تحت الضغط
وُورِي جثمانا السير أنطوني ماركنمور وابنه الأكبر الثَّرى حسبَ الأصول المُتبعة في مقبرة الأسرة بباحة كنيسة ماركنمور في ظُهر اليوم التالي، بحضور حشدٍ من أناسٍ توافدوا إلى القرية القديمة من كل أنحاء الريف المُحيط بها. فقد اجتمع حشدٌ من شتَّى الأطياف والمستويات الاجتماعية في الكنيسة نفسها وتحت أشجار الدردار والطقسوس العتيقة التي كانت تُشكِّل سياجًا شجريًّا حول جدرانها الرمادية، وحين انتهت آخر المراسم، انقسموا إلى جماعات، وراحوا يناقشون آخرَ المُستجدات المتعلقة بمصير آل ماركنمور. فبحلول ذاك الوقت، كان كلُّ مَن في المنطقة يعرف أنَّ جاي ماركنمور قد خلَّف وراءه ابنًا، وأنَّ هذا الابن قد ورِث اللقب والأملاك؛ لذا سارع العديد من المُتفرجين إلى باحة الكنيسة على أملِ رؤية البارونيت الجديد. لكنَّهم لم يرَوا سوى هاري ماركنمور واثنين أو ثلاثة من أقربائه، فيما لم تحضر أيٌّ من نساء العائلة، ولم يكن يُوجَد شيء لافت أو مُثير، وأُسدل الستار على هذا الفصل من الحدث الحزين في سكونٍ وهدوء، وحين رأى الحاضرون جاي ماركنمور للمرة الأخيرة موضوعًا بجوار جثمان أبيه، وبالقُرب من أسلافه الكثيرين الراحِلين، لجئوا إلى السؤال المُتكرر مرارًا: مَن كان المسئول عن نهايته المأساوية؟
لم يرَ بليك أيَّ شيءٍ من هذه المراسم الجنائزية. فلم يكن مُكترثًا بالمتوفَّى. كان شغله الشاغل هو أن يضع يدَيه على شخصٍ حي، قاتل جاي ماركنمور. كان ذلك الشخص في مكانٍ ما، ربما بعيد آنذاك، وربما أقرب إلى مُتناوله مما كان يعرف. كانت مطاردة صعبة، والطريد كان مُختفيًا تمامًا عن ناظريه والخيوط المؤدية إليه كانت ضئيلة وواهية، لكن بليك كان يبحث بحثًا دءوبًا في كل مكان، على أمل أن ينجح بالمثابرة، وبمساعدة القليل من الحظ، في اقتفاء أثره حتى يجده. وكان من المؤكد أنَّ المعلومة الجديدة الغريبة التي عرفها يوم أمس والمسدس الآلي الذي عثر عليه، بمصادفة من حُسن حظه، سيُساعدانه في بحثه. وبكمٍّ هائل من الأفكار والتكهنات بشأن مسدس آلي، فيما كان يحمل واحدًا آخر، انطلق مُتجهًا إلى سيلكاستر حالَما أنهى فطوره المبكر، وبحلول الساعة العاشرة، كان في اجتماع ثنائي سري مع قائد الشرطة. روى له بالتفصيل كل المُستجدات التي حصل عليها منذ صباح اليوم السابق.
أنصت قائد الشرطة إلى كلامه وراودته التساؤلات. وشأنه شأن بليك، ركَّزت أفكاره على هذا السؤال: هل كان لهذه المعلومات التي كُشِفت عن زواج جاي ماركنمور السري قبل سبع سنوات أيُّ علاقة بمقتله؟ ناقش احتمالية ذلك وأرجحيته بعض الوقت، لكنه انتقل فجأةً إلى موضوعٍ أكثر صِلةً بالقضية.
