أقاويل في القرية
كان قائد الشرطة قد دخل متجر صانع الأسلحة خلف بليك مباشرة، وسمع المعلومة المهموس بها. ولمَّا لم يكن مُعتادًا التحفظَ في كلامه والحفاظ على جمود تعبيراته مثل بليك، تفوَّه بكلمةِ ذهولٍ كبحها بالكاد. لكن بليك لم يقُل شيئًا، واكتفى بإبداء إيماءة موافقة على اقتراح صانع الأسلحة، فذهب الثلاثة معًا إلى الجزء الخلفي من المتجر، حيث كان شابٌّ أنيق المظهر مُنشغلًا بدفاتر الحسابات.
قال صانع الأسلحة مُعرِّفًا مدير متجره: «مدير المتجر، السيد ووترز. ووترز، هلا تُطلِع هذين السيدين على ذاك القيد المُسجَّل الذي بحثنا عنه ووجدناه منذ بعض الوقت.»
أخرج ووترز دفترًا للحسابات اليومية، وقلَّب في صفحاته، ومرَّر أصابعه على الأسطر، وأشار بصمتٍ إلى قيدٍ مُسجَّل في الدفتر وبعض الأرقام. فنظر إليها بليك نظرةً سريعة.
ثم التفت إلى المدير وسأله: «هل تتذكَّر أنك بِعتَ مُسدسًا آليًّا من طراز ويبلي-فوسبيري إلى السيد هاري ماركنمور؟» وأضاف: «أقصد، هل بِعتَه بنفسك؟»
أكَّد ووترز ذلك قائلًا: «بِعتُه. أتذكَّر ذلك جيدًا جدًّا. أراد مُسدسًا، فرشَّحتُ له ذلك المسدس.»
سأله بليك: «هل تستطيع أن تتعرَّف على ذاك المُسدس إذا رأيتَهُ مجددًا؟»
أشار ووترز إلى بعض الأرقام والحروف في القيد.
وقال: «هذا هو الرقم.»
عرض عليه بليك السلاح الذي كان قد التقطه من تحت قدَمَي كلب الإيرديل المُنشغلتَين بالحفر.
وسأله: «أهذا هو؟»
قَلَب ووترز المُسدس الآلي في يده، وتفحَّص الأرقام والحروف المدموغة على الحلية المعدنية.
وأجاب قائلًا: «هذا هو!» وأردف: «أوه، أجل، ولكن كان ينبغي أن أعرفه مُجددًا دون الحاجة إلى ذلك.»
قال بليك: «ألا يُوجَد شكٌّ في ذلك؟» وأضاف: «ولا احتمال لوجود أيِّ خطأ؟ هل أنت مُتيقِّن من أنَّ هذا هو المسدس الذي بِعْتَه، في ذاك التاريخ، إلى السيد هاري ماركنمور؟»
فأجاب ووترز بثقة: «ليس لديَّ أدنى شك. ومُستعد للقَسَم على ذلك!»
أعاد بليك المُسدَّس الآلي إلى جيبه، وأشاح بوجهه بعيدًا.
وقال: «آمُلُ ألَّا يكون ذلك ضروريًّا يا سيد ووترز. ومع ذلك …» وهنا نظر إلى صانع الأسلحة — الذي كان هو وقائد الشرطة واقفَين بجوارهما يشاهدان ويستمعان — «احفظا كلَّ ذلك طيَّ الكتمان في الوقت الحالي، ولا تُخبرا به أيَّ أحد. ربما يجِب أن أخبركما، بيني وبينكما، بأنني وجدتُ هذا المُسدَّس واقعًا في مكانٍ ما، على نحوٍ بريء تمامًا، وربما يكون صاحبه قد فقده. لذا، في الوقت الراهن، التزِما الصمتَ التام!»
أومأ صانع الأسلحة ومديره إيماءةً مُتفهِّمة، وخرج بليك وقائد الشرطة إلى الشارع، ومشَيا مسافةً قصيرة صامتَين.
