فات الأوان
فتحت السيدة براكسفيلد باب وودلاند كوتيدج للسيد فرانسيمري بنفسها، وبعدما تبيَّنت هويته بضوء مصباح صالة بيتها، دَعته إلى الدخول بنبرة ترحيب حار.
صاحت وهي توجِّه زائرها نحو غرفة جلوس بيتها: «الزوَّار لا يأتون فرادى!» وأردفت: «لدي زائر بالفعل، وها هو زائر آخر الآن، أنا سعيدة برؤيتك يا سيد فرانسيمري!»
دلف السيد فرانسيمري إلى غرفة جلوسٍ جيدة الإضاءة ودافئة، ووجد نفسه يُحدِّق إلى بليك. فابتسم بليك وأومأ له؛ فقد تعرَّف على الوافد الجديد بأنه ذلك الرجل المُهذَّب اللطيف ذو النظارة الذي أدَّى دورَ رئيس هيئة المُحلَّفين في التحقيق الأخير. وكان السيد فرانسيمري يعرف هوية بليك بالطبع. وقف في تردُّد عند عتبة الغرفة.
وقال: «إذا كُنتما تناقشان مسائل مهمة …»
فصاحت السيدة براكسفيلد قائلة: «إطلاقًا!» واستطردت قائلة: «كلُّ ما في الأمر أنَّ هذا السيد الصغير — بل الصغير جدًّا على أن يشغل وظيفةً كتلك التي يشغلها، كما أقول له! — جاء ليسألني ما وصَفه بأنه سؤال وثيق الصلة بشهادتي التي أدليتُ بها صباحًا قبل بضعة أيام. ولولا أنني امرأة دمثة هادئة الطبع، كما تعرف جيدًا يا سيد فرانسيمري، لوصفتُ سؤاله وصفًا آخر، ونعتُّه بأنه وقِح! تُرى ما الذي يريد معرفته يا سيد فرانسيمري؟ ما إذا كنتُ مُتيقنة من أنَّ الرجل الذي رأيته على جانب التل صباح يوم القتل كان جون هاربورو؟ سحقًا!»
رمق بليك، الذي بدا كأنه في بيته تمامًا، السيدة براكسفيلد بنظرةٍ طريفة مُداعِبة.
وقال: «حسنًا، لم تُخبريني بعد بما إذا كنتِ مُتيقنة أم لا!»
فأبدت السيدة براكسفيلد غضبها.
وصاحت قائلة: «لستُ عجوزًا إلى حدِّ فقدان بصري يا فتى!» وأضافت: «أستطيع أن أرى جيدًا بقدْر ما تستطيع أنت! بل وأفضل، على حدِّ علمي.»
فقال بليك: «كان هذا في وقتٍ مُبكر جدًّا من الصباح. كان الضوء خافتًا مُتذبذبًا، وقد علمتُ أنَّ ضبابًا كثيفًا كان يُخيِّم على جوانب التل؛ إذ قال هوبز، الرجل الذي وجد جثةَ جاي ماركنمور، إنَّ الجو كان ضبابيًّا جدًّا بالفعل في صباح ذاك الثلاثاء …»
فسألته السيدة براكسفيلد بحدَّة: «وكيف عرف ذلك؟» وأردفت: «هل كان بالقُرب من هنا آنذاك، في الرابعة صباحًا؟»
ردَّ بليك قائلًا: «كان بالقُرب من هنا بعد ذلك بحوالي ساعة ونصف، وإذا كان الجو ضبابيًّا في الخامسة والنصف، فمن المؤكد أنه كان أشدَّ ضبابية بكثير في الرابعة والربع. لأنه إذا كان الجو ضبابيًّا — مثلما كان! — فربما كان من السهل أن يختلِط عليكِ الأمر يا سيدة براكسفيلد وتتوهَّمي أنَّ شخصًا ما هو شخصٌ آخر. وفي الوقت الذي ذكرتِه في شهادتك، كان يُوجَد رجل شديد الشبه بالسيد هاربورو في قامته وبُنيانه ومظهره العام — لا أتحدث هنا عن تشابهٍ في ملامح الوجه — في مكانٍ ما على مقربة شديدة من هنا.»