إذ قال: «ولكن كل هذه مجرد تكهنات، مع أنها، كما تقول، ربما تحمِل قدرًا كبيرًا من المنطق. لكنَّ العثور على هذا المسدس الآلي، بالقُرب من مكان الجريمة، مسألةٌ مختلفة تمامًا. الآن، كيف وصل بحق السماء إلى داخل هذا الجُحر، أو الحفرة، أو أيًّا ما كانت؟»
قال بليك: «بل تقصِدُ كيف وصل إلى هناك إلَّا إذا كان قد وُضِع عمدًا!» وأردف قائلًا: «بالطبع رماه هناك شخصٌ أراد التخلُّص منه! فكيف كان من المُمكن أن يصِل إلى هناك بغير هذه الطريقة؟ لنفترِض أنَّ هذا الشخص كان القاتل الفعلي. لقد غادر مسرح جريمته، وعبر جانب التل من أمام وودلاند كوتيدج …»
فاقترح قائد الشرطة قائلًا وهو يلقي نظرةً على خريطة كبيرة معلقة على الحائط بجوار مكتبه: «الأرجح أنه اتبع درب الأيكات الواقع خلفه. فهذا الطريق من شأنه أن يُخفيه عن الأنظار.»
وافقه بليك قائلًا: «حسنًا، عبر هذا الطريق إذن. على أي حال، وصل إلى الممر العميق. وبعدما نزل إلى هناك، قرَّر التخلُّص من سلاحه. يُوجَد كمٌّ هائل من الحفر في الحدَّين الجانبيَّين المرتفعَين هناك، خلف الحدَّين والشجيرات السفلية عند سفح الأسيجة الشجرية العالية. فأزاح الشجيرات جانبًا، ورمى سلاحه في واحدة من أعمق الحفر. وكان من الممكن أن يظلَّ قابعًا هناك زمنًا طويلًا، لولا كلب فرانسيمري.»
فقال قائد الشرطة: «حسنًا، لقد وجدتَه، على أي حال، والشيء التالي الذي ينبغي فعله هو معرفة هوية صاحبه. مهمة شاقة، ولكن يُمكن إنجازها.» وأمسك المسدس الآلي الذي كان بليك قد وضعه أمامه، ونظر إليه نظراتٍ تخمينية. وقال: «يبدو جديدًا تمامًا. أتساءل عمَّا إذا كان قد اشتُرِيَ من أي شخصٍ قريب من هنا؟»
أجاب بليك: «سأتحرَّى عن ذلك فورًا. أظنُّ من الممكن شراء مثل هذه الأشياء من سيلكاستر؟»
ردَّ قائد الشرطة قائلًا: «يُمكن شراء بنادق ومسدسات رياضية بكثرة. وأشياء من هذا القبيل بلا شك. فيُوجَد في المدينة اثنان أو ثلاثة من صنَّاع الأسلحة، ويُوجَد فيها بالطبع تُجار أدوات حديدية وتُجار معدات يبيعون أسلحة نارية.» والتقط مُجلدًا صغيرًا من بين كومة كتب مرجعية مرصوصة على مكتبه. وأوضح قائلًا: «هذا دليل محلي. ستجد أسماء وعناوين هنا.»
أنشأ بليك قائمةً بعدَّة أسماء، وانطلق في رحلةٍ استكشافية. زار نصف دزينة من التجار، الذين حالما عرفوا هويته ومِهنته، وجعلهم يتعهَّدون بالتزام السرية التامة، كانوا على أتمِّ استعداد للحديث على نحوٍ مُنفرد مع مُحقق لندني شهير. لكنهم لم يستطيعوا منحه أيَّ معلومات؛ إذ لم يكن أحد منهم قد رأى المُسدس الآلي من قبل. وهكذا لم ينَل بليك أيَّ مساعدة أو أي دلالة على أنه قد يحصل عليها حتى الزيارة الأخيرة. ومع ذلك، ففي هذه الزيارة، كان صاحب المتجر مُتشككًا بعض الشيء في أنه قد رأى هذا المسدس بالذات من قبل، في وقتٍ ما.
إذ قال: «أظن أننا ربما نكون قد بِعنا هذا المسدس لكني لستُ مُتيقنًا. ولكنْ لدي اقتراح؛ فلتأتِ إلى هنا في حوالي الساعة السادسة من مساء اليوم، أو في أيِّ وقتٍ بين السادسة والسابعة. وسأخبرك بالسبب: لديَّ متجر فرعي في تشيلهامبتون، ومديري موجود هناك اليوم، ولن يعود قبل وقتٍ مُتأخر من العصر. إذا كنا قد بِعنا هذا المسدس — كما أظن — فسيكون على دراية تامة بذلك، وبهوية المشتري؛ فهو أدرى مني بهذا القِسم. تعالَ مُجددًا في حوالي الساعة السادسة، وإن لم أكن موجودًا حينئذٍ، اسأل عن السيد ووترز، وأخبِره بما أخبرتني به. تستطيع الوثوق به.»