همس بليك أخيرًا، قائلًا: «ها هي عقدة أخرى!» وأضاف: «وأظن أنَّه من الممكن أن يكون هاري ماركنمور قد أردى أخاه قتيلًا بالرصاص وتخلَّص من هذا الشيء في الممرِّ العميق! مُحتمل! لكني أرى أنَّ ذلك مُستبعَد تمامًا! ومع ذلك، سأتأكَّد من هذا قريبًا.»
سأله قائد الشرطة: «كيف؟»
فأجاب بليك قائلًا: «وفقًا لشهادة الطبيب، قُتِل جاي ماركنمور بالرصاص في منخفَض ماركنمور هولو في حوالي الساعة الرابعة صباحًا. وكان هذا هو الوقت نفسه تقريبًا الذي تُوفِّي فيه السير أنطوني ماركنمور في قصر ماركنمور كورت، وأتصوَّر أنَّ ابنه الأصغر كان بجوار فراشه آنذاك. لا يمكن أنَّ يكون هاري ماركنمور موجودًا في مكانَين في آنٍ واحد. ولكن، كيف وصل هذا المسدس الآلي إلى داخل جُحر الغرير ذاك؟ يجب معرفة إجابة هذا السؤال، بطريقةٍ أو بأخرى! لأنه بلا شك قد رُمِيَ هناك بأيدي شخصٍ أراد التخلُّص منه.»
وفجأة، وضع قائد الشرطة إحدى يدَيه على ذراع المُحقِّق، وأشار بيده الأخرى عبر الجانب الآخر من الشارع.
صاح قائلًا: «ها هو بالضبط الرجل الذي سيكون على درايةٍ بما كان هاري ماركنمور يفعله، ومكان وجوده بالضبط ليلة وفاة أبيه!» وأضاف: «لنعبُر الشارع!»
نظر بليك إلى الاتجاه المُشار إليه، ورأى براكسفيلد. كان كبير الخَدَم المُسن، الذي بدا جادًّا جدًّا وشديد الاهتمام بالتفاصيل في ثياب الحِداد التي كان يرتديها، خارجًا للتوِّ من متجر صيدلي، حاملًا في يدَيه صُررًا صغيرةً متنوعة. رفع عينَيه مُجفلًا حين دنا منه قائد الشرطة وبادره بالكلام.
قال قائد الشرطة بنبرةٍ ودية: «طاب مساؤك يا براكسفيلد. كيف حالك في هذه الأوقات العصيبة؟»
هزَّ براكسفيلد رأسه.
وأجاب قائلًا: «إنها عصيبة حقًّا يا سيدي!» وأضاف: «لقد شعرتُ في هذا الأسبوع يا سيدي كما لو أنَّ الدنيا انقلبت رأسًا على عقب؛ دُنياي أنا بالأحرى! لم أشهد أوقاتًا كهذه قَطُّ يا سيدي، ولم أتوقَّع أن أشهدها!»
فقال قائد الشرطة بتعاطُف: «من المؤكد أنك عانيتَ متاعبَ كثيرةً في ماركنمور يا براكسفيلد. لا شك أنها فترةُ اضطرابٍ وقلق شديدَين على كلِّ مَن كان يعيش حياةً هادئة قبل ذلك، مثلك حسبما أظن.»
هزَّ براكسفيلد رأسه، وبدا في حالةِ حِداد كثيابه.
ردَّ قائلًا: «لا تؤلِمني المتاعِب يا سيدي ولا الهموم، وإن كانت سيئةً جدًّا، بقدْر تألُّمي من المفاجآت المُتوالية!» واستطرد قائلًا: «إنها تقع واحدةً تلو الأخرى، حتى صار رأسي المسكين يتألَّم بشدة تحت وطأتها! مجيء السيد جاي، ثم وفاة أبيه، ثم تلك الجريمة الشنعاء، ثم سماع أنَّ ربيبتي مُتزوجة سرًّا من السير هاري، حسبما كنَّا نظنه حال وراثته اللقب، ثم إحضار هذا الصبي الصغير وتقديمه بوصفه الوريثَ الحقيقي، وكل الأحداث الأخرى؛ عجبًا يا سيدي، ويكأنَّ المرء صار لا يدري ما يُمكن توقع حدوثه تاليًا!»
