أمورٌ عائلية
كان السيد فرانسيمري، كبقية أهالي ماركنمور، قد سمع في وقتٍ مُبكر من صباح ذلك اليوم بخبر الاختفاء الغريب للبارون فون إيكهاردشتاين، وكالكثيرين منهم، شارك في عملية بحث عن الرجل المفقود. فمنذ قدوم السيد فرانسيمري إلى بيت ذا وارن، أصبح على دراية تامة بمُحيطه المجاور، وصار مُلِمًّا بالعديد من الأركان والخبايا في الغابات والروابي، التي ربما يكون شخصٌ غريب قد تعرَّض فيها لحادثٍ ما بكل سهولة. كان في هذه المنطقة أماكنُ غريبة؛ فمنذ ألفي عام، عكَف الناس الذين كانوا هنا قبل الرومان على اقتلاع الحجارة من جوانب التل وجوَّفوه ليصنعوا فيه مغاراتٍ وحُفرًا سكنية، وأنشئوا خطوطًا مُمتدة طويلة من التحصينات والخنادق. وكانت هذه الأشغال البدائية، التي نمَتْ فوقها الأعشابُ وغطَّتها بمرور الزمن، فخاخًا خطرة لأيِّ غافلٍ يتجوَّل عبر الغابات النائية أو يعبُر الأجزاء الوعرة المهجورة من المرتفعات، وقد نما إلى علم السيد فرانسيمري أكثرَ من مرة إبَّان تجربته الحياتية القصيرة في ماركنمور، أنَّ رجلًا أو حصانًا قد سقط في حفرةٍ غيرِ مُتوقعة. لذا فحين سمع باختفاء فون إيكهاردشتاين، تصوَّر أنَّه ربما تعرَّض لحادثٍ كهذا، وأخذ أقوى عصا سَير لديه، وبعض الغداء في جعبته، وقارورة صغيرة من البراندي والماء، وبدأ عملية البحث. والتقى في أثناء النهار بأناسٍ كثيرين كانوا مُنشغلين بأداء المهمة نفسها. كانت السيدة تريزيرو شديدة القلق إزاء مصير ضيفها، ومُقتنعة تمامًا بأنه قد أُصيب بمكروه، إلى حدِّ أنها كلَّفت كل قروي أمَكن إعفاؤه مؤقتًا من مهامه الأصلية والمُعتادة بالمشاركة في البحث عنه، وعرضت مكافأةً سخيَّةً لمن ينجح في العثور عليه. ولكن حين حلَّ المساء، وعاد السيد فرانسيمري إلى جوار مِدفأته مُنهكًا من كثرة السير على قدمَيه صاعدًا التل ونازلًا الوادي، لم تكن هذه الجهود قد كُلِّلت بأيِّ نجاح، وبدا لأهالي ماركنمور أنَّ البارون فون إيكهاردشتاين قد تلاشى تمامًا.
جلس السيد فرانسيمري يتناول عشاءه وحدَه، مُتحيرًا ومتسائلًا. كانت معضلة ماركنمور قد شغلت جُلَّ تفكيره منذ أول مرة عَرف فيها بشأنها، وكلما ازداد تفكيره فيها، ازدادت حيرته. كان قد أصغى بإمعانٍ وصبر، وتفهُّمٍ، مثلما كان يأمُل، إلى الشهادات والأقوال التي عُرضت عليه وعلى زملائه المُحلَّفين، ولم يجد مفرًّا من الاعتراف بأنه لم يستنتج منها سوى القليل. بدا له أنَّ أهم حقيقة في هذه الأقوال كانت مسألة الغليون المصنوع من خشب أشجار الخلنج. فلم يكن ثمَّة شك في أنَّ أحد الرجُلين اللذين كانا مع جاي ماركنمور في نزل سيبتر هو مَن ترك ذلك الغليون على مائدة العشاء هناك. ولم يكن ثمَّة شك في أنَّ جريمسدِل قد أبرزَهُ على الملأ في التحقيق، ومرَّره إلى المُحامي ثم القاضي وهيئة المُحلَّفين، وتركه على الطاولة، لم يكن ثمَّة شك — على الإطلاق — في أنَّه اختُلِسَ من على تلك الطاولة بين لحظة رفع جلسة التحقيق واللحظة التي طلب فيها مُراسل الصحيفة الفضولي رؤيته. فما الذي كان يُمكن استنتاجه من ذلك؟ رأى السيد فرانسيمري استنتاجًا أكيدًا واحدًا: أنَّ صاحب هذا الغليون؛ أي الرجل الذي تركه في نزل سيبتر، كان حاضرًا التحقيق، وظلَّ صامتًا. فمن كان ذاك الرجل؟ سأل السيد فرانسيمري نفسه هذا السؤال مائة مرة، دون الوصول إلى إجابة. لم يكن يدري آنذاك بما فعله بليك وما اكتشفه، ولم يكن لديه شيء يبني عليه استنتاجاته سوى ما يعرفه بنفسه. لكنه شعر باليقين من شيءٍ واحد: أنَّ صاحب الغليون قد اختلسه من على طاولة المُحامين في المحكمة المؤقتة في قاعة الطعام القديمة، كي لا يُستخدَم دليلًا ضدَّه. فسأل نفسه مرةً أخرى، مَن كان ذاك الرجل يا تُرى؟
كان السيد فرانسيمري لا يزال مُتحيرًا بشأن هذا السؤال والعديد من الأسئلة الثانوية الأخرى حين انتهى عشاؤه المنفرد. فقام من كرسيه وأخذ يفكِّر قليلًا، ثم تذكَّر أنه مرَّ بيومٍ صعب وشاقٍّ جدًّا؛ فذهب إلى القبو المُتواضع في منزله، ووجد زجاجةً من أفضل أنواع نبيذ بورت المُعتَّق الفاخر لديه، وأفرغها بحرصٍ في دورق، ثم حمل الدورق وكأسًا لامعة مُتلألئة أو اثنتَين إلى غرفة مكتبه. وهناك، جلس أمام نيرانٍ مُبهجة مُتقدة بحطبٍ من جذوع الزان، متكئًا بخُفَّيه إلى حاجز المِدفأة القصير المُكوَّن من عوارض أفقية مُبطنة، وواضعًا دورق النبيذ بجواره، وبدأ يفكِّر مليًّا. ولكن قبل أن يقطع شوطًا طويلًا من التفكير، دخلت عليه خادمة الاستقبال المَمشوقة القوام، وأبلغته بأنَّ السيد هاربورو موجود في الصالة، وبأنه سيكون مُمتنًّا إذا وافق السيد فرانسيمري على مُقابلته بضع دقائق.
قام السيد فرانسيمري من كرسيه بخفةٍ وحماسة. صحيح أنَّه لم يكن قد تحدَّث مع هاربورو قَط قبل المناسبة التي جمعتهُما في بيت ماركنمور كورت في صباح يوم الجريمة، لكنه كان يعرف كل شيء عنه بوصفه أنَّه مالِك منزل جرايكلويستر الثري، كان يراه رجلًا مُفترًى عليه، وشعر بالأسى لأنَّ عودته إلى الديار قُدِّر لها أن تكون مَشوبةً بهذا الغم الشديد. وفضلًا عن ذلك، كان السيد فرانسيمري رجلًا يَسعَد دائمًا بالتسامُر مع أيِّ شخص، وكان يشعر في هذه اللحظة بالتحديد بأنَّ لديه أمورًا كثيرة يريد التحدُّث عنها، بالرغم من التحذير الذي وجَّهه قاضي التحقيق له ولرفاقه من أعضاء هيئة المُحلَّفين. ومن ثَمَّ، أسرع إلى الصالة بيدٍ مفتوحة وابتسامةٍ مُرحِّبة.
قال هاربورو بينما كان مُضيِّفه يقوده إلى غرفة مكتبه المُريحة الدافئة: «أرجو ألَّا أكون قد أزعجتك!» وأردف قائلًا: «أعرف أنَّ الوقت ليس مُناسبًا للزيارة، لكني أتيتُ لسببٍ وجيه.»
فصاح السيد فرانسيمري بأسلوبٍ مِضيافٍ ترحيبي: «سيدي العزيز، أنا في غاية السعادة بقدومك!» وأضاف: «جرِّب هذا الكرسي، وكأسًا من نبيذي البرتغالي. يُمكنني أن أُزكي لك كليهما.»