شكرَه بليك وغادر. كان يُوجَد في هذه الأثناء شرطي واقف على الجانب المقابل من الشارع يُحدق حوله، فوقعت عيناه على بليك وعبر الشارع مُتجهًا نحوه.
قال حين وصل إليه: «لقد أرسلني القائد بحثًا عنك يا سيد بليك. إنه يسألك، هل تستطيع العودةَ إلى مكتبه؟ يُوجَد هناك شاب يطلُب لقاءك. قال إنَّ الأمر يتعلق بقضية ماركنمور هذه.»
هُرع بليك عائدًا إلى مركز الشرطة، وإلى غرفة قائد الشرطة. كان الشاب الذي تحدَّث عنه الشرطي جالسًا على كرسيٍّ بجوار المدفأة وهو يراقب قائد الشرطة، الذي كان يقرأ بعض الوثائق ويوقِّع عليها. رأى بليك أنَّ مظهره كان يُوحي بأنه شاب وديع ودمث جدًّا، وكان واضحًا أنه ذكي بعض الشيء. كان له جبهة عالية عريضة جدًّا، وشعر كثيف أشعث طويل مُصفَّف منها إلى الوراء، وعينان كبيرتان لامعتان بعض الشيء، وفم عريض مرسوم بدقة، ومظهر سريع التوتُّر في العموم. لمحَتْ عينا بليك الحادَّتان كل هذا في نظرةٍ خاطفة، ولاحظ أيضًا أنَّ معطف الشاب الأسود كان مُلطخًا بشدة من الأمام، كما لو كانت لديه تلك العادة السيئة المُتمثلة في سكب الأشياء عليه، وأنَّ أصابعه الطويلة ذات الشكل الرشيق الانسيابي أيضًا كانت مُلطخة؛ بل كانت يداه من المعصمين إلى الأنامل مُشوَّهتين ببقع غريبة خضراء وبنفسجية وقرمزية. ارتأى المُحقق أنه شاب غريب الشكل، لكنه ليس شابًّا عاديًّا.
وقَّع قائد الشرطة على ورقة كبيرة زرقاء، ودفعها بعيدًا عنه، ثم وضع القلم من يده واستدار بسرعة في كرسيه. ولوَّح بإحدى يديه نحو الشخص الجالس بجوار المدفأة.
قال ناظرًا إلى بليك: «لقد أتى هذا الشاب ليقول إنه قرأ عن قضية ماركنمور في الصحف، وإنه يظن أنه يستطيع أن يُدلي ببعض المعلومات عنها. انتظرتُ مَجيئك قبل أن أسمع ما سيقوله.» ثم أضاف مُومئًا برأسه إلى الزائر: «الآن، تستطيع البدء!» وأردف قائلًا: «هذا المُحقِّق الرقيب تشارلز بليك من قسم التحقيقات الجنائية، وهو مَن يتولى هذه القضية. تستطيع أن تُخبرني وإياه بكلِّ ما تشاء في سرية وخصوصية. ولكن أولًا وقبل أيِّ شيء، هلَّا تُعرِّفنا بنفسك؟!»
نظر الزائر إلى كليهما بالتناوب، وتحدَّث بنبرةٍ هادئة رزينة.
أجاب قائلًا: «اسمي سبيندلر، يوستاس سبيندلر، أعمل مساعدًا في شركة «موور آند سميث» للصيدلة وتجارة الأدوية، في مدينة فارشام.»
قال قائد الشرطة: «أعرفها؛ شركة ممتازة من صفوة الشركات. وعريقة.» ثم التفت إلى بليك، الذي كان جالسًا بالقُرب منه، وهمس له بملاحظة جانبية قائلًا: «هذا هو الرجل الذي حدَّثنا لانسبري عنه. الرجل الذي كان لديه سرٌّ تجاري يريد بيعه.» ثم التفت مُجددًا إلى الزائر. وتابع قائلًا: «حسنًا يا سيد سبيندلر، سأسعد بسماع أيِّ شيء تستطيع قوله.»
سأله سبيندلر قائلًا: «سيكون هذا في سِريةٍ تامة بالطبع.» وأضاف: «فيما بيننا فقط، في الوقت الحالي، على أيِّ حال.»