قال قائد الشرطة: «آه، حسنًا، سيرتاح بالك ويزول ألمُك بمرور الوقت يا براكسفيلد. من المؤكد أنَّ الصبي الصغير كان مُفاجأةً صاعقة. كيف استقبل السيد هاري هذا التغيُّر المفاجئ في مصيره؟»
أجاب براكسفيلد قائلًا: «استقبل السيد هاري والآنسة فالنسيا الأمرَ بأفضلِ طريقةٍ مُمكنة. لقد حظي السيد الصغير — السير جاي بالطبع — بأدفأ تَرحاب؛ إذ اعتنى به عمُّه وعمَّته كما لو كانا يعرفانه منذ أن كان في المهد صبيًّا. فهذا الشعور العائلي يا سيدي قوي في مِثل بيوتنا!»
سأله قائد الشرطة رامِقًا بليك بنظرةٍ جانبية سريعة تكاد تكون غير ملحوظة: «أفترض أن السيد هاري كان مُغرمًا بأبيه، السير أنطوني؟» وأضاف: «وأعتقد أنه كان مُواظبًا جدًّا على العناية به وخدمته؟»
أجاب براكسفيلد: «كان السيد هاري، يا سيدي، ابنًا بارًّا للغاية بأبيه، لا سيما مع اقتراب أجَل السير أنطوني. كان يُلازِم جوار فراشه طوال الوقت، ولم يكن يتركه قَط، إلا حين كانت الآنسة فالنسيا تحلُّ محله.»
فسأله قائد الشرطة، وقد وصل أخيرًا إلى السؤال الذي أراد بليك معرفةَ إجابته: «أكان معه حين مات؟»
فقال براكسفيلد: «أجل يا سيدي!» واستطرد قائلًا: «كان السيد هاري مع سيدي الراحل طوال تلك الليلة، منذ لحظة رحيل السيد جاي حتى وفاة السير أنطوني في أثناء نوبة نومٍ خفيف. أجل يا سيدي، لم يُقصِّر السيد هاري إطلاقًا في معاملته لأبيه، وكنتُ أتمنَّى يا سيدي أن يكون هو وريث اللقب والأملاك. لكني أعتقد أنَّ القانون يجب أن يأخُذ مجراه يا سيدي، كما تعرف أفضل منِّي بالطبع؛ وبذلك تُصبح ماركنمور كلها واللقب القديم مِلكًا للصبي الصغير! تغيراتٌ غريبة حقًّا يا سيدي، ولكن هلَّا تسمحان لي بالرحيل أيها السيدان؛ فأنا أرى سائسنا ينتظرني في عربتنا الصغيرة، ولا يزال هناك بضعة أشياء أُخرى عليَّ شراؤها.»
رحل كبير الخدَم العجوز مُسرعًا بعد انحناءةٍ مُهذبة، والتفت قائد الشرطة إلى بليك.
وهمس قائلًا: «هذا يدحض أيَّ شكٍّ إزاء احتمالية ارتكاب هاري ماركنمور تلك الجريمة. لقد قضى تلك الليلة بجوار فراش أبيه. لذا من المُستحيل أنَّه كان في مُنخفض ماركنمور هولو آنذاك.»
قال بليك: «لم أظن قَطُّ أنه كان هناك. لكني أظنُّ أنَّ مُسدسه الآلي كان هناك. والآن، سأعود إلى سيبتر لأتناول عشائي الذي أحتاج إليه بشدة، وأفكر قليلًا.»
قال قائد الشرطة: «غدًا يوم الأحد.»
