النظرية المهنية
نظر قائد الشرطة إلى بليك حين خرج تشيلفورد، وقد اكتست عيناه بنظرةٍ جوفاء ومُرتابة بعض الشيء.
صاح قائلًا: «ما الذي يقصده بكل ذلك بحق السماء؟»
قال بليك: «يقصد أنَّ سبب الجريمة الحقيقي مُتعلِّق بالمال. فرغم كل شيء، ما زلْنا لم نعرف مصير تلك الأوراق النقدية التي تُقدَّر بثلاثة آلاف جنيه! فلا يبدو أنَّ ثمَّة شكًّا إطلاقًا في أنَّ هذه الأوراق النقدية كانت بحوزة جاي ماركنمور حين غادر نزل سيبتر، ومن المؤكد أنها لم تكن بحَوزته حين تفحَّصنا ثيابه. فأين هي؟ من الواضح أنَّ القاتل أخذها.»
فكَّر قائد الشرطة هنيهة.
ثم قال أخيرًا: «الشيء الغريب، من وجهة نظري، هو الآتي: لو صحَّ أنَّ الجريمة قد ارتُكِبَت بدافع السرقة، فكيف لم يأخُذ القاتل بقيةَ المُتعلقات التي كانت بحوزة جاي ماركنمور؟ أظنُّ أنه كان بحوزته أموال، بل الكثير منها، وأشياء ثمينة، وساعة ذهبية وسلسلة، وما إلى ذلك. وكان معها خاتم ألماس ثمين جدًّا أيضًا، أليس كذلك؟»
قال بليك: «الشيء الغريب أنَّ خاتمًا آخر — ترتدي السيدة تريزيرو نسخةً طبق الأصل منه — قد اختفى. اختفى! وهو شيء عديم القيمة المالية نسبيًّا، مجرد تُحفة غريبة، في حين أنَّ خاتمًا ألماسيًّا، يساوي الكثير من المال، قد تُرِك حول الإصبع نفسه! ولكن ما الجدوى من التنظير؟ فالحقائق كما هي! إذا لم يكن ثمَّة جدوى فيما سُنسمِّيه مسار السيدة براكسفيلد؛ حسنًا، فسأظل بذلك بلا أي دليل حقيقي!»
فقال قائد الشرطة: «تشيلفورد يقول: المال! المال! المال!» وأضاف: «ليتنا كنا نعرِف المزيد عن شئون جاي ماركنمور المالية! ولكن بمناسبة الحديث عن المال، أظنُّ أنَّ الحيلةَ الذكية التي أتت بها الأم براكسفيلد ربما تحمِل قدْرًا من الصواب والمنطق. فقد صرتُ أعرف أهالي القرية جيدًا الآن! ما قالته صحيح تمامًا؛ لا يُوجَد أيُّ شخص تقريبًا بينهم ليس مُستعدًّا للتنازُل عن أمه مُقابل ورقة نقدية بخمسة جنيهات! بالطبع ثمَّة قليل من المُبالغة في ذلك! لكنه صحيح من حيث المبدأ.»
بدا بليك مُتشككًا ومتفاجئًا.
وسأله قائلًا: «هل تقصد أنَّ تقول إنه بافتراض أنَّ ماركنمور فيها أناس يعرفون شيئًا ما حقًّا عن هذه القضية، فإنهم يكتمونه حتى الآن؟ لا أقصد أناسًا ربما قد يُدينهم الاعتراف أو كشف المعلومات، لكن أناسًا لديهم معلومات ويكتمُونها هكذا بلا سبب؟»
أكَّد قائد الشرطة ذلك بتأكيدٍ قاطع نابع من خبرة: «هذا احتمال مُرجَّح جدًّا!» واستطرد قائلًا: «القرويون هُم أكثر الناس ثرثرةً ونميمة عن أحوال غيرهم على وجه الأرض! لا تُوجَد قرية في إنجلترا ليست مَرتعًا مثاليًّا للنميمة المولودة من رحِم الحسد والكراهية والغلِّ وكل القسوة الكامنة في النفوس! ولكن إيَّاك أن تُخطئ يا عزيزي! فالقرويُّون، بالرغم من تلك النزعة، ربما يكونون أشدَّ الناس كتمانًا على الإطلاق! وحينئذٍ، قد يكون من الأسهل لك أن تحاول إخراج الزبد من فم كلب من أن تُحاول استخراج سرٍّ من فم أحدِهم لا يريد الإفصاح عنه. حسنًا، سأسوق إليك أكداسًا من الأدلة على ذلك من واقع تجربتي الشخصية! أتذكَّر قضيةً وقعت بالقُرب من هنا، منذ فترة ليست بعيدة. أُطلق الرصاص على وكيل أراضٍ وأصيب بجرح بالِغٍ في إحدى الليالي بينما كان عائدًا إلى منزله، ولم نكتشِف قَط هوية الشخص الذي اعتدى عليه وشرع في قتله حتى الآن. ولكن لا يُراودني أيُّ شكٍّ في أنَّ كل رجل وامرأة تقريبًا في ذلك المكان يعرفون هويته، لكنهم لن يفصحوا عنها؛ لأن أسفَهم الوحيد كان على أنَّ الضحية لم يَمُت. أرأيت!»
