اختفاء
بعد تسوية أمر هاتَين المسألتَين ولم يَعُد يشغل باله بهما، اكتفى بليك بهذا القدْر من العمل في تلك الليلة، ودخل حجرة حانة سيبتر، راغبًا في قليل من الاسترخاء قبل الخلود إلى فراشه. كان قد دخل هناك مرةً أو اثنتين منذ أن أقام في النُّزُل، وعادةً ما كان يجد رجُلَين أو ثلاثة من قرية ماركنمور — مزارعًا أو اثنين، والطحان والنجار والحداد — عند المدفأة مُنهمكِين في مناقشة آخرِ أخبار القرية، وكان بليك يُحب سماع حديثهم. لكنَّ الحجرة كانت شبه فارغة هذه المرة؛ في الواقع، لم يكن فيها سوى رجل ضئيل الجسد ذي مظهرٍ وديع هادئ وحُلَّةٍ تويدية ذات سروال فضفاض قصير ملمومٍ عند أسفل الركبتَين، كان يجلس مُستغرقًا في التفكير ومنعزلًا بالقرب من المدفأة، والتفت إلى المُحقق بنظرةٍ اعتذارية من تحت نظارة كبيرة للغاية. ثم أعاد كرسيه إلى الوراء قليلًا كأنه يدعو بليك إلى الجلوس بجواره عند النيران المُبهجة.
قال بليك: «شكرًا لك.» وارتمى على كرسيٍّ مواجه لهذا الغريب وأخرج غليونه والتبغ. ثم استهل الحديث معه قائلًا: «حبَّذا القليل من النار، وإن كنَّا قد قاربنا شهر مايو.»
ردَّ الآخر قائلًا: «حبَّذا ذلك جدًّا يا سيدي. لا سيما حين يكون المرء قد قضى يومَه كله في العراء!»
سأله بليك مُلقيًا نظرةً خاطفة على سرواله القصير الفضفاض: «أكنت تتمشَّى؟»
ردَّ الغريب قائلًا: «نعم يا سيدي!» واستطرد قائلًا: «مشيتُ ثلاثين ميلًا اليوم قبل المجيء إلى هذا المكان. عبر الروابي مباشرة. دائمًا ما آخُذُ إجازتَين في السنة، واحدة في أوائل الربيع والثانية في أواخر الخريف، وأقضيهما في ممارسة المشي. لقد جُبتُ كل هذا الجزء من الجنوب هرولةً في أيام صباي. لكنِّي لم آتِ قط إلى هذه القرية بالذات قبل اليوم. وأعترفُ بأنَّ ما قادني إلى هنا — لأنني في الظروف العادية كان من المفترض أن أمكث في سيلكاستر — هو الفضول! لقد قرأت في الصحف عن لغز مقتل ماركنمور هذا؛ لذلك، ولمَّا كنتُ قريبًا من المكان، ارتأيتُ أنني أود رؤيته.»
قال بليك: «قضية غريبة، أليس كذلك؟»
وافقه الغريب قائلًا: «غريبة بكل تأكيد يا سيدي!» وسأله: «أأنت مُهتم بها يا سيدي؟»
أجاب بليك باقتضاب: «مُضطر. إنه اهتمام مِهني.»
فسلَّط الغريب نظارته الكبيرة على بليك ونظر إليه باهتمام جذل. ثم مال إلى الأمام وتحدَّث بصوت خفيض.
وسأله بنبرةٍ تكاد تكون إجلالية: «أيُعقل يا سيدي أنني أحظى الآن ببهجة لقاء المُحقِّق الرقيب الشهير بليك، الذي سمعتُ اسمه فيما يتعلق بهذه القضية؟» وأضاف: «هل أرى السيد بليك بشحمه ولحمه؟»
أجاب بليك: «أجل!» وأردف: «بكل كينونته!»
