الرجل الذي استطاع التخمين
وبينما كانت دافي تُشير إلى بليك، تراجعَت خطوة أو اثنتَين وسط الشجيرات الكثيفة، وكان التعبير البادي في عينَيها يُوحي برغبة في السرية والحذَر. فأشار بليك، بدَوره، لرفيقه بأن يتبعه، وهمس له جانبًا بكلامٍ جانبي وهما يتركان الطريق ويمرَّان عبر البوابة الصغيرة.
تمتم قائلًا: «هذه إحدى النساء اللاتي حدثتُك عنهن. وصيفة السيدة تريزيرو، دافني هاليويل، أخت الفتاة مايرا هاليويل، التي تزوَّجَت جاي ماركنمور. أي إنها خالة البارونيت الجديد! وهي عميقة للغاية. تعالَ معي، سأجعلها تظنُّ أنك مساعدي.»
فقال البروفيسور: «ممتاز!» واستطرد قائلًا: «مغامرة! بالطبع يا رفيقي العزيز! تبدو هذه المرأة كما لو كان لدَيها شيء تريد الإفصاح عنه.»
فأجاب بليك: «هذا مُرجَّح!» وأضاف قائلًا: «فهي عميقة للغاية تُخفي الكثير كما قلت.»
كانت دافي قد تراجعَت مزيدًا من الخطوات في الممرِّ الواقع بين شجيرات الغار والبهشية، وكانت في هذه اللحظة تقِف مُنتظرة اقترابهما، وبينما كانا يدنوان منها، نظرت بإمعانٍ إلى البروفيسور، لا سيما ثيابه العصرية. ثم نظرت إلى بليك نظرة مُتسائلة.
فهمس لها بليك قائلًا: «اطمئني!» وأردف قائلًا: «هذا رفيقي في المِهنة. ما الأمر؟»
فقالت دافي: «أريد أن أُحادثك.» نظرَت حولها إلى مُحيطهم، ثم إلى طريقٍ أضيقَ على مقربةٍ منهم كان مُنفتحًا على الممرِّ الذي كانوا واقفين فيه. وأضافت قائلة: «تعالَيَا معي من هنا. يُوجَد هناك كوخ صيفي قديم لا يُستخدَم أبدًا، سنكون في مأمنٍ هناك.»
تَبِع الرجلان دافي بقوامها الممشوق عبر متاهةٍ من الشجيرات حتى وصلا إلى سقيفةٍ ريفية من أغصانٍ غيرِ مُشذَّبة وسط أشجارٍ عالية. وبعدما دخلوا هذه السقيفة التي كانت مُتهالكة ومُتعفِّنة، استدارت وواجهت بليك رامقةً البروفيسور بنظرةٍ جانبية أخرى.
وقالت بنبرة خفيضة: «أردتُ أن أحادثك يا سيد بليك. كنتُ أنتظر هناك عند البوابة منذ بعض الوقت على أمَل أن أراك تخرج من نزل سيبتر. لقد ذهبت سيدتي بالعربة إلى سيلكاستر؛ لذا لن يطلُبني أحد، ومن المُستبعَد أن يأتي أحد إلى هنا؛ لذا فنحن في أمانٍ كافٍ للتحدُّث قليلًا. أصغِ إليَّ! لقد أُعلِنَت مكافأة، أليس كذلك؟»
أكد بليك ذلك وهو يُحدِّق إليها بإمعان: «مائة جنيه.»
لَوَت دافي قسمات وجهها عابسة.
وقالت: «أوه حسنًا!» وأردفت قائلة: «إنه مبلغ زهيد، لكني لا أُريده، ولا أعرف أيَّ شيء يُمَكِّنني من الحصول عليه. ولكن الآن، سيكون ما سأقوله سرًّا بيننا، أليس كذلك؟»
فقال بليك: «بالطبع!» وأضاف قائلًا: «سيكون هكذا تمامًا. أخبريني بأيِّ شيءٍ تريدين وتستطيعين قوله.»
أجابت دافي قائلة: «حسنًا، أعرف شخصًا ما أعتقِد أنه توصَّل إلى تخمينٍ جيد جدًّا بشأن حقيقةِ ما حدث لجاي ماركنمور.» وتابعت: «وهو رجل سيسعَد بمائة جنيه؛ لأنه يريد الهجرة.»