ردَّ هاربورو قائلًا: «أنت طيب جدًّا.» وأضاف وهو يأخذ الكأس التي قدَّمها مُضيِّفه إليه بدماثةٍ قديمة الطراز: «لستُ خبيرًا بارعًا في الحُكم على النبيذ، وأمَّا بخصوص الكراسي الوثيرة، فلم أُجرِّبها كثيرًا في السنوات الأخيرة؛ فأنا أكثر اعتيادًا على كراسي التخييم التي لا مسندَ لها يا سيد فرانسيمري!» ثم واصل بينما استأنف السيد فرانسيمري جلسته: «حسنًا، جئتُ لأطلب نصيحتك بشأنِ شيءٍ ما؛ فلقد وصلني انطباعٌ ما، حين التقيتُك منذ يومَين، بأنك أكثرُ رجلٍ هنا يُرجِّح أن يتبنى آراءً منطقيةً رشيدة.»
قال السيد فرانسيمري: «أشعر بالإطراء، بالتأكيد!» وأضاف قائلًا: «أرجو أن أكون شخصًا رشيدًا بالفعل.»
قال هاربورو: «حسنًا، تعرف قصدي. أقصد أنك من المُستبعَد أن تترك الشائعات والتحيُّزات المحلية المُسبقة تؤثِّر فيك. الآن، أريد أن أطلب نصيحتك كما قلت للتو. من المُقرَّر أن يُدفَن السير أنطوني وابنه الأكبر غدًا في فناء كنيسة ماركنمور. وأنا بالطبع أعرف آل ماركنمور منذ أن وعيت الدنيا. وكنتُ أنا وجاي ماركنمور صديقَين مُقربَين في صبانا وشبابنا، حتى حدثت القطيعة، التي سمعتَ بها منذ يومَين. الآن، هل تظنُّ أنه سيكون من المُلائِم أن أحضر الجنازة، بالنظر إلى الظروف الحالية؟»
هنا تقمَّص السيد فرانسيمري شخصيةَ القاضي بكل تلقائية. فبَدَت على قسمات وجهه علاماتُ التفكير العميق، واكتست بقليل من الشك، في البداية. لكنها صارت صافية فجأة.
قال: «سيدي العزيز!» واستطرد قائلًا: «أعتقد أني أتذكَّر أنك حين كنتَ تُدلي بشهادتك أمامي وأمام زملائي المُحلَّفين صباح أمس، قلتَ بوضوح وصراحة تامة، ومن دون أن يبدوَ عليك أيُّ مراوغة مُضمَرة، إنَّ مشاعر الغضب والضغينة التي كُنتَ تحملها سابقًا تجاه الراحل جاي ماركنمور قد تلاشت تمامًا منذ سنوات، وإنك لو كنتَ قابلته مُجددًا، لمددتَ إليه يدك لتصافحه. هل أنا مُحق؟»
أجاب هاربورو قائلًا: «مُحق تمامًا!» وأردف: «مُحق في كلِّ ما قُلتَه.»
قال السيد فرانسيمري: «إذن، فلا أرى سببًا يمنعك من حضور مراسِم الجنازة. إطلاقًا!»
قال هاربورو: «حسنًا، على المرء أن يتذكَّر أنَّ بعض الأشخاص — هنا وفي الجوار — يعتقدون أنني قتلتُ جاي ماركنمور.»
قال السيد فرانسيمري بواقعيةٍ جامدة: «إممم!» وسأله: «ولكن هل يُوجَد أشخاص يعتقدون ذلك؟ أعني يعتقدونه بجدية؟»
قال هاربورو: «السيدة تريزيرو، ومَن يوافقونها.»
فسأله السيد فرانسيمري بنبرةٍ أشد جمودًا: «هل يوافقها أيُّ شخص؟» وأضاف: «وأمَّا بالنسبة إليها، فهذا تأثير الغضب، يا سيدي العزيز، الغضب! لا أعتقد أنك ستجد هذه المرأة مؤمنةً بأيِّ شيء منذ ذلك حقًّا في قرارة عقلها، إن كان لديها عقل.»
قال هاربورو بعد لحظةٍ من التفكير: «أظن أنَّ البعض كان يوافقها الرأي، في البداية. ربما كان هذا طبيعيًّا.»
