المَمر العميق
أنهى السيد فرانسيمري قصَّته بقوةٍ وتشديد لائقين بفصاحةٍ قضائية، وأومأ بليك، الذي صار مُنشغلًا آنذاك بطروحاتٍ مفاجئة تبادرَت إلى ذهنه، بالموافقة على كلماته الختامية. لكن السيدة براكسفيلد، بالرغم من انفعالها الواضح، أبدت عزوفًا عنيدًا عن قَبول فرضية السيد فرانسيمري.
إذ قالت بعد سكوتٍ لحظي: «قد يبدو هذا صحيحًا يا سيد فرانسيمري. فأنتَ مُحامٍ، ومن المؤكد أنك تعرف! لكنَّ كل هذه مَحض احتمالات! لو كان جاي ماركنمور، كما تقول، قد تزوَّج مايرا هاليويل، ولو كانا قد أنجبا طفلًا، ابنًا، ولو كان هذا الابن حيًّا؛ حسنًا، حينئذٍ، يحقُّ له بالطبع أن يَخلُف أباه أو جدَّه — فعلى حدِّ علمي، لا أحد يعرف أيهما مات أولًا، السير أنطوني أم ابنه الأكبر — في وراثة اللقب والأملاك. لكن كل هذه احتمالات مَسبوقة بلو! لو! لو! لو! لا أُصدق أنَّ جاي ماركنمور تزوَّج تلك الفتاة قَط … لا أصدق إطلاقًا! ربما يكون قد أخذها معه حين سافر، وربما عاشا معًا في لندن، وربما يُوجَد طفل، لكن كل ذلك لا يُثبت أيَّ زواج يا سيد فرانسيمري!»
فقال السيد فرانسيمري: «وماذا عن النقش المكتوب على شاهد القبر يا سيدة براكسفيلد؟» وأضاف: «لقد رأتْهُ مَن أعطتني المعلومات! وأحسب أن مارجريت هيلسون امرأة صادقة.»
ردَّت السيدة براكسفيلد: «لا أقصد أيَّ ذَمٍّ في مارجريت هيلسون. فهي امرأة فاضلة جدًّا! ولا أنكِر أنها ربما رأت نقشًا كهذا. لكن هذا لا يثبت شيئًا. أي شخص بمقدوره أن يصِف شخصًا آخرَ بهذه الكلمات، لا سيما في مقبرةٍ بلندن، ومَن سيدري! سيكون لزامًا أن تظهر أدلةٌ أكثرُ من تلك المُتاحة يا سيد فرانسيمري قبل أن تَثبُت صحةُ كلِّ ما قلته؛ قسيمة زواج وشهادة ميلاد وما إلى ذلك.»
ردَّ السيد فرانسيمري قائلًا: «كل هذا سيُقدَّم بلا شك يا سيدتي. أنا مُتأكد من أننا سنعرف حقائقَ أكثر، أكثر بكثير! فمن المؤكد أنَّ ثمَّة شخصًا ما يعرف.»
سألته السيدة براكسفيلد: «وتقولُ إنك نصحتَ مارجريت هيلسون بالذهاب إلى المُحامي تشيلفورد وإخباره بهذه الحكاية؟» وأضافت: «فورًا؟»
أجاب السيد فرانسيمري: «فورًا!» واستطرد قائلًا: «فمِثل هذه المسائل لا تحتمِل التأخير. أظنُّ أنَّ مارجريت هيلسون ستكون قد قابلت السيد تشيلفورد بالفعل؛ إذ قالت إنها ستنزل إلى بيته في وقتٍ مُبكِّر من مساء اليوم.»
قالت السيدة براكسفيلد في عبوس: «إذن، سيعرفون في ماركنمور كورت. من المؤكد أنَّ تشيلفورد سيذهب إلى هناك ويُخبرهم حالَما يعرف.»
فأكد السيد فرانسيمري ذلك قائلًا: «ربما صاروا يعرفون الآن. ولكن سواء عرفوا الليلة أم غدًا يا سيدة براكسفيلد، فالمؤكد أنَّ هذه المسألة سيتوجَّب أن تخضع لتحرِّيات شاملة. وإذا كان لي أن أُسدي إليكِ نصيحةً صغيرة يا سيدتي، بصِفتي جارًا يتمنَّى لكِ الخير، فينبغي أن أنصحك بالتريُّث قليلًا قبل إرسال ابنتك إلى ماركنمور كورت بصفتِها الليدي ماركنمور. فكما تعرفين، ربما تكون مجرد السيدة هاري ماركنمور ليس إلَّا. على رِسْلك ولا تتسرَّعي يا سيدتي!»
ثم قام السيد فرانسيمري استعدادًا للرحيل وهو يُومئ للسيدة براكسفيلد بنظرةٍ تحذيرية من ناصح حكيم، وكذلك قام كلبه الإيرديل، والذي كان حتى ذلك الوقت نائمًا أسفل الطاولة بعينٍ مفتوحة، وانطلقا برفقة بليك إلى الخارج في جنح الليل، الذي كان مُظلمًا باستثناء ضوء النجوم؛ لأن القمر لم يكن قد طَلَع بعد. شقوا طريقهم في صمتٍ عبر مماشي حديقة وودلاند كوتيدج وخرجوا منها على جانب التل المفتوح.
تمتم بليك أخيرًا بينما كانوا يمشون ببطء عبر العُشب المجزوز القصير: «معلومات غريبة!» وأردف: «لقد فهمتُ أنك تُصدِّق هذه القصة المُتعلقة بزواج جاي ماركنمور؟»
أجاب السيد فرانسيمري بحزم: «أجل، أُصدِّقها!» واستطرد قائلًا: «عند جمْع كلِّ التفاصيل الجزئية معًا، أصدِّقها! فالمرأة التي أخذتُ منها معلوماتي اليوم، مارجريت هيلسون، تليق بأن تكون شاهدةً مثالية؛ أظنك تعرفُ قصدي. فهي من النوع الذي لا يقول إلَّا ما يعرفه، بلا إضافة أو انتقاص أو تجميل أو تشويه، وتُعطي إمَّا إثباتًا صريحًا أو نفيًا صريحًا كذلك؛ النوع الذي، في الواقع، ليس لديه المُخيلة اللازمة لتحريف الحقيقة. لا شكَّ عندي في أنها سردتْ لي روايةً واضحة صريحة تمامًا عمَّا حدث في أثناء زيارتَيها إلى لندن، ولا في أنها رأت القبر والكلمات المنقوشة عليه التي تحدَّثَتْ عنها. وأما بخصوص احتمالية الزواج … حسنًا، ربما أكون، يا سيد بليك، عجوزًا مُحِبًّا قليلًا للثرثرة! فأنا، على أي حال، أُحب التحدُّث إلى أهالي الريف عن شئونهم، وإن كنتُ أرجو ألَّا أكون شخصًا فضوليًّا مُتطفلًا. أحبُّ الاستماع إلى حوادثهم المُضحكة ومآسيهم المُحزنة، وأهتمُّ بها اهتمامًا مُتعاطفًا. قبل أن أسمع هذه القصة من السيدة هيلسون بفترةٍ طويلة، كنتُ قد سمعتُ عن مايرا هاليويل واختفائها، ولمَّح لي شخص أو اثنان في القرية بأنَّ هذا الاختفاء ربما يكون مُرتبطًا بجاي ماركنمور. لذا لم أتفاجأ كثيرًا ممَّا أخبرَتْني به السيدة هيلسون.»
فقال بليك: «أتساءل عمَّا إذا كانت أخت مايرا — تلك المرأة التي تعمل في بيت الأرملة — تعرف أيَّ شيءٍ عن ذلك؟»
أجاب السيد فرانسيمري قائلًا: «دافي، كما يدعونها؛ أتساءل عن ذلك أنا أيضًا. وإن كنتُ لا أظن ذلك. إذ إنَّ دافي — واسمها الحقيقي دافني — كانت في الهند طوال ثلاث سنوات مع السيدة تريزيرو، ولم تَعُد إلا مؤخرًا. ربما تعرف بالطبع. ولكن لو كانت تعرف، فكُن متأكدًا من أنها ستُفصِح عن ذلك!»
فقال بليك وقد بدا مُنهمكًا في تفكيرٍ عميق: «تبدو امرأةً تُكِن قدرًا هائلًا من الأسرار. إنها كتومة! كتومة للغاية. حسنًا، هذه مسألة غريبة يا سيدي! وبينما كنتَ تكشف قصتك للسيدة براكسفيلد، بدأتُ أتأمَّل العلاقةَ المُحتمَلة بين هذه القصة وعملي بطبيعة الحال!»