سألها بليك: «مَن هو؟»
خفضت دافي نبرة صوتها.
وقالت هامسة: «جيم روبر!» وسألته: هل سمعت عنه؟»
أجاب بليك: «نعم.» كان يتساءل في قرارة نفسه بالفعل عن مدى الثقة التي يمكن أن يُوليها لما ستقوله؛ فعلى حدِّ ما استشَّف من طباعها، كان يرى أنَّ دافي ليست بالمرأة التي يُمكن أن تُفشي أيَّ شيءٍ لن تستفيد منه. ولكن ربما كان لديها أسباب لإفادة جيم روبر لم تتَّضِح بعد. كرَّر إجابته قائلًا: «نعم، سمعتُ عن جيم روبر. إنه الرجل الذي كان يريد أن يتزوَّج أختك، مايرا، أليس كذلك؛ أختك التي هربت مع جاي ماركنمور وتزوَّجته؟»
أكدت دافي ذلك قائلة: «بالضبط. وبسبب أنَّ روبر كان على وشْك الزواج من مايرا حين هجرته ورحلت مع جاي ماركنمور، لم يتحدَّث. لكنَّ مائة جنيه ربما ستحثُّه على التحدُّث!»
سألها بليك: «ما الذي تقصدينه، بالضبط، بأنه لم يتحدَّث بسبب ذلك؟» وأضاف: «وما الذي لم يتحدَّث عنه أصلًا؟»
ردَّت دافي بنظرةٍ شملت الرجلَين كليهما: «حسنًا، الأمر كالتالي، روبر رجلٌ يُمكنك أن تصفه بأنه سريع الغضب، ودائمًا ما كان هكذا. من ذاك النوع الذي لا ينسى ولا يغفر. دائمًا ما كان راغبًا في الزواج من مايرا، وهي أيضًا وعدته بذلك. وفي الحقيقة، كانا على وشك أن ينشرا إعلان زواجهما المُرتقَب في الكنيسة حين هربت فجأةً مع جاي. وبالطبع لا أحد — ولا حتى أنا، شقيقتها — عرف مصيرها قَط إلَّا مُؤخرًا، حين تكشَّفت تلك المسألة المُتعلقة بزواجهما. عندما رحلَت في البداية، ذهب روبر إلى لندن مرارًا ليبحث عنها. ولم يعثُر على أيِّ أثر لها بالطبع، لكنه دائمًا ما كان يُقسِم على أنَّ جاي ماركنمور هو مَن أغواها وأبعدَها عنه. وكان يُقسِم على شيءٍ آخر أيضًا؛ أنه سيقتُل جاي ماركنمور إذا صادفه، حتى ولو شُنِق عقابًا على ذلك في الحال. وكان يقصد ذلك أيضًا! كان هذا آخِرَ ما قاله لي قبل ذهابي إلى الهند، مع السيدة تريزيرو، وأول ما سمعتُه يقوله حين عُدتُ إلى هنا، بعد ذلك بسبع سنوات.»
قال بليك: «كان لا يزال ينوي فعل ذلك؟ بعد سبع سنوات؟»
ردَّت دافي: «أعتقِد أنه كان سيفعل ذلك حتى لو كان قد قابل جاي ماركنمور بعد سبع عشرة سنة!» واستطردت قائلة: «إنه من ذلك النوع! كنتُ أراه يزداد سوءًا كلما فكَّر في هذه المسألة. كانت شغله الشاغل والوحيد. قبل أسبوعين فقط، التقيتُهُ بالقُرب من هنا يومًا ما، وتصادَف أن ذكرتُ أنَّ السير أنطوني العجوز في أواخر أيامه، وتساءلتُ آنذاك عمَّا إذا كان جاي سيعود ليرِث اللقب ويُصبح سيد العائلة، فعَبَس وقال إنَّ جاي إذا عاد في أيِّ يومٍ من الأيام، فسيكون مصيره الوحيد طعنة غائرة بسكينٍ في جسده! وأصدُقُكَ القول، بما أنَّ الكلام سرٌّ بيننا، إنني حين سمعتُ بمقتل جاي ماركنمور، كنتُ على اعتقادٍ تام بأنَّ روبر قد التقاه ذاك الصباح وأجهز عليه؛ كنتُ أعتقد ذلك حقًّا!»