فصاح الغريب: «يا إلهي!» واستطرد قائلًا: «أنا فخور جدًّا بلقائك يا سيدي، بكل تأكيد. اسمي كرولي، من حيِّ توتينج. أعمل مُحصِّل ضرائب، صحيح أنها مهنة شاقة ومُملة يا سيدي، لكنها تُبقيني لائقًا بدنيًّا للمشي، الذي أعشق ممارسته. عجبًا! قد يبدو ذلك شيئًا غير عادي، ولكن أتعرف يا سيدي أنني، طوال خمسةٍ وأربعين عامًا هي كل سنوات عمري، لم ألتقِ قَطُّ برجلٍ يمتهن مهنتك! أظنها يا سيدي مهنة مثيرة للغاية وتستحوذ على كل اهتمام المرء، ومليئة بالمغامرات؟»
قال بليك: «ربما. فهي أحيانًا ما تكون مُملة ورتيبة جدًّا. صحيح أنَّك قد تحظى بالإثارة والمغامرة عند حلِّ مسألةٍ في الرياضيات، لكنك لا تنال الكثير من أيهما عند حل مسألة جمع مُركَّب طويلة، أليس كذلك؟»
نَظَر السيد كرولي نظرةً تنمُّ عن إعجابه وعجزه عن الفهْم.
فأضاف بليك: «أقصد أنَّ مِهنتنا كثيرًا جدًّا ما تتضمَّن الجمع بين هذا وذاك، وبين ذاك وهذا إلى أن تتوصَّل إلى مجموعٍ نهائي.»
قال السيد كرولي وهو يفرك يديه: «جيد جدًّا يا سيدي، جيد جدًّا، فهمت قصدك!» وأضاف: «أوه، جيد جدًّا يا سيدي بكل تأكيد، توضيح مُمتاز! أظنه لن يكون تصرُّفًا لائقًا منِّي أن أسألك عما إذا كنتَ قد توصلتَ إلى مجموع نهائي في مسألة ماركنمور هذه يا سيد بليك؟»
فقال بليك: «يُمكنني الإجابة على ذلك فورًا من أجلك. لم أتوصَّل إليه.»
قال السيد كرولي: «أظنها مسألة شديدة الصعوبة يا سيدي. لقد قرأتُ كل أقوال الشهود في الصحيفة — «ديلي سينتينل» يا سيد بليك — بينما كنتُ جالسًا على جانب أحد التلال أتناول غدائي المتواضع، إنها مُثيرة جدًّا للاهتمام بالطبع، بل أكثر إثارة من أيٍّ من تلك الروايات المُثيرة التي يستعيرها الناس من المكتبات يا سيدي؛ أوه، أكثر بكثير! إنها الحياة الواقعية يا سيدي!»
سأله بليك: «هل توصَّلت إلى أيِّ استنتاجٍ بشأنها؟» وأردف: «أو تبنَّيت أيَّ رأي؟»
ألقى السيد كرولي نظرةً خاطفة على الباب وخفض صوته.
ثم أجاب قائلًا: «لدي آراءٌ يا سيد بليك. أجل يا سيدي، لدي آراء. صحيح أنني لستُ من مُعتادي المراهنة يا سيدي، لكني مُستعد للمراهنة بالمال على أنني أعرف السبب الحقيقي وراء هذه القضية!»
سأله بليك: «أجل؟» وأضاف: «ما هو يا تُرى؟ دائمًا ما أسعد بأيِّ فكرة.»
قال السيد كرولي بجدية: «المال!» وأردف قائلًا: «المال يا سيدي، المال!»
فسأله بليك: «ولكن كيف؟»
خلع السيد كرولي نظارته، كاشفًا عن عينَين ضعيفتَين شاردتَين، وهزَّ رأسه.