سأله السيد فرانسيمري: «كيف؟»
أجاب بليك: «حسنًا، بادئ ذي بدء. يُوجَد سؤال بديهي: هل لهذا أيُّ صِلة بمقتل جاي ماركنمور؟»
صاح السيد فرانسيمري: «آه!» وأضاف: «هل له صِلة، بالفعل؟ سؤال في غاية الأهمية يا سيدي العزيز، ومن الصعب جدًّا معرفة إجابته.»
واصل بليك قائلًا: «سؤال آخر. لقد أخبرَتْنا السيدة تريزيرو في التحقيق بأنها وجاي ماركنمور جدَّدا غرامهما القديم حين التقَيَا مساء الإثنين الماضي، واتفقا على الزواج فورًا. الآن، أودُّ معرفة هذا: هل أخبرَها جاي ماركنمور بأنه كان مُتزوجًا من قبل، وفقد زوجتَه، ولديه ابن على قيد الحياة؟»
قال السيد فرانسيمري: «هل أخبرَها، يا تُرى؟» وأردف: «تُرى فَعَل ذلك؟ ولكن مَن يدري؟»
تابع بليك: «لو كان قد أخبرَها، فلماذا لم تفصِح عن تلك الحقيقة في التحقيق؟ لو كانت تعرف ذلك، فلماذا أخفته؟»
تمتم السيد فرانسيمري قائلًا: «نعم، لماذا؟» وكرَّر: «لماذا؟»
قال بليك: «ولو لم يكن جاي ماركنمور قد أخبرها — وهي المرأة التي كان سيتزوَّجها! — فلماذا لم يُخبرها؟» وأضاف: «هل أخبرَها أم لم يُخبرها؟ أرى يا سيدي أنَّ هذا السؤال ينطوي على أمورٍ كثيرة على قدْرٍ بالِغٍ من الأهمية!»
فوافقه السيد فرانسيمري قائلًا: «هذا مُرجَّح. ولكن على أي حال، بيني وبينك، تراوِدُني تساؤلات كثيرة أخرى منذ أن سمعتُ شهادة السيدة تريزيرو!»
سأله بليك: «عن ماذا، مثلًا؟»
أجاب السيد فرانسيمري: «لا شيء، على وجه الخصوص. كنتُ أتساءل، عمومًا، عمَّا إذا كانت السيدة تريزيرو قد قالت كلَّ ما كان يُمكن أن تقوله؛ عمَّا إذا كانت صريحةً وواضحة وبريئة وصادقة. بيني وبينك، أظنها امرأةً مُتغطرسة وأنانية وسخيفة، وغبية بقدْر ما يكون هذا الصِّنف من النساء دائمًا!»
فقال بليك: «لكن هذا النوع من الغباء غالبًا ما يكون مصحوبًا بقدْرٍ كبير من المكر، أليس كذلك؟ لقد وصلَني عنها انطباع — مع أني لم أرَها إلا قليلًا — بأنها من نوعية النساء اللواتي يستطِعْن نسج حِيَل خادعة.»
وافقه السيد فرانسيمري قائلًا: «هذا مُرجَّح!»
فقال بليك: «إذن، فالسؤال الذي يُراوِدني هو: هل تنسج أيَّ خدعة الآن، وإذا كانت كذلك، فما هي؟» وأضاف: «وهل لفون إيكهاردشتاين أيُّ علاقة بها؟»
صاح السيد فرانسيمري: «آه!» وأردف: «هذا سؤال آخر!»
تمتم بليك قائلًا: «لغز لطيف جدًّا!»
فقال السيد فرانسيمري بينما كانوا ينزلون إلى الممر العميق الضيق، الذي كان مُتعرجًا وذا جانبين عاليين وكان يشقُّ طريقه إلى الأعلى نحو قمة الروابي ما بين بيت ذا وارن ووودلاند كوتيدج: «بل قاتم كهذا المَمر يا صديقي. وستحتاج إلى ما هو أكثر من ضوء النجوم لتستنير به وتُبصِر دربك فيه! لكني أعتقد أنك، حتى الآن، لا تملك سوى مثقال ذرة من طرف دليل تهتدي به.»