سألها بليك: «وصرتِ لا تعتقدين ذلك الآن؟»
قالت دافي بنبرة تأكيد: «لا!» وأضافت: «لكني أعتقد أنَّ روبر لدَيه فكرةٌ جيدة جدًّا عن هوية القاتل. وفي الحقيقة، ربما تكون أكثر من مجرد فكرة؛ لعلَّه يعرف بالفعل. وأقول لك إنه قد يرغب في إخبارك مُقابل مائة جنيه؛ لأنه يعلَم الآن أنَّ مايرا قد ماتت، ويريد الرحيل عن هنا والهجرة إلى الخارج.»
سألها بليك: «ولماذا تَظنِّين أنَّ روبر يعرف شيئًا ما؟» وأردف: «فلتُخبرينا بصراحة! هل قال لكِ أيَّ شيء؟»
أجابت دافي: «أجل!» واستطردت: «التقيتُه منذ ليلةٍ أو اثنتَين، حين كان آتيًا إلى القرية ليتسوَّق. تحادَثْنا عند تلك البوابة التي التقيتَني عندها قبل لحظات، وبالطبع كان حديثنا كله عن جريمة القتل. سألتُه صراحةً عمَّا إذا كانت له أيُّ صِلة بذلك؟ فقال إنه ليس له صِلة به، لسوء حظه! ثم قال المزيد. لقد قال: «أستطيع الإفصاح عن شيءٍ ما عن هذا، لكني لن أفعل؛ لأنَّ الواقعة قد حدثت وقُضِي الأمر بالفعل. لن أساعد الشرطة. دعيهم يؤدُّوا عملهم بأنفسهم.» كان هذا هو كلَّ ما قاله، ثم رحل.»
سألها بليك: «ألم يُعْطكِ أيَّ فكرة أخرى سوى ذلك؟»
أجابت دافي: «لم يقُل سوى ذلك. لكني مُتيقنة من أنه يعرف شيئًا ما. ولكن، إذا بدأت استجوابه، فمن أجل الربِّ لا تجعله يعرِف أنني قد أخبرتُك!»
قال بليك مُطَمْئِنًا إيَّاها: «أستطيع تدبُّر ذلك بسهولة، إذا أخبرتِني بالآتي. هل صدر من روبر أيُّ تهديداتٍ أو وعيد ضدَّ جاي ماركنمور في وجود أيِّ شخصٍ آخر غيرك؟ أقصد في الماضي؟»
قالت دافي مؤكدة: «أوه، لقد فعل ذلك بالتأكيد في الماضي! قبل ذهابي إلى الهند. سمعتُه يقول أشياء فظيعة في نزل سيبتر. أظنك ستجد في القرية رجالًا كثيرين قد سمِعوه.»
وهنا عادت ذاكرة بليك إلى المحادثة الأولى التي استرق السمع إليها في نزل سيبتر، وتعليقات بعض رجال القرية على مشاعر العدَاء التي يُكِنها عدة أشخاص من أهالي الحي، لم تُذكَر أسماؤهم، تجاه جاي ماركنمور.
قال: «حسنًا. لن يأتي أيُّ ذِكر لاسمك. سأتظاهر بأنني سمعتُ معلوماتٍ عن تهديدات روبر ومشاعره في مكانٍ آخر. ولكن الآن، أين يعيش روبر؟»
أجابت دافي: «وحدَه، في كوخ وسط الغابة على الجانب الآخر من الروابي، خلف مُنخفض ماركنمور هولو. يعيش مُنعزلًا في الأعلى هناك، ولا ينزل إلى هنا أبدًا، سوى مرةٍ في الأسبوع ليشتري احتياجاته من البقالة واللحوم.»