فقال بليك بضحكةٍ ساخرة: «ولكن حسب كلام السيدة براكسفيلد — الذي يبدو أنك تتَّفِق معها فيه — فهؤلاء الناس مُستعدون لإفشاءِ ما يعرفونه مقابل خمسة جنيهات. فلماذا لم تُجرِّب ذلك في القضية التي تتحدَّث عنها؟»
أجاب قائد الشرطة قائلًا: «ما زال هذا مُمكنًا. ولكن يبدو أنَّ الضحيةَ نفسه راغب في كتمان الأمر، خوفًا من عواقبَ أسوأ، ولكن ربما قد نُجرِّب عرضَ مُكافأة. ولكن في قضية ماركنمور هذه، أتصوَّر أنَّ السيدة براكفسيد ستعرض مكافأةً مالية، بدافعٍ من الغيظ المَحض! ولن أتفاجأ إذا أثمر ذلك شيئًا ما. لو كنتُ مكانك يا بليك، لأرهفتُ سمعي طَوال الساعات الأربع والعشرين القادمة. لا أعرف ما الذي ستعرِضه السيدة براكسفيلد، ولكن إذا كان شيئًا مُجزيًا، فسينشأ طمع هائل بين أولئك القرويين؛ أنا أعرفهم!»
قام بليك من الكرسي ذي المسندين الذي كان، منذ رحيل تشيلفورد المفاجئ، جالسًا عليه مُمدِّدًا ساقيه وواضعًا يدَيه في جيبيه، وهو يبدو مُتحيرًا وتعيسًا بعض الشيء.
تمتم قائلًا: «إذن، فأفضل خيارٍ لديَّ الآن أن أعود أدراجي إلى النزل. لستُ أعرف إطلاقًا حتى الآن ما إذا كنَّا قد تركنا السيدة براكسفيلد ترحل بسهولةٍ مُبالَغ فيها!»
ردَّ قائد الشرطة بإيماءةٍ ذاتِ مغزًى برأسه: «لن تهرُب. وإذا كان كل ذلك خدعة …»
سكت حين دخل الغرفةَ شرطيٌّ ووضع بطاقةً أمامه.
قال الشرطي: «السيد صاحب تلك البطاقة ينتظِر بالخارج يا سيدي.»
نظر قائد الشرطة إلى البطاقة، فانتفض والتفت إلى بليك.
تمتم قائلًا بدهشةٍ: «السير توماس هودجز-ويلكينز!» واستطرد قائلًا: «ذاك العالِم الكبير! أستاذ كمبريدج الذي حدَّثنا عنه ذاك الرجل سبيندلر. ما الذي قد يُريده بحق السماء؟ أدخِله يا جارفيس.» وأضاف قائلًا: «ضَع كرسيًّا هناك.» ثم نظر إلى المُحقِّق مُتسائلًا. وتمتم قائلًا: «تطوُّر جديد!» وسأله: «ماذا الآن؟»
لم يردَّ بليك. فقد كان يراقِب الباب، الذي ظهر منه فجأة رجلٌ ذو مظهر مُختلف تمامًا عما كان بليك يتوقَّع رؤيته. فلم يكن أستاذ الكيمياء الجامعي الشهير عجوزًا ومُتجهمًا وأصلعَ ومُلتحيًا وذا نظارة بعدستَين ومُرتديًا ثيابه بعشوائيةٍ وإهمال، بل كان حسن الهندام ومُتيقظًا وذا مظهر عسكري بعض الشيء وشديد التأنُّق في ثيابه ومُرتديًا نظارةً ذاتَ عدسةٍ واحدة وليس نظارة بعدستَين، وذا هيئة مرحة وابتسامة مُبهجة رسمها على وجهه بكل طلاقة في وجه شاغليْ الغرفة الاثنين وهو يدخل ويقعد بجوار مكتب قائد الشرطة، الذي وضع على حافته صحيفتَين أو ثلاثًا كانت تحمِل علاماتٍ كثيرةً هنا وهناك مُحدَّدة بقلم رصاص أزرق.
