لقاء منتصف الليل
التفتت جحافلُ الحاضرين، الذين كانوا يعرفون ماركنمور والمناطق المُلاصقة لها، التفاتًا جماعيًّا في آنٍ واحدٍ بينما كان قاضي التحقيق يتكلم، ونظروا إلى أحد أركان الغرفة، حيث كان يُوجَد رجلٌ مُتكئ بظهره، منذ بداية التحقيق، على ألواح كسوة الجدران المصنوعة من البلوط مُتيقظًا بإمعان لكلِّ ما قيل ومُصغيًا له بكل اهتمام. كان رجلًا عريضَ البنيان وحليق الوجه، باستثناء سالفتَين قصيرتَين كانتا تُزينان أعلى وجنتيه النضرتَين المُفعمتَين بالحيوية، وكان له مظهر كمظهر الفوارس وكان يمضغ قطعةَ قَشَّة ناتئة من زاوية شفتيه الجامدتَين منذ أن جلس القاضي على كرسيه. وقد أبرزت ثيابه هذا المظهر الفروسي؛ إذ كان يرتدي حلَّةً من القماش الصوفي المنسوج والذي كان مزيجًا من خيوطٍ بيضاء وسوداء، وكسوتَين واقيتَين أنيقتَين حول الساقَين من قماش صُوفي مُربَّع ثقيل كاللباد، ورابطة عنق بيضاء مُخصَّصة للفرسان مربوطة بدبوس كبير جميل على شكل حدوة حصان. كان يبدو كأنه مدير حظيرة خيول، لكنَّ جموع الحاضرين كانوا يعرفونه جيدًا بجريمسدِل، مالك نزل سيبتر إن.
كان قاضي التحقيق معذورًا في قوله إنه لا يعرف شيئًا عن الشهادة التي تطوَّع جريمسدِل بتقديمها. والحقيقة أن لا أحد من الحاضرين في تلك القاعة كان يعرف أي شيءٍ عنها. ومن بين جميع مَن كانوا يرمقون مالك النزل بنظرات الفضول، كان أفراد الشرطة أصحاب النصيب الأكبر من هذا الفضول لسببٍ وجيه. ففي أثناء التحرِّيات التي أجراها بليك ومرءوسوه في القرية والحي، كانوا قد زاروا نزل سيبتر وسألوا جريمسدِل عمَّا إذا كان يعرف أي شيء. فقال لهم جريمسدِل آنذاك، بأسلوبه الفطِن المُتحفظ الذي ينمُّ عن درايته، إنه يعرف شيئًا — بل ربما الكثير من الأشياء — وإنَّه سيقول كلَّ ما يعرفه … في الوقت المناسب والمكان المُلائِم. وقد استخدم بليك كل قُدراته الإقناعية في محاولة لاكتشاف ما يعرفه جريمسدِل، وفشل تمامًا؛ إذ أصرَّ جريمسدِل، الذي ظلَّ يُلمِّح إلى أنه يعرف الكثير، على رفض التفوُّه بكلمةٍ واحدة حتى بدء التحقيق في موت جاي ماركنمور، وعدم التحدُّث إلَّا أمام قاضي التحقيق وهيئة المُحلَّفين. وبعدما خابت مساعي بليك، أطلق قائدَ الشرطة على جريمسدِل، لكنَّ محاولات قائد الشرطة لم تُكلَّل بنجاحٍ أفضل. فقد قال جريمسدِل آنذاك إنه لن ينطق بكلمةٍ واحدة إلى أن يدخل مقصورة الشهود، ثم أضاف، بغمزةٍ تنمُّ عن دراية، إنَّهم سيُذهَلون بشدة عند سماع أقواله. وها هو ذا في هذه اللحظة صار ماثلًا أمامهم أخيرًا، وكان كلُّ مَن في القاعة من أفراد الشرطة، بدءًا من قائد الشرطة إلى أقلِّهم رُتبة، مُتلهِّفين أشدَّ اللهفة لمعرفة المعلومات التي سيُدلي بها.