قال السيد فرانسيمري: «ربما كان طبيعيًّا إذا كان المرء أحمقَ كفايةً ليعتقد أنَّ الناس يُضمِرون الضغينة في نفوسهم إلى الأبد. يجب أن تعرف هذه المرأة أنَّ اتهامها كان سخيفًا! لا أظن أنني ينبغي أن أُعطيَ رأي السيدة تريزيرو مِثقالَ ذرة من الأهمية.» ثم أضاف بطريقةٍ توحي بأنَّ فكرةً سعيدة قد خطرت بباله فجأة: «لكني أعرف ما ينبغي لي فعله! عليَّ فقط أن أسأل الشاب والفتاة في ماركنمور كورت عن رغبتِهما. أظنهما سيكونان سعيدَين بحضورك.»
قال هاربورو: «لم يخطُر ذلك ببالي. أظنني بطيء البديهة بعض الشيء. يعلم الربُّ كم أنني حزين لمُصابهما! وأظنهما يعرفان أنَّه مهما كانت مشاعري السابقة تجاه أخيهما، فلقد … حسنًا، لقد تجاوزتها منذ فترة طويلة.»
رمق السيد فرانسيمري زائره بنظرةٍ ثاقبة من طرف عينه. وقال: «أظنُّ أنَّ جاي ماركنمور كان يُعاملك معاملةً سيئة حقًّا؟»
فأجاب هاربورو بصراحة واضحة بسيطة: «أجل!» واستطرد قائلًا: «لكني نسيتُ ذلك. وأيضًا لم يكن الذنب ذنبه وحدَه. وكما أقول، لقد نسيتُ ذلك.»
قال السيد فرانسيمري: «ما أغرب هذه الجريمة!» وتابع قائلًا: «وها نحن الآن أمام لغزٍ ثانٍ. أظنك قد سمعت بالطبع عمَّا حدث لهذا البارون المدعو فون إيكهاردشتاين؟»
فأجاب هاربورو قائلًا: «لا. لم أسمع شيئًا. لقد كنتُ بعيدًا عن جرايكلويستر منذ الصباح الباكر حتى الآن، وأتيتُ مباشرة للقائك فور عودتي. ماذا حدث لفون إيكهاردشتاين؟»
صاح السيد فرانسيمري قائلًا: «اختفى!» واستطرد: «الليلة الماضية. تلاشى تمامًا بلا أيِّ أثر، ولا أحد يعرف مكانه.» وبدأ يسرد لضيفه وصفًا مفصلًا عن الجهود التي بُذِلَت طوال النهار، ومشاركته فيها. ثم اختتم كلامه متسائلًا: «ما رأيك في هذا؟» وأردف: «غريب، أليس كذلك؟»
فأكَّد هاربورو ذلك قائلًا: «المسألة برمَّتها غريبة. يبدو لي وكأنَّ … لكني حقًّا أظن ذلك مُستحيلًا!»
سأله السيد فرانسيمري: «ما المُستحيل؟»
أجاب هاربورو على استحياءٍ قائلًا: «حسنًا، كنتُ أفكِّر … كنتُ سأقول … إنَّ الشواهد تكاد توحي بأنَّ هذه ربما تكون جريمة قتلٍ ثانية! كنتُ أتساءل — لكن تفكيري، كما قلت، أحيانًا ما يكون بطيئًا قليلًا — عمَّا إذا كان فون إيكهاردشتاين هو الرجل الذي ذهب إلى نزل سيبتر في الثانية صباحًا؟ في هذه الحالة …»
اندهش السيد فرانسيمري.
وقال: «آه!» وأضاف: «في لحظة قدومك بالضبط، كنتُ أنا أيضًا على أعتاب التوصُّل إلى هذا الاستنتاج! إذا كان هو ذاك الرجل، فهذا يُفسِّر شيئًا آخرَ. ولكن — بافتراض أنه هو — أخبرني بما كنتَ ستقول آنذاك.»
أجاب هاربورو: «كنتُ سأقول إنَّ الشواهد الظاهرية، في هذه الحالة، توحي بأنه وجاي ماركنمور كانا مُنخرطَين معًا في أعمالٍ تجارية. وإن صحَّ ذلك، فربما تكون بعض الأعمال التجارية — صفقة ما بمبلغ مالي طائل — هي السبب الحقيقي وراء كل ذلك. فمثلًا، ربما أراد شخصٌ ما التخلصَ من كليهما؟ لقد سمعتُ عن حالاتٍ من هذا القبيل، لكن ليس في هذا البلد.»