فقال بليك وهو يُفكِّر في المعلومات التي كان لانسبري قد ذكرها له: «لا أملك سوى خيطٍ رفيع جدًّا، ربما لا يكون خيطًا أصلًا. لا! حتى الآن يا سيد فرانسيمري، لا أملك في الواقع سوى أقل القليل ممَّا يمكن أن أبني تحرياتي عليه. إنني … ما الذي يفعله كلبك؟»
كان كلبه الإيرديل، الذي سبق الرَّجُلَين إلى جنح ظلام الممر، قد واصل الركض أمامهما إلى البقعة التي كان قد أظهر عندها علاماتٍ جامحةً على الاهتياج والفضول حين كان السيد فرانسيمري في طريقه إلى السيدة براكسفيلد. كان يئنُّ متذمرًا مرةً أخرى آنذاك، وعندما اقتربا من الشجيرات، سمعاه يخدش التربة ويحفر فيها بعُنف، وسرعان ما تحوَّل أنينه المتذمِّر إلى زمجرة هادرة.
قال السيد فرانسيمري: «مِن المُحتمَل أنَّه يبحث عن غرير! فأنا أظن أنَّ هذا الممر كان فيه بعض حيوانات الغرير، أو أحدها، لبعض الوقت، لقد تخيَّلتُ أني وجدتُ بعضًا من آثار أقدامه في التربة الرملية الرخوة. لو كان بِحوزتي مِشكاة، لأستطعتُ أن أحدِّد فورًا؛ لأن جُحر الغرير يُمكن تمييزه عن جُحر الثعلب بسهولة.»
وضع بليك يدَه في جيب معطفه وأخرج شيئًا ضَغَط عليه بأصابعه، فأحدث طقطقة رنانة حادَّة تلاها وهَج ثابت من الضوء.
وقال: «ها هو ما أردته!» وأضاف: «المصابيح الكهربائية أفضل من المشكاوات. أين هو؟»
أزاح السيد فرانسيمري الشجيرات التي كان كلبه مُنشغلًا وراءها، وكشفه وهو يحفر بشراسة في تجويف في الحد الجانبي المُرتفع للممر. فالتفت الكلب، ورمش بعينَيه في مواجهة الضوء، وواصل مهمته بلهفة أشد. حاول السيد فرانسيمري أن يتشمَّم.
ثم صاح قائلًا: «أف!» وأردف قائلًا: «غرير، بالتأكيد! مُستحيل أن أخطئ هذه الرائحة الكريهة، التي تختلف تمامًا عن رائحة الثعلب. لكنه لن يكون موجودًا هناك الآن يا فَتاي! فالغرير يترك جُحره ويخرج بعد حلول الظلام بقليل، بحثًا عن الجذور والحشرات والضفادع ويرَقات النحل والزنابير. تعالَ واتركه يا تينكر!»
لكن الكلب واصل الحفر، فيما راقبَهُ بليك باهتمام، مُسلِّطًا وهَج مصباحه الكهربائي على فوهة الجحر.
وقال: «إنه يجيد التنقيب!» وأردف قائلًا: «لقد فرَّغ الحفرة من بعض محتواها بالفعل. وإذا واصل الحفر بهذا المعدل، سيصِل قريبًا إلى عمق الحد الجانبي، مرحى!»
انحنى بليك إلى الأمام فجأة، وأزاح الكلب جانبًا، ثم أخرج من وسط التراب المليء بالحصى والرمل الرخو الذي أخرجه الكلب من الحفرة شيئًا لَمَع في وهج المصباح الكهربائي. ورفعه إلى السيد فرانسيمري مُتفوهًا بصيحة تعجُّب حادة.
قال بليك: «انظر إلى هذا!»
فنظر السيد فرانسيمري وتراجع إلى الوراء مُجفلًا.
ثم صاح قائلًا: «يا إلهي!» وأضاف: «مسدس!»
نصب بليك قامته، وسلط كل ضوء مصباحه الكهربائي على ما وجدَه، مُمسكًا إيَّاه في يُسراه.
وقال: «مسدس آلي من طراز «ويبلي-فوسبيري».» مُضيفًا: «و… جديد! وأُلقِيَ هناك منذ وقتٍ ليس ببعيد! سيد فرانسيمري! ماذا لو أنَّنا قد وجدنا الشيء الذي تسبَّب في موت جاي ماركنمور؟ لن أتفاجأ!»
تراجع السيد فرانسيمري إلى وسط الممر.