ثم أجاب قائلًا: «أظنُّ أنَّ الشاب البائس السيد جاي ماركنمور — يا له من اسمٍ غريب يا سيدي! — كان مُلاحَقًا. كان أحدهم في أثره!» واستطرد قائلًا: «كان أحدُهم في أثره، يا سيدي! والمال هو السبب الرئيس وراء ذلك، أجل!»
سأله بليك: «أتقصد أنه سُرِق وقُتِل؟»
قال كرولي بتأكيد قاطع: «كلَّا يا سيدي، لا أقصد ذلك إطلاقًا!» وأوضح قائلًا: «لقد لاحظتُ أنَّ مقتنيات السيد جاي ماركنمور وأمواله تُرِكت كما هي دون مساس! لا، بل أقصد أنَّ المال هو السبب الرئيس وراء لُغز مقتله؛ أعني أنه قُتل بيدَي شخصٍ شرير سيستفيد من موته استفادةً مالية يا سيد بليك، استفادة مالية.» واختتم السيد كرولي كلامه قائلًا: «ربما أكون مُخطئًا، ربما أكون مُخطئًا تمامًا وكليًّا، لكنَّ هذا رأيي يا سيدي، بناءً على أقوال الشهود. وقد كنتُ ضمن هيئة مُحلَّفين من قبل، أكثر من مرة.»
اعترف بليك قائلًا: «من الممكن أن يكون في كلامك قدْر من المنطق. فعادة ما يكون ثمَّة قدْر من الاحتمال أن يكون المال هو السبب الرئيس وراء كل هذه الأشياء.» وأضاف وهو يُخرِج ساعته متثائبًا: «ولكنني حتى الآن لم أفهم سوى أقل القليل من طلاسم هذه المسألة، ربما سأفهم المزيد غدًا.»
ثم قال ضاحكًا إنَّه حتى المُحققين يجب أن يناموا من حينٍ إلى آخر، وتمنَّى للسيد كرولي ليلةً طيبة، وقام ليُغادر الغرفة ذاهبًا إلى فراشه.
وبينما كان يغادر، ألقى إليه السيد كرولي تعليقًا أخيرًا، مصحوبًا بهزِّ سبابته.
«لا تنسَ يا سيد بليك — وإن كان رجلٌ فاضل بقدراتك وخبرتك لا يحتاج إلى تذكير بذلك بالتأكيد — لا تنسَ أنَّ اللامتوقَّع هو ما يحدُث دائمًا! اللامتوقَّع يا سيدي! ثمَّة قدْر كبير من الأهمية في اللامتوقَّع! فلا أحد يعرف يا سيدي ما قد يأتي به الغد!»
فقال بليك بنبرةٍ تأكيدية: «أظنك مُحقًّا بعض الشيء يا سيد كرولي. لقد أصبتَ عين الصواب هذه المرة!»
لم يكن بليك يعرف أيَّ شيءٍ عمَّا سيأتي به الغد، لا آنذاك، ولا حين غطَّ في نومٍ عميق بعد ذلك بوقتٍ قصير، ولا حين استيقظ في الصباح، ولا حين صعد في الساعة الثامنة إلى العربة الصغيرة التي كان جريمسدِل سيوصِله بها إلى سيلكاستر. كان السيد كرولي، الذي تناول فطوره مُبكرًا أيضًا، واقفًا عند باب النزل حين خرج منه بليك؛ إذ كان مُجهَّزًا بالعُدة اللازمة لممارسة المشي، وكان يحزم حقيبةً صغيرة على كتفيه.
سأله بليك: «مُغادِر؟»
ردَّ السيد كرولي قائلًا: «طوال النهار فقط يا سيدي. سأقضي نهارًا كاملًا ورائعًا على الروابي، انظر إلى وعاء غدائي! وأنا راضٍ جدًّا عن نزل سيبتر يا سيد بليك إلى حدِّ أنني أعتزم أن أُقيم فيه بقية إجازتي؛ لذا ربما أسعَد بلقائك الليلة يا سيدي عندما …» وأضاف هامسًا: «ينقضي النهار، وعساه أن يكون حينئذٍ قد أسفر عن شيء! شيء مُثمر، هاه؟»
ردَّ بليك قائلًا: «لا يعرف المرء أبدًا ما يُخبئه له القدَر!»