ردَّ بليك قائلًا: «أعرف ذلك. ولأنَّني أعتقد بناء على سببٍ وجيه أنَّ الأحد يوم مُناسب جدًّا للقيل والقال بين أفراد المجتمعات الريفية، أعتزِم سماع ما يقوله أهالي ماركنمور القرويون هؤلاء. أتصوَّر أنهم يقولون الكثير فيما بينهم.»
فسأله قائد الشرطة ضاحكًا: «وكيف ستستطيع سماعهم؟ أنت غريب عنهم!»
أجاب بليك قائلًا: «بسهولة. فكل القيل والقال قي القرية يبدأ أو ينتهي في حانة القرية. أظنني سأسمع أشياءَ لا حصر لها في سيبتر.»
وافقه قائد الشرطة قائلًا: «هذه إحدى طُرق معرفة المعلومات، بالتأكيد. حسنًا، سواء أكان الأحد أم لم يكن كذلك، أبلِغني يا بليك إذا سمعتَ أيَّ شيءٍ وثيق الصلة بالقضية حقًّا.»
وعده بليك بذلك واتَّجه إلى ماركنمور، وفي تلك الليلة، ولغرضٍ مُحدَّد في نفسه، صفَّى ذهنه تمامًا من عمله، وقضى أمسيةً هادئة في قراءة كتب تاريخ القرية المحلي والسجلَّات الإرشادية المحلية التي كان قد اشتراها من سيلكاستر في بداية إقامته في نزل سيبتر. كانت هذه الكتب تحوي قدرًا كبيرًا من المعلومات المُثيرة للاهتمام، وقبل أن يخلُد إلى النوم، صار يعلم الكثير عن حي ماركنمور وآل ماركنمور، الذين كانت شجرة سلالتهم الطويلة والمتشابكة مذكورة بالكامل في أحد المُجلدات. وفي صباح اليوم التالي، بقي في فراشه حتى وقتٍ مُتأخِّر، واسترخى ذهنيًّا وجسديًّا، ولم يفكِّر في مشكلته المِهنية إطلاقًا إلا بعد غدائه الذي تناوله في منتصف النهار. وذُكِّر بها أول مرة في هذا اليوم حين كان يتمشَّى عبر الشارع الهادئ في منتصف عصر يوم الأحد الساكن، وصادف بيني كريبس، خادم الكنيسة، الذي كان جالسًا على دكة حجرية أمام البوابة المسقوفة لباحة الكنيسة يُدخِّن غليونه. لاحت في عين بيني نظرةُ دعوةٍ، فجلس بليك بجواره.
قال له: «ترتاح قليلًا من أعمال يوم الأحد الشاقة، هاه؟» وأضاف: «هذا مكان جميل لتُدخِّن غليونك فيه.»
أجاب بيني: «هذه عادتي. دائمًا ما أُدخِّن غليونًا أو اثنين من التبغ هنا في عصر يوم الأحد، كل سنة، سواءٌ أكان الجوُّ ممطرًا أم معتدلًا. أواظب على ذلك. إذا كان الجو معتدلًا، أفعل ذلك على هذه الدكة الحجرية العتيقة؛ أمَّا إذا كان مُمطرًا، أفعلُه تحت هذه البوابة المسقوفة الموجودة هناك. وأظلُّ أتأمَّل بينما أُدخن.»
سأله بليك: «في ماذا؟»
أجاب خادم الكنيسة قائلًا: «موضوعات مختلفة في أوقاتٍ مختلفة. إذا كنت تريد أن تعرف طبيعة تأمُّلاتي بالضبط هذه المرة، فبوسعي إخبارك بأنَّني كنتُ أُفكِّر فيك حين جئتَ!»