وافقه السيد فرانسيمري قائلًا: «ربما، ربما!» وأضاف: «المسألة برمَّتها لغزٌ يبدو صعب الحل، و…»
لم يُقَل قَط ما كان السيد فرانسيمري سيُضيفه هنا. ففي تلك اللحظة، فُتِح الباب وتمتمت خادمة الاستقبال المَمشوقة القوام بشيءٍ غير واضح، ثم تنحَّت جانبًا وتوارَت، وأفسحت الطريق لفالنسيا ماركنمور، التي دخلت الغرفة بسرعة شديدة إلى حدِّ أنها لم ترَ هاربورو، الذي كانت قامته الطويلة محجوبة عنها بحاجز.
صاحت قائلة وهي تدخُل: «أوه يا سيد فرانسيمري!» وأضافت: «سامحني على دخولي عليكَ مندفعةً هكذا دون تأدُّب، لكني في مأزق رهيب، وأحتاج إلى مساعدتك، و… أوه!»
كانت بحلول هذا الوقت قد اجتازت حدَّ الحاجز ورأت هاربورو. فنهض هاربورو على قدَمَيه وقد بدا مُتقلقلًا ومرتبكًا.
وقال: «سأنصرف!»
فاعترضت فالنسيا قائلة: «لا، بالتأكيد! الأمر ليس كما تظن إطلاقًا، كنتُ، كنتُ سأخبرك فورًا مِثلك مثل السيد فرانسيمري تمامًا، سوف أخبركما معًا. فأنتما رجلان؛ لذا ستعرفان ما ينبغي فعله.»
أشار السيد فرانسيمري لهاربورو بأن يبقى مكانه، وسحب كرسيًّا نحو المدفأة.
ثم سأل فالنسيا بينما كانت تهم بالجلوس عليه: «ما الخطْب يا عزيزتي؟» وأردف قائلًا: «أيُّ شيء نستطيع فعله، سنفعله بكل تأكيد، إذا كان في استطاعتنا.»
أجابت فالنسيا: «لا أظنه شيئًا في استطاعةِ أيِّ شخص أن يفعله. إطلاقًا، على حدِّ اعتقادي! لقد قُضي الأمر، ولا رجعةَ فيه!»
سألها السيد فرانسيمري بنبرةٍ خفيضة: «وما الذي قُضِي؟»
ظلَّت فالنسيا تنظُر إلى الرجُلين بالتناوب. كان كلاهما يُحدِّق إليها باهتمام؛ ورأى كلاهما أنها منفعلة ومنزعجة، وغاضبة على الأرجح.
قالت فجأة: «لا خيار لديَّ سوى الإفصاح عن الأمر مباشرة!» وأضافت: «أخي هاري مُتزوج من بوبي رين.»
نَظَرت إلى الرجُلَين مجددًا، وإن كان بشيءٍ من التساؤل هذه المرة. تجمَّدت قسمات هاربورو كأبي الهول، فيما خَلَع السيد فرانسيمري نظارته وبدأ يُلمِّعها.
وقال بنبرةٍ أخفض من ذي قبل: «إممم!» وسألها قائلًا: «زواج سري؟»
صاحت فالنسيا: «بالطبع!» وأضافت: «منذ ثلاثة أشهر، في لندن.»
سألها السيد فرانسيمري: «ولا أحد يعرف به حتى الآن؟»
قالت فالنسيا: «بل كان معروفًا!» وأردفت: «كان معروفًا للسيدة براكسفيلد!»
فقال السيد فرانسيمري ببطء: «أم العروس!» واستطرد قائلًا: «يا إلهي! حقًّا! وهكذا فالآنسة بوبي رين قد صارت بالفعل الليدي ماركنمور؟»
قالت فالنسيا باقتضابٍ وحدَّة: «بالطبع!»
سألها السيد فرانسيمري: «ولا شكوك تُحيط بصحة هذا الزواج؟ أعني فيما يتعلق بشرعيته القانونية؟»
قالت فالنسيا بالاقتضاب نفسه: «كلَّا ألبتة!» وأردفت: «إطلاقًا!»
ظل السيد فرانسيمري صامتًا لحظةً. ثم نظر وراء فالنسيا، نحو هاربورو. كان هاربورو آنذاك يُحدِّق إلى نيران المدفأة وهو يفرك ذقنه. فالتفت السيد فرانسيمري إلى فالنسيا.
وسألها: «وما المشكلة؟» وأضاف: «فكما تقولين يا عزيزتي، بما أن الأمر قد قُضي، فقد قُضِيَ بالفعل!»
