ماركنمور هولو
على بُعد حوالي نصف ميل جهة الشمال الشرقي من ماركنمور كورت، الذي كان مُحاطًا من أحد جانبيه بممرٍّ ضيق عميق يمتدُّ من طريق القرية الرئيسي إلى الروابي المُتموجة التي كانت بعض أجزائها بارزةً فوقه، ومُحاطًا من خلفه بالأشجار والشجيرات التي كانت تقع بين سفح تلك الروابي والسهول المُستوية الواقعة تحتها، كان يُوجَد بيت قديم صغير مريح خلَّاب يُدعى «ذا وارن». كان البارونيت الخامس، السير جيفري ماركنمور، هو مَن شيَّد هذا البيت في منتصف القرن الثامن عشر مَسكنًا لمُديره المالي آنذاك، ثم تعاقب على سُكناه مديرون ماليُّون آخرون حتى السنوات الأخيرة، حين نُقِلوا إلى بيتٍ أقلَّ شأنًا وأنسب لهم في وسط القرية. ومنذ ذلك الحين، صار ذا وارن يؤجَّر لسكانٍ مُستأجِرين؛ فمَوقعه وإطلالته الرائعة على الحديقة والمروج والبحر جعلاه مرغوبًا لدى أيٍّ من ذوي الذوق الرفيع. كان ساكنه آنذاك هو السيد صمويل فرانسيمري، الذي كان رجلًا أعزب في مُنتصف عمره وكان يعمل مُحاميًا مُختصًّا في النقض والقضاء العالي، والذي، حالَما وجد ذا وارن معروضًا للإيجار حين كان يقضي إجازةً في هذه المنطقة، سارع فورًا إلى استئجاره بعقدٍ مُدته واحد وعشرون عامًا. فقد كان بالضبط هو المكان الذي كان السيد فرانسيمري يتمنَّاه منذ فترة، ومع أنَّه كان مُحاميًا (من جمعية «ميدل تمبل»)، لم يترافع تقريبًا عن أي شخصٍ أمام القضاء طوال حياته، ولم تكن المُحاماة تستهويه كثيرًا. بل لم يكن مُعتمِدًا عليها بأيِّ حال من الأحوال؛ إذ كان لديه الكثير من الموارد المالية الخاصة التي كانت تمكِّنه من إشباع ميوله الشخصية تمامًا. وقد كانت هذه الميول بسيطة. فكان السيد فرانسيمري يقضي أيامه في جمْع الكتب والتُّحَف العتيقة، وزراعة القليل من الزهور في حدائقه الخلَّابة، والتمشية لمسافات طويلة في الريف. وكان يملك بعض الدراية بعِلم النبات، وبعض الدراية بعِلم الجيولوجيا، وفي ظلِّ انشغاله بكل هذه الأنشطة الكثيرة، كان يقضي وقته باستمتاع وهدوء.
كان السيد فرانسيمري يبدو من مظهره الخارجي رجلًا قصيرًا مرحًا. فقد كانت قامته أقصر قليلًا من المتوسط وكان جسده مائلًا إلى البدانة، وكالعديد من قصار القامة، كان يمشي مُنتصبًا بشدة، وكان فخورًا بأنَّه كان مُستقيم الظَّهر ومنتصب الكتفَين وهو في الخمسين من عمره كما لو كان في الخامسة والعشرين. كان وجهه الحليق دائريًّا وورديًّا، وكانت عيناه تلمعان خلف نظارته الكبيرة المُرصَّعة بالذهب، وكانت له أسنان جميلة وشعر كثيف بُني فاتح، وكان مُفرِطًا في الاهتمام بتفاصيل مظهره الشخصي؛ لذا كان أهل القرية يقولون عنه إنَّه دائمًا ما كان يبدو كما لو أنه قد خرج للتوِّ من صندوق القُبعات، قاصدين بذلك أنه كان نظيفًا وأنيقًا للغاية. بل كان لدى السيد فرانسيمري طابع من الشباب الأبدي وريعان النضارة السرمدي؛ إذ بدا أنَّ كل ربيع يمرُّ عليه كان يجده أصغر سِنًّا من الربيع السابق. وكان الناس يُمازحونه حول سبب شبابه الظاهري الدائم، وإذا كلَّف نفسه عناء تفسيره، كان يفعل ذلك بتكرار جدِّي رصين للمقولة المأثورة: «النوم مُبكرًا والاستيقاظ مبكرًا يجعل الرجل مُعافًى وثريًّا وحكيمًا.» فالسيد فرانسيمري، منذ وصوله إلى «ذا وارن» وبدئه حياةً ريفية حقيقية، دائمًا ما كان ينام في التاسعة والنصف ليلًا ويستيقظ مع طائر الفجر المُغرد.