فقال بليك: «فيَّ أنا، هاه؟» وأضاف: «وما الذي يستدعي التفكير فيَّ؟»
فأجاب بيني قائلًا: «كنتُ أُفكِّر في أنك إذا كنتَ تسعى إلى اكتشاف حقيقة هذه الجريمة، فأمامك أخدود طويل يجب أن تشقَّه أولًا!» وأردف: «وتربة صلبة جدًّا يجب أن تحرثها! أعتقد أنك لم تُحرِز تقدُّمًا كبيرًا منذ آخر مرة رأيتُك فيها؟»
اعترف بليك قائلًا: «لا!»
فأخرج خادم الكنيسة غليونه الفخاري الطويل من بين شفتيه، وفرك أنفه بجذع الغليون مُنهمكًا في تفكيرٍ عميق.
ثم قال بعد سكوتٍ لحظي: «حسنًا!» واستطرد قائلًا: «يُعتقَد أنني أحكم مِن أيِّ رجلٍ آخرَ هنا في هذه الأبرشية، وأنا أظن أنَّ أصلَ كُلِّ هذا اللغز امرأة، بكل تأكيد!»
صاح بليك قائلًا: «امرأة؟»
واصل بيني قائلًا: «حسنًا، ربما عدَّة نساء. امرأة واحدة أو نساء عديدات، لا فارق! فالنساء سمٌّ! ما مِن شرٍّ وقع منذ أن خُلِقَت هذه الدنيا القديمة من العدم، كما ذُكِر في الإصحاح الأول من سِفر التكوين، إلا وكانت النساء أصلَه! أؤكد لك يا سيدي أنَّ النساء هُنَّ مَن يُسبِّبن كل الأذى! الرجال حيوانات مُسالِمة، لكن النساء مخلوقات مُربكة ومُثيرة للمتاعِب.»
فسأله بليك: «ماذا ستقول زوجتك إذا سمعتك؟»
ردَّ بيني: «لستُ مُتزوجًا!» وأضاف: «هذا لا يعني أني لم أتزوَّج قط! لقد تزوَّجتُ ثلاث نساء، في فتراتٍ مُختلفة في الماضي، دفنتُهنَّ كلهن، وآخرهن كانت قبل خمس سنوات. قلتُ لنفسي حين واريتُها الثرى إنني لن أتزوَّج مرة أخرى أبدًا؛ قلتُ لنفسي هذا يكفي! لقد كُنَّ بغيضاتٍ مُسنَّات بشِعات، كلهن، وأنا أحظى بحياةٍ أفضل بكثيرٍ وأنا أرمل. إذا لم تكن مُتزوجًا، فلا تُحاول الزواج أبدًا يا عزيزي؛ فلن تستفيد شيئًا!»
فقال بليك: «سأضع نصيحتك في الحسبان. فمن الواضِح أنك جرَّبتها جيدًا. ولكن بالمناسبة، مَن المرأة التي تظنُّها وراء هذه القضية؟»
أجاب بيني قائلًا: «ربما تكون واحدة، وربما تكون أُخرى. لستُ مرتاحًا إطلاقًا في قرارة نفسي إزاء تلك الشابة إيزابيل التي تسكن بيت الأرملة؛ فثمَّة هالة من الغموض الشديد والأحداث الغريبة تُحيط بها إلى حدٍّ لا تستسيغه نفسي. أعرفها منذ أن كانت طفلةً صغيرة جدًّا، وكان عهدي بها دائمًا أنها شخص مُثير للشغب والأذى. أعتقِد أن لها صلةً بهذه القضية، وأنها تُضمِر هذه الصلة في غياهب عُمق شديد يُضاهي عُمق بئري. وكذا السيدة براكسفيلد، لا أستحسِنُها إطلاقًا!»
سأله بليك قائلًا: «لماذا، ما خطْبُها؟» وأردف: «إنها امرأة محترمة جدًّا، أليس كذلك؟»
تنشَّق بيني تنشُّقًا ينمُّ عن استيائه.