فقال قائد الشرطة مُصدقًا على كلماته: «كما قُلتَها بالضبط. حاليًّا، على أي حال.»
فتابع سبيندلر الحديث بإيماءة موافقة: «حسنًا، ما أردتُ إخباركما به كان، وما زال، هو الآتي؛ ويُمكنني القول إنني جئتُ إلى هنا لأريح نفسي بقدْر ما جئتُ لأُدلي بمعلومات. إنني، كما قلت، صيدلي مساعد، مساعد مُؤهَّل؛ أي إنني اجتزتُ جميع امتحاناتي بنجاح. على مدار آخر عام أو اثنين، كنتُ أُمضي وقت فراغي في إجراء تجارب لتحضير أصباغ مُخلَّقة صناعيًّا. أظن أنكما أيها السيدان تُدرِكان أنَّ صبَّاغِينا في هذا البلد يعتمدون حتى الآن اعتمادًا شبه تامٍّ على ألمانيا في الحصول على احتياجاتهم من أصباغ الأنيلين …»
فقال قائد الشرطة بجدية: «أجل!» واستطرد قائلًا: «من المعروف تمامًا يا سيد سبيندلر أنَّنا مُتخلفون تخلفًا مُخزيًا في هذا المجال، على ما أعتقد!»
قال سبيندلر مصدقًا على ذلك: «بالضبط، نحن كذلك. حسنًا، لأوضح المسألة باختصار، لقد اكتشفتُ سرًّا مُعينًا متعلقًا بتحضير صبغة مُخلَّقة قيِّمة؛ سرًّا مُهمًّا للغاية. وحين صرتُ مُتقنًا له تمامًا، أردت بطبيعة الحال جني بعض الأموال منه. لذا نشرتُ إعلانًا في صحيفة «ذا تايمز» أوضحتُ فيه ما أريد بيعه. ردَّ السيد جاي ماركنمور على إعلاني. وبناء على رسالته، ذهبت لألقاه في مكتبه في فولجريف كورت بلندن، بالقُرب من شارع كورنهيل. أخبرته بكل شيء عن اكتشافي، وسألني عن الثمن الذي أردتُهُ مقابل سرِّي. أنا رجل فقير، ولكنْ لدي أفكار جيدة، وأريد أن أحقق أشياء مُعيَّنة، أحدها أن أشتري شركة صيدلي مُصنِّع أستطيع الحصول عليها بسعرٍ معقول جدًّا؛ صحيح أنها ما زالت شركة صغيرة غير متطورة، لكنها تستطيع تحت إشرافي تحقيق تطورات هائلة. فكرتُ في الأمر مليًّا، وأخبرت السيد ماركنمور بأنني أريد ثلاثة آلاف جنيه نقدًا. ثم سألني عمَّا إذا كنتُ أستطيع ائتمانه على أوراقي — التي تحمل وصفةَ سرِّي الكيميائية، كما تعلمان — كي يتسنَّى له عرضها على خبير. فوافقتُ بشرط، أن يكون الخبير شخصًا أستطيع الوثوق به. ووقع الاختيار على البروفيسور السير توماس هودجز-ويلكينز، الأستاذ بجامعة كامبريدج، والكيميائي الشهير. بعدها أعطيتُ السيد ماركنمور الأوراق. وبعد ذلك بأسبوع، بعث إليَّ برسالة يقول فيها إنه سيشتري بالسعر الذي حددتُه إذا استطاع أن يُقنع ممولَين اثنين آخرَين بمشاركته في هذا المشروع. فرددتُ عليه برسالة وطلبتُ منه أن يعطيني المال نقدًا، إذا قرَّر الشراء. طلبتُ ذلك؛ لأنني كنتُ أنوي أن أدفع ثمن الشركة التي أشرتُ إليها نقدًا، وأردتُ ألَّا يعرفَ أيُّ أحدٍ كمَّ ما أملكه من المال، لا مصرفيون ولا أي أحد، كما تفهمان. ردَّ بالموافقة، وقال إنه سيزورني في فارشام، في غضون بضعة أيام على الأرجح، ويُسلمني النقود.» اختتم سبيندلر كلامه وهو يمد يديه النحيفتَين قائلًا: «وبعدئذٍ، لم أسمع أي شيء حتى قرأتُ خبر هذه الجريمة! وما أريد معرفته هو: أين أوراقي؛ سِرِّي القيِّم؟»
تمتم قائد الشرطة بملاحظةٍ جانبية لبليك، قائلًا: «وجنيهاتك الثلاثة آلاف!» ثم قال بصوت واضح: «حسنًا يا سيد سبيندلر، يُمكنني أن أؤكد لك أننا لم نعثُر على أوراق علمية كتلك التي تحدثت عنها في جثة السيد جاي ماركنمور؛ لدَينا كلُّ ما عُثر عليه. ولكن هلا تُخبرني بشيء عن تركيبتك هذه؟ لنفترِض أنها وقعت في يدِ شخصٍ يعرف ماهيتها، أقصد يعرف فحواها، هل ستكون نافعة؟»
صاح سبيندلر بصوتٍ عالٍ قائلًا: «نافعة؟» وأضاف: «أعتقد ذلك! عجبًا، بالطبع، إنها تصف بالضبط كيفية تصنيع هذه الصبغة تحديدًا!»