سألته السيدة براكسفيلد بارتياب: «أيُّ رجل؟»
قال بليك: «البارون فون إيكهاردشتاين. هذه حقيقة مؤكدة!»
التفتت السيدة براكسفيلد إلى السيد فرانسيمري، الذي كان واقفًا أثناء هذه المحادثة، ووجَّهته بإشارةٍ منها إلي كرسي وثير مُقابل الكرسي الذي كان بليك جالسًا عليه. وجلست هي على كرسي بينهما.
وقالت: «أوه!» واستطردت قائلة: «أي إنه كان في الأعلى هنا، أليس كذلك؟ ذاك الرجل الأجنبي الذي يُقيم في بيت السيدة تريزيرو؟ أوه! حقًّا! حسنًا، لم أرَه قَط! الرجل الذي رأيته هو السيد هاربورو. من المؤكد أنَّ ذاك الأجنبي يُشبه السيد هاربورو في قامته وبُنيانه، لقد أدركتُ ذلك الآن حين فكَّرت فيه بمناسبة كلامك.»
فسألها بليك: «والآن بعدما فكَّرتِ في ذلك مرةً أخرى، ألا تظنين أنكِ ربما تكونين مُخطئة؟» وأردف: «ألا تظنين أنَّ الرجل الذي رأيتِه ربما كان فون إيكهاردشتاين، وليس هاربورو؟ كوني منطقية بربك!»
فقالت السيدة براكسفيلد: «كلَّا!» وتابعت قائلة: «لن تنطلي عليَّ محاولاتك لتغيير قناعتي أيها الشاب! لقد كنتُ في محكمةٍ قبل اليوم، وأنت بذلك تقترح إجاباتٍ مُعينة على شاهدتك. لقد كان الرجل الذي رأيتُه، والذي تحدثتُ عنه في مقصورة الشهود، هو جون هاربورو! هل تظن أنني قد لا أعرف رجلًا أعرفه جيدًا منذ أن كان صغيرًا للغاية؟ هذا سُخف!»
فقال بليك: «أنت لم ترَي هاربورو منذ سبع سنوات.»
ردَّت السيدة براكسفيلد بازدراء: «وما السنوات السبع من أصل خمسةٍ وثلاثين؟» وأضافت: «ما زلتُ أتذكَّر جون هاربورو حين وُلد، هناك في جرايكلويستر. وأقول لك إنه كان الرجل الذي رأيتُه صباح الثلاثاء، كان هو بكل تأكيد! هذا شيء سخيف يا سيد فرانسيمري، أليس كذلك؟»
نظر السيد فرانسيمري إلى المُحقِّق، وكان في أشدِّ الحيرة بسبب عجزه عن فهْم سبب كل هذا.
ثم قال له: «أظن … حسنًا … أظن أنَّ السيد هاربورو أقرَّ بكل صراحة ووضوح بأنه كان سائرًا على هذا الطريق بالأعلى في حوالي الرابعة من صباح يوم الثلاثاء.»
وافقه بليك قائلًا: «هذا صحيح، كان السيد هاربورو بالأعلى هنا. لا شك في ذلك. ولكن كان يُوجَد رجلٌ آخرُ بالأعلى هنا كذلك: فون إيكهاردشتاين. أهم شيء — لي — هو معرفة الأوقات والأماكن بكل دقة. ظننتُ أنَّ السيدة براكسفيلد قد تكون مُخطئة، ولكن بما أنها لم تكن كذلك، فلا يسعني سوى أن أُهنئها على بصرِها الثاقب المُمتاز!» ثم أضاف بابتسامة: «أوه، بالمناسبة يا سيدة براكسفيلد. يُوجَد شيء آخر — شيءٌ سارٌّ — أريد أن أُهنئك عليه! سمعتُ في القرية، قبل أن أصعد إلى هنا للتو، عن الحدث الذي أعلنتِه. أتمنَّى لابنتك كل السعادة في مكانتها الجديدة، ومن واقع ما قيل لي، أظنها ستملؤُه على نحوٍ مُثير للإعجاب.»