وقد استيقظ مع طائر الفجر المُغرِّد في صباح هذا اليوم بالتحديد، وفي الواقع، كان يستيقظ في اللحظة نفسها التي كان فيها هاري ماركنمور، على بُعد نصف ميلٍ في ماركنمور كورت، يخبر أخته فالنسيا في هدوء بأن أباهما قد مات في أثناء نومه. بالطبع لم يكن السيد فرانسيمري يعرف شيئًا عن ذلك؛ إذ لم يكن فِكره مُنشغلًا بالموت بل بالحياة. رفع هو الآخر ستارة نافذته ورأى الفجر الأحمر وسَمِع العصافير المُغردة وطيور الشحرور في المزارع المجاورة، واشتمَّ رائحة تيارات المدِّ الأعلى، وشعر برغبةٍ شديدة في الخروج والتمشية في الهواء الطلق. كان من دأبه أن يخرج في نزهةٍ طويلة سيرًا كل صباحٍ قبل تناول فطوره في الساعة التاسعة، وكان ينوي المواظبة على هذه العادة في صباح هذا اليوم. ولكن كان عليه إنجاز بعض الأشياء أولًا. فلم يكن خَدَمه يستيقظون قَطُّ قبل الساعة السادسة؛ لذا كان السيد فرانسيمري يلبي بعض احتياجاته بنفسه. كان رجلًا كثير الاعتماد على الأجهزة المُوفِّرة للجهد البشري؛ إذ كان الماء الساخن متوفرًا في بيته طوال الليل والنهار في كل غرفة من غرف النوم. ومن ثَمَّ، كان السيد فرانسيمري يستطيع الحصول على مياه الاستحمام ومياه الحلاقة بمُجرِّد أن يلف صنبورًا، وكان لديه أيضًا موقد مُسجَّل ببراءة اختراع في غرفة نومه، كان يُعِدُّ عليه الشاي أو القهوة في بضع دقائق. لذا ففي هذه الأثناء من الصباح، وقبل وقتٍ طويل من استيقاظ مُدبرة منزله وخادمة الاستقبال وخادمة النظافة والأعمال المنزلية الأخرى، كان يستحمُّ ويحلِق ذقنه ويرتدي ثيابه، ثم كان في الوقت المُحدَّد المعتاد يحتسي قهوته الفاخرة الفوَّاحة ويقضم البسكويت المصنوع من الحبوب الكاملة. وفي تمام الساعة السادسة بالضبط، بعدما ارتدى حلَّته الصوفية الرمادية الأنيقة وانتعل حذاءً متينًا من أحذية الصيد كان قويًّا بما يكفي لمواجهة ندى الصباح الثاقِب النفَّاذ، نزل إلى الطابق السُّفلي، وأخذ من صالته عصا مَشْيٍ مصنوعةً من خشب شجيرات المران، ثم اعتمر قُبعة أنيقة على رأسه، وانطلق عبر الأراضي المُرتفعة الواقعة على الجانب الآخر من «ذا وارن».