لم يتحدَّث كثيرًا إلى صاحب النزل بينما كانا مُتَّجِهَين إلى سيلكاستر بالعربة، ولكن عندما بلغا ميدان ماركت كروس العتيق في وسط المدينة القديمة، وضع يدًا على ذراعه.
وقال له: «جريمسدِل، أوقف العربة وأنزلني هنا. أنا ذاهب لمُلاقاة قائد الشرطة، سأقطع الشارع سيرًا. وأصغِ إليَّ، أريدُك أن تبقى في سيلكاستر قليلًا. وكُن عند المحطة في تمام الساعة العاشرة. سألقاك هناك.»
ترجَّل من العربة وانصرف متجهًا صوب مكتب قائد الشرطة، فيما انعطف جريمسدِل ودخل ساحة فندق مايتَر الفسيحة، لينتظِر هناك حتى الموعد المُحدَّد. وفي الساعة العاشرة إلَّا خمس دقائق، ذهب إلى المحطة، ثم سلَّم حصانه وعربته إلى عُهدة فتى المحطة، ومشى على رصيف القطارات الذاهبة إلى لندن. كان موعد وصول القطار السريع المُتجه إلى لندن قد حان تقريبًا، وكان ثمَّة ركَّاب كثيرون ينتظرون وصوله، كالعادة، وكان الرصيف مُكتظًّا. لكن سرعان ما لاحظ جريمسدِل أنَّ بليك كان موجودًا هناك، وأن شُرطيَّين أو ثلاثة من أفراد الشرطة المحلية، مندسون وسط الحشود في ثيابٍ مدنية واقفون على مقربة منه، وبدا واضحًا أنَّ بليك كان ينتظِر شخصًا ما. فوقف جريمسدِل يُراقبه بانتباهٍ وتيقظ، ماضغًا قطعةً صغيرة من القَشِّ برزت من بين شفتيه.
دقَّت الساعة العاشرة من الأبراج الكثيرة في المدينة، ولم يحدُث شيء. كان القطار السريع الكبير سيدخل المحطة بصوتٍ مُدوٍّ في غضون الدقائق الخمس التالية، وفي غضون الدقائق الثماني التالية، كان سيغادر المحطة مُجددًا بانطلاقةٍ انسيابية على مساره البالِغ ستين ميلًا إلى لندن. غادر السيد بليك، الذي كان يُراقِب مكتب حجز التذاكر بكل انتباه، الرصيفَ وخرج من المحطة في الساعة العاشرة ودقيقة واحدة. وبينما كان يخرج من المحطة إلى الساحة المفتوحة الواقعة أمامها، جاء ويليام بيجي مُسرعًا وهو يقود عربة السيدة تريزيرو الصغيرة الأنيقة، وكان وحده.
استطاع بيجي أن يُلاحظ بليك وسط حشود المُتسكِّعين عند أبواب المحطة، وتوقَّف بالعربة أمامه مباشرة. وفي لمح البصر، كان المُحقِّق بجوار العربة الصغيرة الخفيفة. وذهبت عيناه إلى الكرسي الشاغر بجوار السائس.
سأله بصوتٍ هامس حاد: «أين هو؟»
فانحنى بيجي أسفل نحوه.
وأجاب قائلًا: «اختفى!» وأضاف: «هرب في جنح الليل! لم يكن في غرفته أحد صباح اليوم؛ اختفى بلا أي أثر! أرسلتْني السيدة تريزيرو لإبلاغ الشرطة؛ إذ تقول إنَّ مكروهًا قد أصابه.»