ردَّت السيدة براكسفيلد قائلة: «يا إلهي، شكرًا لك، أظنها ستكون كذلك، وأنا مُمتنة جدًّا لك. لكن ذلك سيكون كطلاسم مُبهمة للسيد فرانسيمري؛ لا تعرف ما الذي نتحدَّث عنه يا سيد فرانسيمري، أليس كذلك؟»
أجاب السيد فرانسيمري قائلًا: «أظن … أظن أنني أعرف يا سيدة براكسفيلد. فأنا … الحقيقة أنني، قُبيل مجيئي إلى هنا مباشرة، تلقيتُ زيارةً من الآنسة فالنسيا ماركنمور. أخبرتني بأن أخاها، الذي صار الآن السير هنري ماركنمور، مُتزوج من ابنتك، وأنه ينوي إشهار هذه الحقيقة لأقربائه ومُحاميه غدًا، بعد انتهاء المراسِم الحزينة التي نعرفها جميعًا. لكني … حسنًا … فهمتُ أنَّ الخبر كان لا يزال طيَّ الكتمان.»
فصاحت السيدة براكسفيلد بقليلٍ من الازدراء: «فهمتَ ذلك حقًّا؟» واستطردت قائلة: «لا شك أنَّ هذا ما كنتَ ستفهمه من كلام فالنسيا ماركنمور! ولكن عليهم أن يحسبوا لي حسابًا يا سيد فرانسيمري، وأنا أنوي أن تأخُذ ابنتي، الليدي ماركنمور، مكانتها القانونية الصحيحة غدًا! ستعود إلى المنزل الليلة من لندن، حيث كانت تُقيم مع بعض صديقاتها، أترقَّب قدومها من محطة سيلكاستر في حوالي الساعة الحادية عشرة. إنها قادمة على متنِ آخرِ قطار، وفي صباح غد، ستتقلَّد مكانتها الشرعية في ماركنمور كورت. أمَّا بخصوص حضورها مراسمَ جنازة السير أنطوني والسيد جاي، فذاك القرار بيدِها هي وزوجها، السير هاري؛ فهذا ليس من شأني ولا يحقُّ لي التدخُّل فيه يا سيد فرانسيمري. أمَّا ما يحقُّ لي التدخُّل فيه، فهو أن أضمن وجود ابنتي، الآن وقد صارت الليدي ماركنمور، في مكانتها المُستحَقة بصفتها سيدة ماركنمور كورت حين يُنقَل سيده الراحل ليُدفن!»
لم يردَّ السيد فرانسيمري ردًّا فوريًّا. كان يدرك آنذاك أنه بُوغِت بمفاجأةٍ أضعفت موقفه، ولم تكن لديه فرصة للوفاء بالوعد الذي قطعه لفالنسيا. فقد كان واضحًا أنَّ أم الليدي ماركنمور الجديدة قد تولَّت المسئولية واستكبرت وحقَّقت مُرادها.
قال بنبرة فاترة: «أتمنَّى السعادة من كل قلبي للشاب والفتاة. أنا … حسنًا … مُتيقن من ذلك!»
قالت السيدة براكسفيلد بحدة: «سيكون الذنب ذنبهما وحدهما إذا لم ينعما بالسعادة!» وأضافت: «فما الذي قد يمنع ذلك؟ لن أمنعه! أؤكد لك يا سيد فرانسيمري أنني تحليتُ بطيبة استثنائية في التعامُل معهما، وبالأخص معه، كانت طيبتي تفوق تلك التي كانت معظم الأمهات سيُظهرنها في ظروفٍ مُماثلة. أنت لا تعرف كلَّ شيء!»