أخذته خطواته الأولى إلى خارج مُحيطه المُنمَّق وعَبَر بستانًا صغيرًا مليئًا بمُختلف أنواع أشجار الفاكهة والخضراوات — التي زرعها بنفسه — إلى المَمرِّ الضيق المُمتد من ماركنمور إلى قمة الروابي المُتموِّجة. كان هذا واحدًا من الممرَّات المميزة الخاصة بجنوب إنجلترا، ونادرًا ما كان يُوجَد مثله في أي مكان آخر. فقد كان غائرًا بعمق في الأرض، ومحصورًا بين تبَّتَين مُرتفعتَين يعلوهما سياج شجري عالٍ مثلهما من نباتات الزعرور والبهشية وشجيرات الخمان، وكان جزءٌ كبير من هذا السياج مُتشابكًا مع شجيرات العليق والجولق وزهر العسل. كان سطح الطريق الخشن المليء بالشقوق والأخاديد الضيقة يقَع على مسافةٍ عميقة أسفل هذه النباتات الغزيرة الكثيفة، وعادةً ما كان يُصبِح كتلةً من الطين في الشتاء، ويكتسي بترابٍ عميق يُغطي الكاحِلَين في الصيف. لكنَّ السيد فرانسيمري لم يكن يعتزِم اتباع الزقاق، بل نزل إليه على دَرَج مصنوع من جذوعٍ خشنة غير مُشذَّبة ومغروسة في أحد جانبَيه المُرتفعَين، ثم عَبَر الشقوق الغائرة في قعره، وصعد الجانب الآخر على دَرَج مُماثل. ثم تسلَّق مرقًى هناك، وسار عبر مَمشًى ضيق مُحاط بشجيرات الغار على كِلا جانبيه، فقاده إلى أسيجة حديقةٍ صغيرة حسنة المظهر يقع خلفها كوخ «وودلاند كوتيدج» المريح، الذي كانت تسكنه السيدة براكسفيلد. وهناك، على قطعة أرض صغيرة مكشوفة بجوار الحديقة، رأى السيد فرانسيمري السيدة براكسفيلد نفسها ترمي حُبيبات الذرة لدجاجها.
كان السيد فرانسيمري يعرف السيدة براكسفيلد منذ بضع سنوات. فقد أقام في نزل سيبتر إن مرة أو اثنتَين قبل مجيئه للعيش في «ذا وارن». وكانت السيدة براكسفيلد آنذاك تُدعى السيدة رين؛ إذ كانت أرملةَ السيد بيتر رين الراحل. كانت امرأةً ذكية نشيطة مُدبرة، وكانت تعرف من أين تُؤكَل الكتف. كان بيتر قد ترك لها أموالًا وطفلةً واحدةً تُدعى بوبي، وكان مظهر بوبي واعدًا منذ نعومة أظفارها بأنها ستكون حسناء للغاية، وقد أوفى بوعدِه. واصلت السيدة رين جني الأموال من نزل سيبتر، وكان الناس يقولون إنها تكنز ثروةً من أجل بوبي؛ وبالطبع نشأت وترعرت بوبي كفتاةٍ راقية، وأُلحِقَت بمدارس داخلية راقية، وما إلى ذلك. وبعدئذٍ، تقاعدت السيدة رين عن العمل فجأة، وأخذت بيت وودلاند كوتيدج، وتزوَّجَت براكسفيلد. لم يعرف أحد قَطُّ سبب هذا الزواج؛ إذ واصل براكسفيلد حياته المُعتادة في ماركنمور كورت، وإذا زار زوجته أصلًا، فكان يزورها ساعةً أو اثنتين فقط بعد الظهر أو في المساء، أو كان يقضي معها عطلات نهاية الأسبوع على فتراتٍ مُتباعدة جدًّا. لكنَّ أهالي الحي كانوا يقولون إنَّ براكسفيلد أيضًا سيتقاعد يومًا ما، حين يموت السير أنطوني على الأرجح، وحينها يعود بكل تأكيد إلى وودلاند كوتيدج وإلى زوجته إلى الأبد.