وسأل بتوتر: «هل، هل هو مُذخَّر؟» وأضاف قائلًا: «أتوسَّل إليك أن تتوخَّى الحذَر يا سيدي العزيز! فأنا أرتعب بشدة …»
فقاطعه بليك قائلًا: «فلتحمِل أنت المصباح. سأتوخَّى الحذَر؛ فأنا على دراية تامة بالتعامُل مع الأسلحة النارية.» وناول المصباح الكهربائي إلى رفيقه، وبدأ بيدَيه الطليقتَين يتفحَّص آلية المسدس الآلي من الداخل. وسرعان ما قال: «لا شيء فيه. ولا خرطوشة واحدة! ولكن انظر هنا يا سيدي، لم يمرَّ وقت طويل على وضع هذا المسدس هناك! فليس به بُقعة واحدة من الصدأ؛ بل كله لامع ونظيف وجديد تمامًا …»
فقال السيد فرانسيمري وهو ينظُر إلى فوهة الجُحر: «الرمال جافة جدًّا. والحصى أيضًا. ربما …»
فقال بليك: «لا!» واستطرد قائلًا: «لو أنَّه كان موضوعًا هناك منذ وقتٍ طويل، لظَهَر بعض الصدأ بأي حالٍ من الأحوال، ولو بقعة أو اثنتان على الجزء المعدني على الأقل. يا لَحُسن الحظ! أشعُر برغبة في إهداء كلبك طَوقًا فِضيًّا!»
سأله السيد فرانسيمري: «هل تظنُّ هذا ذا أهمية كبيرة؟»
فصاح بليك: «بل أكبر أهمية على الإطلاق!» وأضاف: «لا ينبغي أن أظن سوى ذلك! عجبًا! إننا في نطاق نصف مِيل من المكان الذي أردِيَ فيه جاي ماركنمور قتيلًا برصاص مُسدسٍ ما، وها هو مسدس، مسدس آلي، من الواضح أنَّه رُمِيَ — منذ وقتٍ قريب جدًّا — في حفرة في الحد الجانبي المُرتفع، خلف الشجيرات، في ممر مُنعزل! مُهم؟ سيدي العزيز! إنه دليل!»
فقال السيد فرانسيمري: «نحن قريبان من بيتي. لنذهب إلى هناك ونُفكِّر في المسألة بإمعانٍ أكبر. يا إلهي! يا له من اكتشاف استثنائي للغاية! من المؤكد أنه يحتاج إلى اهتمامٍ عميق ودقيق.»
فقال بليك بجدية وتجهُّم: «سيحصل على ذلك!» وأضاف: «فهذا أول دليلٍ مادي أصادِفُه.»
قاده السيد فرانسيمري إلى بيته. وعند الباب، استقبلتهُما خادمة الاستقبال المَمشوقة.
قالت: «السيد تشيلفورد ينتظِرُك في غرفة المكتب يا سيدي. أخبرتُه بأني لا أعرف إلى متى ستبقى بالخارج، لكنه قال إنه مُضطر إلى الانتظار.»
جذَب بليك السيد فرانسيمري من كمِّه بينما كانا يدخُلان الصالة.
وهمس له قائلًا: «لا تذكُر ولو كلمة واحدة عن المُسدس الآلي!» وأضاف: «لا أريد أن يُعرَف ذلك على الإطلاق الآن! أصغِ إليَّ، قد لا يريد تشيلفورد حضوري معكما، فهل لي أن أُغادر؟»
قال السيد فرانسيمري: «لا، ادخُل معي. فأنا أريدك أن تدخُل معي. سأخبره بأنك على دراية تامَّة بهذه المسألة التي ذكرتها هيلسون.» ثم أضاف بينما كانا يدخلان غرفة المكتب، حيث كان المحامي جالسًا يُحدِّق إلى نيران المِدفأة وقد بدا مُنهمكًا في تفكيرٍ عميق: «آه، تشيلفورد!» وأردف قائلًا: «أعرفُ ما الذي أتى بك إلى هنا؛ كنتُ أتوقَّع ذلك! لقد جاءت مارجريت هيلسون لمُقابلتك، وقالت لك إنها قد قابلتْني سلفًا. حسنًا، السيد بليك على دراية كاملة بقصَّتِها؛ لذا …»
نظر تشيلفورد إلى كليهما بالتناوب.