اعترض السيد فرانسيمري قائلًا: «بل لا أعرف أيَّ شيءٍ تقريبًا يا سيدتي. لا أعلم سوى حقيقة الزواج فقط.»
قالت السيدة براكسفيلد: «حسنًا، سأُخبرك. لا أمانع أن تعرف، ولا أمانع أن يعرف هذا الشاب، مع أنه غريب …»
قال بليك ببشاشة ومرح: «كنتُ أحاول طوال الدقائق العشر الماضية أن أستأذن في الانصراف. لكنكِ يا سيدة براكسفيلد كنتِ مُنهمكة جدًّا في شئونك العائلية إلى حدِّ أنك لم تُلاحظي أني قد نهضتُ. لم أكن أتلكَّأ للإنصات بدافع الفضول.»
ردَّت السيدة براكسفيلد قائلة: «لم أقُل قَط إنك كنتَ تفعل ذلك!» وأضافت: «اجلس مُجدَّدًا؛ فما دُمت مُهتمًّا بشئون جاي ماركنمور، ستكون مُهتمًّا بشئون أخيه، زوج ابنتي. قلتُ إنني لا أمانع أن تعرف حقائقَ هذا الزواج؛ بل لا أمانع أن يعرفها أيُّ أحد؛ فليس خطئي أن الزواج غيرُ مُشهر. التفاصيل كالآتي يا سيد فرانسيمري. تعرفُ أنَّ ابنتي فائقة الحُسن، ورشيقة القوام، وعلى قدْر كبير من الخصال الراقية والتربية الحميدة. لقد ورِثَت جمال الشكل من عائلتي؛ كل نسائنا مُميزات بجمالهن، ولا أقول ذلك مدحًا في ذاتي.»
فهمس السيد فرانسيمري قائلًا: «لكِ أن تقولي ذلك عن نفسكِ بكل ثقة واستحقاق يا سيدتي!» وأردف: «كما قلتُ لكِ مرارًا.»
وأضاف بليك بانحناءة: «أشاطر السيد فرانسيمري الرأي يا سيدة براكسفيلد. هذا بالضبط ما كنتُ أفكِّر فيه!»
قالت السيدة براكسفيلد باعتزاز ورضًا: «حسنًا، لقد ذبلتُ تمامًا بعدما أكلَ الدهر عليَّ وشرب. هذا يُصيبنا جميعًا، وكما قلت، وَرِثت ابنتي جمال العائلة. وأما بخصوص مُنجزاتها … حسنًا، إذا لم تكن شابة على قدْرٍ جيد من التعليم، فهذا خطؤها وحدَها. لقد التحقَت بالمدرسة الثانوية للبنات في سيلكاستر من سنِّ العاشرة حتى سنِّ الخامسة عشرة، ثم قضت عامين في أفضل مدرسة داخلية سمعتُ بها في لندن، وأتمَّت تعليمها بقضاء اثني عشر شهرًا في باريس. وأؤكد لك أن تعليمها كلَّفني أموالًا لا حصر لها! وبعدما ربَّيتها هكذا، حسنًا، بعتُ مشروع نزل سيبتر التجاري الذي كنتُ أملكه، وتقاعدتُ عن العمل ومكثتُ هنا، كي تكون الفتاة وسط بيئة مناسبة. ولم يكد يمضي وقتٌ طويل على مجيئي إلى هنا حتى اكتشفت أنها والشاب هاري ماركنمور كانا يتبادلان الغرام، ويلتقِيان في هذه الغابات وما إلى ذلك. وما كنتُ لأسمح باستمرار ذلك إلَّا إذا عرفت مقصده الحقيقي ومآله النهائي؛ لذا تناقشتُ معه بصراحة وسوَّيْنا المسألة. ثم جعلني أوافق على الخِطبة، لكنه أقنعني بأن أسمح له بإبقائها سرًّا عن أبيه وأخته بعض الوقت. وظلَّ يُقنعني بكلامٍ معسول بهذه الزيجة، ووعدَني بأنني إذا وافقتُ عليه، فسوف يُخبر السير أنطوني به بعد ذلك بوقتٍ قصير جدًّا. لذا رضخت، وشهدت زواجهما، في كنيسةٍ بلندن، وبعد ذلك مباشرة، مَرِض السير أنطوني، وتعلَّل هاري بذلك لتأجيل إشهار الزواج، وبالرغم ممَّا واتاه من أوقات — أوقات كثيرة يا سيد فرانسيمري! — كان بإمكانه فيها أن يُخبر أباه — فضلًا عن أنه كان يستطيع إخبار أخته في أيِّ وقتٍ بالطبع — كان يختلق الأعذار دائمًا. لذا حين تُوفي السير أنطوني قبل بضعة أيام، وحدثت واقعة جاي هذه، وورث هاري اللقب والأملاك، قررتُ أن أُشهِرَ الأمر، وأُصحِّح الوضع فورًا، وأخبرته بذلك. لقد التقيتُه اليوم مرَّتين، وكان ككل مَن عرفتهم من أفراد آل ماركنمور تمامًا: عنيدًا ومُتشبثًا برأيه! فقد أراد تأجيل المسألة مُجددًا، إلى أن يُدفَن أبوه وأخوه. فرفضت! ستأخُذ ابنتي مكانتها الصحيحة بصفتها سيدة ماركنمور كورت صباح غد. وهكذا ستصير!»
قال السيد فرانسيمري بهدوء: «أظنكِ قد قلتِ للتوِّ يا سيدتي إنك أشهرتِ هذا الزواج بالفعل؟»
فأجابت السيدة براكسفيلد: «أجل، أشهرتُه!»
فسألها الزائر العجوز: «هل لي أن أسألك لِمَن أشهرتِه؟» وأضاف: «أظنُّ أنَّ السيد بليك قد سمع به من شخصٍ ما في القرية!»
فأجابت السيدة براكسفيلد بحماسة: «أشهرتُه للأشخاص المُناسبين. فلستُ من النوع الذي قد يفعل غير ذلك. أشهرته لقسِّ الأبرشية، والسيد تشيلفورد، مُحامي عائلة ماركنمور، والسيدة بيرين، زوجة كبير المُزارعين المُستأجرين.»
قال السيد فرانسيمري: «وأظنكِ قد أذنتِ لهم بالإفصاح عن الخبر لأي شخص؟»
فصاحت السيدة براكسفيلد قائلة: «بالتأكيد!» وأردفت: «ولِمَ لا يا سيد فرانسيمري؟ فابنتي هي الليدي ماركنمور!»
سعل السيد فرانسيمري — وكان سُعالًا قصيرًا جافًّا ينمُّ عن حرَج — ونظرت إليه السيدة براكسفيلد نظرةً مفاجئة حادة. فقد تبيَّنَت، أو تخيَّلت أنها تبيَّنَت، مَغزًى ما في هذا السعال.
فسألته بنبرةٍ تنمُّ عن نفاد صبرها: «ما المشكلة الآن؟» وأضافت: «ما معنى ذلك يا سيد فرانسيمري؟ أعرف أنك مُحامٍ، وإن كنتَ لا تمارس المهنة، هل تلمِّح ضمنيًّا إلى أنَّ ابنتي ليست الليدي ماركنمور؟»
فأجاب فرانسيمري بهدوء: «لو كان زوجها قد ورث اللقب وصار السير هاري ماركنمور يا سيدتي، فمن المؤكد أنَّ ابنتك هي السيدة ماركنمور. ولكن هل ورث اللقب؟»
اعتلى الشحوب وجنتَي السيدة براكسفيلد الورديَّتَين. ورأى بليك، الذي كان يراقبها عن كثب، أنَّ شفتَيها قد اعتُصِرتا فجأة، ورأى أيضًا يدَها وقد ارتفعت إلى الأعلى بحركةٍ تلقائية لا إرادية. لكنها استعادت لون بشرتها حين انقلبت فجأة بنبرةٍ غاضبة على السيد فرانسيمري.