ارتأى عدة أشخاص أقوياء الملاحظة من بين الحاضِرين أنَّ جريمسدِل، حين كان على المنصة، بدا كرجلٍ يعرف أهمية شهادته. فكانت عيناه وشفتاه تحمل تعبيرًا بدا كأنَّ لسان حاله يقول إنَّ كلَّ ما شهده التحقيق حتى هذه اللحظة لا شيء، وإنَّ المُهم حقًّا هو أقواله التي سيدلي بها. ورأى محامي السلطات أنَّ هذا الرجل هو أشد مَن رآهم في حياته ثقةً في نفسه وتمالكًا لأعصابه، وأنَّه من أولئك الشهود الذين لن يُزعزِعهم أي شيء، ولن يهزَّ أيُّ شيءٍ شهادتهم حالَما يُدلون بها. وقد بدا أنَّ مظهره كله وسلوكه الهادئ قد جعلا كلَّ مَن في القاعة أشدَّ انتباهًا له ممَّا كانوا لأي شاهدٍ سابق؛ إذ كان فيه طابعٌ ما جعل الجميع يشعرون بأنهم سيسمعون شيئًا بالِغ الأهمية أخيرًا.
تولَّى قاضي التحقيق مسئولية استجواب الشاهد، مُستخرجًا منه بضعَ حقائقَ رسمية. فهو تشارلز جريمسدِل، الذي كان يعمل في السابق سائسًا لدى السير جيمس مارشانت، ثم صار مالكَ نُزُل سيبتر إن في ماركنمور، وحامل رُخصته. عاش طوال حياته في حي ماركنمور، ووُلِد في القرية. كان يعرف كل أفراد آل السير أنطوني ماركنمور. وكان على معرفة جيدة بالراحل السيد جاي ماركنمور بالذات، منذ أن كان مُجرد طفل حتى رحل عن الديار قبل سبع سنوات.
سأله قاضي التحقيق قائلًا: «هل رأيت السيد جاي ماركنمور منذ رحيله عن الديار يا جريمسدِل؟» كان قاضي التحقيق مُتحيرًا بعض الشيء بشأن ماهية الأسئلة التي ينبغي طرحُها على الشاهد، وارتأى أن أفضل شيءٍ هو التطرُّق إلى حقائق نافعة. ثم استطرد: «أعني مؤخرًا؟»
«نعم يا سيدي.»
«متى إذن؟»
«ليل الإثنين الماضي.»
«أين رأيته؟»
«في نزلي، سيبتر.»
«هل أتى السيد جاي ماركنمور إلى نزلك، سيبتر إن، في ليل الإثنين الماضي؟»
«كان السيد جاي في نزلي، سيبتر إن، من الساعة الثانية عشرة إلا خمس دقائق من ليل الإثنين إلى الساعة الثالثة والربع من صباح الثلاثاء يا سيدي.»
«أتى إلى هناك؟»
«أتى إلى هناك في الوقت الذي ذكرتُهُ يا سيدي.»
«هل أتى وحدَه؟»
«أتى وحدَه يا سيدي. لكنه لم يظلَّ وحده لبقية الوقت.»
«مَن كان معه؟»
«كان معه رجل واحد يا سيدي من الساعة الثانية عشرة حتى الثانية. ومن الساعة الثانية حتى الثالثة، كان معه رجُلان.»
«التقى رجُلَين في نزلك؟ مَن هما؟»
«لا أعرف يا سيدي.»
«لا تعرف؟ لكني … أظنك رأيتَهما؟»
«رأيتُ أحدهما يا سيدي. لم أرَ الآخر. أو بالأحرى، لم أرَ سوى ظهره ومِن بعيدٍ بعض الشيء أيضًا.»
نظر قاضي التحقيق إلى هيئة المُحلَّفين ثم إلى المُحامين. وبعدئذٍ التفت إلى مقصورة الشهود.
«أظن يا جريمسدِل أنَّ من الأفضل أن تُخبرنا بكلِّ ما تعرفه؛ عن كلِّ ما حدث في نزلك في ليل الإثنين وصباح الثلاثاء، بأسلوبك الخاص. كلُّ ما عليك أنَّ تسرد ما حدث سردًا واضحًا مباشرًا.»
