اعتقال
أعقبت فترةٌ من الصمت المُتوتر هذا التصريح الجريء وانتهت أخيرًا بصوتِ جرجرة قدمَين وسعلات مُستاءة جافة مُتتالية. ثم خرج صوتُ شخصٍ من أعماق ركن بعيدٍ مُعبَّأ بالدخان.
قال الصوت: «صحيح أنَّنا في بلدٍ حرٍّ كما تقول، لكني أعتقد أنه ليس حرًّا إلى الحد الذي يسمح لرجل بأن يتَّهِم امرأةً جُزافًا بجريمة قتل! هذا ما يُسمُّونه افتراءً وتشهيرًا بالباطل، وما يذهب الناس إلى المحاكم بسببه، هذا فعلٌ يُعاقِب عليه القانون. أحسَب أنك ستوقِع نفسك في ورطةٍ شديدة يا بيل كارفر إذا طفتَ هنا وهناك قائلًا إنَّ السيدة براكسفيد هي مَن قتَلَت السيد الشاب المسكين جاي؛ هذا ما سيحدُث لك!»
ردَّ بيل كارفر قائلًا: «لا أقول إنها قتلته!» وأوضح: «بل أقول إنها أردته قتيلًا بالرصاص، هذه مسألة مُختلفة تمامًا! ربما يكون ذلك قد حدث بالخطأ، أو ما شابه!»
فقال الصوت المُقوِّم: «أوه، إذا كان ذلك قد حدث بالخطأ، أو ما شابه، فسيكون الموقف مُختلفًا تمامًا!» وأضاف: «أعترف بوجود الكثير من الجرائم البشِعة الدموية ارتُكِبَت بالخطأ! ولكن يبدو غريبًا أن تكون هذه الكارثة قد وقعت هكذا. فالسيدة براكسفيلد لم تقُل أيَّ شيءٍ عن ذلك، حتى الآن!»
فقال بيل كارفر: «من المُستبعَد أن تقول. إنها أرجح عقلًا من أن تفعل ذلك! فعلى حدِّ علمي، لا سبب يدعو أيَّ رجلٍ أو امرأة إلى الإقدام بمحض إرادتهم على اتهام أنفسهم بارتكاب أفعال شنيعة. لن يكون تصرُّفًا رشيدًا من أي شخص، في ظل ما حدث، أن يتطوَّع من تلقاء نفسه ويقول إنه الفاعل! ولن يكون تصرُّفًا مُوافقًا لتعاليم المسيحية من أيِّ شخص أن يدخل مصيدةً بكامل وعيِهِ، على ما أعتقد.»
فأكد ذلك واحدٌ آخرُ مِن مُدعي المعرفة قائلًا: «هذا صحيح تمامًا!» وأضاف: «كلَّا؛ لا أظن أنَّ أيَّ مواطنٍ سويِّ الطباع مُلتزم بالقانون لديه أيُّ سببٍ يدفعه إلى إدانة نفسه، هذا ضد الدين والطبيعة الإنسانية، وهما قوَّتان قيِّمتان لا يُستهان بهما. كلَّا! أعتقد أنَّ السيدة براكسفيلد، لو كانت قد فعلتْ ذلك بالخطأ، بالمُسدس الذي أشار إليه بوب كارفر، فستكون قد قالت لنفسها: «حسنًا، لقد ابتُليت بمُصيبة مُحزنة، ولكن لا سبب يدفعني إلى الإفصاح عنها.» ومن ثَم، لم تقُل أيَّ شيءٍ بالطبع. هكذا جرى الأمر، هذا هو التفكير المنطقي الرشيد، إن جاز القول. ونعرف كلنا أنَّ الحوادث تُصيب أكثرنا وداعة!»