إذ سألَتْه وهي تبذل محاولةً خرقاء لإطلاق ضحكة مُشكِّكة: «ما الذي تعنيه بحق السماء؟ لقد ورِث هاري اللقب! بالطبع ورِث اللقب! لقد مات أبوه، ومات أخوه …»
فقال السيد فرانسيمري بنبرةٍ هادئة رزينة: «وإذا افترضنا أنَّ أخاه قد خلَّف وراءه ابنًا؟» وأضاف: «فكيف سيكون الوضع حينئذٍ؟»
صارت السيدة براكسفيلد أشدَّ شحوبًا من ذي قبل. وحينئذٍ رأى بليك، الذي كان واعيًا تمامًا بتأثير الوضع الجديد والاحتمالات الجديدة، أنها انزعجتْ بشدَّة. فحدَّقت بصمتٍ إلى السيد فرانسيمري، وظلَّتْ تُحدِّق وتحدِّق، لكنها بقيت صامتة. فتكلم بليك، ناظرًا إلى الرجل العجوز.
قال: «ما كنتَ ستقول ذلك إلَّا إذا كانت لديك مُبررات لقوله. هل لديك؟ لأنني، إذا كان الأمر كذلك، أودُّ أن أعرف. فواجبي يُحتِّم عليَّ الحصول على كل المعلومات المُمكنة عن جاي ماركنمور.»
أجاب السيد فرانسيمري بأشدِّ نبراته جدية: «سيد بليك، نظرًا إلى ماهية مِهنتك، أستطيع أن أتحدَّث إليك بكل صراحة. وسأتحدَّث بصراحةٍ إلى السيدة براكسفيلد، نظرًا إلى ما آلت إليه الأمور. ما سأقوله الآن لم أعرفه إلا منذ ساعاتٍ قليلة، وأظنُّ أنه ربما صار معلومًا لمُحامي آل ماركنمور الآن — ربما — وربما لهاري ماركنمور أيضًا. لكني سأُخبرك أنت والسيدة براكسفيلد به الآن؛ فربما يُجنِّبنا ذلك بعض العناء. ولكن ضعا في حُسبانكما أنه شيء لا أستطيع تأكيد صحَّتِهِ بنفسي! بل هو مجرد شيء سمعته. وها هو ذا: يُمكنني إخباركما بأنني قضيتُ النهار كله في البحث عن البارون فون إيكهاردشتاين، ظللتُ طَوال الوقت أصعد وأنزل في أكثر مناطق الغابة قفرًا وفي بعض الوديان السفلية. وعند الظهيرة تقريبًا، كنتُ في ذلك الوادي النائي على الجانب الآخر من التل، الذي يُدعى جرايلينج بوتوم، وهو مكان مهجور مُنعزل يا سيد بليك. ليس فيه سوى مسكنٍ آدمي واحد، تستأجِره امرأة لا شك أنَّ السيدة براكسفيلد تعرفها؛ مارجريت هيلسون. كان الجو قارس البرودة في ذلك الوادي — الذي دائمًا ما يكون باردًا ولا تصِل إليه الشمس — وطلبتُ من مارجريت هيلسون أن تسمح لي بالجلوس جوار نيران كوخها بينما أتناول غدائي، الذي كنتُ أحمله معي. كانت هذا المرأة كتومة ومُتحفظة — وأظنها تستطيع كتمان الأسرار إلى الأبد، إن شاءت — لكنها تحدثت إليَّ بشيءٍ من الصراحة عن الأحداث الحالية والموقف الراهن. ولمَّا عَرَفَتْ أنني مُحامٍ، تحدثت بحرية أكبر، وفي النهاية، ولأنها كانت تعرف أنَّ الحقائقَ ستتكشف عاجلًا أم آجلًا، كما ذكرَت، قالت إنها ستُخبرني بسرٍّ ظلَّت مُحتفظةً به لنفسها طَوال أربع سنوات. وهذا هو السر باختصار: تقول