نظر السيد فرانسيمري باستحسانٍ إلى السيدة براكسفيلد وهو يدنو منها ومن دجاجها. كان معجبًا بها. فنظرًا لكونه رجلًا قصيرًا، كانت عينه بارعة في ملاحظة النساء ذوات الأجسام الكبيرة بعض الشيء. وقد كانت السيدة براكسفيلد امرأةً جميلة قوية ضخمة البنيان في حوالي السابعة والأربعين من عمرها، لكنها كانت تبدو أصغر من ذلك بخمس سنوات، وكانت ذات قوامٍ رائع وشعر ناعم وأسنان جميلة ومُحيًّا زاهٍ، وعينين لمَّاحتَين فطِنتَين بُندقيتَي اللَّون، وإن كان فيهما مَسْحة طفيفة من الخبث. ابتسمت إلى السيد فرانسيمري وهو يضع أصابعه على قُبعته الأنيقة المصنوعة من القماش الأسكتلندي المنقوش ذي المُربعات، فبادلها السيد فرانسيمري الابتسامة.
ثم صاح قائلًا: «طاب صباحك يا سيدتي.» وأضاف: «وصباح الكثير منهن أيضًا! آه يا سيدة براكسفيلد، أظننا الشخصَين الوحيدَين العاقلين في هذا الحي. فها نحن مُفعمان بالانتعاش والتورُّد — فضلًا عن أنَّك جميلة كهذا النهار نفسه — ونستمتِع بالهواء النقي وهذه المناظر والأصوات الريفية المُبهجة في حين أنَّ معظم جيراننا يشخرون في أَسرِّتهم، ناسين الدكتور واتس وأنشودته الصغيرة. يا لكِ من امرأةٍ حكيمة يا سيدتي!»
فضحكت السيدة براكسفيلد، كاشفةً عن أسنانها البيضاء ومُحرِّكةً ذقنها ذا النقرة.
ثم ردَّت بتغنُّج جذَّاب، قائلة: «اممم، قد يكون هذا صحيحًا يا سيد فرانسيمري. لكنِّي ربما كنتُ سأرقد شاخرةً في فراشي لو سنحت لي الفرصة، مع أنني لا أشخر أبدًا؛ على حدِّ علمي. إنك تستيقظ باكرًا لأنك تُحب ذلك، أمَّا أنا فأستيقظ باكرًا لأن لديَّ مهامَّ يجب إنجازها. ولو كان لدي ثلاث خادمات نشيطات، كما لديك، لما استيقظتُ في الخامسة صباحًا ولا السادسة حتى، ولقطعت لك وعدًا بذلك؛ لستُ أنا! فأنا في أمسِّ الحاجة إلى نيلِ قِسطٍ أكبر من النوم ممَّا أناله.»
فقال السيد فرانسيمري: «في هذه الحالة يا سيدتي، عليكِ بواحدٍ من خيارَين. إمَّا أن تستأجري خادمةً شابَّةً نشيطة في البيت، أو أن تطلُبي من الآنسة بوبي النهوض وإطعام الدجاج.»
أفرغت السيدة براكسفيلد غربال الذرة وسط الدجاج، واقتربت أكثر من السياج الشجري.
ثم قالت: «أوه حسنًا. بوبي ليست سيئة في النهوض مُبكرًا وأداء نصيبها من الأعمال المنزلية. لكنَّها ليست في المنزل الآن؛ فهي في زيارة لإحدى صديقات الدراسة القديمات؛ لذا أنا وحدي. وأمَّا بخصوص استئجار فتاة خادمة يا سيد فرانسيمري، فأُفضِّل ألَّا أُزعج نفسي بواحدةٍ منهن؛ فمشاكلهن أكثرُ من نفعهن. بالطبع لديَّ امرأة تأتي كل يوم لإنجاز العمل الشاق، أمَّا ما يتبقى، فنتدبَّر أنا وبوبي أمره جيدًا. ولكن لا أعرف كيف سيصير الوضع حين يأتي براكسفيلد للعيش هنا؛ فوجود رجل يُحدِث فارقًا، وأظنُّنا سنُضطرُّ إلى استئجار خادم أو اثنين حين يتقاعد.»