قال بيل كارفر ضاحكًا وهو يقوم من ركنه ويتَّجِه نحو الباب: «أظنني سيُصيبني حادث إذا لم أعُد إلى المنزل؟» وأضاف: «فامرأتي المُسِنَّة تنتهي من إعداد العشاء في التاسعة في ليالي الأحد، وإذا لم أعُد إلى المنزل في الموعد المُحدَّد بالدقيقة، ستُسمِعني صوتَ لِسانها. أتمنَّى لكم جميعًا ليلةً طيبة!»
وخرج وسط كلماتِ وداعٍ جماعية في آنٍ واحد من الحاضرين، لكنه استُوقِف في الصالة؛ إذ أوقِفَ بنقرةٍ على ذراعه، والتفتَ ليجد بليك بجواره.
قال بليك: «أريد أن أُحادثك على انفراد. ادخل هنا.» قاد كارفر إلى غرفة جلوسِه، وأغلق الباب. ثم تابع بصوتٍ خفيض: «أتعرف مِهنتي يا كارفر؟» واستطرد قائلًا: «مُحقِّق! حسنًا جدًّا، لقد سمعتُ ما قلتَه هناك. أصحيحٌ أنَّك كنتَ ترى السيدة براكسفيلد تُطلِق النار على حيواناتٍ بمُسدَّس في الصباح الباكر؟»
أجاب كارفر: «صحيح تمامًا يا سيدي. رأيتُها تفعل ذلك مرارًا. كنتُ أعمل بالأعلى في الغابة طوال الشتاء والربيع من هذا العام، وكنتُ أذهب إلى عملي في وقتٍ مُبكر للغاية مع بزوغ أول ضوء للصباح. وكنتُ أرى السيدة براكسفيلد تتجوَّل حول منزلها بين الحين والآخر وهي تُحاول إطلاق النار على الثعالب؛ إذ يُوجَد الكثير من تلك الحيوانات المُزعجة في الأعلى هناك، وقد سمعتُها تقول إنَّ تلك الحيوانات دائمًا ما تُطارد دجاجها. أوه، أجل، رأيتُها مُمسكة بمُسدسها!»
«ألم ترَها صباح الثلاثاء الماضي؟ ذلك الصباح الذي أُطلق فيه الرصاص على جاي؟»
«لم أرَها يا سيدي؛ لأنني لم أكن موجودًا في هذه المنطقة إطلاقًا في ذلك اليوم؛ بل كنتُ على الجانب الآخر من جرايكلويستر، على بُعد ميلَين.» وسكت رامِقًا المُحقِّق بنظراتٍ تنمُّ عن درايته بشيءٍ ما. ثم أضاف فجأة: «لا أريد أن أُسبِّب أيَّ مشكلة يا سيدي، ولكن كان بإمكاني أن أقول هناك في الداخل أشياءَ أكثرَ بكثيرٍ ممَّا قلتها!»
سأله بليك: «ماذا؟» وأضاف: «إذا كنتَ تعرف أيَّ شيء، قُله!»
قال كارفر: «لا أعرف شيئًا مُحددًا. لكني قُلت هناك في الداخل إنَّ ذلك ربما حدث بالخطأ! والآن، يقول أناس في القرية إنه كان مُتعمَّدًا!»
سأله بليك: «هل تقصد أنَّ في ماركنمور أناسًا يقولون إنَّ السيدة براكسفيلد تعمَّدَت إطلاق النار على السيد جاي؟» وأردف: «أهذا صحيح؟»
أجاب كارفر: «صحيح يا سيدي!» واستطرد قائلًا: «هذا ما يقوله، بعضهم، في أرجاء المنطقة التي أعيش فيها، على أحد الطرُق المؤدية إلى ميتبورن. لكنَّ ذلك لم يُذكَر إلَّا بعدما تبيَّن أنَّ ابنة السيدة براكسفيلد — بوبي الصغيرة — مُتزوِّجة من السيد هاري. فحين تبيَّن ذلك، بدأ الناس يتحدَّثون بما أخبرتُك به. «أجل! هذه هي حقيقة الأمر إذن! أطلَقَتِ النار على السيد جاي كي يتسنَّى لشقيقه المسكين أن يرث اللقب ويُصبِحَ السير هاري وتُصبح تلك الآنسة الصغيرة الليدي ماركنمور!» هكذا يقولون. ويرَون أن هذه هي الحقيقة بلا شك. ولكن ضع في حسبانك يا سيدي أنني لا أقول ذلك. بل أقول إنها أطلقت عليه النار بالخطأ، على الأرجح.»
