بيت الأرملة
كان بيت الأرملة مكانًا كبيرًا مُترامي الأطراف وقديم الطراز، وكان يقع داخل أراضٍ وحدائق كبيرة مُسيَّجة خاصة به في الركن الجنوبي الشرقي من مُتنزَّه ماركنمور بارك، خارج القرية بمسافة قصيرة، وعلى بُعد حوالي مائتي ياردة من نزل سيبتر إن. كان فسيحًا كقصر ماركنمور كورت نفسه تقريبًا، وكان مُلحقًا به مجموعةٌ كبيرة من حظائر الخيول والأبنية الخارجية، وكان مَسكنًا شاسع المساحة والسَّعة بكل معنى الكلمة. ألقى بليك نظرةً تقديرية سريعة على المكان ومُحيطه بينما كان يسير نحوَه على الطريق الخاص المؤدي إليه من الطريق الرئيسي، كان كل شيء هناك قد جُدِّد ورُتِّب مؤخرًا، ورأى بليك أنَّ مظهر بيت الأرملة الخارجي كان أشدَّ إبهارًا وفخامة بكثيرٍ من ماركنمور كورت. فقد كان مسكن عائلة ماركنمور القديم رثًّا ومُهملًا من الخارج وفي أمسِّ الحاجة إلى طلاءٍ جديد؛ أمَّا بيت الأرملة، فكان نظيفًا ومُنمقًا للغاية، وكان مرجه وحدائقه مُقلمة ومُصانة بعناية. طَرَق بليك الباب وقرع الجرس، ولم يكن مُتفاجئًا إطلاقًا حين فتح له الباب خادم استقبال طويل جدًّا ومتغطرِس، يرتدي زيَّ خدَم رائعًا. وبدا هذا الشخص يجد بعض المشقة في خفض عينَيه إلى مستوى وجه الطارق.
سأله بليك: «هل السيدة تريزيرو في المنزل؟»
أجابه خادم الاستقبال قائلًا: «السيدة تريزيرو مُتوعِّكة. لا تستطيع استقبال أحد اليوم.»
فأخرج بليك حافظة بطاقاته.
وقال: «يؤسِفني سماع أنَّ السيدة تريزيرو ليست بخير. لكني رأيتُها منذ ساعة أو اثنتَين، وأظنها ستسمح لي بأن أحادثها بضع دقائق بشأن مسألةٍ عاجلة للغاية. كل ما عليك أن تُعطيها بطاقتي، إذا سمحت.»
أخذ الخادم البطاقة بحذَر شديد، ورمقها بنظرة خاطفة، ثم حدَّق إلى مظهر بليك الشبابي بشيءٍ من التعجُّب، وبعدئذٍ تراجع مُبتعدًا عن الباب، وبدا أنه يدعو الطارق إلى الدخول. فدلف بليك إلى صالةٍ خارجية.
قال له الخادم على مضض: «كانت الأوامر التي كُلِّفتُ بها دقيقةً ومُحددة جدًّا. ولكن إذا كانت مسألة مهمة للغاية …»
قاطعه بليك قائلًا: «إنها كذلك!» وأضاف: «مهمة جدًّا.»
فقال الخادم: «سأذهب لأرى وصيفة السيدة تريزيرو. انتظِر هنا من فضلك.»
توارى الخادم في عَتمة صالةٍ داخلية، خلف ستائر ثقيلة معلقة على مدخلها، وبعدما تُرِك بليك وحدَه، نظر حوله. كان المكان الذي كان مُنتظرًا فيه وحدَه صغيرًا، وكان في أحد جانبيه خزانة قديمة من خشب البلوط، فيما كان يُوجَد في الجانب الآخر شمَّاعة عريضة يتدلَّى منها مجموعة مُتنوعة من معاطف وعباءات وشالات خارجية مُخصَّصة للارتداء خارج المنزل. وكان الثوب الأبرز بينها مِعطفًا طويلًا من طراز «راجلان» ذا لونٍ أزرقَ زاهيًا بعض الشيء، تعرَّف عليه بليك فورًا. فقد رآه في التحقيق الذي أجري صباح ذلك اليوم؛ إذ كان يرتديه الرجل الضخم ذو الشارب الأشقر الذي كان جالسًا إلى يمين السيدة تريزيرو طوال فعاليات التحقيق.