سألها السيد فرانسيمري الذي لم يكن يستطيع مقاومة إغراء الثرثرة عن شئون الآخرين من أهل القرية: «هل يعتزم التقاعُد إذن؟» وأضاف: «لقد اكتفى، أليس كذلك؟»
أجابت السيدة براكسفيلد قائلة: «لن يتقاعد ما دام السير أنطوني حيًّا.»
قال السيد فرانسيمري: «من واقع ما سمعت، فلن ينتظِر طويلًا. فحين ذهبتُ إلى ماركنمور كورت صباح أمس للاستفسار عن حالته، كما أفعل كل يومٍ يا سيدتي، فهمت من الآنسة ماركنمور أنَّ أباها ربما يرحل في أي وقت، حسب كلام الأطباء.»
قالت السيدة براكسفيلد: «إنه رجل هَرِم جدًّا يا سيد فرانسيمري. كان قد ناهز الستين تقريبًا حين تزوَّج للمرة الثانية. ومع ذلك، فسواء ظلَّ على قيد الحياة وقتًا طويلًا أو قصيرًا، سيبقى براكسفيلد معه حتى النهاية.»
فقال السيد فرانسيمري: «براكسفيلد خادم عجوز مُخلِص طيب. حسنًا، لديكِ عشٌّ مريح جدًّا في انتظاره حين يتقاعَد يا سيدتي! يا له من رجل محظوظ! منزل جميل ومُحيط مُبهِج، وأجمل امرأة في جنوب البلاد! أليس كذلك يا سيدتي؟»
قالت السيدة براكسفيلد بضحكةٍ متعمدة: «يا إلهي، يا لك من مُجامِل يا سيد فرانسيمري! عجبًا! ستجعلني أغتر.»
ضحك السيد فرانسيمري أيضًا، ثم ذهب. كان من عادته مُمازحة الآخرين، وكان يستمدُّ من ذلك متعةً جمة؛ إذ كانت ممارسة هذه العادة تجعله في حالة معنوية جيدة. وقد كانت معنوياته مرتفعة في هذه اللحظة، وبدأ يُصفِّر بعدما تخطَّى منزل وودلاند كوتيدج وسار بخطواتٍ نشطة وثَّابة على الروابي المفتوحة الواقعة خلفه. ولكن لم يكد يقطع شوطًا طويلًا عبْر العشب المرن المتراقص حتى توقَّف صفيرُه فجأة. فبعدما انعطف عند أحد أركان سطح الروابي المُتموِّج مجتازًا إيَّاه، وقعت عيناه فجأةً على شيء أوقفه. فعلى بُعد نحو مائة ياردة أمامه، وعلى اليسار قليلًا من المَمشى العريض المُغطَّى بالعُشب المؤدي من منزل ماركنمور كورت إلى قرية ميتبورن، التي كانت تقع على الجانب الآخر من الروابي، كان يُوجد مُنخفَض عميق في الأرض يعرفه أهالي المنطقة باسم ماركنمور هولو. كان هذا المُنخفَض، في الواقع، مَحجر طباشير ذا مساحة هائلة ومهجورًا منذ أمدٍ بعيد، ولكن منذ أن توقَّف استخدامه، قبل نحو مائة عام، تراكمت هناك شجيرات سفلية كثيفة من الجولق والعليق أسفل مجموعة مُتشابكة من أشجار الشوح الأسكتلندي القديم، وصار المكان حينئذٍ قَفرًا خاليًا ومُوحشًا. لكنه لم يكن خاليًا في هذه اللحظة. فقد كان يقف بجوار إحدى أشجار الشوح الأسكتلندي وبالقُرب من كتلة هائلة من نبات الجولق ثلاثة رجال، كان أحدهم شُرطي قرية ماركنمور، وقد عرفه السيد فرانسيمري فورًا من زيِّه الشرطي، فيما كان الثاني حارس الطيور والحيوانات لدى السير أنطوني ماركنمور، وقد عرفه السيد فرانسيمري من معطفه المخملي، أمَّا الثالث فكان عامل مزرعةٍ كثيرًا ما كان السيد فرانسيمري يلتقيه في الصباح حين كان هذا الرجل يعبُر الروابي مُتجهًا إلى عمله في القرية.