«حسنًا يا سيدي. في حوالي الساعة التاسعة من ليل الإثنين، كنتُ أقف في بهو نزلي. فدخل رجلٌ من الباب الأمامي فجأة. كان رجلًا طويل القامة وقويَّ البنيان وحسن المظهر، وأظنه كان في الخمسين من عمره تقريبًا. كان قليل من اللون الرمادي يُخالط شعره وشاربه، وكانت بشرته ذاتَ لونٍ نضِر وكان رجلًا نشطًا. كان يرتدي حلةً تويدية رمادية في غاية الأناقة، وكان يعتمِر قُبعةً رمادية كبيرة من تلك القُبعات ذات الحواف العريضة المرِنة التي يرتديها الرجال هذه الأيام، ولم يكن يرتدي مِعطفًا، وكان يُمسك عكازًا مُزيَّنًا بحلية ذهبية. سألني عمَّا إذا كنتُ مالك النزل، فقلت إنني المالك وإنني في خدمته، وأوصلته إلى حجرة جلوس خاصة أحتقظ بها للطبقة الأرقى من الزبائن. ثم طلَب حجز غرفةٍ لقضاء الليلة؛ لأنه كان لديه عمل في القرية. فأخبرته بأنني أستطيع منحه غرفةً رائعة، وعرضتُ عليه أن أُريه إيَّاها. فأعرب عن رضاه التام بذلك؛ إذ كان مُتيقنًا من أنها ستكون مُريحة، وأضاف أنَّه أُوصِيَ بشدة بنزل سيبتر. ثم أخبرَني بأنَّه ينتظِر زيارة من أحد الرجال، في وقتٍ مُتأخِّر من ذلك المساء، بشأن مسألةٍ تخصُّ العمل، وسألني عمَّا إذا كنتُ أستطيع إعداد عشاءٍ لفردَين في غرفةٍ خاصة، قائلًا إنَّ عشاءً باردًا سيكون مناسبًا. فقلتُ له إنني أستطيع أن أُعِدَّ لهما دجاجةً باردةً ولسانًا لذيذًا وبعض الكعك وجبن ستيلتون قديمًا مُمتازًا، وإنهما يستطيعان الالتقاء في تلك الغرفة؛ إذ كان فيها آنذاك قدْر مناسب من نيران التدفئة، وكنتُ سأؤجِّجها بمزيدٍ من الحطب. ثم سألني عمَّا إذا كان يُناسِبني تقديم العشاء في الساعة الحادية عشرة؟ فقلتُ له إني مُستعِدٌّ لتقديمه وقتما يشاء. واتفقنا على الساعة الحادية عشرة. ثم طلَب منِّي أن أضع له قنِّينة من أفخر أنواع الويسكي الأسكتلندي الموجود لديَّ، وبعض زجاجات المياه الغازية على الخزانة الجانبية، وقال لي إنني أستطيع تقديمَ العشاء متى شئت؛ لأنه كان سيخرج حوالي ساعة ليلتقي شخصًا ما بعدما يحتسي شرابًا. فأحضرتُ له بعضًا من الويسكي الأسكتلندي والمياه الغازية. وبينما كان يحتسي شرابَه، أخرج من جيبه ورقةً نقدية بخمسة جنيهات وأعطاني إيَّاها، قائلًا إنه سيكون في عجلةٍ من أمره على الأرجح في صباح اليوم التالي؛ لذا طلَب منِّي أن آخُذ المبلغَ المُستحقَّ في تلك الليلة على أن أعطيه الباقي عند الفطور، الذي أراده أن يكون جاهزًا في الساعة السابعة صباحًا بالضبط. ثم خرج. أجَّجْت النيران بمزيدٍ من الحطب، وتيقَّنْت من أنَّ كل شيء كان مريحًا وجاهزًا، وفي حوالي الساعة العاشرة والنصف، بعدما أغلقت النزل مُعتزمًا إبقاءَه هكذا طوال الليل، وضعتُ العشاء بنفسي لأنَّ زَوجتي لم تكن بخَير حال وخلدَتْ إلى فراشها مُبكرًا في ذاك المساء. وفي الساعة الحادية عشرة إلا خمس دقائق، عاد الرجل.»
سأله قاضي التحقيق: «وحده؟»
«نعم يا سيدي، وحده. وظلَّ وحدَه في تلك الحجرة ساعةً أخرى. ثم، في الساعة الثانية عشرة إلا خمس دقائق، سمعتُ طرقًا على الباب. فذهبتُ وفتحته، ووجدتُ السيد جاي ماركنمور هناك.»
