ويليام بيجي
استيقظت غريزة بليك البوليسية، التي كانت مُتأصلة في طبيعته، بقوة وتلهُّف، حين سمع هذه الجملة. ونظر بدوره إلى جريمسدِل نظرةً تنمُّ عن دراية.
سأله قائلًا: «ألديه شيء يريد قوله؟»
أجاب صاحب النزل: «لم يقُل لي هذا، لكني أظن ذلك. لقد جاء وظلَّ يتسكَّع حول مُحيط بابنا الجانبي حتى رآني، ثم سألني عمَّا إذا كنتَ موجودًا في النزل، وإذا كان يستطيع لقاءك، وحدَك تمامًا، وأراد ألَّا يعرف أيُّ شخص آخر بذلك.»
فأمره بليك قائلًا: «أدخِله، وأخبره بأن لا أحد سيعرف أيَّ شيءٍ عن ذلك. فهذا أمر شديد الخصوصية، هاه!»
نظر جريمسدِل إلى النافذة نظرةً سريعة، وعَبَر الغرفة إليها وأسدل عليها أستارها. ثم غادر الغرفة، ليعود بعد دقيقة مع شابٍّ يرتدي ثيابًا من القماش الصوفي المنسوج، وواقِيَين أنيقَين حول الساقين من صنع شركة «نيوماركت»؛ كان شابًّا ذا عينَين ثاقبتَين ووجهٍ فطِن، كان ينظر إلى المحقِّق كما لو أنَّه ينظُر إلى ثعلبٍ ماكر مراوغ خرج من مَخبئِه للتو.
قال جريمسدِل: «ويليام بيجي يا سيد بليك.»
أومأ بليك إيماءةً رقيقة ودودة لزائره الخجول المُتيقِّظ، وأشار إلى كرسي قريب من كرسيه بجوار النيران المُبهجة.
وقال له: «طاب مساؤك يا بيجي. تفضَّل بالجلوس، هل تريد تناول شراب؟»
غاص بيجي مُنزلقًا في الكرسي الوثير، ووضع قُبعته على الأرض وابتسم بخجل.
وأجاب قائلًا: «حسنًا، شكرًا لك يا سيدي. لا أمانع احتساء قليل من شراب المزر.»
نظر بليك إلى جريمسدِل، الذي خرج وعاد حاملًا إبريقًا مُزبدًا من المزر، ووضعه بجوار السائس.
قال بليك: «احرص على ألَّا يُزعِجنا أحد يا جريمسدِل. وإذا أرادني أي شخص — كائنًا ما كان — فقُل له إنني مشغول.»
خرج صاحب النزل وأغلق الباب، ودفع بليك كيس تبغِه إلى زائره، الذي كان يعبث بغليونه بأصابعه.
قال له بأسلوبٍ مِضياف: «جرِّب القليل من هذا، وأشعِل غليونك. حسنًا؛ لقد أردتَ الحديث معي يا بيجي. ما الأمر؟»
وقبل أن يردَّ بيجي على هذه الدعوة المباشرة، ملأ غليونه وأشعلَه، ونفخ فيه إلى أن بلغ ذروة اشتعاله، ثم رفع إبريق المزر إلى شفتيه، وتمتم مُعربًا عن بالِغ احترامه لمُضيِّفه. ثم تلفَّت حوله التفاتةً تنمُّ عن رغبة في الخصوصية الشديدة، ورمق بليك بنظرةٍ مُتبصِّرة.
قال له: «لا أريد الوقوع في مشكلة.»
وافقه بليك قائلًا: «مفهوم!» وأضاف: «لن تقع في مشكلة بسبب أيِّ شيء ستقوله لي.»
تابع بيجي قائلًا: «ولا أن أوقِع أيَّ شخصٍ آخر في أيِّ مشكلة. أعني … ما لم يكن يستحق ذلك!»