قال بليك بنبرةٍ غاضبة: «مكروهًا أصابه؟ ماذا تقصد بذلك؟»
انحنى بيجي أكثر. وبينما كان يتحدَّث، سمِعا القطار السريع قادمًا؛ إذ دخل المحطة من خلفهما بصخَبٍ وضجيج تلاشَيَا وسط هسهسة البخار المُتسرِّب في أثناء توقفِ المحرك وخلوده إلى استراحته الوجيزة.
أجاب قائلًا: «سمعت السيدة تريزيرو تقول لمُدبرة المنزل إنَّ البارون كثيرًا ما يخرج للتمشية في وقتٍ مُتأخِّر جدًّا من الليل. قالت إنه مُصاب بأرق شديد، وإنه يخرج ليتمشَّى كي يُنوِّم نفسه. وفهمتُ أنها تظن أنَّه خرج هكذا في جنح الليل، وتعتقد أنه تعرَّض لحادث، أو شيءٍ من هذا القبيل. لذا أرسَلَت الخدم للبحث عنه، وأرسلتني إلى هنا لإبلاغ الشرطة.»
قال بليك: «انتظر لحظة.» كان الناس الذين ترجَّلوا من القطار السريع يتوافدون من مخارج المحطة؛ لذا ابتعد بليك ليُفسِح لهم طريقًا. ثم سأل وهو ينظر إلى بيجي: «ألا تعرف الوقت الذي خرج فيه؟»
أجاب بيجي: «لا أعرف. سمعتُ أنَّه خلد إلى فراشه في موعده المعتاد، لكن …» وسكت فجأة. فقد جاء جريمسدِل في هذه اللحظة مُهرولًا وكان ينقر على مِرفق بليك. التفت بليك إليه بسرعة. فأشار جريمسدِل إلى رجلٍ طويل القامة كان قد خَرج للتوِّ من المحطة، ووقف عند مدخلها الرئيسي يتلفَّت حوله.
قال جريسمدِل: «انظر هناك!» وأضاف: «هذا الرجل! هذا هو … هذا هو الرجل الذي أتى إلى سيبتر في ليل الإثنين؛ الأمريكي!»
وفي تلك اللحظة لمح الرجل الطويل جريمسدِل، فانتفض وابتسم وأومأ برأسه، وأقبل نحوَه على عجل.
ثم قال: «مرحبًا يا صاحب النزل!» واستطرد قائلًا: «أنت بالذات مَن كنتُ أنتظر رؤيته! قُل لي! ما آخِر أخبار قضية جاي ماركنمور هذه؟ لقد قضيتُ الليل كله مسافرًا لأصِلَ إلى هذه المدينة كي أُدلي ببعض المعلومات؛ فلم أسمع بالقضية قَطُّ حتى مساء أمس، حين كنتُ في مدينة فالموث جنوبًا! هل قبضوا على أيِّ شخص؟»
كان جريمسدِل ينقل ناظرَيه من هذا الرجل الغريب إلى بليك، وبادر بليك بالتحدُّث.
سأله فجأة: «هل أنت الرجل الذي تناول معه جاي ماركنمور العشاء في نزل سيبتر في منتصف ليل الإثنين الماضي؟» وأردف قائلًا: «الرجل الذي حجز غرفة هناك ولم يمكُث فيها قَط؟»
فأجاب الغريب بابتسامةٍ جاهزة وإيماءةٍ حاضرة: «أنا ذلك الرجل. بذاته!»
سأله بليك: «هل تُمانع في أن تُخبرني مَن أنت؟» وأضاف: «وماذا تعمل؟»
«كلَّا! اسمي إدوارد لانسبري، وأعمل مُمولًا، ولديَّ شركات في نيويورك ولندن. مَن أنت وماذا تعمل؟»
«أنا المُحقِّق الرقيب تشارلز بليك من إدارة التحقيقات الجنائية في نيو سكوتلانديارد! وأنا أُباشر هذه القضية يا سيد لانسبري، وسأكون مُمتنًّا إذا أخبرتَني بما تعرفه عنها.»