لم يكترث بليك برأي كارفر الشخصي؛ إذ كان مُنشغلًا بالتفكير في الأقاويل المتداولة.
سأله: «هل يقول الكثيرون منهم ذلك؟» وأضاف: «أقصد جيرانك!»
قال كارفر: «كلهم يقولون ذلك!» واستطرد قائلًا: «فالمنطقة التي أعيش فيها، كما تفهم، تقع في الطرف الأقصى من القرية. أما أولئك الرجال الذين تراهم في هذه الحانة، فهُم ينتمون إلى هذا الطرف من القرية، فلا نعرف آراءهم. ولكن عندنا في المكان الذي أعيش فيه، فتلك هي الأقاويل المتداولة: أطلقَت النار على السيد جاي كي يرث السيد هاري اللقب ويصير السير هاري وتصير الفتاة الشابة ليدي ماركنمور! أتفهم يا سيدي؟» ثم سكت مُجددًا، وعاود النظر مُجددًا أيضًا إلى المُحقق بنظرةٍ ماكرة تنمُّ عن دراية. ثم واصل الحديث فجأة قائلًا: «أُنثى سريعة الحركة والبديهة، تلك السيدة براكسفيلد! أستطيع إخبارك بأكثر من ذلك، لولا أنَّني لا أودُّ أن أوقع أيَّ شخصٍ في مشكلة. لكني أستطيع!»
قال بليك: «إذا كنتَ تعرف أيَّ شيء، فيجِب أن تقوله. والآن، ما الذي تقصد قوله عن السيدة براكسفيلد؟»
قال كارفر بعد سكوتٍ لحظي: «حسنًا يا سيدي، سأُخبرك. ربما لم ترَني، لكني كنتُ حاضرًا ذلك التحقيق في ملابسات الوفاة الذي أُجري في بيت كورت. لقد دخلت السيدة براكسفيلد مقصورةَ الشهود وأدلت بشهادتها. قالت إنها رأت السيد هاربورو في مكانٍ مُعيَّن على جانب التل من نافذة غرفتها، في وقتٍ مُعيَّن من صباح ذاك الثلاثاء. سيدي، أؤكد لك أنها لم تفعل شيئًا من هذا! لم يكن بإمكانها رؤية ذلك المكان من نافذة غرفتها! هذا مُستحيل! لقد أسهمتُ في تشييد بيتها — وودلاند كوتيدج — ومن نافذة غرفتها، لا يستطيع أحد رؤية ذاك المكان الذي قالت إنها رأت السيد جون فيه. لكنها كانت تستطيع رؤية ذاك المكان، والسيد جون، أو أيًّا مَن كان هناك، من مكانٍ آخر، كانت موجودةً فيه على الأرجح!»
سأله بليك: «أين؟»
فأجاب كارفر: «أجمةٌ صغيرة من الأشجار الكثيفة، تقع مُقابل مُنخفض ماركنمور هولو مباشرة. رأيتُها هناك، مرارًا، تُطارد تلك الثعالب.»
وهنا تذكَّر بليك فجأة خريطته التفصيلية الكبيرة الصادرة من هيئة المساحة، التي كانت لا تزال مُعلَّقة على الحائط. فقاد كارفر إليها، وأشار إلى معالمَ مُعينة.