وافقه بليك قائلًا: «بالضبط! ما لم يكن يستحق ذلك. في هذه الحالة، لن تُمانع؟»
فأجاب بيجي: «لا أمانع الإدلاء بما أعرف أنَّه حقيقي.» ثم تفرَّس في المُحقِّق مرة أخرى. وأضاف قائلًا: «أظن، أظن أنني إذا قلتُ لك … شيئًا ما، فسيتوجَّب عليَّ قوله مرةً أخرى، بصفتي شاهدًا، إن جاز القول؟»
فأجابه بليك: «كل هذا مرهون بماهيةِ ما ستقوله يا بيجي. ربما سيتوجَّب عليك ذلك، إذا كان ما ستقوله مُهمًّا جدًّا. أو ربما لا، إذا كان مجرد شيءٍ تريد أن تُخبرني به سرًّا فيما بيننا. على أي حال، مهما كان ما ستقوله، فلن تُضار، ما دُمتَ ستقول الحقيقة الصريحة الواضحة.»
فسأله بيجي: «هؤلاء الشهود.» واستطرد قائلًا: «الذين يقِفون أمام قضاة التحقيق وقضاة الصلح والقضاة الرئيسيين في المَحاكم، هل هم مَحميُّون؟ لا أحد يستطيع إلحاقَ أيِّ أذًى بهم عقابًا لهم على قولِ ما يعرفونه، هاه؟»
فقال بليك بتوكيدٍ قاطع: «حماية مُشدَّدة، من كل النواحي. بئس مصير مَن يمنع شاهدًا من الإدلاء بشهادته يا بيجي! اطمئن بشأن هذه المسألة، يا عزيزي الشاب.»
أومأ بيجي برأسه، وملأ فمه بجرعةٍ أخرى من المزر، وبدا أنه قد حسم قراره.
قال فجأة: «حسنًا، أعرف شيئًا ما!» وأضاف: «كنتُ أفكِّر في الإدلاء به صباح اليوم، هناك في الأعلى أثناء التحقيق …»
فسأله بليك: «أكنت هناك؟»
ردَّ بليك بالإيجاب قائلًا: «مُعظم الوقت. لكنِّي سمعتُ كلَّ ما قاله جريمسدِل. وبسببِ ما قاله، فكَّرت في التطوُّع والإدلاء بشهادتي، أتفهمني؟ لكني لم أكن أعرف بالضبط ماذا يجب أن أفعل؛ لذلك، حين سمعتهم يتحدَّثون عن رفع الجلسة، ارتأيتُ أن أؤجل ذلك، وأفكِّر في الأمر مَليًّا قبل حسم قراري. ولكن عندما سمعتُ أنك تمكث هنا لتباشِر شئون القضية، ارتأيتُ أن أخبرك به، إن جاز القول.»
قال بليك: «عين الصواب يا بيجي، أنا في غاية الامتنان لك. خذ راحتك. والآن، ما الأمر؟»
أخرج بيجي غليونه من بين شفتَيه، ومال قليلًا ليقترِب من بليك الذي كان مُنصِتًا إليه.
ثم قال: «حسنًا، الأمر كالآتي. هل سمعتَ ما قاله جريمسدِل عن مجيء السيد جاي ماركنمور إلى هذا النُّزل في تلك الليلة التي سبقت مَقتله، وعن أنه كان بصحبة رجُلَين آخرين؟»
أجاب بليك: «بالطبع. سمعت ذلك.»
تابع بيجي قائلًا: «كان أحدهما رجلًا طويلَ القامة، في طول السيد هاربورو؟ هذا ما قاله جريمسدِل؛ بناءً على ما رآه منه حين كانوا يغادرون؟»
قال بليك: «نعم، أتذكَّر.»