صاح قائلًا: «طاب صباحكما، طاب صباحكما!» وأضاف: «لا أعرف ما إذا كنتما ستُخمِّنان مِهنتي من اسمي، أو ما إذا كنتما تعرفان أيَّ شيء عنها بالفعل؟ لكني كنتُ أقرأ تقارير الصحف عن قضية ماركنمور هذه، وارتأيت، الليلة الماضية، أنَّ واجبي يُحتِّم عليَّ المجيء إلى هنا وإخباركما بشيءٍ ما. وبادئ ذي بدء، لتوضيح الأمور، هل جاء إليكما هنا شابٌّ اسمه سبيندلر، يعمل صيدليًّا مساعدًا، من فارشام؟»
أجاب قائد الشرطة: «أجل!»
«هل أخبَركما بأيِّ شيء تضمَّن اسمي؟ وإذا كان قد فعل، فما هو؟»
«أخبَرَنا — هذا هو المُحقِّق الرقيب بليك، الذي كان معي حين جاء ذاك الرجل المدعو سبيندلر — بأنَّه عرض على جاي ماركنمور أن يبيع له سِرًّا مُعينًا خاصًّا به، بشأن طريقة تحضير صبغةٍ ما، وأنَّه أرسل إليك هذا السرَّ مع ماركنمور لتُبدي رأيك الخبير فيه.»
«بالضبط! هذا صحيح. لقد أخذ ماركنمور رأيي. والآن، إلى أيِّ مدًى وصلت تلك المسألة؟»
أجاب قائد الشرطة قائلًا: «وصَلت إلى الآتي. حين قُتل ماركنمور، كان بحوزته ثلاثة آلاف جنيه في صورة أوراق نقدية، ونعتقد أنه كان يعتزم تسليمها إلى سبيندلر في صباح ذاك اليوم نفسه ثمنًا لسرِّه.»
«كان سبيندلر سيبيع مقابل ثلاثة آلاف جنيه؟»
«نعم؛ هذا ما قاله لنا.»
لفَّ أستاذ الكيمياء نظارته ذات العدسة الواحدة ليُثبتها أكثرَ في تجويف عينه، وألقى نظرةً غريبة شديدة التدقيق إلى الرجلين.
وسألهما مُتحيرًا: «هل تعتقدان، هل تفترضان أنَّ ماركنمور قُتل من أجل الثلاثة آلاف جنيه؟» وأضاف: «من المؤكد أنَّ ذلك يبدو واضحًا بعض الشيء!»
أجاب قائد الشرطة قائلًا: «لدَينا نظرية كهذه قائمة حاليًّا. فقد كان المبلغ بحوزته في الساعة الثالثة من صباح الثلاثاء، واختفى بلا أثرٍ حين عُثر على جثته بعد ذلك ببضع ساعات!»
فقال الأستاذ الجامعي بضحكةٍ قصيرة: «نعم!» واستطرد: «واختفى معه شيء آخر أيضًا! الآن، أصغيا إليَّ! لستُ شرطيًّا، لكنني ذو قدْرٍ من الذكاء. سأخبركما بسبب مقتل جاي ماركنمور، وسأراهِن بكل أموالي مقابل أرخص شيء في العالَم على أننى مُحق تمامًا. لقد قُتل جاي ماركنمور من أجل تركيبة سبيندلر، بكل تأكيد!»
ضحك الأستاذ الجامعي مُجددًا، وصفع المكتب الذي كان جواره بيده المُكتسية بقفاز أنيق. فحدَّق إليه المُستمعان، ثم حدق كلاهما إلى الآخر. وكان بليك هو مَن تحدَّث هذه المرة.