مارجريت هيلسون إنه في حوالي نفس الوقت الذي اختفى فيه جاي ماركنمور من هذه الأنحاء، اختفت كذلك فتاةٌ اسمُها مايرا هاليويل، وهي فتاة حسناء جدًّا وواحدة من ابنتَين لمُزارع صغير في هذا الحي، وذكرتْ مارجريت أن أخت هذه الفتاة، التي تُدعى دافني هاليويل، سافرت إلى الهند وصيفةً للسيدة تريزيرو، وعادت معها، وتعمل في خدمتها الآن في بيت الأرملة. وتقول مارجريت هيلسون إنَّ مايرا هذه كانت تُعتبر مخطوبةً لرجلٍ اسمه روبر — جيمس روبر — كان يعمل حطَّابًا في عِزبة ماركنمور، وأظنه ما زال كذلك. لكنها، كما قُلت، اختفت تمامًا في الوقت نفسه الذي رحل فيه جاي ماركنمور عن ماركنمور كورت، حسبما ذكرت مارجريت هيلسون.» وهنا توقَّف السيد فرانسيمري لحظةً عن سرد روايته وقال، رامِقًا المُحقق بنظرةٍ خاطفة ذات مغزًى: «هذه تفصيلة مُهمة جديرة بأن تُؤخَذ في الحُسبان، بالنظر إلى ما سيليها.»
فأومأ بليك. لكنَّه لم يكن يُسلِّط انتباهه على السيد فرانسيمري، بقدْر ما كان يُسلِّطه على السيدة براكسفيلد. فقد كان واضحًا أنها مُهتمة أشد الاهتمام بالقصة التي تكشَّفت لها بغتة، ومنذ ذِكر اسم مايرا هاليويل، تعمَّق اهتمامها حتى كاد يصير اضطرابًا عصبيًّا. كان لون بشرتها يزول ثم يعود، وكانت تعتصِر شفتيها وتُرخيهما بالتناوب، ورأى بليك أنَّ هذه المرأة كانت قلقةً بكل وضوح، إن لم تكن مذعورة. وحين سكت السيد فرانسيمري، ظلَّت مُحدقة إليه بنظرة أظهرت أنها تنتظِر معرفةَ ما حدث بعد ذلك، بلهفة مشوبة بالرعب.
تابع السيد فرانسيمري قائلًا: «حسنًا، هذا ماحدَث بعد ذلك: بعد اختفاء مايرا هاليويل من هذه المنطقة بحوالي أربع سنوات، سافرت مارجريت هيلسون إلى لندن لتزور إحدى شقيقاتها التي كانت تعيش بالقُرب من حديقة واندسوورث العامة. وكانت مارجريت عادةً ما تخرج صباحًا إلى الحديقة العامة لتستنشِق الهواء النقي، فيما كانت أختها، المتزوِّجة بعامل، تنشغِل بأداء أعمالها المنزلية. وفي صباح أحد الأيام، بينما كانت تتمشَّى، رأت شابةً أنيقة الثياب بدا مظهرها مألوفًا لها، وكان معها مُربية تتولَّى مسئولية عربة أطفال كان فيها طفل. ثم اقتربتا، وتبيَّنت مارجريت هيلسون أنَّ هذه الشابة الأنيقة كانت مايرا هاليويل. وكذلك أدركَتْ مايرا هوية مارجريت، فتوقفَّتا وتحدَّثتا. وكانت النتيجة أنَّ مايرا هاليويل، بعدما جعلت مارجريت تتعهَّد لها بكتمان السر، أسرَّت إليها بأنها تزوَّجَت السيد جاي ماركنمور، وأن ذاك الطفل الذي كان في عربة الأطفال، والذي كان عمره آنذاك ثلاث سنوات، هو ابنهما …»
ضربت السيدة براكسفيلد الطاولة فجأة بقبضة يدِها بكل عُنف.