وأجاب قائلًا: «بل أتى بي إلى هنا شيء أهمُّ من قصة مارجريت هيلسون يا فرانسيمري. لقد قابلتُها بالطبع؛ إذ زارتْني في وقتٍ مُتأخر من عصر اليوم. لم أستطِع تبنِّي رأي مُحدَّد عن قصتها، ما دامت مجرد قصة سُرِدَت على لسانها وحدَها، بلا أي أسانيد. ولكن منذ الساعة السابعة، من مساء اليوم، صرتُ أعرف أنها صحيحة، بكل تفاصيلها!»
صاح السيد فرانسيمري قائلًا: «حقًّا؟» وأردف: «كيف؟»
لوَّح تشيلفورد بيدِه نحو النافذة التي، لولا أنَّ الليل قد حلَّ وأنَّ أستارها كانت مُسدَلة، كانوا سيرون منها بيت ماركنمور كورت عبر المُتنزَّه.
وقال: «وريث اللقب والأملاك موجود هناك!» وأضاف: «صبي في السادسة! غير واعٍ إطلاقًا بما ورِثه!»
نظر السيد فرانسيمري إلى بليك نظرةً خاطفة، ورأى أنَّ ما كان هو نفسه يُفكر فيه كان يشغل تفكير المُحقِّق أيضًا؛ ألا وهو السؤال الذي طرحته السيدة براكسفيلد عمَّا إذا كان هذا الطفل ثمرة زواجٍ بينهما أم إنه أتى بلا زواج.
ثم التفت إلى تشيلفورد قائلًا: «إذن، فأنت مُتيقن من أن له حقًّا؟» وأضاف: «ولكن كيف ظهر؟ شيءٌ غير مُتوقَّع، أليس كذلك؟»
أجاب تشيلفورد قائلًا: «لم يخطر ببالي أنَّ تطوُّرًا كهذا سيطرأ. فلم يُلمِّح لي أيُّ أحد من قبل بأن جاي ماركنمور قد تزوَّج، دائمًا ما كنتُ أفهم أنه لم يتزوَّج قَط! وحين أتت إليَّ تلك المرأة، المدعوة مارجريت هيلسون، مساء اليوم، بعدما عُدتُ من مكتبي للتو، وسَرَدَتْ لي تلك القصة التي قصَّتها عليك سلفًا، كنتُ مذهولًا. لكني أعرفها بأنها امرأة فاضلة ومُحترمة، ومن المُستبعَد تمامًا أن تختلق حكايات خرافية، وأن تقول أشياءَ لا تعتقد أنها صحيحة، وحين سمعتُها، بدأتُ أظن أنَّ كلامها، حسنًا، ربما يحمِل قدرًا من الصواب. أتعلَمُ يا فرانسيمري، لم يكد يمضي نصف ساعة على رحيلها عن بيتي حتى جاءني بعربةٍ من محطة قطار سيلكاستر مُحامٍ لندني شهير، يُدعى كويلامين، من شارع بيدفورد رو، أحضر معه سيدةً وصبيًّا صغيرًا، وقصةً مُتطابقة تمامًا مع تلك التي كنتُ قد استمعتُ إليها للتو.» واختتم تشيلفورد كلامه بضحكةٍ جامدة وغمزة للسيد فرانسيمري، قائلًا: «والأدهى من ذلك أنَّه أحضر معه أدلةً وثائقية كاملة على كلِّ ما قاله. أف! المسألة واضحة تمامًا. يُوجَد شخص يُدعى السير جاي ماركنمور في ماركنمور كورت الليلة! وهو في السادسة من عمره!»
قال السيد فرانسيمري: «أي أنَّ جاي ماركنمور تزوَّج مايرا هاليويل؟»
أجاب تشيلفورد: «أجل! حين رحلا عن هنا معًا. وعاشا في البداية معًا في سِرِّية شديدة، في حي كلافام أو توتينج أو واندسوورث. ثم عاشت هناك وحدَها — إذ كان يظل بعيدًا عنها فترات طويلة، وكان لديه شقة في حي وست إند. ثم ماتت، لكن الصبي موجود. يعرف كويلامين المسألة كلها؛ فلدَيه كل الأوراق، وقسائم الزواج وشهادات الميلاد، وكل شيء؛ إذ كان جاي يأتمِنُه على أسراره دومًا. حين ماتت أم الطفل، عهد برعايته إلى أُختِ كويلامين، الموجودة معه الآن في ماركنمور كورت، كلهم هناك، أوصلتُهم إلى هناك بنفسي.»