وبواحدةٍ من ومضات الحدس البديهي النادرة تلك التي تُجسِّد منبع إلهام العبقرية لدى رجل يمتهِن مهنته، ذهب بليك كالبرق إلى هذا المعطف، ودسَّ يدَه اليُمنى في أقرب جيب. فشعرتْ لمساتُ يده بزَوج من القفازات، ومن تحت القفازين غليون. فأرهف سمعه أشدَّ إرهاف، وأبقى نظرَه مُسلطًا بكل انتباهٍ على الستائر القابلة للطي وهو يُخرِج هذا الغليون ويرمُقه بنظرةٍ خاطفة. كان سيضحك ضحكةً مكتومة في ابتهاج لو كانت لديه الجرأة الكافية؛ فقد كان هذا هو ذاك الغليون الذي وجده جريمسدِل على مائدة العشاء في سيبتر! لم يكن ثمة شكٍّ في ذلك؛ إذ كان الجزء الخشبي المصنوع من أشجار الخلنج يحمِل خدشًا طفيفًا …
وهنا سُمِع صوتُ امرأة تسأل في مكانٍ ما خلف الستائر: «أين السيد بليك؟» وأضافت: «في الصالة الأمامية؟»
فأعاد بليك الغليون إلى الجيب، وتحرَّك ستَّ بوصات، وكان يُحدِّق باهتمامٍ كبير إلى وجه ثعلب مُثبت بالحائط، حين افترقت الستارتان وخرجت من بينهما امرأة. نظر إليها لحظةً باهتمامٍ تيقَّظ لديه فجأة، وارتأى أنها لم تكن امرأةً عادية. كانت ترتدي ثوبًا أسودَ أنيقًا بشيءٍ من الغَنج الجذاب، مع قبعة أنيقة ومِئزر أكثر أناقة مصنوع من قماش موسلين ناصع، وبدَت أشبه بامرأةٍ فرنسية من أن تكون امرأةً إنجليزية، وكانت حسناء بلا أي جدال، بقدْر ما كانت مفعمة بالحيوية. لكن حُسنها كان باهتًا بعض الشيء، وخمَّن بليك أنَّها في حوالي الخامسة والثلاثين من عمرها، وأنها خاضت علاقاتٍ غرامية سرية في أيام صباها؛ إذ كانت عيناها اللامعتان، وكذلك شفتاها، تنضح بأماراتٍ تدلُّ على وجود عُشَّاق سابقين في حياتها، وبدا لبليك أنَّها من صنف النساء اللواتي يكتُمن الأسرار كبئرٍ بلا قاع. وكانت أيضًا من صنف النساء اللواتي لا يستطعن النظر إلى رجلٍ دون الابتسام في وجهه؛ مثلما ابتسمت في هذه اللحظة وهي تنظُر إليه.
قالت بصوتٍ ناعم رزين: «السيد بليك؟» وأضافت: «أُتريد لقاء السيدة تريزيرو؟ إنها مُتوعِّكة قليلًا، فكما تعلم، ما حدث صباح اليوم، وما أعقبه، إنها مُصابة بصداع من فرط التوتُّر العصبي. ولكن إذا كانت مسألة …»
فأجاب بليك: «إنها كذلك، ولكن ليس فيها ما يُزعِج السيدة تريزيرو. مجرد سؤال أو اثنين.»
فأزاحت المرأة إحدى الستارتَين جانبًا، وكشفت عن صالةٍ داخلية فسيحة كان يُوجَد في أحد جوانبها دَرَج ينتهي برواق.
قالت له: «فلتتبعني من هنا، إذا سمحت.»
صعد بليك الدَّرَج وراءها. ورأى في نهاية رواق البسطة بابًا مفتوحًا أظهر له غرفة جلوس كبيرةً تحوي بيانو كبيرًا، وكان جالسًا إلى البيانو ذاك الرجل ذو الشارب الأشقر. كان يُغني، ليُمتِّع نفسه حسبما كان واضحًا، وكان يُصحِب صوته الباريتوني العذب بنغماتٍ متجانسة خفيضة. نظرت مُرشدة بليك إليه، وابتسمت مُجددًا.