وأجاب قائلًا: «هذا يعتمد على ماهيةِ ما تصِفه بأنه مُحترم جدًّا. لا تُطلِق وصفَ محترمة جدًّا، ولا مُحترمة أصلًا، على امرأةٍ كانت تملك نزلًا عامًّا وتُديره لكي تُقدِم على تزويج ابنتها الصغيرة، زواجًا سِريًّا، برجلٍ نبيل من عائلة عريقة! أصِفُ هذا بأنه تصرُّف وضيع! لكنها كانت ترى هذه فرصةً سانحة لتُصبِح ابنتها الليدي ماركنمور؛ كان هذا تصوُّرها. ولن أتفأجا إذا اتضح أنها وراء هذه الجريمة، بطريقةٍ أو بأُخرى. فالنساء، كما قلتُ لك، دائمًا ما يكُنَّ أصلَ كلِّ الضغائن! لو كنتَ مُلِمًّا بالإنجيل جيدًا مثلي — وإن كان هذا مُستبعدًا، نظرًا إلى كوني أحد أعمدة الكنيسة — كنتَ ستعلم أنَّ ما أقوله حقيقة إنجيلية؛ إنه كذلك حقًّا! ألم تسمع قطُّ ما قيل عما فعلَتْهُ حواء بآدم العجوز المسكين؟»
اعترف بليك قائلًا: «سمعتُ بهذه الواقعة. كانت قاسيةً قليلًا، أليس كذلك؟»
قال بيني مُصدقًا على ذلك: «أتفق معك يا بُني! وقد كنَّ هكذا دائمًا؛ فطالما كانت النساء أصل كل الشرور! أستطيع أن أروي لك من قصص النساء أكثر ممَّا يُمكن أن تجده في عشرات الكتب، وهذا ما كنتُ سأفعله، لولا أنَّه قد حان موعد قدوم قسِّ أبرشيتنا ليُعلِّم هؤلاء الأطفال الصغار المُزعجِين الذين تراهم يتوافدون حشودًا إلى كنيستي، ويجب أن أذهب وأحافظ على النظام بينهم. لكني أقول لك بكل صراحة يا عزيزي، وأنت تبدو شابًّا مُحترمًا مُهذبًا، مع أنك لندني بالتأكيد، وهذا شيء لا أستحسِنُه، إنك إذا أردتَ أن تسبر غَور هذه القضية، ففتِّش عن المرأة! فالمرأة أصل كل المعارك وجرائم القتل والوفيات المفاجئة، ولا تنسَ ذلك!»
لم يحظَ بليك بأيِّ معلومات من هذه المقابلة، لكنها جعلته يُفكِّر مليًّا. فهو أيضًا كان مُرتابًا جدًّا في أمر السيدة تريزيرو. لقد انتزع منها اعترافًا بأنها كانت على درايةٍ تامة برحيل فون إيكهاردشتاين، وكان من الواضح أنها أرسلت فِرَق البحث في اليوم الذي تلا رحيله المُدبَّر تمامًا لكي تُضلِّل سلطات الشرطة. لكنه استصعب تصديق أنها كانت تعلم بالجريمة سلفًا؛ إذ أخبره شيءٌ ما في نفسه بأن اتهامها المُتهوِّر لهاربورو في البداية كان حقيقيًّا، وكذلك ارتأى الصِّدق في قلقها الواضح حين سألته، في عصر اليوم السابق، عما إذا كان يعتقد أنَّ فون إيكهاردشتاين هو قاتل جاي ماركنمور. ومن ثَمَّ، فإذا كانت تعرِف شيئًا ما وتكتُمُه، فما هو إذن؟ وما غرضها من كتمانه؟ ثم انتقل من التفكير فيها إلى التفكير في وصيفتها؛ هل كانت دافي هاليويل تعرف أيَّ شيء؟ إذ رأى بليك أنها تُعطي المرء انطباعًا بأنها واحدة من أولئك النساء المُعتادات على، أو الموهوبات في، معرفة خبايا الأمور.
تمتم لنفسه قائلًا: «وأظنها ذكية إلى حدٍّ مُذهل في كتمان تلك الخبايا حين تكون على دراية بها!»