إذ سأله قائلًا: «هل لنا أن نفهم من ذلك يا سير توماس أنَّ تلك التركيبة كانت ذاتَ قيمةٍ كبيرة؟ أكبر من ثلاثة آلاف جنيه؟»
فقال العالِم الشهير: «لقِّبني بالبروفيسور. باختصار وتوفيرًا للوقت، نعم. لكما أن تفهما ذلك! ثلاثة آلاف جنيه! لو كان هذا سِرِّيًّا، لَمَا بِعتُه ولو بثلاثين ألف جنيه! هذا الشاب سبيندلر أحمقُ أو جاهل تمامًا بأسعار السوق؛ فلو كان قد احتفظ به لنفسه، لجنى منه ثروة طائلة، بطريقة أو بأخرى. لا أعرف ما إذا كنتما على دراية بمسألة أصباغ الأنيلين هذه؟ لكنكما ستعرفان، على أي حال، من صُحُفكما، إذا كنتما تطالعانها، أنها مسألةٌ بالغة الخطورة، مسألة إنقاذ صنعةٍ مملوكة لنا أصلًا من مُغتصبيها الألمان. تعرفان ذلك؟ حسنًا جدًّا، لقد اكتشف هذا الشاب من فارشام — ويا له من شاب ذكي حقًّا! — تركيبةً كيميائية غريبة! لا داعي إلى الخوض في التفاصيل، لكني أعرف ما يكفي لأكون على يقينٍ تام، في قرارة عقلي، من أنَّ ماركنمور قد قُتل بيد شخصٍ ما كان يعرف أنَّ التركيبة بحَوزته، وكان يعتزم الحصول عليها لنفسه بأي وسيلة. من المُرجَّح أنَّ هذا الشخص تعقَّبه إلى هنا، وراقبه، واعتدى عليه في المكان المهجور الذي قرأتُ عنه في الصحف.»
فقال بليك: «هذا يقتضي أن يكون ثمَّة شخصٌ ما في لندن كان يعرف أنها بحوزته.»
قال البروفيسور مؤيدًا ذلك: «من المؤكد قطعًا أنَّ شخصًا ما — في لندن أو مكانٍ آخر — كان يعرف. نظريتي الشخصية هي أنَّ ماركنمور أخبر أناسًا آخَرين — ربما مُضاربين ماليين — بهذا السر، وربما قد أطلعهم على رأيي بصفتي خبيرًا. لكني سأخبركما بالدور الذي أدَّيتُه في هذه الصفقة. ربما تعرفان أنني أشتهر في أوروبا بأنني كيميائي. حسنًا، أرسل إليَّ ماركنمور رسالةً، تتضمَّن تركيبة سبيندلر وأجرًا ماليًّا مُجزيًا، طالبًا منِّي إخباره برأيي فيها. فأدركت القيمة الهائلة لهذه التركيبة فورًا، وكتبتُ رأيي، وأعدت التركيبة مع رأيي إلى ماركنمور. كنت شديد الحرص على أنَّ يبقى سِرُّ التركيبة طيَّ الكتمان إلى حدِّ أنني اتبعت احتياطاتٍ استثنائية وأنا أرسل إليه الأوراق (التي لم يرَها أيُّ إنسان سواي حين كانت بحوزتي)؛ فبدلًا من أن أرسلها بالبريد، سلَّمتها، مُوصدةً بأختامٍ شمعية مُحْكمة، إلى واحدٍ من مُساعديَّ المؤتمنِين — مساعد يعمل في مختبري — كان ذاهبًا في نفس ذلك التوقيت إلى لندن لقضاء إجازة، كي يُسلمها إلى ماركنمور نفسه، باليد، في مكتبه في فولجريف كورت. وأنا أعرفُ أنها سُلِّمت إليه على هذا النحو. فقد كان هذا المساعد الذي أشرتُ إليه، مع أنه لم يكن يعلم ماهية ما يحويه الطرد بالتحديد، يعرف أنَّ مُحتواه ذو أهمية بالغة، وقيمة مالية هائلة بالطبع، وكان حريصًا أشد الحرص على أن يُسلِّم الطرد إلى ماركنمور شخصيًّا. وحين أتى ماركنمور إلى هنا في تلك الليلة، كانت الأوراق بحوزته؛ التركيبة نفسها، ورأيي فيها. وأُكرِّر لكما مرةً أخرى أنني أعتقد أنَّه أطلَع شخصًا آخرَ على السِّر، وأنَّ هذا الشخص تعقَّبه، وراقبه وقتله! تركيبة سبيندلر هي السبب الأصلي وراء المسألة برمَّتها!»