وهمست قائلة له: «البارون يُغني أغنيات غرامية إيطالية!» وأردفت: «إنه يُفضِّل ذلك على الرماية أو الصيد أو الجولف! الأذواق تختلف، أليس كذلك؟»
قال بليك: «باختلاف الجنسيات.» كان قد توصَّل في قرارة نفسه بالفعل إلى أنَّ وصيفة السيدة تريزيرو ليست امرأةً عادية، وأنها جديرة بأن يحاول كسب ودِّها، وبادلَها الابتسام. ثم أضاف: «أظنه ليس إنجليزيًّا، هاه؟»
فأجابت الوصيفة بطريقةٍ تنمُّ عن درايتها بخبايا الأمور: «ألماني!» واستطردت قائلة: «إنه سمين جدًّا!» وضحكت ثم توقَّفت أمام أحد الأبواب، وطرقته برفق، ثم فتحته وأشارت لبليك بالدخول. «السيد بليك يا سيدتي.»
دَعَت السيدة تريزيرو السيد بليك إلى الدخول بنبرةٍ واهنة بعض الشيء، فدخل بليك الغرفة التي افترض فورًا أنها المخدَع الذي شهد محادثة ثنائية خاصة بين ساكنته وجاي ماركنمور بعد لقائهما في ليل الإثنين. ومع أنَّ الأجواء في الخارج كانت لا تزال مضيئة تمامًا، كان مصباحٌ وردي مُتقدًا في هذه الغرفة المنعزلة الفخمة، وعلى وميض نوره الخافت، رأى بليك السيدة تريزيرو مُسترخيةً على أريكة ومُرتدية ثيابها بشيء من الإهمال، لكنها كانت ثيابًا أنيقة ولائقة، وارتأى بليك أنها ربما كانت في غاية الجاذبية والسحر رغم شحوب بشرتها. وسواءٌ أكانت مُصابة بصداع من التوتر العصبي أم لا، فقد كانت تُدخن، كانت الغرفة مليئةً برائحة التبغ التركي الفاخر المُميزة، وكان يُوجَد بالقُرب من أريكة صاحبتها علبة مفتوحة من السجائر.
قالت السيدة تريزيرو وهي تنظُر باستحسانٍ إلى مظهر بليك الوسيم وثيابه الأنيقة: «تفضَّل بالجلوس.» وأشارت إلى كرسي وثير بالقُرب منها قائلة: «هذا.» ثم أضافت: «هلا تأخُذ سيجارة؟ إنني أدخِّن لأُسكِّن ألم الصداع. لقد انزعجتُ بشدة من كلِّ ما حدث صباح اليوم. كمٌّ رهيب من الثرثرة عن سفاسف تافهة، ألا تظن ذلك؟»
أخذ بليك سيجارةً بدافعٍ من التأدُّب فقط لا غير، مع أنَّه كان يكرَه التبغ التركي كالسُّم، وارتمى على كرسي وثير.
ثم أجاب باقتضابٍ قائلًا: «ربما. أحيانًا ما يُضطرُّ المرء إلى خوض كمٍّ هائل من الثرثرة عن مثل هذه السفاسف، وطرح أسئلة لا حصر لها، كما تعلمين، قبل أن يصِل إلى جزءٍ صغير جدًّا من الحقيقة. لكنِّي لا أريد إزعاجك بكثيرٍ من الأسئلة يا سيدة تريزيرو.»
ردَّت السيدة تريزيرو بدماثة ورضًا: «أوه، لا بأس!» وأضافت: «إنها قضية مُثيرة للاهتمام نوعًا ما، رغم كل شيء، وأظنك شديد الاهتمام بعملك، أليس كذلك؟» ثم أضافت وهي ترمق زائرها بنظرةٍ مباشرة من عينَيها نصف المُغمضتَين: «من المُرجَّح أنك كذلك. أنت صغير للغاية، أظنك مجرد صبي!»
ردَّ بليك ضاحكًا: «لستُ صبيًّا غِرًّا كما أبدو!» وأردف قائلًا: «فأنا أعمل في هذه المهنة منذ اثني عشر عامًا. ولكن الآن لنتطرَّق إلى المسألة التي أتيتُ من أجلها! أنا واثق من أنَّكِ لن تُمانعي في أن أسألكِ سؤالًا أو اثنين يا سيدة تريزيرو؟ حسنًا، أولًا، أرى أنك ترتدين خاتمًا غريبًا بعضَ الشيء حول الإصبع الوسطى من يدكِ اليُمنى.»