سأله قائد الشرطة قائلًا: «إذن، سوف تستحق من أيِّ شخصٍ أن يتكبَّد عناء سرقتها؟»
فصاح سبيندلر: «تستحق؟» واستطرد قائلًا: «يا إلهي! ألم أُخبرك بأنَّ ماركنمور كان سيعطيني ثلاثة آلاف جنيه مقابل الحصول عليها؟»
«مقابل الأوراق فقط؟»
«السر مكتوب على الورقة — ورقة — مجرد ورقة رسائل عادية! كان معها بعض الأوراق الأخرى بالطبع، مذكرات. ولكن إذا وقعت الورقة في يدَي … في يدَي أيِّ شخص، فسيكون سرِّي قد ضاع بالطبع! هل أنت مُتيقن من أنها لم تكن بحوزة جثة ماركنمور؟ مجرد ورقة! تبدو كوصفة طبية.»
وحينئذٍ أدركا لماذا أتى السيد يوستاس سبيندلر. ليس ليُدلي بمعلومات، بل ليعرف مُستجدات. ولم يكن لديهما أيُّ مُستجدات يستطيعان إبلاغه بها.
قال بليك: «لم تكن تُوجَد أوراق كهذه بحوزة ماركنمور. لكن ربما تكون موجودة في مكتبه بلندن، أو في مسكنه الخاص. سنفعل ما نستطيع فعله من أجلك يا سيد سبيندلر، وفي أقربِ وقتٍ ممكن.»
ولكن حين غادر سبيندلر، مهمومًا بشدة ومُستاء، التفت بليك إلى قائد الشرطة وهزَّ رأسه.
وقال: «نعرف ممَّا قاله لنا لانسبري أنَّ تلك الأوراق التي تحدَّث عنها هذا الشاب كانت بحوزة ماركنمور في تلك الليلة في نزل سيبتر!» وأضاف: «من المؤكد أنها كانت بحوزته؛ لأن نقاشهم آنذاك كان عنها وعن السِّر والسعر. أغلب الظن أنَّه كان يحمل بحوزته التركيبة الكيميائية ورأي هذا البروفيسور، الذي لا أتذكر اسمه، بشأنها. في هذه الحالة، فمن المؤكد أنَّ الأوراق كانت بحوزته حين غادر نزل سيبتر؛ وضعها كلَّها معًا مع الأوراق النقدية التي تبلغ قيمتها ثلاثة آلاف جنيه. وأخذها قاتله، أيًّا مَن كان، مع الأوراق النقدية!»
قال قائد الشرطة: «يُوجَد احتمالٌ آخر. لا شك أنَّ الأوراق النقدية كانت بحوزته. لكنه ربما سلَّم التركيبة الكيميائية ورأي الخبير إلى أحد شريكَيه.»
فقال بليك: «ليس إلى لانسبري. كان سيُخبرنا بذلك.»
قال قائد الشرطة بنبرةٍ ذاتِ مغزًى: «كان معهما رجل ثالث. فون إيكهاردشتاين.»
ذرع بليك الغرفة جَيئةً وذهابًا مرتَين أو ثلاثًا، منهمكًا في التفكير.