واصل بيجي حديثه، مُبديًا علاماتٍ على اهتمامٍ مُتزايد بروايته: «حسنًا، سأُخبرك بشيءٍ ما. لعل جريمسدِل قد أخبرك بأني سائس لدى السيدة تريزيرو، إنَّ لدَينا هناك حوذيًّا وسائسَين، وأنا كبير الساسة. تملك سيدتنا خمسة خيول حاليًّا: حصانَين صيادَين وحصانَين لجرِّ العربة وفرس قزم أصيل. الآن، بعد ظهر يوم الإثنين، توعَّك هذا الفرس القزم — وهو ليس حيوانًا عاديًّا؛ لأن السيدة تريزيرو اشترته مُقابل مائة وأربعين جنيهًا قبل ذلك بشهرٍ واحد فقط؛ إذ أُصيب بمغَص، أو ما شابه — واضطُررتُ إلى إحضار الطبيب البيطري ليُعالجه. ظلَّ الطبيب البيطري عندنا ساعةً أو اثنتَين في ذلك المساء يُداويه، وجعله يتحسَّن بعض الشيء، لكنه قال للحُوذي وبقيَّتنا: «سيتوجَّب على أحدكم، أيها الشبان، أن يسهر مع هذا الفرس القزم طوال الليل، ويعتني به جيدًا.» لذا عرضتُ أداء هذه المهمة؛ فالرجلان الآخران متزوِّجان ويعيشان في القرية هنا، أمَّا أنا، لأنني أعزب، فأعيش فوق حظائر الخيل، أتفهمني؟»
فقال بليك: «أفهم. كنتَ تُلازِم المكان.»
فوافقه بيجي قائلًا: «كنتُ أُلازِمه، إن جاز القول. حسنًا، ترك لنا الطبيب البيطري بعض الأدوية، وأخبرَني بما ينبغي فعله، طوال الليل، مع هذا الفرس القزم؛ ومن ثَم، فحين تأخَّر الوقت وغادر البقية جميعًا، تناولتُ عشائي في صالة الخدَم وأخذتُ قليلًا من الطعام لآكُله في أثناء الليل، واستقررتُ بأكبر قدرٍ ممكن من الراحة في غرفة السروج، بجوار كشك الخيول غير المربوطة الذي وضَعْنا فيه هذا الفرس القزم المُتوعِّك. استعاد هذا الفرس القزم عافيته، ولم يَعُد يُعاني أيَّ توعُّك على الإطلاق، وصار الآن على ما يُرام، واستعاد عافيته تمامًا مرة أخرى. ومع ذلك، فهذا غير مُهم وليس مُرتبطًا بموضوعنا على الإطلاق، إنما ذكرتُ قصة هذا الفرس فقط لأريك أنني بقيتُ ساهرًا طوال ليل ذاك الإثنين، أتفهمني؟»
فقال بليك: «أفهمك. هذا واضح تمامًا يا بيجي. أكمِل كلامك!»
واصل بيجي حديثه قائلًا: «حسنًا، لم يحدُث شيء حتى الساعة الثانية إلَّا ربعًا صباحًا تقريبًا. أعرف ذلك لأنني كنتُ أُضطر إلى تفقُّد الفرس القزم مرارًا منذ أن تركه الطبيب البيطري، وكانت هذه إحدى المرات. كنتُ قد دخلت كشك الخيول الطليقة للتو، وخرجت حين تذكرت أنَّ التبغ قد نفد من جعبتي. ولكن كان لديَّ الكثير منه في علبة صفيحية في غرفة نومي، لذا ذهبت إلى هناك لأُحضره. الآن، عليك أن تفهم أنَّ حظائرنا في بيت الأرملة مفصولةٌ عن الطريق الخاص المؤدي إلى البيت من الطريق الرئيسي بسياجٍ نباتي شاهق من أشجار سروٍ كبيرة الثمار؛ جانب كثيف الشجيرات، أتفهمني؟ وبينما كنتُ أسير بمُحاذاة هذا السياج النباتي، بينه وبين حائط مخزن العربات، في طريقي إلى الدَّرَج المؤدي إلى غرفتي في الأعلى، سمعتُ شخصًا ما قادمًا على الطريق الخاص على الجانب الآخر من السياج بخطواتٍ هادئة. لذا توقَّفت، فورًا …»
فقاطعه بليك: «تمَهَّل لحظة. علامَ كنتَ تسير يا بيجي؟ أيُّ نوع من الأرصفة أو المماشي؟»
فأجاب بيجي فورًا: «كان طريقًا أسفلتيًّا، فُرِش عليه الأسفلت مُؤخرًا. ويمتدُّ بطول الجانب الأمامي لحظائرنا. وقد فُرِش عليه حين جاءت السيدة تريزيرو وأمَرت بإجراء تحسيناتٍ على مظهر البيت ومُحيطه.»