أجابت فالنسيا: «المشكلة كالآتي يا سيد فرانسيمري. لقد جاء هاري وأخبرني بذلك منذ ساعة. قال إنه وبوبي رين وقعا في حُب بعضهما منذ أن تَرَكت المدرسة الداخلية التي أرسلتْها أمُّها إليها، وإن السيدة براكسفيلد علِمَت بعلاقتهما السرية مؤخَّرًا، وإنها وافقت، ليس على خطبتهما فحسب، بل على زواجهما الذي تمَّ في لندن، حين كانت بوبي تُقيم هناك منذ ثلاثة أشهر. كان ذلك عندما ذهب هاري إلى المدينة ليقضي عطلة، وظل غائبًا آنذاك حوالي شهر كامل. حسنًا، الآن — الآن بعدما صار الوضع إلى ما صار إليه — تعرفان قصدي، تُصر السيدة براكسفيلد على أنَّ الوقت قد حان لإشهار هذا الزواج، تُصِرُّ على أن تأخُذ ابنتها مكانتها الشرعية في … في الجنازة غدًا، بصفتها الليدي ماركنمور، وهدَّدت هاري بأنها، إذا لم يحدُث ذلك، سوف … حسنًا، أظنها ستُحدِث جَلَبة!»
سألها السيد فرانسيمري: «و… أخوكِ؟» مُضيفًا: «ما رأيه في ذلك؟»
أجابت فالنسيا: «كان يُفضِّل تأجيل ذلك حتى انتهاء الجنازة. ثم كان سيُشهِره، بالصورة المناسبة. لكن السيدة براكسفيلد مُصرة، لقد التقاها مرَّتَين اليوم، ولن تتزحزح عن موقفها قيد أنملة! إنها تُصِر على أنَّ الليدي ماركنمور ينبغي أن تأخُذ مكانتها الشرعية غدًا؛ أن يراها الجميع بصِفتها الليدي ماركنمور ويعرفوا ذلك.»
لفت السيد فرانسيمري انتباه ضيفه الآخر بالنظر إلى عينيه.
وسأله: «ما قولك في ذلك يا هاربورو؟»
تورَّد هاربورو من تحت بشرته البُنية حين أدرك تحديق فالنسيا المُفاجئ نحوه.
قال باستحياء: «أنا … نعم … أوه، حسنًا، أنا … لا أظن أنني أجيد النصح في مثل هذه المسائل. فأنا … أجل … لا أعرف الكثير عنها، كما تعلم. ولكن … نعم … يبدو لي أنَّ الأمر ربما … ربما لي أن أسأل، هاه؟ ما رأي الزوجة الشابة — الليدي ماركنمور — في ذلك؟»
تمتم السيد فرانسيمري قائلًا: «جيد!» وأردف قائلًا: «ممتاز! والآن، ما رأي الليدي ماركنمور في ذلك يا عزيزتي؟»
أجابت فالنسيا قائلة: «كتبت الليدي ماركنمور، التي ليست في بيتها حاليًّا لكنها ستصِل إلى هناك الليلة في وقتٍ مُتأخِّر، رسالةً تقول فيها إنها تُحبِّذ بشدةٍ الالتزام التام بما يُحبِّذه زوجها ويقترحه. إنها مُتفِقة تمامًا مع هاري، لكن على حدِّ استنتاجي، فالسيدة براكسفيلد من نوعية الأشخاص الذين إمَّا ينالون ما يبتغونه أو يُحيلون الدنيا جحيمًا بشعًا إذا لم ينالوه! هذا هو الوضع، ألا تظن يا سيد فرانسيمري أنك، بما أنك تعرفنا جميعًا، من الأفضل أن تلتقي السيدة براكسفيلد الليلة، وتُقنعها بالإنصات إلى صوت العقل؟ فأنا لا أريد أيَّ جَلَبة أو بَلبلة غدًا.»
قال السيد فرانسيمري: «سأذهب!» وأضاف: «سأتحدَّث إلى السيدة براكسفيلد. ولكن هل أفهم من كلامِكِ أنَّ أخاكِ ينوي …»
قالت فالنسيا: «ينوي هاري إشهار الزواج فور انتهاء الجنازة. لن أذهب إلى الكنيسة؛ فالحضور سيقتصِر على الرجال فقط. وحين يعودون إلى البيت، ستُتَّخذ بعض الإجراءات التقليدية الشكلية، بخصوص وصية أبي، وما إلى ذلك. سيكون السيد تشيلفورد هناك، وآخرون، بعض الأقرباء، كما تعرف. حينئذٍ سيُشهِر هاري الزواج.»