«بالتأكيد! كل شيء! فلهذا جئتُ مُسرعًا من فالموث. أين سنتحدَّث؟»
فقال له بليك: «تعالَ معي من هذه الناحية.» كان الرجال ذوو الثياب المدنية قد لحِقوا ببليك من خلفه، فاستدار وهمس إليهم بشيء، وانصرفوا مُتَّجِهين نحو مركز الشرطة. تابع بليك الحديث قائلًا: «لا تنتظِرني يا جريمسدِل. سأبقى هنا بعض الوقت؛ لذا بإمكانك العودة حالًا.»
لكنَّ جريمسدِل أخرج يدَه من جيبه، وقدَّم بها شيئًا إلى لانسبري.
وقال: «باقي نقودك يا سيدي. ثلاثة جنيهات وأربعة عشر شلنًا. فقد كان المبلغ المُستحق ستة وعشرين شلنًا يا سيدي.»
فانتفض لانسبري، وضحك وأخذ النقود، وأعاد منها بعض العملات الفضية إلى جريمسدِل.
قال له: «تخيَّل أنني نسيتُ ذلك تمامًا!» وأضاف: «خُذ! اشترِ لنفسك شرابًا.»
قال جريمسدِل بربَاطة جأشه المُعتادة: «توقَّعتُ أنك نسيته يا سيدي. شكرًا لك يا سيدي.»
ثم رحل إلى عربته وانطلق بها بعيدًا، وأشار بليك لرفيقه بأن يتبعه نحو مكتب قائد الشرطة.
قال له وهما يمشيان في الشارع: «أنا مُمتنٌّ حقًّا لمجيئك يا سيد لانسبري. فكل ملابسات هذه القضية مُحاطة بشيءٍ من الغموض!»
قال لانسبري: «حسنًا، باستثناء ما أعرفه بنفسي — وهو ليس كثيرًا — فكل معلوماتي عن هذه القضية مأخوذة من صحيفة لندنية حصلتُ عليها في فندقي بمدينة فالموث مساء أمس. فانطلقتُ مُسرعًا إلى هنا في الحال، وظللتُ في القطار الليل كلَّه تقريبًا. ما آخِر المُستجدات؟»
أجاب بليك: «آخر المُستجدات خبرٌ لم أعرفه إلَّا منذ بضع دقائق. هل تعرف البارون فون إيكهاردشتاين؟»
«بالتأكيد! أعرفه جيدًا. كان معي أنا وماركنمور في النزل الصغير في تلك الليلة، وتركته بصحبة ماركنمور في حوالي الساعة الثالثة أو نحو ذلك من صباح الثلاثاء. بالطبع كان فون إيكهاردشتاين هو الرجل الطويل القامة الذي رآنا صاحِب النزل نسير معه على الطريق، كما قال صاحب النزل في شهادته، حسبما قرأت.»
«حسنًا، لقد اختفى فون إيكهاردشتاين! في أثناء هذه الليلة الماضية. اختفى تمامًا بلا أيِّ أثر! أظنُّك لا تعرف أيَّ شيءٍ عن ذلك؟»
«إطلاقًا! ولكن لِمَ كل هذا؟ يبدو لي …»
قاطَعَه بليك قائلًا: «انتظِر قليلًا. سنلتقي قائد الشرطة على انفرادٍ في غضون دقيقة. حينئذٍ أخبِرْني بكلِّ ما تعرفه. فنحن بحاجة إليه.»
كان قائد الشرطة، الذي أرسل إليه بليك رسالةً على لسان الرجال ذوي الثياب المدنية، ينتظِره هو والوافد الجديد في مكتبه الخاص. نظر إلى لانسبري باهتمامٍ شديد، وطرح سؤالًا مباشرًا فجأة.