«وماذا كنتَ تنتعِل في قدميك، أي نوع من الأحذية؟»
فأجاب بيجي: «حذاءً قديمًا مُخصَّصًا للتنس أعطتني إيَّاه مدبرة المنزل. كان أحد السادة قد تركه هنا حين رحل.»
قال بليك: «جيد جدًّا. أكمِل. تقول إنك توقَّفت فورًا …»
«توقَّفتُ في مكاني بالضبط، وتسللتُ بين الشجيرات، ونظرتُ إلى الممشى الخاص المؤدي إلى البيت. وحينئذٍ رأيتُ رجلًا قادمًا عبره من جهة البيت، حيث يُوجَد باب يمكنك الخروج منه إلى الحدائق الخلفية. مرَّ أمامي مباشرةً بينما كان يسير على الممشى العُشبي على جانب الطريق المفروش بالحصباء.»
«هل رأيتَهُ بوضوح؟»
«بالنظر إلى أنَّ الوقت كان ليلًا آنذاك — وإن كانت ليلة صافية — فقد رأيته بوضوح كما أراك الآن! أو بالأحرى مع قليلٍ من الاختلاف، إن جاز القول.»
«هل رأيته بوضوحٍ كافٍ لتتبيَّن هويته؟»
«نعم!»
سأل بليك مُخبرَه وهو يُحدِّق إليه بإمعان: «حسنًا.» وأضاف: «مَن كان إذن؟»
حدَّق بيجي إلى سائله بإمعانٍ مُماثِل.
وأجاب قائلًا: «ذاك الرجل الألماني الذي يمكُث مع سيدتنا!»
«البارون فون إيكهاردشتاين؟»
«إنه هو! نُناديه بالبارون.»
«أأنت مُتيقِّن تمامًا من هذا يا بيجي؟»
فأكَّد بيجي قائلًا: «ومُستعدٌّ لأقسِم على ذلك حتى وأنا على فراش الموت!»
أعاد بليك ملء غليونه وأشعله، وظلَّ يُدخِّن في صمتٍ دقيقة أو اثنتَين.
ثم سأل أخيرًا: «حسنًا، إلى أين ذهب؟»
فأجاب بيجي: «سار بضع يارداتٍ على الطريق الخاص للبيت، ثم انعطف إلى مسارٍ يمتدُّ عبرَ الشجيرات ناحية الطريق الرئيسي. ويخرج هذا المسار في نهايته إلى الطريق الرئيسي على مقربة شديدة من الجانب المُقابل للأكواخ، خلف هذا المكان بالضبط؛ أي نزل «سيبتر». توجد بوابة مفصلية حديدية صغيرة في السياج الشجري المُكوَّن من أشجار البهشية، لعلَّك قد لاحظتها؟ لقد خرج إلى الطريق عبر تلك البوابة، على بُعد حوالي مائتي ياردة من هنا.»
«وتقول إنَّ ذلك كان في حوالي الساعة الثانية إلا ربعًا من صباح الثلاثاء؟»
أكَّد بيجي قائلًا: «في حوالي ذلك الوقت بالتأكيد. ربما كانت الساعة الثانية إلَّا ستَّ دقائقَ أو ثماني دقائق حين رأيته. على أي حال، كانت الثانية إلا ربعًا حين تفقَّدتُ الفرس القزم، ولم أبقَ في كشكه سوى عدة دقائق. ثم ذهبتُ مباشرة لإحضار علبة تبغي الصفيحية، وسمعتُ تلك الخطوات.»
«أظنُّ أنَّك قد استغربتَ ذلك؛ أي خروج ضيف من البيت في ذلك الوقت من الليل، أليس كذلك؟»
وافقه بيجي الرأي قائلًا: «أظنه شيئًا غريبًا جدًّا!» وأردف قائلًا: «ولكن مع ذلك، لم يكن الأمر يعنيني ولم أكترِث به إطلاقًا. وما كان سيلفتُ انتباهي بشدَّة لو لم أرَ هذا الرجل مرةً أخرى.»