«كنتَ تعرفه؟ استطعتُ تمييز هويته؟»
«أوه، نعم يا سيدي؛ كنتُ أعرف السيد جاي جيدًا جدًّا في الأيام الخوالي. لم يكن قد تغيَّر كثيرًا.»
«هل تحادثتما؟»
«قليلًا فقط يا سيدي. قال لي: «مَرحبًا يا جريمسدِل، كيف حالك؟» سمعتُ أنَّك أزهرتَ وصِرتَ مالكَ نزلٍ يانعًا.» — أو شيء من هذا القبيل يا سيدي — دائمًا ما كان رجلًا مُهذبًا حتى في مزاحه.»
«هل بدا في حال معنوية طيبة؟»
«بل في أفضل حالٍ يا سيدي! إذ وقف في البهو يضحك ويتحدَّث قليلًا عن الأيام الخوالي، حين كنتُ أراه عادة في حقل الصيد. ثم قال فجأة: «أظنُّ أنَّ لديك هنا رجلًا ينتظِرُني؟» فقلتُ له إن هذا صحيح، وأخذتُه مباشرة إلى الحجرة التي كان الرجل الغريب ينتظِرُه فيها. ثم أدخلته وأغلقتُ الباب عليهما.»
«هل سمعتَ أيَّ تحيةٍ مُتبادلة بينهما يا جريمسدِل؟»
«حسنًا يا سيدي، لم أسمع إلَّا الرجل الغريب يقول: «مرحبًا يا ماركنمور!» وسمعت السير جاي يقول: «مرحبًا أيها العجوز، آسِف لأنني تأخرتُ كثيرًا عليك.» هذا كل ما سمعتُه يا سيدي.»
«ألم تسمع السيد جاي يذكر اسم الرجل الآخر؟»
«لا يا سيدي.»
«لا آنذاك ولا في أي وقتٍ آخر؟»
«لم أحظَ بأي فرصةٍ أخرى يا سيدي. فأنا لم أدخل الحجرة مُجددًا. فقد كان العشاء جاهزًا تمامًا لهما. وكنتُ قد أدخلتُ زجاجتي الويسكي والمياه الغازية اللتَين كان الرجل قد طلبهما، وأجَّجتُ نيران المدفأة. وكان ذلك الرجل قد أخبَرَني، في المرة الثانية التي أتى فيها، بأنَّه هو والصديق الذي كان ينتظِره سيسهران حتى وقتٍ مُتأخر جدًّا على الأرجح؛ لأنهما كانا سيناقشان الكثير من أمور العمل، وقال إنني أستطيع الخلود إلى فراشي إذا شئت، مُضيفًا أنه سيتكفَّل بإخراج صديقه والتيقُّن من إيصاد الباب وإطفاء أنوار الحجرة.»
«وهل خلدتَ إلى فراشك؟»
«لا سيدي، لم أفعل. فأنا نفسي عادةً ما أُطيل السهر، وظننتُ أنه ربما كان يقصد الساعة الواحدة والنصف، أو نحو ذلك، حين قال إنهما سيسهران حتى وقتٍ مُتأخِّر. كنتُ أنا أيضًا سأتناول عشائي، وبعدما تناولته، سهرتُ أدخن في الحانة.»
«هل سمعتَ أيَّ شيءٍ ممَّا دار بين الرجلَين في حجرة الجلوس؟»
«حسنًا يا سيدي، مررتُ عبر البهو مرةً أو اثنتين، وسمعتهما يتحدَّثان.»
«أظنُّها كانت مجرد أصواتٍ عادية؟ أعني أنك لم تسمع أيَّ أصواتِ مُشادَّة، أو أصواتًا مُرتفعة أو أي شيء من هذا القبيل؟»
«أوه لا يا سيدي! مجرد أصوات عادية.»