في مساء ذلك اليوم، كان قد سئم قراءة التاريخ المحلي والطوبوغرافيا المحلية، فذهب إلى حانة نزل سيبتر، وجلس في ركنٍ بعيد هادئ. كان في الحانة عدة رجال من صغار المزارعين وحرفيِّي القرية، ورغم أنهم كانوا يعرفون هوية بليك، فلم يكترثوا بوجوده كثيرًا؛ إذ كانوا يتحدَّثون بكل صراحة وحرية. وللمرة الأولى، لم يكن جريمسدِل موجودًا وراء نضد حانته، بل حلَّت محله النادلة التي تعمل في غرفة القهوة الصغيرة وجاءت لتؤدِّي مهامَّه بدلًا منه؛ لم تكن النادلة منشغلة بكثيرٍ من العمل، ولمَّا رآها بليك تبدو شاعرة بالوحدة والمَلَل بعض الشيء، ولأنه كان ودودًا بطبعه، اتَّكأ على نضد الحانة مائلًا نحوَها وحادثها. لكنه ظلَّ مُصغيًا بإحدى أُذنيه إلى كلِّ ما كان الرجال يقولونه من خلفه. فقد كان يُدرك من واقع خبرته أنه قد يعرف معلوماتٍ كثيرة من تعليقٍ عابر أو تلميح شارد.
كان الرجال بالطبع يتحدَّثون عن أحداث ليل الإثنين وصباح الثلاثاء من الأسبوع الماضي، وكانوا عاكفين على الحديث عنها طوال الأيام الستة السابقة، وكانوا سيواصِلون الحديث عنها لعدة أيام قادمة، وكان بليك مُتيقنًا من أن الحديث سيطول بهم لأكثر مما هو مُعتاد في مثل هذه الأحداث التي تأتي جالبةً معها جَلبةً وصخبًا.
قال أحدهم: «أراه شيئًا غريبًا لعينًا أن تشهد بلدةٌ مسيحية حادثًا كهذا يُردى فيه شابٌّ قتيلًا برصاصةٍ في رأسه، ويلقى حتفه جرَّاء ذلك، ولا يعرف أحدٌ هوية الفاعل! وكما قلت، مرارًا، منذ أن حدث له ذلك وأُردِّده مُجددًا، وسأظل أردِّده: ما جدوى رجال الشرطة؟ لو كنتُ مكانهم، لكنتُ قد وجدتُ مَن فعلها، وعلَّقتُه من عنقِه عاليًا جدًّا كبرج كنيستنا، قبل بلوغ الوقت الحالي!»
فسأله مُستمعٌ ساخر: «ولماذا لم تجِدْه إذن يا بوب جرافوس؟» وأضاف: «لا شيء يمنعك!»
ردَّ بوب جرافوس قائلًا: «ليست تلك وظيفتي!» ثم أضاف بغمزةٍ خبيثةٍ ناحيةَ بليك: «فأنا لستُ شرطيًّا. لكني أعتقد، إن لم أكن مُخطئًا، أنَّ لدَينا هنا شابًّا من أولئك اللندنيِّين الأذكياء ذوي النفوذ، الذين يُطلِقون عليهم مُحقِّقين، وأظنه يعرف عن ذلك أكثر بكثيرٍ مما نعرف على الأرجح!»
وهنا شعر بليك بأن عيون هؤلاء الرجال مُسلطة على ظهره، فالتفتَ نحو آخِرِ مَن تكلَّم.
وقال له: «فلتهدأ بالًا يا صديقي!» وأضاف: «فأنا لا أعرف أكثر ممَّا تعرف، على ما أظن. إنني أرغب في معرفة المزيد والمزيد.»
فقال بوب جرافوس: «لكنك مُحقِّق يا سيدي كما أقول، أليس كذلك؟» وأضاف: «لقد سمعتُ أنك كذلك، على أي حال.»