ولكن لم تكن رؤية هؤلاء الرجال الثلاثة هي ما جعلت السيد فرانسيمري يتوقَّف فجأة ويوقف صفيره ويلتقِط أنفاسه. فقد كان يألفهم وكانت عيناه تعرفانهم جيدًا. ولكن حين تحركوا، رأى شيئًا مجهولًا راقدًا عند أقدامهم. بدا هذا الشيء كجسد رجُلٍ مُستلقٍ بلا حراك ومُغطًّى بشيء أشبهَ بمعطف أو معطف طويل كان موضوعًا بعناية على الجسد الهامد الذي يُغطيه. وهنا نزل السيد فرانسيمري، الذي حلَّت على ملامحه الجدية وخيَّم عليه صمت تام في ذلك الوقت، إلى المُنخفَض وقد انتابه إحساس مفاجئ لم يعرف ماهيته.
أقبل نحوه شُرطي القرية الذي كان رجلًا ثاقب البصر وكان قد باح للسيد فرانسيمري ذات مرة بأنه يحمِل طموحات وينوي الترقِّي عبر المناصب الشرطية. كان وجهه يُوحي بالكثير، وهزَّ رأسه بإيماءةٍ طفيفة وهو يُحيِّيه بوضع أصابعه على قُبعته الشرطية ذات الحافة الأمامية المُدببة.
سأله السيد فرانسيمري بصوتٍ خفيض: «ما كل هذا؟» وأردف قائلًا: «أتُوجَد مشكلةٌ ما؟»
فأجاب الشرطي قائلًا: «مشكلة جسيمة جدًّا يا سيدي.» ثم دنا منه واستدار مُشيرًا إلى الجسد المُغطَّى. «يرقد هناك رجل ميت يا سيدي. أصِيبَ برصاصة في الرأس! لكني لا أستطيع الجزم بما إذا كانت جريمة قتل أم انتحار يا سيدي. أظنها جريمة قتل على أي حال؛ إذ لا يُوجَد مسدس بالقُرب منه. والرصاصة التي أصابته انطلقت من مسدس.»
صاح السيد فرانسيمري: «يا إلهي!» وأضاف: «وي، ومَن هو؟»
رمقه الشرطي بنظرة حادة.
وردَّ قائلًا: «لم أستطِع معرفة هويته يا سيدي. فأنا أعمل هنا منذ ثلاث سنوات فقط؛ لذا لا أعرفه بالطبع. لكنَّ هذين الرجُلين الآخرين يعرفانه: إنه السيد جاي ماركنمور يا سيدي.»
انتفض السيد فرانسيمري مُرتجفًا.
وصاح قائلًا: «ماذا؟» واستطرد: «الابن الأكبر للسير أنطوني؟ لا تقُل إنك تعني ذلك حقًّا.»
فأجاب الشرطي: «هذا ما يقولانه يا سيدي، وهما يعرفانه جيدًا. لقد عثر عليه ذاك الرجل، المدعو هوبز، عامل الحرث. فركض إلى كوخ الحارس وإليَّ، وأتينا فورًا. لكني قبل مَجيئي اتصلت هاتفيًّا بالسلطات في بلدة سيلكاستر، ومن المُنتظر أن يأتي قائد شرطة المنطقة بنفسه، لقد قالوا إنه خرج آنذاك مُتجهًا إلى هنا، برفقة الطبيب. تعالَ وألقِ نظرة عليه يا سيدي.»