قال السيد فرانسيمري: «سأذهب وألتقي السيدة براكسفيلد حالًا. لا أعرف يا عزيزتي ما إذا كانت لديَّ قدرة كافية على التأثير في السيدة الفاضلة لإقناعها بالخضوع وقَبول اقتراحك، لكني سأبذل أقصى ما بوسعي.» ثم أضاف بينما كان ثلاثتهم خارجين في اتجاه الصالة، حيث أنزل قبعته ومعطفه الطويل من على المشجب: «لكنكِ، لكنكِ يا عزيزتي لا يُمكن أن تعودي عبر المُتنزَّه وحدكِ، هاربورو!»
قال هاربورو بهدوء: «حسنًا يا سيدي. أنا ذاهب معها.»
تمتمت فالنسيا قائلة: «شكرًا لكليكما. وإن كان هذا لا يعني أني خائفة من عبور المُتنزَّه وحدي.»
فتح السيد فرانسيمري باب منزله الأمامي، وسار عبر ممشًى في حديقته، وأطلق صفيرًا.
فسمع هاربورو وفالنسيا اللذان كانا خلفه خشخشةً، ثم صلصلة سلسلة.
قال السيد فرانسيمري: «كلبي!» وأضاف: «لا أخرج ليلًا من دونه أبدًا.» ثم استطرد قائلًا: «ارقد يا تينكر! أسمِّيه تينكر، واشتريته حين كان جروًا، من رجلٍ سيئ السُّمعة جاء إلى هنا وكان يُصلح القدور والمقالي.»
فسألته فالنسيا: «وما ماهيته؟» مُضيفةً: «أهو هجين؟ من أنواع مختلفة؟»
أجاب السيد فرانسيمري: «لا. بل كلب أصيل من سلالة إيرديل، يُمكننا القول إنها أفضل سلالة في العالم للأغراض البوليسية، أليس كذلك؟ ومن أجل هذا اشتريته. فهذه منطقة مهجورة منعزلة، وأحيانًا ما يُوجَد أناس مُريبون بالقُرب من هنا.»
افترق الثلاثة عند بوابة حديقة السيد فرانسيمري؛ إذ ذهب الشاب والفتاة بعيدًا عبر جانب التل والمُتنزَّه ناحية ماركنمور كورت، فيما سَلَك السيد فرانسيمري أقرب مسار إلى وودلاند كوتيدج، وكان كلبه يهرول أمامه. كان الغسق قد حلَّ منذ وقتٍ طويل؛ إذ كانت السماء مُظلمة، ورأى السيد فرانسيمري، الذي كان قد اكتسب دراية كبيرة بالطقس منذ أن سَكن في الريف، أنَّ السماء ستُمطر قبل الصباح. وكان الظلام مُخيمًا على سطح الأرض، وكان الجو في ممر ديب لين العميق، الذي سرعان ما نزل إليه، حالك السواد كمُنتصف ليلة شتوية. وهناك بالأسفل، في الياردات القليلة التي اضطُرَّ إلى قطْعها قبل أن يتسلَّق الجانب الآخر، تركه كلبه الذي كان كلب صيد من سلالة إيرديل، وسرعان ما سمع صوت أنينه المُتذمِّر بين الشجيرات الكثيفة.
فقال السيد فرانسيمري: «الأرانب!» وأضاف: «تعالَ واتركها هذه المرة يا تينكر!»
عاد إليه الكلب وهو ما زال يئنُّ مُتذمرًا، وبدا واضحًا أنه كان هائجًا وراغبًا عن إطاعة أمر صاحبه. تصرَّف كأنه يتمنى العودة إلى المكان الذي تركه للتو، لكن سيدَه أمره بأن يتبعه ملاصقًا له، ومضى قُدمًا. فلم يكن بالُ السيد فرانسيمري آنذاك منشغلًا بجحور الأرانب، والكلاب المُتحمِّسة للصيد، بل بالمعلومة غير المُتوقَّعة التي كشفتها له فالنسيا ماركنمور، وبلقائه الوشيك بتلك المرأة القديرة المُتسلطة، السيدة براكسفيلد.