وصاحت قائلة بصوتٍ أجشَّ مبحوح: «كذب!» وأردفت: «كذب جملةً وتفصيلًا! عجبًا! لقد طلب من السيدة تريزيرو الزواج، في الليلة التي كان فيها هنا! سمِعتماها كلاكما تُقسِم على ذلك في مقصورة الشهود، تعرفان أنكما سمِعتُماها!»
لم يقُل بليك شيئًا. كان يُسلِّط انتباهه آنذاك على السيد فرانسيمري، مُقتنعًا بأن هذه القصة تُخفي بين طيَّاتها ووراءها أكثرَ مما تَخيَّل في البداية. فقد كانت أطوارها المُختلفة تكشف له أفكارًا جديدة ورؤًى جديدة، وكان يزداد تحمُّسًا لها مِهنيًّا.
قال السيد فرانسيمري بهدوء: «لم أُكمل القصةَ بعدُ يا سيدة براكسفيلد. دعيني أكمل إذا سمحتِ؛ قَطَعت مارجريت هيلسون، التي أرى أنَّها أقدرُ امرأةٍ على الكتمان، وعدًا للسيدة جاي الشابة بأنها ستكتُم السر، وقد كتمته. ولكن، منذ عام، سافرت مارجريت هيلسون لزيارة أختها مُجددًا في المكان نفسه. ومُجددًا، كانت تتمشَّى في حديقة واندسوورث العامة. وفي صباح أحد الأيام، التقت، ليس السيدة جاي ماركنمور، بل المُربية نفسها، برفقةِ الطفل نفسه، الذي كان عوده قد اشتدَّ آنذاك وصار فتًى قويًّا في الخامسة من عمره. فتحدَّثَت إلى المُربية، التي أخبرتها بأن الأم ماتت؛ ماتت قبل ذلك بعام، بسبب التهابٍ رئوي، وقالت إن الطفل كان يُربَّى في كنف سيدةٍ أؤتمِنَت على رعايته عند وفاة أمِّه، وإنها، أي المربية، بقيت معه. وأضافت المربية، التي ربما لم تجِد سببًا يمنعها من التحدُّث بحريةٍ إلى امرأةٍ كانت قد رأت سيدتها الراحلة مُنهمكة في محادثة حميمية معها، وأضافت بعض التفاصيل. فقالت إنَّ والد الطفل كان يأتي لزيارته مرَّتَين في الأسبوع، ودائمًا ما يقضي معه عصر أيام الأحد، وذكرت المُربية أنه رجل وسيم وموسِر. وأضافت فوق ذلك أنَّ الطفل سُمِّي على اسمه، جاي. وأخيرًا، أخبرَت مارجريت هيلسون بمكان مَدفن سيدتها الراحلة، فذهبت مارجريت هيلسون لتزور القبر. عثرت عليه بسهولةٍ كبيرة بناءً على التفاصيل التي ذُكِرَت لها، ورأت الكلمات المنقوشة على شاهد القبر: مايرا، زوجة جاي ماركنمور. وقد أسرَّت مارجريت هيلسون هذا أيضًا في نفسها، لكنها يا سيدة براكسفيلد لن تواصِل كتمانه بعد الليلة! فحين مررتُ عليها في كوخها، كانت تعتزِم إخبار السيد تشيلفورد بكلِّ ما تعرفه مساء اليوم، وعندما مررتُ عليها، أخبرتْني. فنصحتُها بأن تُخبر تشيلفورد فورًا، وأظن أنها ربما تكون قد أخبرته الآن. وأظنُّ أنه لا سبب يستدعي الشك في صِدق روايتها؛ فلماذا قد يُوجَد أيُّ سببٍ كهذا؟ ومن المؤكد تمامًا بالطبع أنَّه إذا كان الابن الصغير للراحل جاي ماركنمور حيًّا، فإنه بذلك يكون وريث اللقب والأملاك!»