استجمع السيد فرانسيمري شجاعته ليؤدي هذه المهمة الكئيبة، واقترب. فحيَّاه الحارس وعامل المزرعة بلمس قُبعتيهما، وأزاح الشرطي العباءة التي كان العامل قد خلعها عن كتفيه ووضعها على الجثة. وانحنى السيد فرانسيمري فوق الجثة مُتسائلًا عن تفسير كل هذا.
ارتأى أن الرجل ميت تمامًا. وكان يرقد في سلام تام. فكان وجهه هادئًا شاحبًا غير مُبتسم ولا عبوس، وكانت قسماته عادية باستثناء أنَّ حاجبيه المُحدَّدين بدقة كانا مُقطبين قليلًا في تعبيرٍ ينمُّ عن الحيرة بعض الشيء. أمَّا فيما عدا ذلك، فكان ساكنًا تمامًا …
قال له الشرطي هامسًا: «من المؤكد أنها جريمة قتل يا سيدي، ومن مسافةٍ قريبة. انظر هناك! الجِلد فوق صدغيه مُحترقٌ قليلًا. و…»
قال الحارس فجأة: «ها هم قادمون. رجلان أو ثلاثة منهم.»
نصب السيد فرانسيمري قامته ونظر عبر الروابي. كانت آتيةً نحوهم عربةٌ صغيرة خفيفة بحصانين تسير بسرعةٍ كبيرة على الدرب العُشبي من ناحية بلدة سيلكاستر، التي كانت قمة برج كاتدرائيتها الطويلة باديةً من فوق الغابة الواقعة بين الروابي المُتموجة والمدينة القديمة. وفي وميض الشمس التي كانت تعلو في السماء بسرعة، رأى بريق زيِّ شرطة المقاطعة ذا اللونين الفضي والأزرق، وكما قال الحارس للتو، بدت العربة الخفيفة، التي كان يقودها أحد الشرطيين، مليئة بالرجال. وسرعان ما قطعت العربة الدرب العشبي إلى حافة المنخفض، وقفز منها قائد الشرطة، الذي كان رجلًا عسكريَّ المظهر في منتصف عمره، وتبعه الرجلان الآخران، وكان أحدهما طبيب الشرطة، وبدا جليًّا أنَّ الآخر كان شرطيًّا يرتدي ثيابًا مدنية، وركض الثلاثة مُسرعين إلى الأسفل نحو المجموعة الصغيرة التي كانت واقفةً أسفل أشجار الشوح الأسكتلندي. أومأ قائد الشرطة برأسه للسيد فرانسيمري، الذي كان كلُّ مَن في المنطقة يعرفه، والتفتَ بحِدة إلى شرطي القرية.
وسأله بسرعة: «مَن عثر على هذا الرجل؟»
فتقدَّم عامل الحرث باشمئزاز واضح عليه.
وأجاب قائلًا: «أنا مَن وجدَه يا سيدي.» وأضاف قائلًا: «اسمي جيمس هوبز وأعمل في مزرعة السيد مارو.»
سأله قائد الشرطة: «متى؟ وكيف؟»
فأجاب هوبز: «منذ حوالي ساعة يا سيدي، وربما أكثر قليلًا. إنني أمرُّ بهذا الطريق إلى عملي كل صباح. رأيتُه بينما كنتُ أسير في الأعلى هناك، فنزلت لإلقاء نظرةٍ عليه. ثم أدركتُ أنه ميت؛ لذا غطيته بمعطفي وركضتُ إلى القرية لإبلاغ الشرطي هناك.»
سأله قائد الشرطة: «أكان ميتًا حين وجدته؟»
«استنتجتُ أنه كان ميتًا تمامًا يا سيدي! فقد لمستُ يدَه ووجهه، وكان كلاهما باردًا جدًّا.»
التفت قائد الشرطة إلى طبيب الشرطة الذي تقدَّم وأزاح المعطف عن الجثة. ثم انحنى فوقها وفحصها سريعًا، وبعد ذلك قام وأدلى باستنتاجه.
