أليس كذلك؟»
«بلى يا سيدي، وسمعتُ كل شيء كما قيل. وقد غادرتُ حكيمًا عارفًا مثلما ذهبت. ليُباركك الرب، إن هذه القضية لم تبدأ هنا! إنك كواحدٍ من أولئك الرجال المُستكشِفين الذين يسبرون أغوارَ مناطقَ أجنبية عنهم؛ أي إنَّك تسلك دربًا لا تعرف نهايته، إن جاز القول!»
فاعترف بليك قائلًا: «أظنُّك مُحقًّا بعض الشيء. المسألة مُعقدة قليلًا، أليس كذلك؟»
«أتفق معك يا بُني! وحسبما أرى، لا أجد أيَّ خيطٍ يُمكنك أن تُمسك لتسترشد به؛ إن جاز القول. ومع ذلك، لديَّ آرائي الشخصية بالطبع! ولن أُغيِّرها من أجل أحد، ولا حتى من أجل الملك نفسه، مع احترامي له.»
جلس بليك بجوار الرجل العجوز، وأشعل غليونه.
وسأله قائلًا: «أنت السيد كريبس، أليس كذلك؟» وأردف قائلًا: «أنت خادم الكنيسة، على ما أظن؟»
«اسمي بنجامين كريبس أيها السيد الشاب، وأنا خادم الكنيسة ومأمور الأبرشية، وأشغل مجموعةً من المناصب الأخرى، والرجل الوحيد هنا الذي لا تستطيع هذه القرية الاستغناء عنه بأيِّ حالٍ من الأحوال. لقد مرَّ عليَّ خمسةٌ من قساوسة الأبرشية طوال حياتي، وها أنا ذا ما زلت حيًّا بعدما دفنتُ أربعةً منهم! يأتون ويرحلون، لكني أظلُّ كما أنا. إنني أعمل مأمورًا للأبرشية هنا منذ خمسة وأربعين عامًا، وكان والدي مِثلي وعمل لمدةٍ مُقارِبة، وكذلك والده من قبله، ولكنه عمل لأكثر من خمسين عامًا؛ فنحن آل كريبس قد عشنا في هذه القرية زمنًا طويلًا قدْرَ ما عاش فيها آل ماركنمور أنفسهم، ودفنتُ الكثيرين منهم، وها أنا ذا الآن سأدفن اثنين آخرَين منهم. وربما يُمكنك القول إنَّ هذه الكنيسة مِلكنا، نحن آل كريبس؛ فنحن نعرِف كل شيءٍ عنها، نعرِف كل شيء بالفعل، وعن مُعظم الأشياء في هذه القرية. نحن نملِكها، إن جاز القول.»
سأله بليك بدماثةٍ ولُطف: «وما رأيك في هذه القضية يا سيد كريبس؟» وأضاف: «مِن المؤكَّد أن رجلًا بخبرتك الحياتية سيكون له رأي. هل تراها جريمة قتل؟»
«أراها جريمة قتل أيها اللندني الشاب العزيز، بل جريمةً بشِعة ووحشية! لن أقول إنَّ السيد جاي الشاب كان نموذجًا للصلاح؛ لأنه لم يكن كذلك، ولم يكن يتظاهَر بأنه أحد أولئك القديسين الذين نقرأ عنهم في كتاب الصلوات. لكنه قُتل، وبطريقةٍ وحشية مُخزية، وأظنك لم تعرف الحقيقة الفعلية وراء هذه المسألة، ولن تعرفها قريبًا. لكنِّي آمُل أن تعرفها، وسأخبط الأرض بقدميَّ فرحًا حين أسمع أنَّ أيًّا مَن فعل ذلك قد حُكِم عليه بالإعدام، سأفعل ذلك حقًّا!»
قال بليك: «أظنُّك لا تتبنَّى أيَّ فكرة خاصة بك بشأن هوية الفاعل؟»
قال كريبس: «ليس لديَّ بعدُ ما يُمكنك أن تُسمِّيه أفكارًا مُحددة دقيقة. ولكن ليُباركك الرب، من المؤكد أنَّ ذلك له علاقةٌ ما بشيء نابع أصلًا من تلك الشابة إيزابيل التي تسكن بيت الأرملة! ولا يُهمني إذا سَمِعَتني أقول ذلك عنها. يا لها من حقيرةٍ آثمة وفاسِقة! أتذكَّرها جيدًا جدًّا حين كان والدها قسًّا هنا، وحين كانت فتاةً صغيرة كان ينبغي لها أن تنشغِل بكشكشة الثياب ودَرزها وما شابه ذلك من أنشطة الإناث. لكنها لم تَعتَد مُمارسة هذه الأنشطة السلمية قَط؛ بل دائمًا ما كانت تتمشَّى مُتسعكة أمام قطيع من شبَّانٍ يُلاحِقونها، وكانت تُثير شجارات ومشاحنات بينهم. لقد سبَّبت مُشكلاتٍ كثيرة حين كانت فتاة، والآن حالما عادت إلى المنطقة، أعادت الكرة مُجددًا.»
سأله بليك: «إذن، أنت تظنُّ أنَّ السيدة تريزيرو لها صِلة بما حدث؟»
أجاب خادم الكنيسة العجوز قائلًا: «لا أقول إن لها أيَّ صِلة به، بمعنى الضلوع المباشر فيه. لكني أقول إنها، في رأيي، سببه الحقيقي، بطريقةٍ أو بأخرى. ليُباركك الرب، لقد كان بعضهم — أي أولئك السادة الشبان — يتعاركون عليها قبل أن تبلُغ الثامنة عشرة من عمرها! ولو كانت المُبارزة موجودة في الأيام الخوالي، لتبارَز الكثيرون على الظفَر بها. كانت من ذلك النوع؛ تُفضِّل واحدًا في البداية، ثم الثاني إلى أن تجعلهم كلهم مُتيَّمين بها، إن جاز القول!»
قال بليك: «أظن أنَّ السيد جاي ماركنمور كان مُتيمًا جدًّا بها آنذاك، أليس كذلك؟»
قال كريبس: «أوف!» واستطرد قائلًا: «لا شكَّ أنه قد سعى وراءها كثيرًا للظفر بقلبها. لكنه كان مُدمنًا السعي وراء كل صنوف النساء، النبيلات منهنَّ والوضيعات؛ لقد فَتَن نصِف فتيات هذه القرية، فعل ذلك حقًّا! ليُباركك الرب، دائمًا ما كان يُضاجع نساء، في كل أنحاء القرية، وبدا أنه لم يكن يستطيع الإقلاع عن ذلك. لقد ترك السيد جاي وراءه قلوبًا مُلتاعة حين غادر إلى مدينة لندن.»
سأله بليك: «تقصِد بين فتيات القرية؟»
قال خادم الكنيسة مُزمجرًا: «نعم، وبين رجال القرية أيضًا!» وأضاف: «كان يُوجَد أكثر من شاب لديه دافع إلى كراهيته، أؤكد لك ذلك! إنه ميت، ويجب ألا نذكُره بسوء الآن، لكنه كان رجلًا سيئًا، بكل تأكيد!»
أوحت هذه الإجابة المُتناقِضة إلى بليك بتسلسُل أفكارٍ جديد، وسرعان ما رحل ليُفكِّر فيه. ولكن قبل أن يذهب بعيدًا، تذكَّر أنَّ لدَيه سؤالًا كان يريد طرحه على السيدة تريزيرو؛ لذا مرَّ عبر القرية واتَّجَه إلى باب بيت الأرملة الأمامي.