ثم صاح فجأة: «ليتنا استطعنا اتخاذ إجراءات أكثرَ بشأن ذلك!» وأضاف: «لقد اختفى هذا الرجل، ولم نفعل أيَّ شيءٍ لتَعقبِه والعثور عليه. ففي النهاية، كيف لنا أن نتيقن من أنه، وإن كان رجلًا ثريًّا حقًّا كما هو معروف عنه، لم يطلق الرصاص على جاي ماركنمور ولم يسرق المال والوصفة الكيميائية لأغراض شخصية؟»
وافقه قائد الشرطة قائلًا: «مُحتمَل!» واستطرد قائلًا: «ولكن بخصوص تعقُّبه، فقد فعلنا كلَّ ما يسعنا فعله هنا، وتأكَّدنا من أنه لم يظهر في أيٍّ من الأماكن التي عادة ما يتردَّد عليها في لندن، أو حي المال. ولكنه اختفى تمامًا بلا أي أثر! وفجأة أيضًا! السؤال الآن: لماذا؟»
أخذ بليك يجوب الغرفةَ جَيئةً وذهابًا مرةً أخرى، مُنهمكًا في التفكير بإمعانٍ أشدَّ.
ثم قال فجأة: «أتساءل عمَّا إذا كانت السيدة تريزيرو تعرف أكثرَ ممَّا أخبرتنا به!» وأردف: «لدي قناعة — أو شيء أشبه بتخمينٍ حدسي — بأنَّها تُخفي شيئًا.»
ردَّ قائد الشرطة قائلًا: «يُراوِدني ظنٌّ كهذا طوال الوقت. أنا شخصيًّا لا أُصدِّقها إطلاقًا!»
فقال بليك بعد مزيدٍ من التفكير: «حسنًا، نستطيع فعلَ شيءٍ ما.»
«ما هو؟»
أجاب بليك: «نذهب إلى هناك، كِلانا، عصر اليوم. ونضعها تحت الضغط! نخدعها! نجعلها تتوهَّم أننا نعرف شيئًا ما. تعالَ معي، واترك لي مهمة الحديث معها. سأنتزِع منها معلومةً ما.»
وافقه قائد الشرطة قائلًا: «مُمتاز، لنذهب بعد الغداء!» وأضاف: «هذه فرصة!»
كانت السيدة تريزيرو وحدَها في مخدعها في وقتٍ متأخرٍ من عصر ذاك اليوم، ولم تتفاجأ أو تتضايق حين أبلغتها وصيفتها دافي هاليويل بمجيء قائد الشرطة والسيد بليك. فمن المُرجَّح أنَّ قائد الشرطة كان زائرًا مُستساغًا جدًّا بصفته ضابطًا عسكريًّا سابقًا من ذوي الرُّتب، فيما كان بليك شابًّا وسيمًا وشخصيةً مُثيرةً للاهتمام. رحَّبت بكليهما مُبديةً بعض السرور.
قالت وهي توجههما بإشارةٍ منها إلى كرسيَّين قريبَين من كرسيها: «أرجو أن تكونا قد أحضرتما لي خبرًا ما عن البارون فون إيكهاردشتاين. من المُفجع تمامًا حقًّا أنني لم أسمع أيَّ خبر عنه حتى الآن، مع أنني مُتيقنة من أنني فعلتُ كلَّ ما بوسعي للعثور عليه في هذه المنطقة؛ إذ أرسلتُ فِرَق بحث منظمة وما إلى ذلك. هل أبلغك شرطيُّوك بأيِّ معلومات؟»
فأجاب بليك قائلًا: «الكثير يا سيدة تريزيرو!»
انتفضت السيدة تريزيرو ورمقَتِ المُحقِّق بنظرةٍ حادة. فلم تكن هذه هي النبرة التي كان يُحادثها بها في زيارته السابقة؛ إذ كان صوته في هذه المرة رسميًّا وحازمًا وشبه مُتوعِّد؛ كان يتحدَّث كرجلٍ ذي سطوة على مَن يُخاطبه. وبعد نظرتها الحادة إليه، اعتلاها قليل من الشحوب؛ كانت مُدركةً آنذاك أنَّ العيون الذكورية الأربعة تُحدِّق إليها، ليس إعجابًا، بل بشيءٍ أشبهَ بتدقيق صارم.