أجابت السيدة تريزيرو: «هذا؟» وأضافت: «بإمكانك أن تُلقي نظرةً عليه.» ومدَّت يدَها التي كانت ممشوقة ومُتناسقة جدًّا ووضعتْها في كفِّ بليك. ثم أضافت وهي تسحب يدَها بعد دقيقةٍ قلبتْها فيها على الوجه الآخر: «غريب، أليس كذلك؟» وأردفت: «غير مألوف!»
فأجاب بليك قائلًا: «أرى أنه شيء غريب جدًّا. والآن، هل تعرفين ما إذا كان لدى السيد الراحل جاي ماركنمور خاتم كهذا؟»
فأجابت: «كان لديه بالتأكيد.» واستطردت: «فهو الذي اشترى كِلا الخاتمَين منذ سنوات. كنتُ معه في بورتسموث، وفي أحد متاجر الأشياء النادرة والغريبة التي عادةً ما يجدها المرء في مثل هذه الأماكن، رأينا خاتمَين. فاشتراهما، مُقابل جنيه أو اثنين، وتعاهَدْنا على ارتدائهما إلى الأبد. آه يا جاي المسكين!»
سألها بليك: «هل كان يرتدي ذلك الخاتم حين رأيتِهِ في تلك الليلة قبل يومَين؟»
«نعم! لقد أخبرَني أنه لن يتوقَّف عن ارتدائه أبدًا، وأكدتُ له أنِّي سأظلُّ أرتدي خاتمي دائمًا.»
«وهل كان موجودًا حول إصبعه حين تركك؟»
«نعم بكل تأكيد!»
فقال بليك: «حسنًا، لم يكن موجودًا حول إصبعه حين عُثِر عليه في صباح اليوم التالي. هذه حقيقة مؤكدة!»
فانتفضت السيدة تريزيرو.
وصاحت مُتعجبة: «ذلك لم يُذكَر في التحقيق!»
قال بليك: «لا. لم أكن أعرف بوجود الخاتم حتى أخبرَتْني الآنسة فالنسيا ماركنمور بعد رفع جلسة التحقيق. كانت قد لاحظتْ أن أخاها كان يرتديه حين جاء إلى ماركنمور كورت قبل لقائِك.»
«و… ولم يُعثَر عليه بحوزته؟»
«لم يُعثَر عليه بحوزته قطعًا.»
رمت السيدة تريزيرو سيجارتها. وعبست، وتجهَّمت عيناها.
وصاحت قائلة: «إذن فهذا دليل آخَر على أنَّ هاربورو قد قتله!»
فسألها بليك: «كيف؟»
«الغيرة! قتله بدافع الغيرة، وأخذ الخاتم منه حين مات، لقد جنَّ جنونه من شدة الغيرة لأنَّ جاي كان يحمِل شيئًا مُرتبطًا بي!»
«هل تعتقدين حقًّا يا سيدة تريزيرو أنَّ هاربورو قتل جاي ماركنمور لغيرته منه عليكِ؟»
«نعم، أعتقد ذلك؛ بل ومُتيقنة منه!»
فقال بليك: «لكنَّ هاربورو قال — في شهادته إذا كنتِ تتذكرينها — إنَّه قد شُفِي من … من ولهه بكِ قبل بضع سنوات.»
ردَّت السيدة تريزيرو قائلة: «لا تُصدِّق ذلك.» وأضافت: «حتى لو كان قد شُفِيَ منه، فقد عاد كله إليه حين التقاني عصرًا قبل يومَين! لقد رأيتُ بوضوح شديد أنَّ هاربورو مُتيمٌ بي مثلما كان دائمًا! ثم … ظهر جاي، و… و… حسنًا، كما قلت، عادت أواصر الودِّ بيننا سريعًا. والتقى بهاربورو في الأعلى هناك على جانب التل، ومن المُؤكَّد أنهما تشاجرا، وقتله هاربورو! لا أكترث بما تقولونه أيها الشرطيُّون، ولا بما يقوله قاضي التحقيق وهيئة مُحلَّفيه ولا القضاة؛ فأنا مُتيقنة من ذلك!»