فسأله قائلًا: «هل أنت السيد إدوارد لانسبري الذي كان على علاقة وطيدة بشركة «فيلونا كومباني» للتنمية العقارية قبل بضع سنوات؟» وأردف: «أنت، هاه؟ إممم! أملكُ فيها حصة كبيرة نوعًا ما من الأسهم، وهي مُربحة جدًّا أيضًا. وبِمَ تستطيع أن تُخبرنا عن قضية ماركنمور هذه يا سيد لانسبري؟ سنكون مُمتنِّين جدًّا إذا عرفنا.»
ارتمى لانسبري على كرسيٍّ وثير بجوار مكتب قائد الشرطة، ولامس أطراف أصابع إحدى يديه بأطراف أصابع يده الأخرى.
ثم قال: «حسنًا، سأُخبركما بكلِّ ما أستطيع قوله، أو بالأحرى، كل ما أعرفه بالفعل. بخصوص جريمة قتل جاي ماركنمور نفسها، يبدو أن ما أعرفه لن يُحدِث فارقًا كبيرًا، أمَّا بخصوص ما حدث قبلها مباشرة، حسنًا، فيجب أن تستنتِجا ممَّا سأقوله ما تستطيعان استنتاجه! فكلُّ ما أستطيع إخباركما به مُتعلِّق بما حدث في نزل سيبتر إن.
فقال بليك بهدوء: «وبسبب لقائكم، أنت وماركنمور وفون إيكهاردشتاين، هناك.»
تابع لانسبري قائلًا: «بالتأكيد!» وأردف قائلًا: «ومُتعلِّق بسبب لقائنا هناك. كما أخبرتك عند محطة القطار للتو، فأنا أعمل مُمولًا. ولديَّ مصالحُ عمل في هذا البلد وبلدي أيضًا. فأنا أملك مكتبًا في لندن، كما أملك مكتبًا في نيويورك. وبطبيعة الحال، أعرف العديد من أصحاب شركات التمويل والاستثمار في كِلا البلدين. كنتُ أعرف جاي ماركنمور جيدًا، كان رجلًا ذكيًّا ناجحًا في عمله. وأعرف فون إيكهاردشتاين، معرفةً غيرَ قوية للغاية لكنها كافية. إنه بالطبع أشهر منِّي، أو من ماركنمور؛ فهو معروف في لندن وباريس وفيينا.»
قال قائد الشرطة: «أظنُّه ألمانيًّا!»
فقال لانسبري: «لا، فون إيكهاردشتاين نمساوي. حسنًا، لقد تعاملتُ مع هذَين الاثنين — كُلًّا على حِدة وليس معًا قَط، كما تفهم، في مناسبات مختلفة — ودائمًا ما كنتُ أراهما رَجُلي أعمال مُستقيمَين وبارعَين جدًّا. بَعَث ماركنمور إليَّ برسالة، منذ وقتٍ قريب جدًّا، ذكر فيها أنه كان يعتزم إبرام صفقة عمل، مُقترِحًا عليَّ أن أشاركه فيها من أجل تنمية عائداتها في الولايات المتحدة، وقائلًا إنني سأجد هذه الشراكة مُربحةً على الأرجح. وقد أخبَرَني في رسالة بماهية هذه الصفقة، لكني لا أرغب، حاليًّا، في إخباركما بها؛ لأنه سرٌّ في غاية الأهمية. سأفصح عنها بالطبع إذا تحتَّم ذلك من أجل مصلحة العدالة؛ أي إذا كان إفصاحي عن التفاصيل الدقيقة سيُسهِم في القبض على قاتل ماركنمور. ولكن في الوقت الراهن، أُحبِّذ ألَّا أقول، وهي ليست مرتبطة بالمسألة التي نناقِشها. يكفي أن أخبركما بأنَّ ماركنمور كان لديه