أعقب ذلك فترةٌ من الصمت، نَظَر خلالها الرجال الثلاثة إلى بعضهم. ثم كسرَها البروفيسور أخيرًا بسؤال مباشر.
«أليس لديكما أيُّ دليل حتى الآن؟»
أجاب بليك: «كلَّا!»
فقال البروفيسور: «سيتعين عليكما العودة إلى الوراء. إلى لندن! ومعرفةِ بعضٍ مما كان ماركنمور يفعله هناك مؤخرًا. الآن، بينما كنتُ آتيًا عبر لندن من كمبريدج يوم أمس، مررتُ في طريقي بمكتب ماركنمور في فولجريف كورت لأجري بعض التحريات. فأعطاني كبير مُوظفي ماركنمور بعضَ المعلومات. تذكَّر زيارة مُساعدي، السيد كارتر، إلى المكتب. لقد رأى بنفسه كارتر يُسلِّم إلى ماركنمور رسالتي المُوصَدة بالأختام الشمعية، ورأى ماركنمور يُعطي كارتر إيصالًا بالاستلام، أرسله لي كارتر بالبريد. إنه معي في جيبي الآن. ويقول كبير الموظفين إنه رأى ماركنمور يفضُّ أختام رسالتي، فور رحيل كارتر، ويُخرِج منها ورقتَين ويقرؤهما. وحالما أنهى ماركنمور قراءتهما، دلف إلى كُشك الهاتف الموجود في بهو بِنايتهم، ومن المُرجَّح أنه اتَّصل بشخصٍ ما. وفي غضون نصف ساعة بعد ذلك، أتى رجل كان غريبًا تمامًا على كبير الموظفين؛ فهو مُتيقن من أنه لم يرَ ذاك الرجل هناك من قبل، لكنه يتذكَّره جيدًا — رجل أجنبي، حسبما بدا من مظهره — ويستطيع أن يصفه لكما وصفًا دقيقًا. رأى كبير الموظفين ماركنمور يُخرِج رسالتي الموصدة بأختام شمعية — أقصد بعد فض أختامها، بالطبع — ويُطلع ذاك الرجل الغريب على الورقتَين اللتَين كانتا داخلها. وبعد ذلك ببضع دقائق، خرجا معًا. الآن، مَن هو هذا الرجل؟ سيتوجَّب عليكما أن تعثُرا عليه.»
نظر قائد الشرطة إلى بليك.
وقال له: «يبدو بذلك أنك ستُغيِّر مسرح عملياتك.»
لكن بليك نظر إلى البروفيسور.
وسأله قائلًا: «ما الوصف الذي ذكره لك موظف ماركنمور لذاك الغريب؟»
أجاب البروفيسور في الحال: «رجل داكن الشعر والبشرة، ومُتوسط الحجم، وفي منتصف العمر، وفي غاية الأناقة. قال إنه من نوعية الرجال الذين يراهم المرء كثيرًا في أوساط المال. أشبه بعض الشيء بيهودي أجنبي، من وجهة نظر الموظف.»
قال بليك: «لو أنَّ رجلًا كهذا قد جاء إلى هذه المنطقة، فمن المؤكد أنه كان سيلفت الانتباه. لقد أجريتُ تحريات دقيقة عن الغرباء الذين شُوهِدوا مُؤخرًا في كل محطات القطارات …»
فقال البورفيسور: «توجَد وسائل مواصلات أخرى غير القطارات. ولكن على أي حال، ثمَّة شيء واحد مؤكَّد: لقد أطلع ماركنمور هذا الرجل على التركيبة ورأيي فيها!»
جاب بليك أرجاء الغرفة هُنيهة، بوضعيته المُفضلة: خافضًا رأسه وواضعًا يديه في جيبيه. ثم التفت أخيرًا إلى قائد الشرطة.
وقال: «حسنًا، سأعود إلى ماركنمور. ينبغي أن أُباشر بعض الأمور هناك. وبعدئذٍ …»
ردَّ قائد الشرطة قائلًا: «يجب أن نتحدَّث أكثر. بعدئذٍ … كما تقول.»
ونهض البروفيسور وأخذ قُبعته وعصا سيرِه.