«إذن، فأنتِ لا تهتمِّين إطلاقًا بالشهادة التي أُدلِيَ بها عن الرجلَين اللذين كانا مع السيد جاي ماركنمور في نزل سيبتر في تلك الليلة يا سيدة تريزيرو؟»
«إطلاقًا! لقد كان مجرد لقاء عمل!»
«ألم يُخبركِ بهوية مَن كان سيلتقيه؟»
«كلا ألبتة، لم ينطق بكلمة عن ذلك! كان مجرد لقاء عمل. ولم أكن مُهتمة.»
قال بليك بعد سكوتٍ لحظي: «حسنًا. لديَّ سؤال آخر أريد أن أطرحه عليكِ. أعتقد أنكِ كنت تستضيفين ثلاثة أو أربعة ضيوف آخرين في بيتك آنذاك، ألا تَظنِّين أنَّ أحدهم ربما يكون هو الرجل الثاني الذي ذهب إلى نزل سيبتر؟»
صاحت السيدة تريزيرو: «قطعًا لا!» وأردفت قائلة: «فأنا أعرف كل واحدٍ منهم جيدًا بالطبع. ولا أحد منهم كان يعرف جاي مثلما كنتُ أعرفه! لقد كانوا كلهم رجالًا عسكريين عرفتهم في الهند. وكان كلٌّ منهم بصحبة زوجته هنا، ما عدا البارون فون إيكهاردشتاين بالطبع؛ فهو ليس عسكريًّا ولا مُتزوِّجًا. ولكن حتى الوقت الذي أتى فيه إلى هنا، إلى حفلي المنزلي، لم يكن قد سمع أبدًا عن آل ماركنمور. لماذا؟ هل يقترح أحدٌ ذلك؟»
فأجاب بليك على عجل: «إطلاقًا.» وأضاف: «ولكن في مثل هذه القضايا، عند وجود أشخاصٍ غرباء في مكان قريب من مسرح الحادث … حسنًا، يجب معرفة هويتهم، كما تعلمين.»
فقالت السيدة تريزيرو: «لقد أخبرتك بهوية ضيوفي. ومن المؤكد أنَّ مجرد التفكير في أنَّ أيًّا منهم قد ذهب إلى نزل سيبتر في ذلك الوقت من الليل شيء غير معقول! كلَّا؛ اللقاء الذي جرى في سيبتر غير مُهم. سَلِّط تركيزك على هاربورو؛ فهو الفاعل! طالما كان رجلًا ذا طابع جنوني جامح يتجاوز كل الحدود، وإلَّا لربما تزوَّجتُه في الماضي.»
لم يردَّ بليك على ذلك. ثم نهض ليرحَل، ومدَّت السيدة تريزيرو يدها إليه بنظرة استحسانٍ أخرى.
وقالت: «تعالَ وزُرْني مرة أخرى لتُخبرني كيف تسير الأمور معك. فأنا مُهتمة للغاية بكل تأكيد!»
نزل بليك على الدرَج مُتجهًا إلى الطابق السفلي. كان باب غرفة الجلوس لا يزال مفتوحًا، وكان البارون إيكهاردشتاين ما زال يُغني أغاني عاطفية بصوتٍ رقيق. وعند أسفل الدرَج، ظهرت الوصيفة فجأة وابتسمت. فبادلَها بليك الابتسامة.
وقال: «لم أُفاقِم صداع سيدتك إطلاقًا.»
فهمستْ له قائلة، وهي تنظُر حولها: «الصداع الحقيقي هو الإفراط في تدخين السجائر. بالمناسبة!»
فسألها بليك بنبرةٍ هامسة كذلك: «ماذا؟»
فسألته: «هل اكتُشِف أيُّ شيء؟»
فأجابها بليك: «ماذا، حتى الآن؟» وأضاف: «لا! ما زال الوقت مُبكرًا جدًّا لذلك. لماذا؟ هل تعرفين أي شيء؟»
«أنا؟ يا إلهي، كلَّا! بل مجرد فضول! لأنني امرأة.»