اعترف بليك قائلًا: «حسنًا، لك أن تعتبرني كذلك. لكني لا أستطيع أن أرى عَبر جدارٍ من الطوب أكثر ممَّا تستطيع رؤيته!»
فقال أحد الرجال بجدية وتجهُّم: «هذا قول صائب!» واستطرد قائلًا: «أجل، بالطبع، فقُدرات الإنسان الفاني محدودة للغاية، إن جاز القول. تُوجَد أشياء يستطيع الرجل المَولود من رحِم امرأة أن يفعلها، وتُوجَد أشياءُ أخرى لا يستطيع فعْلها. وعلى حدِّ علمي ليس فينا أيُّ رجلٍ على الإطلاق يستطيع أن يرى عبر جدارٍ من الطوب. قول صائب!»
فقال رجل آخر: «حسنًا، هوية الفاعل محض لُغز مُعقَّد، وأعتقد أن صعوبة معرفتها تُضاهي صعوبة رفع كاتدرائية سيلكاستر برافعة لولبية. ولا يُمكنك التجوُّل في أنحاء الحي وتسأل واحدًا تلو الآخر: «هل أنت مَن ارتكبتَ هذا الفعل الشرير البشِع؟» لا يُمكنك، إطلاقًا! لماذا؟ لأنهم جميعًا سيقولون إنهم لم يفعلوا ذلك!»
سرَت همهمةُ إجماعٍ عام بين الحاضرين على هذا الرأي الحكيم. لكنَّ رجلًا داكن الوجه، كان جالسًا في أحد أركان الحجرة وكان حتى تلك اللحظة يستمِع في صمتٍ تام، رفع قدح جِعته فجأة، وتجرَّع منه رشفة، ووضعه على الطاولة مُجددًا بدويٍّ لافتٍ حاد.
ثم صاح قائلًا: «أقول لكم رأيي، الذي لا جدال فيه!» وأضاف: «هذه الواقعة التي أطلِقَ فيها النار على السيد جاي ماركنمور والتي تتحدَّثون عنها بكل حُرية من دون إحراز أيِّ تقدُّم، أظنُّ أنَّ السيدة براكسفيلد، التي تعيش بالأعلى في وودلاند كوتيدج، هي مَن أطلقت عليه النار! هذا رأيي. السيدة براكسفيلد، التي كانت تملك هذا النزل وتديره في وقتٍ ما، هي مَن فعلت ذلك!» فالتفت بليك فجأةً من مواجهة النَّضد، والتفتَ الرجال الآخرون إلى المُتكلم، وخيَّم على الغرفة صمتٌ مُطبِق كَسَره أخيرًا صوتٌ جادٌّ رزين.
قال الصوت: «من الأفضل أن تنتبِهَ إلى كلامك يا بيل كارفر!» وأردف: «يُوجَد قانون لأولئك الذي يفترون على غيرهم، سوف تُؤخَذ إلى المحاكِم! وفوق ذلك، لقد أُردي السيد جاي برصاص مُسدَّس. والسيدة براكسفيلد ليس لدَيها أيُّ مُسدَّسات، ولا تستطيع إطلاق النار حتى لو كان لدَيها!»
فصاح بيل كارفر بتهكُّم وازدراء قائلًا: «ليس لدَيها حقًّا؟» وأضاف: «إذن، أؤكد لكَ أنها لديها! لقد رأيتُها مرارًا تُطلِق النيران بمُسدَّس في الصباح الباكر حين كنتُ أمرُّ عبر تلك الروابي. رأيتها تطلق النيران عشرات المرات على الثعالب التي كانت تطارد دجاجها. وحين تسألون مَن أطلق النار على السيد جاي ماركنمور، أقول إنَّ السيدة براكسفيلد هي مَن أطلقت عليه النار! هذا رأيي، ولا أكترث بمن يسمعني أقول ذلك! ألستُ حرًّا في إبداء رأيي؟ هذا بلد حر!»