فقال بليك: «أوه!» وأضاف: «آه! إذن فقد رأيتَهُ مرة أخرى؟»
«نعم، وكان ذلك حين بدأ ضوء الشمس يبزغ، فرأيتُه بوضوح شديد تلك المرة!»
«وكم كانت الساعة آنذاك؟»
قال بيجي: «لدَينا ساعة فوق حظائرنا. كانت قد دقَّت للتوِّ مُعلنة الرابعة.»
فكرَّر بليك الجملة مُتأمِّلًا: «الساعة الرابعة!» واستطرد قائلًا: «إممم! وأين رأيتَهُ عند الساعة الرابعة؟ في المكان نفسه؟»
أجاب بيجي قائلًا: «لا. قُبيل الساعة الرابعة مباشرة، بدأتُ أشعر بأنني في أمسِّ الحاجة إلى كوبٍ من الشاي. وكان لديَّ برَّاد يحوي بعض الشاي، لكنِّي بالطبع كنتُ بحاجة إلى ماء مغلي. لدَينا موقد غازي في حجرة صغيرة عند طرف الحظائر يستخدمها الحُوذي الذي يعمل لدَينا كغرفة جلوس له، أتفهمني؟ فذهبت إلى هناك لأضيئها وأغلي بعض الماء في غلَّاية. دقَّت الساعة الرابعة عندما كنتُ هناك. فقد كنتُ قد وضعت الغلاية على نيران الموقد للتو، حين سمعتُ دقات الساعة الرابعة. تحوي هذه الحجرة الصغيرة نافذة تُطِلُّ على الحدائق الخلفية؛ التي تمتدُّ من مؤخرة بيت الأرملة إلى سفح المُتنزَّه، حيث يبدأ في الارتفاع نحو الروابي. وتُوجَد مزروعات كثيفة من أشجار الصنوبر والأرزية بين الحدائق والمُتنزَّه، وفجأة، رأيت هذا البارون يخرج من هذه المزروعات، كأنه كان نازلًا من الأرض المُرتفعة الواقعة أعلاها.»
سأله بليك: «أكان وحدَه؟»
أجاب بيجي: «أوه، كان وحدَه قطعًا، تمامًا كما كان حين رأيتُه من قبل.»
«وكم كانت المسافة بينكما؟»
«خمسًا وعشرين أو ثلاثين ياردة.»
«أين ذهب آنذاك؟»
«سار على جانب سياج نباتي شاهق من أشجار البهشية ناحية الباب نفسه الذي أظنه قد خرج منه.»
«هل كان بالإمكان رؤيته من البيت؟»
قال بيجي: «لا، لا أظن ذلك. فيُوجَد بين البيت وتلك الحدائق حزامٌ كثيف من الأشجار؛ أشجار زان نبتت أوراقها للتو.»
«رأيتُه يمرُّ بجوار ذاك الحزام؟»
قال بيجي: «بل رأيتُهُ يدخُله. وحالما دخله، صار قريبًا من ذاك الباب الجانبي الذي ذكرتُه.»
سأله بليك قائلًا: «أفترضُ أنَّك تعرف بيت الأرملة جيدًا يا بيجي؟»
أكَّد بيجي ذلك قائلًا: «نعم. كنتُ هناك أصلًا من قبل أن تأتي السيدة تريزيرو وتأخذه. فأنا أعمل هناك، على فتراتٍ متقطعة، منذ صباي. وكانت أول مرة ذهبتُ فيها إليه حين كنتُ في الرابعة عشرة من عمري.»
«حسنًا، بخصوص ذاك الباب الجانبي، ما ماهيته؟ إلى أين يؤدي حين تدخُل البيت منه؟»
«إلى بهوٍ يَمتدُّ بطول مؤخِّرة البيت. ويُوجَد فيه دَرَج — دَرَج عريض — يؤدي منه إلى الدَّرَج الكبير في الصالة، عبر بابٍ ذي مصراعَين في الأعلى.»