وقال: «سأمكث في فندق مايتَر هنا يومًا أو اثنين. وبذلك، فإذا أردتُماني، ستعرفان أين تجداني. ولكن إبَّان وجودي هنا، أودُّ أن أرى مسرح كل هذا اللغز، وإذا كنتَ ذاهبًا إلى هناك أيها الرقيب، فسأذهب معك، إن جاز لي ذلك.»
ردَّ بليك قائلًا: «بكل سرورٍ يا سيدي.»
واصطحب البروفيسور إلى الخارج وعبر شوارع سيلكاستر إلى الطريق المُستقيم الطويل المؤدي إلى ماركنمور. وبينما كانا يسيران عبر الطريق، ذكر له بالتفصيل كلَّ إجراءاته التي اتَّخذَها، بدءًا من العثور على الجثة إلى ما حدَث مع السيدة براكسفيلد في ذاك الصباح.
واختتم كلامه قائلًا: «لا أعرف ما إذا كان عرْض مكافأة سيُجدي أيَّ نفع. لو كان أيُّ شخصٍ قد رأى مثل هذا الغريب الذي تقول إنه ربما أتى إلى هنا، فكان من المُفترَض أن أعرف ذلك قبل الآن.»
فقال البروفيسور: «آه، سيكون عليك أن تعود أدراجك، سيكون عليك أن تعود أدراجك!» وأضاف: «أنا على يقينٍ من أنَّ السِّرَّ يكمُن بعيدًا في الوراء. كل النظريات خاطئة، حتى الآن! السبب ليس المال، أو على الأقل ليس النقد الجاهز. بل تركيبة سبيندلر، بما تحمِلُه من إمكانيات هائلة. والآن، ما المكافأة التي تعرضها السيدة براكسفيلد مقابل المعلومات؟»
فأجاب بليك: «لا أعرف؛ فلم تقُل شيئًا عنها. لكننا سنعرف قريبًا. انظر هناك!»
مرَّت بجوارهما عربةُ لاصِق إعلاناتٍ يقودها رجلٌ ذو حلةِ عملٍ كتانية بيضاء، وكانت تسير مُسرعة صوب القرية.
تابع بليك قائلًا: «لقد تحدَّث مُحاميها عن الإعلان عن هذه الأشياء فورًا. من الواضح أنه لم يُضيِّع وقتًا؛ فها هو هذا الرجل ذاهب لينشُرَها.»
فقال البروفيسور: «يؤسِفني أنها لن تُجدي نفعًا!» وأضاف: «فأنا أرى أنَّ المسألة كلها دُبِّرت بإحكامٍ فائق. لن يظهر شيء هنا.»
ردَّ بليك: «لا أحد يدري. كل أنواع الأشياء تُجدي ولو نفعًا صغيرًا.»
واصلا المسير حتى بلغا مدخل القرية. وهناك، كان لاصق الإعلانات مُنشغلًا بالفعل بلصق اللافتة على أول جدار فارغ صادفَه، وكان حوله حشد من نساء وأطفال فاغِرين أفواههم.
مكافأة مائة جنيه
في ظل العثور على سيد ماركنمور كورت النبيل المُبجل الراحل، جاي ماركنمور، مقتولًا بالرصاص على الروابي، بالقُرب من منخفض ماركنمور هولو، في صباح الثلاثاء الموافق ٢٤ أبريل الماضي، والاعتقاد بأنه قُتِل: يُرجى العِلم بأنَّ المبلغ المالي المذكور أعلاه، مائة جنيه إسترليني، سيُقدَّم إلى أيِّ شخصٍ يُدلي بمعلومات تؤدي إلى اعتقال القاتل وإدانته. يُمكن تقديم مثل هذه المعلومات إلى الشرطة، أو مباشرةً إليَّ.