فسألها بليك: «أيُّ نوع من الرجال هو؟»
أجابت دافي: «كان شابًّا لطيفًا جدًّا مِثلما يُمكن أن يكون أيُّ شاب، حتى هربَتْ مايرا. لكن ذلك أفسده وجعله بغيضًا. صار رجلًا كئيبًا مُتجهمًا صامتًا، نادرًا ما يتكلَّم ولا يبتسِم أبدًا. لا أعلم ما إذا كنتَ ستعرف أيَّ شيءٍ منه أم لا، لكني على يقينٍ تام من أنه إما يعرف شيئًا ما أو خمَّن شيئًا ما.»
سألها بليك رامِقًا إيَّاها بنظرةٍ متفحصة: «أأنتِ مُتيقنة تمامًا، في قرارة عقلك، من أنَّ روبر نفسه بريء؟»
فنظرت دافي هاليويل إلى كِلا الرجُلَين وضحكت ضحكةً غريبة.
وصاحت قائلة: «أجل!» ثم أضافت: «أنا مُتيقِنة من ذلك!»
فسألها البروفيسور، مُتحدِّثًا للمرة الأولى منذ بداية المُحادثة: «لماذا يا تُرى؟» وأردف قائلًا: «لماذا أنتِ متيقنة؟»
أحالت دافي نظرتَها إلى السائل الثاني مُختصةً إيَّاه بانتباهٍ أكبر. وبعدما نظرت إليه بإمعانٍ دقيقةً كاملة، تحدَّثت.
قالت له فجأة: «يبدو أنَّك ستفهم، بغضِّ النظر عن حقيقة هويتك. ولا أُصدِّق أنَّك شرطي، سواء أكنتَ في ثيابٍ مدنية أم غير ذلك! أنا مُتيقنة من أنَّ جيم روبر لم يقتُل جاي ماركنمور؛ لأنه لو كان قد فعل ذلك، لكان هو نفسه أول مَن سيُعلِن أنه أخذ ثأره! وما كان سيكترِث مثقال ذرة إذا شنقوه في اليوم التالي!»
تبادل بليك مع دافي بعض الحديث بشأن مكان روبر بالتحديد، ورحل مع رفيقه. سار البروفيسور على طول الطريق صامتًا بعض الوقت.
ثم قال أخيرًا: «تلك المرأة لديها فراسة ثاقِبة في فهم الشخصيات. ستكون عضوةً نافعة إذا التحقت بأفراد قوَّتك يا بليك! أنا واثِق من أنها مُحقَّة تمامًا فيما قالته للتو. فرجلٌ بتلك الشخصية كما وصفته، ظلَّ يُضمِر رغبته في الثأر طوال هذه السنوات، ما كان سيكترِث كثيرًا بمَن سيعرف أنه أشبعها أخيرًا. فمن وجهة نظره، كما تَفهم، كانت هذه ستكون مُنتهى غايته من الحياة! وكلُّ ما دُونها سيكون بلا قيمة.»
قال بليك: «وماذا عن غريزة البقاء وحفظ الذات؟»
أجاب البروفيسور مُنهمكًا في التفكير: «لا أظنُّه كان سيكترث بذلك إطلاقًا. لا! حدس المرأة صائب. أظننا يجب أن نَعُدَّ ذاك الرجل المدعو روبر بريئًا. من الواضح أيضًا أنه أُوذِيَ وَظُلِم بشدة. لديَّ فضول لرؤيته.»
قال بليك: «أظنُّنا سنجده قريبًا. سيكون في مكانٍ ما في الغابة.»
قاد بليك رفيقه صاعدًا معه الممرَّ العميق، ومرَّا ببيتِ ذا وارن وبيت وودلاند كوتيدج، حتى وصلا إلى قمة الأرض المُرتفعة فوق مُنخفض ماركنمور هولو. لم يكن بليك قد تخطَّى هذه النقطة قَط؛ لذا تفاجأ حين وجد نفسه ينظُر إلى امتدادٍ ريفي، كان يتناقَض تناقضًا صارخًا، في تنوُّعه وقفرِه مع الريف الرعوي المزروع، الذي تركه ورفيقه خلفهما للتو. ففي هذا المكان، على الجانب الشمالي من الأراضي المُرتفعة، كانت جوانب التلال مُنقسمة إلى وهادٍ ووديان ضيقة عميقة مُظلمة، وكانت تبرُز من المُنحدرات كتلٌ ضخرية ضخمة، فيما كانت تُوجَد أشجار يابسة قديمة قاتمة على كل الجوانب بدا المرور من بينها مُستحيلًا، وقف الرجلان ينظران حولهما إلى ذاك المشهد بطابعه شبه المُوحِش، ولاحظا عدم وجود أيِّ مسكنٍ بشري في نطاق رؤيتهما القُصوى.