«إذن فأيُّ شخصٍ آتٍ من غرف النوم يستطيع الوصول إليه بسهولة؟»
قال بيجي مؤيدًا: «بكل سهولة!»
سأله بليك بعد لحظة من التفكير: «أظنُّ أن لا أحد من الخَدَم كان خارج فراشه في الرابعة صباحًا؟»
فتح بيجي فمه بابتسامةٍ عريضة.
وقال: «هذا مُستبعد!» وأردف قائلًا: «فجرس إيقاظ الخدَم يُقرَع في السادسة صباحًا. لن تجد أيًّا منهم مُستيقظًا قبل هذا الوقت!»
قال بليك: «بمناسبة الحديث عن الخَدَم، هل تعرف وصيفة السيدة تريزيرو؟»
ابتسم بيجي.
وقال: «دافي هاليويل؟» وأضاف قائلًا: «أعرفها بالطبع!»
«حسنًا، مَن هي دافي هاليويل إذن؟ وما اسمها الأول؟»
فأجاب بليك فورًا: «دافي. مَن هي؟ حسنًا، كان أبوها مزارعًا أو ما شابه على الجانب الآخر من الروابي، خلف مُنخفض ماركنمور هولو. وقد مات. كان لديه فتاتان: دافي ومايرا. سافرت دافي إلى الهند مع السيدة تريزيرو وعادت معها. أمَّا مايرا، فلا أعرف مصيرها. لقد اختفت، إن جاز القول، في الوقت نفسه تقريبًا؛ مع أنني أتذكَّر الآن أنها كانت ستتزوَّج شابًّا كان يعيش بالقرب منهم، جيم روبر، الذي كان يعمل حطَّابًا، لدى السير أنطوني.»
لم يهتمَّ بليك بهذه التفاصيل كثيرًا؛ إذ كان يُفكِّر في النقاط الأساسية في المعلومات التي ذكرها السائس.
ثم قال بعد لحظة: «الآن يا بيجي، لديَّ سؤال مُهم؛ هل أنا أول مَن تُخبره بهذه الرواية؟»
أجاب بيجي فورًا: «أنت الأول قطعًا!» وأردف قائلًا: «لم أخبِر بها أيَّ إنسانٍ غيرك!»
سأله: «ألم تذكُر قط لأيٍّ من زملائك من الخَدَم أنَّك رأيتَ البارون فون إيكهاردشتاين خارج البيت في ذاك الوقت من الصباح؟»
فقال بيجي بنبرةٍ تأكيدية: «كلَّا، لم أفعل! لن أُنكر أنني ربما كنتُ سأذكر ذلك، مجرد ذِكر عفوي عابر، لو لم أكن قد سمعتُ بمقتل جاي ماركنمور في ذاك الصباح. لكني سمعتُ به، في وقتٍ مبكر جدًّا — قبل أن يسمع به مُعظم الناس — وقبل أن يصِل الحُوذي أو السائس الثاني إلى الحظائر؛ لذا لم أقُل شيئًا.»
سأله بليك: «ومَن أخبرك بالجريمة، في ذلك الوقت المُبكر جدًّا؟»
أجاب بيجي قائلًا: «شرطي قريتنا. كنتُ واقفًا عند طرف مَرعى خيولنا الشرقي حين صعد هو وهوبز جانب التل إلى الروابي، بعدما ذهب هوبز ليُحضِره. وكنتُ سأصعد معهما إلى ماركنمور هولو لو كان بإمكاني ترك الفرس القزم. لكني فقط تمشيتُ إلى حافة أراضينا، لأستنشِق قليلًا من الهواء النقي بعدما قضيتُ الليل كله في مخزن السروج، حين مرَّ بي الشرطي وهوبز وهما يُهرعان. وبعدما جمعتُ التفاصيل معًا، ارتأيتُ أن ألزم الصمت. وقد لزمته … إلى الآن.»
قال بليك: «وأخيرًا ارتأيتَ أن تُخبرني.» وأضاف: «حسنًا، لقد فعلتَ الصواب. لن يمسَّك أيُّ أذًى يا بيجي؛ أنت آمِن تمامًا.»