قال كارفر: «رأيتُ رسمًا كهذا من قبل يا سيدي. السيد تومبكينز العجوز، الذي يسكن في «بيتش فارم»، لديه واحدة منها، مؤطَّرة، في حجرة جلوسه الخاصة، لقد طالعتُها مرارًا حين كنتُ أنتظر السيد العجوز هناك ليُعطيني الأوامر. وسأُريك ما أقصده بما أقول.» وأخرج عود ثقاب خشبيًّا من جيبه، وبدأ يُحدِّد أماكنَ ويرسُم خطوطًا على الخريطة المُعلَّقة أمامه. «الآن، ها هو وودلاند كوتيدج يا سيدي، مرسوم بوضوح شديد لم يسبق له مَثيل، وذاك هو المكان الذي قالت السيدة براكسفيلد إنها رأت السيد هاربورو فيه. ولكن، كما ترى، يُوجَد بين المكانين تلةٌ صغيرة مرتفعة! لذا لم يكن بإمكانها أن ترى عَبر تلك التلة، بأيِّ حال من الأحوال، أليس كذلك؟ كلَّا! ولكن إذا مضيتَ قُدُمًا هنا، مجازًا، من بيتها عبر جانب التل إلى تلك الأجمة الصغيرة من الشجر، على حافة مُنخفض ماركنمور هولو، فسترى أنها كانت تستطيع من تلك البُقعة أن ترى، أمامها مباشرة، المكان الذي قالت إنها رأت السيد هاربورو فيه، إنه مرئي بوضوح تام، إن جاز القول، من تلك البقعة. ربما لا يكون ثمَّة شك في أنها قد رأت السيد هاربورو في ذاك المكان تحديدًا في صباح ذلك اليوم، لكنها لم ترَه من نافذة غرفتها؛ لأنها لم تكن تستطيع ذلك! لو أنها قد رأته أصلًا، فإنها رأتْهُ من تلك الأجمة، التي أؤكد لك أنني رأيتُها مرارًا عندها تحاول إطلاق النار على تلك الثعالب.»
سأله بليك: «هل رأيتَ المُسدس الذي استخدمَته من قبل؟» كان مُتيقنًا بحلول ذاك الوقت من أنه قد أمسك بطرف خَيط مؤكد أخيرًا، وارتأى أن لا بأس من أن يتبعه حتى مُنتهاه.
أجاب كارفر قائلًا: «رأيتُه في يدهِا مرارًا.»
فأخرج بليك المُسدَّس الآلي فجأة ومدَّ يدَه به إلى رفيقه.
سأله قائلًا: «أكان هذا هو؟»
نظر كارفر إلى المُسدَّس المعروض وفي عينيه بريق فضول.
ثم صاح قائلًا: «حسنًا!» وأضاف: «إذا لم يكن هو، فهو نسخة طبق الأصل من ذاك الذي كنتُ أراها مُمسكةً به! لكني أعتقد أن هذه الأشياء تتشابه كثيرًا يا سيدي.»
أعاد بليك المُسدس الآلي إلى جيبه، ووضع يده على ذراع كارفر.
وقال: «الآن، أصغِ إليَّ!» واستطرد قائلًا: «فلتُبقِ كلَّ ذلك طيَّ الكتمان أيها الرجل الطيب! لا تقُل ولو كلمة واحدة عن ذلك لأيِّ شخص، ولا حتى لزوجتك. أرجو ألَّا تقع في أيِّ متاعبَ بسبب تأخرِك على عشائك. ولكن الزَمِ الصمت التام … ولا كلمة!»
ردَّ كارفر بابتسامةٍ عريضة تنمُّ عن درايةٍ وفطنة، قائلًا: «أفهمك يا سيدي. ولن أنبس ببنت شفة إلى أن تأذن لي بذلك. ومع ذلك، أرجو أن تتذكَّر يا سيدي أنَّ ما أقوله هو أنَّ ذلك ربما حدث بالخطأ! فالنساء لسنَ ماهرات إطلاقًا في إطلاق النار بالبنادق والمُسدَّسات، كما تعلم.»