قال البروفيسور: «مشهد مُقفر!» وأضاف: «إنه مهجور!»
لكن بليك رفع إحدى يديه.
وقال: «أصغِ!»
من مكانٍ ما على يمين البُقعة التي كانا واقفَين فيها، دوَّى صوتُ ضربة فأسٍ قوية على جذور شجرةٍ ما، دَوِيًّا واضحًا لا تُخطئه الأذن. فالتفتا إلى هذا الاتجاه، ورأيا قمَّة شجرة صنوبر طويلة نحيفة تتأرجح وتتداعى وتتلاشى وسط الأشجار المُنخفضة التي كانت تقف وسطها، ثم سمعا صوت ارتطامٍ مكتوم.
قال بليك: «من المؤكد أنَّ هذا رَجُلنا مُنهمكًا في العمل.»
اجتاز الرجلان جانب التل، في صمت، صوب الاتجاه الذي أتى منه صوت الفأس المُتأرجِحة، التي كان واضحًا في هذه اللحظة أنها وُضِعت جانبًا. وفي غضون بضع دقائق، وصلا إلى حزامٍ من الأشجار رأيا، من خلال فتحة فيه، رقعةً مستوية خالية من الأشجار في الغابة التي وراءه. وهناك، بجوار شجرة الصنوبر الساقطة، كان ثمَّة رجلٌ واقفًا يُشعل غليونه الفخاري القصير في تلك اللحظة. كانت فأسه موضوعة على الشجرة التي قطعتْها للتو، وبالقُرب منها، كان يُوجَد كلب يرقُد مُتقوقعًا أمام معطف سيده. أمال الكلب إحدى أُذنَيه وفتح إحدى عينَيه عند اقتراب الغريبَين، ثم أصدر زمجرةً خفيضة، فالتفت الرجل ورمق زائرَيه الاثنين بنظرةٍ مُتجهمة متسائلة.
تمتم البروفيسور لرفيقه قائلًا: «يا له من رجل ذي مظهر مُرعب!» وأردف قائلًا: «وفأسه سلاح مُخيف يا بليك! ينبغي أن أتحدَّث إليه بتأدُّب شديد ومُجاملة بالغة في البداية.»
فابتسم بليك.
وقال: «لن أُخيفه!» وأردف قائلًا: «فالإقناع يفوق القوة.» واصل الحديث بلُطفٍ وهما يقتربان من الرجل الذي كانا يبحثان عنه: «طاب مساؤك!» وسأله قائلًا: «أأنت جيمس روبر؟»
أجاب الحطَّاب: «هذا اسمي أيها السيد.»
فقال بليك وهو يُبرِز إحدى بطاقاته المِهنية: «وهذا اسمي. ربما تكون قد سمعتَ عنِّي. أقيم في نزل سيبتر.»
أخذ روبر البطاقة، ورمقَها بنظرةٍ خاطفة هي وبليك، ثم أعادها بلامبالاة.
وأجاب قائلًا: «سمعتُ شيئًا من هذا القبيل.»
جلس بليك على شجرة الصنوبر المقطوعة، وأخرج غليونه والتبغ.
وقال: «أردتُ أن أعرف ما إذا كنتَ تستطيع أن تُعطيني قليلًا من المعلومات يا روبر. تعيش هنا، أليس كذلك؟»
ردَّ روبر بنبرةٍ تُشير إلى أنَّ مكان سكنه ليس من شأن بليك: «بالقُرب من هنا.»