قالت مُتلعثمة: «ماذا … ماذا تقصد؟» وأضافت: «ما هو … ما الذي حدث؟»
فأجاب بليك: «ما حدث هو الآتي يا سيدة تريزيرو. نحن الآن نعرف ما هو أكثر بكثيرٍ ممَّا يبدو أنكِ تظُنِّينا نعرفه عمَّا فعله فون إيكهاردشتاين مُؤخرًا. لقد كان فون إيكهاردشتاين ثالث الرجال الثلاثة الذين التقوا في نزل سيبتر في ليل الإثنين الماضي؛ أوه، لا جدوى من اعتراضك يا سيدة تريزيرو! لقد كان كذلك بالفعل! كان هو مَن ذهب إلى هناك في الثانية صباحًا، و — لتضعي هذا في حسبانك! — كان آخرَ رجل شُوهِد معه جاي ماركنمور حيًّا!»
أطلقت السيدة تريزيرو صيحةً خافتة، وكان واضحًا أنها صيحةُ ذهول حقيقي.
صاحت قائلة: «لا، لا!» وأردفت: «لا أستطيع أن أُصدِّق …»
فقال بليك مُتصنعًا اللامبالاة بكل إتقان: «ما تُصدقينه ليس مُهمًّا إطلاقًا. فنحن مُتيقنون من ذلك! والآن يا سيدة تريزيرو، كل قلقك المُصطنع هذا بشأن اختفاء فون إيكهاردشتاين إثر تعرُّضه لحادثٍ ما مَحضُ تظاهر زائف! أؤكد لكِ أننا على دراية ببعض الأشياء. أصغي إليَّ، أنتِ لم تكوني صريحةً معنا حتى الآن، وتُعرِّضين نفسكِ لخطرٍ داهم. فلتُفصحي عما تُخفينه يا سيدة تريزيرو! تعرفين جيدًا جدًّا أنَّ فون إيكهاردشتاين غادر بيتك في ساعةٍ مُتأخِّرة من الليلة قبل الماضية، عمدًا؟ فأين هو الآن؟»
انتظر الإجابةَ بلهفةٍ أسرَّها في نفسه، وحتى في ذلك الحين كان مُتشككًا في أنَّ السمكة قد لا تبتلع الطُّعم. لكن السيدة تريزيرو تحدَّثت، بنبرةٍ خافتة، بعدما نظرت نظرةً شبه مذعورة إلى وجه قائد الشرطة العابس.
«في باريس، على ما أعتقد!»
سألها بليك: «كيف رحل من هنا؟»
«انتظر حتى خيَّم السكون التام، ثم مشى إلى كارفانت، واستقلَّ سيارةً سارت به عبر الطريق الساحلي إلى نيوهافن، ليستقلَّ القارب المُتجه إلى دييب في الصباح الباكر.»
«ولماذا رحل هكذا؟»
أجابت السيدة تريزيرو بصوتٍ خفيض جدًّا، قائلة: «قال إنه سيفعل ذلك لأنه أراد ألَّا يُورَّط في التفاصيل الدنيئة لجريمة قتلٍ فظة، وإنه سيُسافر إلى أوروبا ريثما تقبضون على المجرم الحقيقي وتُحسَم المسألة.»
قام بليك من كرسيه، وأشار في صمتٍ إلى رفيقه كي يتبعه. وقامت السيدة تريزيرو أيضًا، شاحبة ومُرتجفة.
همست قائلة: «أنت … أنت لا تظن أنه قتل جاي؟» وأضافت: «بالتأكيد لا تقصد هذا؟»
أجاب بليك قائلًا: «في الوقت الحالي لا نقصد أيَّ شيء.» وانصرف. ولكن حالما خرج من بيت الأرملة، التفت إلى قائد الشرطة.
قال له هامسًا: «أتت بمفعولٍ سحري!» وأضاف: «حسنًا، ما الخطوة التالية؟»
ثم تذكَّر صانع الأسلحة في سيلكاستر، وعاد مُسرعًا إلى هناك في عربة قائد الشرطة الصغيرة الخفيفة.
قابله صانع الأسلحة بينما كان يدلف إليه عند باب متجره، وتنحَّى به جانبًا.
قال له هامسًا: «أحطتُ بما تريد معرفته عن ذاك المسدس الآلي. نحن مَن بِعناه! منذ حوالي ثلاثة أشهر. بعناه للسيد هاري ماركنمور، من بيت ماركنمور كورت. أتريد أن ترى قيدَه في دفتر الحسابات؟»