حين غادر كارفر النزل في جنح الليل، ظل بليك يجوب غرفة جلوسه جَيئةً وذهابًا عشر دقائق كاملة، مُنهمكًا في التفكير. وبنهاية ذلك الوقت، صعد إلى غرفة نومِه وارتدى معطفًا طويلًا واستعدَّ للخروج. وحين نزل إلى الصالة، قابل جريمسدِل، الذي كان داخلًا إلى النزل للتو.
سأله صاحب النزل بابتسامة: «أذاهب في تمشيةٍ مُتأخِّرة يا سيد بليك؟» وأضاف: «ليلة جميلة أيضًا!»
فأجاب بليك: «أنا ذاهب إلى سيلكاستر، وأصغِ إليَّ، لا أظن أنني سأعود الليلة، سوف أبيت في فندق مايتَر. ستراني في وقتٍ ما من صباح الغد.»
أومأ جريمسدِل إذعانًا، وأخرج نزيله. ورحل بليك عبر الطريق المُضاء بالنجوم نحو سيلكاستر، وهو ما زال يفكِّر ويتكهَّن وينسج التفاصيل الجزئية معًا، وكانت كل أفكاره وتكهُّناته تلتقي عند نقطةٍ ما عند السيدة براكسفيلد.
كانت السيدة براكسفيلد في مطبخها المُرتَّب في الساعة الثامنة والنصف من صباح اليوم التالي تُوجِّه تعليماتها إلى خادمة النظافة، التي دائمًا ما كانت تأتي إلى وودلاند كوتيدج في أيام الإثنين، حين دوَّت طرقةٌ على بابها الأمامي. ففتحت الباب بنفسها، ووجدت أمامها بليك وقائد الشرطة ورجلًا آخرَ في ثيابٍ مدنية، ولكن كان واضحًا أنه شرطي. ورأى الرجال الثلاثة، الذين كانوا يُحدِّقون إليها بشدة، أنها انتفضت وعَبَست وشحب لونها. لكنهم تظاهروا بأنهم لم يلاحظوا أيَّ شيءٍ غير عادي، وكان صوت قائد الشرطة مُهذبًا ومُبتهجًا وهو يخاطبها.
قال: «طاب صباحك يا سيدة براكسفيلد!» وأضاف: «جئنا فقط لنتحدَّث معك قليلًا يا سيدتي. هل لنا أن ندخل؟»
استدارت السيدة براكسفيلد عائدة إلى الصالة، ثم فتحت بابًا، وأشارت لزوَّارها بدخول الغرفة التي كان بليك قد استمع فيها إلى قصة السيد فرانسيمري قبل ذلك بثلاث ليالٍ. فدخلوا وكان الرجل ذو الثياب المدنية آخرَ مَن دخل، فأغلق الباب بحرصٍ وظلَّ واقفًا أمامه.
سألت السيدة براكسفيلد قائلة: «ماذا تريدون؟» كان لون بشرتها الطبيعي قد عاد إلى وجنتَيها، وبدت غاضبةً بوضوح، وكان الغضب باديًا كذلك في صوتها.
أجاب قائد الشرطة قائلًا: «نريد التحدُّث إليك بشأن صباح الثلاثاء الماضي يا سيدة براكسفيلد. مجرد مُحادثة هادئة فيما بيننا.»
صاحت السيدة براكسفيلد بحدةٍ واضحة للغاية: «لستُ واثقة من عبارة «فيما بيننا» تلك!» وأردفت: «يبدو لي أن بعض الناس، حين يقولون «فيما بيننا»، يقصدون العكس تمامًا. أعتقد أنَّ بعضكم — وهنا رمقت بليك بنظرة ساخطة — بعضكم يتحدَّث عنِّي، من وراء ظهري! فها هي خادمة النظافة التي تعمل لديَّ أتت للتوِّ من القرية، وتقول إنَّ ثمَّة أقاويلَ مُتداولةً هناك عني وعن جريمة القتل! كلَّا! بل ثمَّة ما هو أدهى من ذلك! البعض يقول إنني على صلةٍ بها، ويقول بعضهم إنني ارتكبتُها بنفسي، هكذا بكل صراحة! والآن أريد أن أعرف منشأ كل ذلك؟ لكني سأعرف، وحينئذٍ سأرى ما رأي مُحاميَّ في ذلك!»