تابع بليك: «إذن، فأنت تعرف هذه المنطقة — أي هذه الغابات وجوانب التلال والروابي — بل تعرفها جيدًا جدًّا، على ما أظن. فمن المُؤكد أنَّك تخرُج وتسير عليها وبينها في الصباح الباكر، وربما في وقتٍ مُتأخِّرٍ ليلًا؟»
لم يُجِب روبر. كان في ذلك الوقت قد نفخ في غليونه إلى أن بلغ ذروةَ اشتعاله، وأمسك في هذه اللحظة بفأسِه، وبدأ يُزيل بها الغصينات العلوية والفروع النحيلة الرقيقة للشجرة التي جلس بليك عليها. تقبَّل بليك صمته، ولزم الصمت هو الآخر، ثم توقَّفت الفأس، واتَّكأ روبر على مقبضها الطويل ونظر إلى سائله.
قال له عابسًا: «لقد صعدتَ إلى هنا هباء!» وأضاف: «ما الذي تسعى إلى معرفته؟ سمعتُ أنك تتحرَّى بشأن تلك الواقعة التي حدثت في ماركنمور هولو. لا أعرف شيئًا عنها. ربما خَطَر ببالك أنني، لو كنتُ أعرف، كنتُ سآتي إليك في مكانٍ ما أو أذهب إلى الشرطة في سيلكاستر، وأُدلي بما أعرفه.»
ردَّ بليك رامقًا الرجل بنظرةٍ خبيثة: «وربما خطر ببالي أنك ما كنتَ ستفعل ذلك. لقد علمتُ الكثير منذ أن أتيتُ إلى هذه المنطقة. كنتَ تُضمر ضغينةً شديدة تجاه جاي ماركنمور، هاه؟»
اشتدَّ عبوس روبر عن ذي قبل.
وتمتم قائلًا: «لكني لا أعرف شيئًا مؤكدًا عن الكيفية التي لَقِيَ بها حتفه على أي حال. وأما بخصوص الضغائن ومشاعر الغل، فيُوجَد أناس بالقُرب من هنا يعرفون كيف عاملَني هذا الحقير! ألا يحق لرجلٍ محترم، مثلما كنتُ وما زلت، أن يُكِنَّ مشاعرَ تجاه رجل عاملَهُ بسوء؟»
فوافقه بليك قائلًا: «يحقُّ لك أن تُكِنَّ ما تشاء من المشاعر، كأي إنسان. مَن قال إن هذا ليس من حقك؟»
وهنا بدا روبر وقد هدأ بعض الشيء.
قال رويدًا: «حسنًا، بسبب مثل هذه المشاعر التي أُكِنُّها، ما كنتُ لأرفع إصبعًا واحدًا لأُنقذ ذلك الرجل من الأذى! لقد نال ما يستحقه أمثاله. لكنني لا أعرف ما يُمكنك أن تُسميه فكرة مُحدَّدة عن هوية الشخص الذي جزاه هذا الجزاء.»
قال بليك مُلمحًا: «تقصد إنك لا تعرف تفاصيلَ دقيقة. ولكن، أصغِ إليَّ الآن يا روبر. إنك تتجوَّل كثيرًا في هذه المنطقة، في أوقاتٍ مبكرة ومُتأخِّرة على السواء، وأظنك تملك عينَين ثاقبتَين وأُذنَين مُرهفتَين أيضًا. لقد مات جاي ماركنمور! — ولنقُل إنه كان غُمَّةً وأُزيحت، إذا شئت! — لا أهتمُّ بذلك بالتأكيد. ولكن إذا كنتَ تعرف أيَّ شيءٍ من أي نوع عنه، قُبيل موته مباشرة، فما المُشكلة في أن تُفصِح عنه، لا سيما إذا كان ذلك سيعود عليك بالنفع؟ مثلًا، في أثناء تجوُّلِك، كما تفعل عادة، هل رأيتَ أيَّ شيءٍ مريب أو صادفتَ أيَّ أشخاص مُريبين؟ هل سمعتَ أو رأيتَ أيَّ شيءٍ غير عادي؟»
ظلَّ روبر ينظُر إلى زائرَيه بالتناوب. وكان البروفيسور يُدخِّن سيجارًا وهو يُحدِّق إليه باهتمام.
ثم قال روبر فجأة: «لم أسمع شيئًا عن أيِّ نفع قد يعود على مَن يُفصِح عن أيِّ شيءٍ ربما عرفه بالصدفة.»