قال البروفيسور وهو يُشيح بوجهه عن المُلصَق بابتسامةٍ ساخرة بعض الشيء: «إممم!» وأضاف قائلًا: «يبدو أنَّ سيدتكم — ماذا كان اسمها؟ — براكسفيلد ليست مُبالِغة في الكرم! ليتها قالت خمسمائة! هاه؟»
فقال بليك وهو يُلقي نظرةً خاطفة على حشد الناس الذين كانوا يتَهَجَّوْن بصعوبةٍ محتوى المُلصق بلهفة: «لقد قالت السيدة براكسفيلد بسخريةٍ لي ولقائد الشرطة إنَّ ماركنمور ليس فيها رجل ولا امرأة ليسوا مُستعدِّين للتنازُل عن أُمَّهاتهم مقابل خمسة جنيهات! والآن، تُوجَد عشرون خمسة في المائة؛ لذا …»
فقال البروفيسور ضاحكًا: «أي قَدْر المبلغ المُغري عشرين مرة!» وأردف قائلًا: «مهارة حسابية جيدة، على أي حال! نعم، حسنًا يا صديقي، لا أظنُّ أنَّ هذا سيُجدي نفعًا كبيرًا. ولكن، من باب الفضول، أودُّ الحصول على نسخةٍ من ذلك الإعلان. هل تظنُّ أنَّ صديقنا الفاضل صاحب إناء المعجون اللاصق والفرشاة سيُعطينا نسخة؟»
فقال بليك: «أظنه سيكون في غاية السعادة بذلك. لا سيما إذا أعطيتَهُ ثمن نصف لتر من شراب المَزَر، فلصق الإعلانات يُعَدُّ عملًا يُسبِّب العطش على ما أعتقد.»
ضحك البروفيسور مُجددًا، ودنا من لاصق الإعلانات، وأخذ نسختَين من إعلاناته من تلقاء نفسه، وأعطاه نصف كراون.
ثم سأله بينما كان يُسلِّم نسخةً إلى بليك ويطوي النسخة الأخرى واضعًا إياها في جيبه: «أظنك ستلصق هذه الأشياء في كل أنحاء الريف؟» وأردف قائلًا: «فالهدف منها إثارة اهتمام واسع النطاق، هاه؟»
أجاب لاصق الإعلانات: «شيء من هذا القبيل يا سيدي. هكذا كانت التعليمات التي تلقَّيتُها. معي مائتا نسخة من هذا المُلصَق في عربتي، ويجب أن أنتهي من نشرها كلها قبل موعد العشاء، في كل أنحاء هذه القرية.» ثم أضاف بغمزةٍ من عينه: «ولن تُجدي أيَّ نفع إطلاقًا! … في رأيي.»
سأله البروفيسور: «أتظنُّها لن تُجدي نفعًا؟» وأضاف: «لماذا؟»
فقال لاصق الإعلانات: «لأنَّ ثمَّة أمرًا يكمُن عميقًا جدًّا في هذا اللُّغز!» وأردف قائلًا: «عميقًا جدًّا، جدًّا، جدًّا أيها السيدان! عمل من أعمال الظُّلمة! ولن يُكتشَف سريعًا. لكن العمل عمل، وعليَّ مُواصلة عملي، الذي يتمثَّل حاليًّا في إثارة الجميع وإيقاظ مشاعر الطمع والجشع في نفوسهم!»
قال البروفيسور بينما كان لاصِق الإعلانات يرحَل مُسرعًا: «فكاهي!» ثم واصل المَسير إلى داخل القرية بجوار بليك، ناظرًا حوله بعينَين فضوليتَين. وفجأة وقعت عيناه على سيبتر. فقال: «آها!» ثم أردف قائلًا: «إذن، فهذا هو النزل الذي شهد لقاء منتصف الليل؟ أودُّ زيارته سريعًا، هل بوسعهم مَنْحنا بعض الغداء يا تُرى؟»
ردَّ بليك قائلًا: «أنا مُقيم هناك. هذا مَقرِّي. ولديَّ فيه غرفةُ جلوس خاصة. إذا مَنحتَنِي شرف ضيافتك يا سيدي، فسأطلُب الغداء وقتما تشاء؛ فلدَيهم كمٌّ وفير منه.»
أعرب البروفيسور عن سروره، وظلَّا طوال الساعة أو الساعتَين التاليتَين هو وبليك يناقشان مُعضلة ماركنمور بكل تشعُّباتها وتداعياتها، على مائدة الغداء وأمام نيران المدفأة. وفي الثالثة عصرًا، خرجا ليتفقَّدا مسرح المأساة، وكانت وجهتهم النهائية هي مُنخفض ماركنمور هولو. ولكن بينما كانا يتمشَّيان عبر الطريق، وقعت عينا بليك على دافي هاليويل فجأة، عند عتبة البوابة الصغيرة الواقعة وسط البوابة الكبيرة لبيت الأرملة، ورأى كذلك أنَّ دافي أومأت في صمتٍ برغبتها في مُحادثته.