وافقها قائد الشرطة قائلًا: «أتفق معك يا سيدة براكسفيلد. سيكون من حقِّك تمامًا أن تفعلي ذلك إذا كانت ثمَّة شائعات كاذبة مُنتشرة عنك. لكننا سمعنا هذه الشائعات، ونريد طرح بضعة أسئلة. وأنا واثق من أنَّك سترَين أنَّ الإجابة عليها ستكون أفضل لكِ؛ أليس كذلك يا سيدة براكسفيلد؟»
ردَّت السيدة براكسفيلد وهي لا تزال غاضبة: «هذا يعتمد على ماهيتها!» وأضافت: «سأفعل ما يُرضيني!»
تابع قائد الشرطة كلامه وقد صارت نبرته أشدَّ جديةً وصرامة بعض الشيء: «حسنًا، الشيء الأول هو الآتي. يؤسِفني القول إنكِ لم تذكُري الحقيقة الدقيقة في التحقيق قبل بضعة أيام. قلتِ إنكِ رأيتِ السيد جون هاربورو في مكانٍ مُعيَّن على جانب التل من نافذة غرفتك، نافذة غرفة نومك. الآن يا سيدة براكسفيلد، لم يكن بإمكانك رؤيته في ذلك المكان من نافذة غرفة نومك؛ إذ تُوجَد تلة مُرتفعة بين بيتك وبين ذلك المكان تحديدًا. فما قولك في ذلك؟»
شحبت السيدة براكسفيلد مُجددًا، وانتفضت انتفاضةً واضحةً عند سماع ذلك، واعتصرت شفتيها ببعضهما للحظة.
ثم قالت بتجهُّم شديد: «لقد رأيتُه على أيِّ حال!» وأردفت: «ربما اختلط عليَّ الأمر وأخطأتُ في تحديد المكان الذي رأيته منه بالضبط، لكن …»
سألها قائد الشرطة: «الآن، من أين رأيتِه؟» وأضاف: «هيا! لا يُمكن أن تكوني قد نسيتِ ذلك؛ فهذه مسألة مهمة!»
لكن السيدة براكسفيلد اعتصرت شفتيها ببعضهما مُجددًا، وفي وسط وجنتَيها الشاحبتَين، بدأت بقع حمراء غاضبة في الظهور.
فقال قائد الشرطة: «إذا لم تتكلَّمي، سأنعش ذاكرتك. ألم يكن المكان الذي رأيتِه منه هو حافة تلك الأجمة الصغيرة القريبة من مُنخفض ماركنمور هولو؟ هيا أجيبي.»
ردَّت السيدة براكسفيلد على السؤال بمثله قائلة: «ماذا لو كان كذلك؟»
سألها قائد الشرطة: «ماذا كنتِ تفعلين هناك في ذلك الوقت من الصباح؟»
قالت السيدة براكسفيلد بتحدٍّ مُفاجئ: «هذا شأني الخاص!» وأردفت: «ما شأنك بذلك؟»
هزَّ قائد الشرطة رأسه.
وأجاب قائلًا: «أوه، حسنًا!» واستطرد قائلًا: «إذا كنتِ ستتَّبِعين هذا الأسلوب يا سيدة براكسفيلد، فيجب أن نكشف لكِ مزيدًا من أوراقنا. أصغي إليَّ يا سيدة براكسفيلد، نحن نعرف معلوماتٍ مُعينة. أنتِ مُعتادة الذهاب إلى تلك الأجمة، أو مكان قريب منها، لتُطلقي النار على الثعالب؛ إذ سمعنا أنَّ الثعالب تُزعِجك بمطاردة دجاجك وطيورك. أهذا صحيح؟»
سألته السيدة براكسفيلد: «ماذا لو كان كذلك؟» وأردفت: «هل تعتقِد أني سأترك الثعالب تسرق طيوري ودجاجاتي الغالية؟ كلَّا لن أسمح بذلك! ولو من أجل كل مُمارسي الصيد في البلاد! وليكن ما يكون! ليتني أستطيع إطلاق النار على كل ثعلبٍ يركض في المنطقة! ومع ذلك، فكلُّ ما فعلته كان لتخويفها.»