سألها بليك مُبتسمًا: «ما اسمُك؟»
فأجابت بسرعة: «هاليويل. لماذا؟»
سألها بليك: «آنسة أم سيدة؟»
«آنسة! لماذا تسأل؟»
فقال بليك: «أردتُ أن أعرف فحسب. أغلب الظن أنني سأمكُث هنا لبعض الوقت، وأنا واثق من أنني سألقاكِ مرةً أخرى.»
ثم رحل بابتسامةٍ أخرى، وحالما ابتعَدَ عن المنزل، توقَّف عن التفكير في كل شيءٍ عدا فكرة واحدة. كانت فكرة مُهمة. فقد استنتج أنَّ فون إيكهاردشتاين، عند مغادرته قاعة المحكمة في صباح ذلك اليوم بعدما رفع قاضي التحقيق الجلسة، استولى على غليون التبغ الذي تُرِك في نزل سيبتر، عند مروره بجوار الطاولة التي كان موضوعًا عليها. وكان السؤال الآن: هل كان فون إيكهاردستاين هو الرجل الذي ترك الغليون في النزل؟
كان بليك معتادًا تخيُّل الأسباب المُحتملة لأي شيء، وقد بدأ ذهنه في هذه اللحظة يتفتَّق عن بعض تلك الأسباب. فقد ارتأى أنَّ فون إيكهاردشتاين ربما كان أحد هؤلاء المهووسين بجمْع الأشياء المرتبطة بالجرائم، وكان بليك نفسه قد صادف أكثر من مهووس من هذا النوع، وكان يعرف أنَّ أمثال هؤلاء مُستعدُّون لفعل أي شيء، حتى السرقة، من أجل إشباع رغباتهم. أو ربما كان يعرف الرجل الذي ترك الغليون، وسرقه بهدوء وسط الزحام والفوضى، بِنيَّة إتلاف دليلٍ ضدَّ صديقه. ولكن على أي حال، كان الغليون موجودًا في جيب إيكهاردشتاين، حيث دسَّه حين أخذَه من على الطاولة، وقد رآه بليك في جيبه وتعرَّف عليه.
كان بليك يقول لنفسه وهو مُستغرق في التفكير: «وإذا كان هذا غليونه، فذلك يعني أنه هو الرجل الذي ذهب إلى سيبتر في الساعة الثانية من صباح الثلاثاء الماضي، وغادر في الساعة الثالثة والربع مع جاي ماركنمور والرجل الآخر! هذه حقيقة مؤكدة لا ريب فيها!»
عاد إلى النزل بخطواتٍ مُتمهلة، وفي الوقت المُحدد سلفًا، جلس ليتناول العشاء. وحالما أنهى عشاءه، قرع جريمسدِل بابه ودخل.
قال بابتسامة ماكرة: «بعض القرويين يتحدَّثون في المطبخ عن هذه الجريمة. أترغب في سماع ما يقولونه؟»
قال بليك: «لن يتحدَّثوا أمامي.»
فقال جريمسدِل: «سأضعك في مكانٍ لن تُرى فيه. تعالَ معي.»
ثم قاد المُحقِّقَ عبر صالة المدخَل، مرورًا بحجرة الحانة، وأدخله مخزن مؤن غذائية كان يقع بين غرفة جلوس خاصة ومطبخ النُّزل. كان المخزن غير مضاء، عدا نافذة شبكية كانت مُثبتة في حائط المطبخ، وأشار جريمسدِل لبليك بأن يقترِب وينظُر من خلالها.
قال له هامسًا: «لا يستطيعون رؤيتك من مكانهم. لكنك تستطيع أن ترى كل شيء وتسمعه من هنا. أصغِ!»
وضع بليك وجهه بالقُرب من شبكة النافذة ونظر من خلالها. فوجد نصف دزينة من عُمال، معظمهم في منتصف أعمارهم أو مُسنُّون، كانوا جالسين بالقُرب من نيران مُبهجة في المطبخ القديم الطراز. وكانت أقداح من شراب المزر موضوعة على الطاولات أمامهم، وغلايين التبغ بين شفاههم. كانوا جميعًا من القرويين النمطيِّين، وذوي بشرةٍ مُجعدة ووجوه مسفوعة، وكان بعضهم ذا تعابير بلهاء على وجهه، فيما كان البعض الآخر ذا نظراتٍ فطنة ثاقبة، كان أحدهم في تلك اللحظة يُبدي رأيه بكل ثقة وصرامة.