فرصة — أو خَيار، في الواقع — ليشتري شيئًا مُعينًا من شخصٍ مُعين، ودعاني إلى مشاركته، وكان اقتراحه أن أشتري الثلث، ويشتري هو الثلث الثاني، وكنا سنبحث عن رجلٍ ثالث ليشتري الثلث المُتبقي. تبادلنا القليل من الرسائل بشأن الشيء الذي كنا سنشتريه، وأستطيع إخباركما أنَّ هذا الشيء كان سرًّا تجاريًّا. وبينما كنا نتبادَلُ هذه الرسائل، كان ماركنمور في لندن، وكنتُ أنا أقضي وقتي بين ساوثهامبتون وفالموث؛ إذ لديَّ أعمالٌ في كلتا المدينتَين حاليًّا. في حوالي منتصف الأسبوع الماضي، أرسل ماركنمور إليَّ رسالة اقترح فيها أن نغتنِم فرصة وجودي في ساوثهامبتون وأن ألتقيه في نزل سيبتر إن في قرية ماركنمور بمدينة سيلكاستر في ليل الإثنين التالي؛ إذ قال إنَّه سيذهب إلى بيت ماركنمور كورت في مساء ذلك اليوم بشأن مسألة عائلية، وسيلحق بي في نزل سيبتر عندما ينتهي منها، في حوالي العاشرة والنصف. واتفقنا على ذلك. جئتُ من ساوثهامبتون بقطار مسائي، ثم ترجَّلتُ منه ومشيتُ إلى ماركنمور، وحجزت غرفة في نزل سيبتر، وطلبتُ عشاء لفردَين. وفي أثناء تحضير العشاء، تمشَّيت بالخارج؛ إذ بقيتُ حبيسًا في أماكنَ مغلقةٍ وقتًا طويلًا طوال عدة أيام سابقة؛ لذا خرجتُ لأستمتع بالهواء النقي. تمشيتُ خارج قرية ماركنمور هذه، والتقيتُ فون إيكهاردشتاين.»
قاطعه بليك قائلًا: «انتظر لحظة. كم كان الوقت حينئذٍ؟»
أجاب لانسبري: «كان بين التاسعة والنصف والعاشرة، على حدِّ ما أتذكَّر.»
«أي كانت الأجواء مُظلمة آنذاك؟»
«أوه، حالكة الظلام! وما كنتُ سأرى فون إيكهاردشتاين لولا أنني أشعلتُ عود ثقاب لأشعل سيجاري. رآني آنذاك؛ إذ كان متكئًا على بوابةٍ بالقُرب منِّي. فناداني، وبعدما أعربتُ عن مفاجئتي بلقائنا، أخبرني بأنَّه يحِلُّ ضيفًا على سيدة راقية في القرية. بعد ذلك أراد معرفة سبب وجودي هناك. فخطر ببالي في الحال أنَّه الرجل المناسب لشراء حصة الثلث المُتبقي، الذي ذكرته لكما؛ لذا أخبرتُه بسبب مجيئي. كذلك شرحتُ له المُقترَح، وأخبرتُه بما كنَّا نعتزم أنا وماركنمور فعله.»
قال بليك: «لدي سؤالٌ آخر. هل كان فون إيكهاردشتاين يعرف ماركنمور؟ هل كان بينهما أيُّ تعاملات من قبل؟»
«لا أظنُّ أنهما تعامَلا معًا من قبل، لا. أمَّا بخصوص ما إذا كانا يعرفان بعضهما من قبل، فأظن أنَّ كلَيهما ربما، وعلى الأرجح، كان يعرف اسم الآخر، بصفتهما مُموِّلَين. لكني واثقٌ من أنَّ كليهما لم يكن يعرف الآخر شخصيًّا قَط قبل تلك الليلة.»
فقال بليك: «هذا بالتحديد ما كنتُ أريد معرفته. فلتمضِ قُدُمًا في روايتك!»