فقال بيجي بنظرةٍ ماكرة مفاجئة: «حسنًا، لديَّ سبب وجيه جعلني آتي إليك الليلة. ارتأيتُ أنَّ ذلك هو الأفضل.»
فسأله بليك: «حسنًا، ما هذا السبب يا تُرى؟»
أجاب بيجي: «إنَّ هذا البارون سيرحل عن المنزل صباح غد. سيُغادر!»
فصاح بليك: «أوه!» وأضاف: «في أي وقت؟»
قال بيجي: «لديَّ أوامر بأن أوصِله إلى محطة سيلكاستر ليستقلَّ القطار السريع الذي سينطلِق في العاشرة وثماني دقائق إلى فيكتوريا. سنُغادر من هنا في التاسعة والنصف.»
سأله بليك: «تُوجَد في بيت الأرملة امرأة تُدعى السيدة هاميلتون، أليس كذلك؟» واستطرد قائلًا: «صديقة السيدة تريزيرو؟ أهي أيضًا راحلة؟»
أجاب بيجي قائلًا: «لا. هو فقط. سأوصله في العربة الخفيفة الصغيرة. وحدَه.»
نهض بليك من كرسيه في إشارةٍ إلى انتهاء المقابلة.
وقال: «حسنًا يا بيجي. والآن، تذكَّر هذا، لا تنبس ببنت شفة عن ذلك لأيِّ إنسان! كلُّ ما عليك أن تواصِل حياتك كما لو كان كل شيء عاديًّا. لقد فعلتَ الصواب بمجيئك، وتذكَّر ما قلتُه لك: احتفظ بكل هذه المعلومات لنفسك!»
حين رحل السائس، بعدما اتَّخذ احتياطاتٍ مُضحكة ليضمَن أن لا أحد من زبائن النزل قد رآه وهو يغادر غرفة جلوس المُحقق، فكَّر بليك فيما سمِعَه للتو. لم يَعُد يُساوره أيُّ شكٍّ آنذاك في أنَّ البارون فون إيكهاردشتاين كان الرجل الثاني في لقاء منتصف الليل الذي جرى في نُزُل سيبتر؛ فرواية بيجي، ومعرفة بليك نفسه بأنَّ فون إيكهاردشتاين قد اختلس الغليون من على طاولة المُحامين أثناء جلسة التحقيق، أكَّدتا له ذلك يقينًا. ولكن أكان هذا كافيًا ليجعل المرء يشتبِهُ في أنه ارتكب جريمةَ قتل؟ رأى بليك أنَّ هذا غير كافٍ؛ بل غير كافٍ إطلاقًا! لم يكن بوسعه تصديق أنَّ رجلًا ما من الممكن أن يقتل رجلًا آخر، ويبقى قريبًا من مسرح الجريمة، ويتصرَّف بطريقةٍ عادية كالطريقة التي بدا فون إيكهاردشتاين يتصرَّف بها. ومع ذلك، فهذا الرجل ربما يعرف شيئًا، بل من المُرجَّح أنه يعرف، وسواءٌ أكانت تُوجَد أسباب كافية، أم لا، لاتهامه بارتكاب الجريمة أو التواطؤ فيها، فبالتأكيد كانت تُوجَد أسباب كثيرة لمُطالبته بالإدلاء ببعض الأقوال عن نفسه. وإذا بُوغِت بمِثل هذا الطلب، فربما تَحمِل أقوالُه معلوماتٍ جديدة.
تمتم بليك قائلًا: «سأعرف منه شيئًا!» وأردف قائلًا: «من المؤكد أنه يعرف شيئًا ما، وسيكون مُضطرًّا للتحدُّث!»
وبهذا العزم الصلب في قرارة نفسه، خرج ليبحث عن جريمسدِل، وطلب منه أن يكون فطوره جاهزًا في تمام الساعة السابعة والنصف من صباح اليوم التالي، وأمر صاحب النزل بتجهيز عربة أجرة تُقِلَّه إلى سيلكاستر في الساعة الثامنة.