قال: «إنه ميت منذ مدة تتراوَح بين ساعتين إلى ثلاث ساعات، على حدِّ ظني، وربما أكثر قليلًا. وقد أُردِيَ برصاصةٍ من مسدس على الأرجح.»
سأل القائد شرطي القرية قائلًا: «أوجدتَ أيَّ شيءٍ كهذا؟»
«لا شيء يا سيدي. لقد بحثتُ بعناية في كل أنحاء المكان. لم أجد شيئًا.»
فتمتم قائد الشرطة قائلًا: «إذن، فهي جريمة قتل!» ثم دنا من الرجل الميت وحدَّق إليه بإمعان. وقال ناظرًا إلى الحارس والشرطي: «أظنه السيد جاي ماركنمور، أليس كذلك؟» ثم أضاف: «لم أرَه من قبل، كما تعلمان؛ إذ رحل قبل مجيئي إلى سيلكاستر.»
فقال طبيب الشرطة: «إنه جاي ماركنمور بلا أي شك. كنتُ أعرفه جيدًا. ولم يتغير تقريبًا.» ثم أضاف ناظرًا إلى الحارس: «أنت أيضًا كنتَ تعرفه بالطبع. أظنك تستطيع التعرُّف عليه؟»
فصاح الحارس: «أوه، أعرفه بالطبع يا سيدي. إنه السيد جاي ماركنمور بالتأكيد، إنه هو! أستطيع معرفة هويته حيثما كان، يا له من مسكين!»
نظر قائد الشرطة حوله. واجتذب نظرَه بيت ماركنمور كورت، الذي كان واقعًا بين أشجار الدردار والزان على بُعد ثلاثة أرباع ميل عبر جانب التل المُنحدر. فهزَّ رأسه.
وتمتم قائلًا: «هذا أمر شنيع. مَن عساه يُريد قتله بحق السماء؟ لقد كان مهاجرًا منذ … منذ سبع سنوات، أليس كذلك؟ حسنًا، يجب نقله، وعلينا إبلاغ الطبيب الشرعي فورًا.» ثم أضاف مُلتفتًا إلى الرجل ذي الثياب المدنية: «بليك، فلتتولَّ مسئولية ذلك. أرسِل إلى القرية طلبًا للمساعدة، وانقل الجثة إلى ماركنمور كورت؛ إذ يُمكن إجراء التحقيق هناك. اجعل هوبز الواقف هناك يُسرِع إلى القرية، وأعِد والشو في العربة الخفيفة إلى سيلكاستر ليُحضِر الشرطي الآخر، ومَشِّط هذا المكان كله بدقَّة متناهية بحثًا عن أي آثار أقدام وما إلى ذلك. وأنت أيها الطبيب، هلَّا تبقى وتنزل معهم إلى ماركنمور كورت حين يكونون مُستعدِّين لنقله؟ فمن المؤكد أنك ستحتاج إلى إجراء فحصٍ أدق. أمَّا الآن، فعلينا نقل الخبر إلى العائلة. سيد فرانسيمري، أظنك تعرفهم كلهم جيدًا، فهلا تأتي معي إلى هناك؟ إنها مهمة مؤلمة، ولكن لا مفرَّ من إنجازها.»
حنى السيد فرانسيمري رأسه، وانطلق مع قائد الشرطة بخطوةٍ سريعة عبر الروابي المُتموجة. ظلَّا لبعض الوقت سائرَين في صمت، كسره قائد الشرطة.
قال: «حسبما فهمت، فالسير أنطوني على وشك الرحيل عن الحياة. وهذا … عجبًا، ما هذا؟»
توقَّف الرجلان، وحدَّق كلاهما إلى الآخر. ثم التفتا فجأة إلى الوادي التفاتةً تنمُّ عن فهْمٍ مشترك. فقد دوَّت رنة جرس عميقة رنَّانة من برج كنيسة ماركنمور، أعقبتها رنة أُخرى بعد لحظة.
تمتم قائد الشرطة قائلًا: «ناقوس الوفاة! إذن مات السير أنطوني ماركنمور!»