قال قائد الشرطة بنبرةٍ مرحة: «تستطيعين تسوية أمورك المُتعلقة بالثعالب مع المسئول عن كلاب صيد الثعالب يا سيدة براكسفيلد. صحيح أنَّ مُمارسي الصيد يرَون إطلاق النار على الثعالب جريمةً شنيعة حقًّا، لكنها لا تندرِج ضمن لوائح الشرطة. لكن المُهم الآن يا سيدة براكسفيلد، ماذا استخدمتِ لإطلاق النار على الثعالب؟ أكان بندقيةً عادية أم بندقية رياضية أم مُسدسًا؟ أم … كان مُسدسًا آليًّا؟ هيا!»
نظرت السيدة براكسفيلد إليهم بالتناوُب. كانت عيون الثلاثة مُثبتةً عليها بكل ثبات.
صاحت فجأة: «مَن الذي أخبركم بكل ذلك؟» وكرَّرت قائلة: «مَن الذي …»
فأصر قائد الشرطة على سؤاله قائلًا: «كان مُسدسًا آليًّا، أليس كذلك؟» وأضاف: «هيا يا سيدة براكسفيلد، لماذا لا تُجيبين بصراحة؟»
تمتمت السيدة براكسفيلد قائلة: «وماذا لو كان كذلك؟»
فواصل قائد الشرطة قائلًا: «إذن، فقد كان كذلك!» وأضاف: «حسنًا جدًّا، والآن، من أين حصلتِ عليه؟»
جلست السيدة براكسفيلد فجأةً على أقرب كُرسي، بعدما كانت واقفةً حتى ذلك الحين بجوار المنضدة التي توسَّطت الغرفة في مواجهة زوَّارها الثلاثة، ووضعت إحدى يديها على الأخرى فوق حِجرها، وظلَّت تنظُر إليهم بهدوءٍ واحدًا تلوَ الآخر.
ثم قالت بهدوءٍ بعدما ثبَّتت ناظريها أخيرًا على قائد الشرطة: «أصغِ إليَّ!» واستطردت قائلة: «مِن المؤكد أنَّك تظنُّ أنك تتحدَّث بكل وضوح وصراحة، وما إلى ذلك، ولكن إذا كنتَ تريد معرفةَ أيِّ معلومات منِّي، فعليك أن تكون أوضح بكثير! وأؤكد لك بكل صراحةٍ أنَّك لن تدفعني إلى إدانة نفسي! لم أقُل إن لديَّ أيَّ مُسدَّس آلي. قُلت لي: «هل كان السلاح الذي استخدمتِهِ لتخويف الثعالب مُسدسًا آليًّا؟» فأجبتُ قائلة: «ماذا لو كان كذلك؟» هذا لا يعني أنه كان كذلك، أو أنني كنتُ أملك أيَّ مُسدس أصلًا. أنا مُستعدة لتقديم أيِّ معلوماتٍ أستطيع تقديمها، لكنك تعاملني بارتياب، ولن أجبَرَ على الإدلاء بأيِّ اعترافٍ من المُرجح أن يكون مُضرًّا … مُضرًّا بي وبآخرين. فلتُعامِلني بإنصاف، و…»
فقاطعها قائد الشرطة قائلًا: «سيدة براكسفيلد، لا نُريد أيَّ شيءٍ سوى أن نُعاملك بإنصاف. لكننا نعرف أشياءَ مُعينة، وعلينا أن نطلُب منك بعضَ التفسير. الآن، لمَّا طلبتِ مني أن أكون أوضح، فسأفعل! لا مانع من أن أُخبرك بأنَّنا عثرنا على مُسدَّسٍ آلي.»