أخرج بليك من جيبه نُسخته من إعلان المكافأة في صمت، وناولَها إلى الحطَّاب، وهنا رأى البروفيسور، الذي كان مُنتبهًا بشدة، عينَي روبر تلمَعان عند رؤية الكتابة الثقيلة التي طُبِعَت بها تفاصيلُ مكافأة السيدة براكسفيلد. قطَّب الرجل حاجبَيه الكثيفَين وهو يقرأ تفاصيل العرض بصعوبةٍ شديدة.
بعد قليل سأله بليك قائلًا: «ما رأيُك في هذا؟» وأضاف: «مائة جنيه ستكون من نصيبِ أيِّ شخصٍ يُدلي ولو بالقليل من المعلومات. فإن كنتَ تعرف أيَّ شيء — ولتضعْ في حسبانك يا روبر أنني لا أُلمِّح ضمنيًّا إلى أنك تعرف بالفعل! — ولكن أقول، إذا كنت تعرف، هاه؟»
بدأ روبر يطوي إعلان المكافأة، وكان يحدق إلى الأشجار الموجودة أمامه مُنهمِكًا في التفكير وهو يعيد الورقة إلى المُحقِّق.
قال له بليك: «احتفظ به!» وأردف قائلًا: «إنه منشور في كل أرجاء المنطقة. إذا تصادَف أنك تعرف أيَّ شيءٍ على الإطلاق يا روبر، فكُن سبَّاقًا!»
فقال روبر ببطء: «ذاك المبلغ المذكور؟ الجنيهات المائة. أهو مضمون؟»
أجاب بليك قائلًا: «سأضمَن لك ذلك!» وأضاف: «إنه مضمون تمامًا! لأيِّ شخصٍ يستطيع الإدلاء بمعلوماتٍ دقيقة. ألديك أيٌّ منها؟»
سأله روبر: «مال فوري؟»
فأكَّد بليك ذلك قائلًا: «مال فوري!» وأردف قائلًا: «الدفع نقدًا!»
كان غليون روبر قد انطفأ. فجلس فجأة على الشجرة المقطوعة، وبدأ يُعيد إشعال التبغ بتروٍّ أظهَر أنَّه كان مُتروِّيًا بالقدر نفسه في تفكيره.
وقال فجأة: «أنا في أمسِّ الحاجة إلى مائة جنيه!» وتابع قائلًا: «صحيح أنه ليس مبلغًا كبيرًا، لكنه سينفعني. لقد تعبتُ من هذه المنطقة وسئمتُها، وأريد الرحيل، أريد بدء حياة جديدة في مكانٍ بعيد! ذاك الرجل جاي ماركنمور شطر حياتي نصفَين، إن جاز القول، والآن … حسنًا، إذا حصلتُ على المال، فسأرحَل عن هنا في الحال، وأرى أماكنَ ووجوهًا جديدة، وأحاول النسيان. لقد أفرطتُ في العيش وحيدًا، و…»
لم يكن بليك مُستعدًّا لهذه الدفقة العاطفية المُفاجئة، ولم يكن مُستعدًّا كذلك لما أبداه البروفيسور من دفقةٍ عاطفية مُشابهة اندفاعية تمامًا ومفاجئة كتلك.
إذ صاح البروفيسور قائلًا لروبر: «أصغِ إليَّ يا صديقي!» وأضاف: «صحيح أنك لا تعرفني — لكن ذلك ليس مُهمًّا! — فها هو بليك يعرفني. الآن، إذا كنتَ تريد بدايةً جديدة، حياة أخرى، هاه! فسأعطيك مائة جنيه إضافةً إلى هذه المكافأة المالية — بكل سرورٍ بالطبع — وحالًا! ولكن إذا كنتَ تعرف أيَّ شيء، قُله!»
حدَّق روبر في ذهولٍ إلى البروفيسور، الذي أومأ برأسه بكل حماس.
وقال فجأة: «شكرًا لك يا سيدي!» وأضاف قائلًا: «أرى أنك تعني ذلك بالفعل، أنت رجل طيب القلب! حسنًا، لا أعرف شيئًا مؤكدًا، لكني أستطيع أن أُخمِّن شيئًا ما تخمينًا جيدًا جدًّا!»