سأله السيد فرانسيمري: «وهاري ماركنمور وأُخته، كيف استقبلا ذلك؟»
فأجاب تشيلفورد: «أصدُقك القول، استقبلاه كأنهما حَجَرَين!» وأردف قائلًا: «لم تهتزَّ شعرةٌ واحدة، لدى أيٍّ منهما، ولكي أكون مُنصفًا، شرعَا فورًا في تدليله والاعتناء به. ولكن يا إلهي! أعتقد أني أعرف مَن سيكون غاضبًا من ذلك! لقد سمعتُ أنَّ هاري ماركنمور تزوَّج بوبي رين سرًّا، بعِلْم أُمِّها!»
قال السيد فرانسيمري: «هذا صحيح!» وأضاف: «عُقِد الزواج في لندن، قبل ثلاثة أشهر، بحضور الأم.»
فصاح تشيلفورد قائلًا: «إذن، فالسيدة براكسفيلد ستكون أشدَّ النساء غضبًا بين كل المسيحيين حين تعرف ذلك!» واستطرد: «فهي بالطبع كانت تتمنَّى أن يكون جاي قد مات منذ أمدٍ بعيد، وألَّا يكون أيُّ أحدٍ قد سمع أيَّ خبر عنه طوال سبع سنوات، وأن يرِث هاري اللقب، وتصير بوبي السيدة ماركنمور! حسنًا، لقد تلاشى ذلك الآن وصار سرابًا! أمرٌ غريب! ويقول كويلامين إنَّ مزيدًا من الحقائق قد يتكشَّف. فقد اتَّضح أنَّ جاي، الذي دائمًا ما كان يجني أموالًا طائلة في أعماله وصفقاته، وتُرِكَت كل هذه الأموال، بالطبع، للطفل الصغير بموجب وصيةٍ كُتبت مؤخرًا، كان يريد أن يتنازل عن بيت ماركنمور كورت بالكامل لأخيه وأخته، وكان يعتزم اتخاذ إجراءات التنازُل عنه حالَما يرثه. لكن حق وراثة الأملاك مقصور على فرعٍ مُحدَّد من العائلة وفق ترتيب مُعين! كل شيء صار من نصيب هذا الطفل! شيء مُثير للاهتمام من منظورِ محامٍ يا فرانسيمري، أليس كذلك؟»
وافقه السيد فرانسيمري قائلًا: «من هذا المنظور … مُثير جدًّا. ومُعقد أيضًا.»
كان يتساءل في قرارة نفسه عمَّا إذا كان تشيلفورد يريد الإسهاب في الحديث عن تعقيدات الموقف، راجيًا ألَّا يكون كذلك؛ لأنه هو نفسه لم يكن في حالةٍ مزاجية مناسبة لمناقشة مسائل قانونية. لكن تشيلفورد سرعان ما رحل، ورحل معه بليك بعدما همس للسيد فرانسيمري بكلمة. ثم سارا معًا نحو القرية، التي كان تشيلفورد يعيش على أطرافها.
سأله تشيلفورد قبل أن يفترِقا: «هل حالفك أيُّ نجاح في مساعيك، أيها الشاب؟»
فأجاب بليك: «قليل للغاية!»
فصاح تشيلفورد: «هذه أشدُّ القضايا التي سمعتُ بها غموضًا!» وأضاف: «ليس فيها ولو بصيص من نور!»
تركه بليك عند مُفترق الطرق، وانعطف إلى نزل سيبتر. ثم تذكَّر كرولي، وشعر برغبةٍ في محادثة ودية قبل الخلود إلى النوم؛ فتفقَّد حجرة الحانة، وسأل عنه. فهزَّ جريمسدِل رأسه بينما كان يقرأ صحيفة خلف نضد الحانة.
وأجاب قائلًا: «لم يَعُد قَط يا سيد بليك. طلب أن يكون عشاؤه جاهزًا في الساعة السابعة، لكنه لم يأتِ ليتناوله. لم أرَه منذ أن خرج بعد الفطور مباشرة، أظنه قد غيَّر رأيه وذهب إلى مكانٍ آخر. لكن ذلك غير مُهم إطلاقًا؛ لأنه دفع فاتورته!»