سكت قائد الشرطة فجأة. كانت السيدة براكسفيلد، من هَول المفاجأة والذهول، قد صارت شاحبة حتى شفتَيها، وتصلَّبت يداها. فانتفضت انتفاضةً ملحوظة.
وصاحت قائلة: «عثرتم عليه!»
فقال قائد الشرطة بجدية صارمة: «عثرْنا عليه يا سيدة براكسفيلد!» وأضاف: «ولا أحتاج إلى أن أسألك عمَّا إذا كنتِ تعرفين أيَّ شيءٍ عن المكان الذي عُثِر عليه فيه؛ فأنا أظنك تعرفين. الآن، يحمِل هذا المسدس علامةً ورقمًا بالطبع، وقد تعرَّف عليه صانع أسلحة في سيلكاستر قائلًا إنه قد باعه، منذ وقتٍ قريب نسبيًّا، إلى السيد هاري ماركنمور، زوج ابنتك. والآن يا سيدة براكسفيلد، نعرِف بما لا يَدع مجالًا للشك أنكِ كنتِ مُعتادة استخدام مُسدسٍ آلي من ذلك النوع تحديدًا لتخويف الثعالب أو إطلاق النار عليها. كوني صريحة. هل أعطاك السيد هاري ماركنمور المُسدَّس الذي كنتِ تستخدمينه؛ المُسدَّس الذي نتحفِظ به في حوزتنا الآن؟ هيا!»
ظلت السيدة براكسفيلد صامتةً بعض الوقت. كانت تنظُر بالتناوب بين الحين والآخر إلى سائلها، وإلى الخواتم التي تُحيط بأصابعها، والتي أخذت تَلُفها مرارًا وتكرارًا بعفوية. وبدا الوقت الذي مرَّ قبل أن تتكلَّم طويلًا. ولكن حين تكلَّمت، كان كلامها مصحوبًا بنظرةٍ بها عنادٌ وتحدٍّ غير عاديَّين.
قالت: «لن أنطق بكلمة أخرى!» وأردفت: «ولتضعوا في حسبانكم، جميعًا، أنني لم أعترِف بأيِّ شيء!»
نظر قائد الشرطة إلى بليك وتنهَّد تنهيدةَ رجلٍ مُجبَر على أداء واجبٍ ثقيل جدًّا على نفسه، رغمًا عن إرادته.
قال بهدوء: «حسنًا يا سيدة براكسفيلد. إذن ليس لديَّ خيار آخر، ستُضطرِّين إلى المجيء معنا.»
سألته السيدة براكسفيلد بهدوء مشوب بالريبة: «هل تعني أنكم ستأخذوني إلى سيلكاستر؟» واستطردت قائلة: «حسنًا! وسوف تندَم أشدَّ الندم على ذلك، كما سترى! حسنًا جدًّا، أظن أن بإمكاني الصعودَ إلى الطابق العلوي والاستعداد!»
فقال قائد الشرطة: «لا!» وأضاف: «ليس بعيدًا عن عينيَّ بالطبع! لديك امرأة في المنزل، تستطيعين استدعاءها بالجرس وتُخبرينها بأن تُحضر لك كلَّ ما تريدينه. وبعدئذٍ لدَينا عربة أجرة في انتظارنا بالخارج.»
قالت السيدة براكسفيلد بنبرةٍ حاقدة: «آه!» وأردفت: «أنتم فقط تفعلون ما كنتم تعتزِمون فعله من البداية! حسنًا، أيها السيد قائد الشرطة، وأنتما الاثنان الآخران، ستأسفون كلكم على ذلك!»
لكن قائد الشرطة أشار في صمتٍ إلى بليك كي يقرع الجرس لاستدعاء الخادمة.