إذ كان يقول: «لا شك إطلاقًا في أنَّ السيد جاي قد مات مِيتة إجرامية!» مُضيفًا: «إنها جريمة قتل، ولا أحد يستطيع أن يقول غير ذلك، بكل تأكيد! ولكن لن تكون معرفة الفاعل سهلة كما قد يظن بعضكم. لقد ارتُكِبَت سرًّا ولا أحد يعرف عنها شيئًا، إن جاز القول.»
فقال شخص آخر: «في كل الأحوال، لقد قتله شخصٌ ما. أعتقد أن هذه هي الطريقة الوحيدة للتفكير في تلك المسألة. لكني لا أعرف هوية الفاعل، وأنا مُتيقن تمامًا من أن لا أحد آخر يعرفها، بكل تأكيد!»
وهنا قال رجل ثالث: «حسنًا، لا يسمح لي ضميري بالقول إنني أصدق أنَّ السيد جون هاربورو، الذي يعيش في جرايكلويستر، هو مَن فعلها. لا أستطيع أن أحمِل نفسي على الاقتناع بأنَّ رجلًا وُلِد نبيلًا قد ينهض من فراشه في الثالثة صباحًا ليُطلِق الرصاص على رجلٍ نبيلٍ آخر! يبدو لي ذلك نوعًا غريبًا ولعينًا من امتياز المسيحية، يبدو كذلك حقًّا! كلَّا؛ لن أظن ذلك بأي حالٍ من الأحوال!»
تساءل شخصٌ ما: «فمَن الفاعل إذن؟»
لزم الجميع الصمتَ لبرهة، ثم مال رجلٌ داكن الوجه إلى الأمام، بعدما كان جالسًا يُدخِّن في صمتٍ طوال هذا الوقت في ركنٍ منزوٍ.
وقال بنبرة حاسمة: «لا أعترف إطلاقًا بهذه الجلسات التي تُعقَد للتحقيق في ملابسات الوفاة وتلك المجموعة من المُحامين ورجال الشرطة!» وأردف قائلًا: «فَهُم دائمًا ما يصطادون الأرنب الخطأ، هذا دأبهم حقًّا! ألسنا، نحن مَن عشنا طوال حيواتنا هنا في هذه المنطقة، نعرف جيدًا جدًّا أنَّ هذا الشاب ترك وراءه مجموعةً من الأعداء اللدودِين حين رحل قبل سبع سنوات؟ ألا يُوجَد في هذه المنطقة رجالٌ كان لديهم حبيبات وفتيات فَتَنهنَّ هذا الشاب بأساليبه المُعتادة؟ ألم يكن يُضاجِع كل الشابات الحسناوات دائمًا؟ لا تُخبروني بالإجابة فأنا أعرفها! يُوجَد على هذا الجانب من الروابي أكثرُ من رجل كان سيسعد بنَيل فرصة ليغرز سكينه في جسد السيد جاي ماركنمور، أو يخرقه برصاصة مسدس كذلك! هكذا لقي حتفه، حسبما أظن!»
سرَت همهمة إجماع على هذا الرأي بين الجمع. وخرج من وسط همهماتهم صوتُ رجلٍ عجوز.
قال بصوتٍ عالٍ حادِّ النغمة: «يا لغرابة سُبُل التدابير الإلهية!» وأضاف: «أظن أن مِن المُرجَّح أن يكون ما يقوله بِن الجالس هناك حقيقيًّا. فالانتقام سلاح قوي جدًّا في يد الرجل اليُمنى، ويزداد قوة كلما طال وقت الاحتفاظ به، كشراب المزر الجيد. نعم بالتأكيد، ربما تكون مسألة انتقام …»
سرعان ما غادر بليك مكانه ليفكِّر في هذا الاقتراح. ثم أتى إليه جريمسدِل مرةً أخرى، وقد بدا عليه الغموض.
وقال: «يُوجَد في الحديقة بالخارج شاب يريد لقاءك؛ وحدك، وخلسة.»
سأله بليك: «مَن هو؟»
فرمقه جريمسدِل بنظرةٍ تنمُّ عن درايته به.
وأجاب قائلًا: «إنه أحد ساسة خيول السيدة تريزيرو.»