«جيد جدًّا. والآن، قلتَ للتوِّ إنَّ جاي ماركنمور كان معه رجل واحد حتى الساعة الثانية، وبعد ذلك صار معه رجُلان حتى الساعة الثالثة. فما الذي تقصده بذلك بالضبط؟»
«حسنًا يا سيدي، كنتُ أقصد الآتي. أخبرتُك بأنَّ زوجتي كانت مُتوعكة في تلك الليلة، وخلدت إلى فراشها مبكرًا. وفي حوالي الساعة الثانية صباحًا، صعدتُ إلى الطابق العلوي للاطمئنان عليها. كانت تغطُّ في نومٍ عميق؛ لذا نزلتُ مرةً أخرى. وبينما كنتُ أمرُّ بباب حجرة الجلوس، ظننتُ أني سمعتُ أصوات ثلاثة رجال بدلًا من رجلَين. فتوقفتُ وأنصت، وسمعتُ بوضوح أنها كانت أصوات ثلاثة رجال. لذا علمتُ آنذاك أنَّ رجلًا آخر قد انضمَّ إلى الرجل الغريب والسيد جاي.»
«لكن يبدو هذا غريبًا يا جريمسدِل! كيف استطاع الرجل الثالث أن يدخُل نزلك دون أن تعرف؟ أظنُّ أنَّ أبواب نزلك كلها كانت مُوصَدَةً في تلك الساعة من الليل، أليس كذلك؟»
«كانت كلها مُوصَدة يا سيدي، ومُغلقة بإحكام. لكنَّ هذا الرجل الثالث كان بإمكانه الدخول بسهولةٍ شديدة. أظنك تعرف نزل سيبتر يا سيدي؟ حسنًا، لعلك تعلم أنَّ لدينا حديقةَ زهور وبستانًا أمام النزل، بين الطريق والنزل. والحجرة التي كان هذان الرجلان موجودين فيها مفتوحةٌ على الحديقة والبستان عبر نافذةٍ فرنسية. أي إنهما كان يستطيعان إدخالَ أيِّ أحد من الخارج عبر هذه النافذة، وبذلك لم يكونا بحاجةٍ إلى فتح أي باب.»
التفتَ قاضي التحقيق إلى هيئة المُحلَّفين والمُحامين.
وقال: «يبدو بذلك أنَّ ثمة موعدًا كان مُتَّفقًا عليه بين هذين الاثنين — أي جاي ماركنمور والرجل الأول — ورجل ثالث.» ثم أضاف مُلتفتًا إلى الشاهد: «جريمسدِل، هل أنت على يقينٍ من أنَّ الرجل الغريب الذي جاء إلى نزلك في التاسعة من ليل الإثنين لم يذكر أنه كان ينتظر زائرَين اثنين؟»
«تمام اليقين يا سيدي! لقد تحدَّث عن زائر واحد فقط.»
«وهل أنت على يقين كذلك من أنَّه بعد الساعة الثانية كان برفقة رجلَين؟»
«مُتيقن من ذلك يا سيدي. لقد أدركتُ بكلِّ وضوح أنَّ حجرة الجلوس كان فيها ثلاثة رجال يتحادَثون، وبعدئذٍ رأيتُهم؛ رأيتُ الثلاثة كلهم!»
«في حجرة الجلوس؟»
«لا سيدي، بل في الخارج.»
«ما الذي رأيته بالضبط؟»
«حسنًا يا سيدي، بعدما سمعتُ أصوات ثلاثة رجال، عُدتُ إلى كرسيي الوثير في الحانة. أظن أنَّ السيد جاي، بعدما عاد إلى الديار مُجددًا، قد طلَب من شخصٍ ما أن يأتي خلسةً ليرى صديقه هذا، وأنهما سمِعاه يدخُل من بوابة حديقتنا، ففتحا النافذة الفرنسية، وأدخلاه حجرة الجلوس بهذه الطريقة. بالطبع لم يكن في ذلك أيُّ بأس؛ لأنَّ الرجل الأول كان قد حجز غرفةً طوال تلك الليلة، وكان بمقدوره أن يُدخِل أيَّ شخصٍ يريدُه. ونظرًا لوجود السيد جاي، كنتُ أعرف أنَّ الأمور ستسير على ما يُرام. لذا لم أزعِج نفسي بالتفكير في هويته، ظننتُ أنه ربما يكون السيد هاري، أعني ذلك الرجل الثالث. فقُرب الساعة الثالثة، بدأتُ أغفو في كرسييِ أمام النار، وأظن أنَّ النعاس قد غلبَني. ثم استيقظتُ على صوت ارتطام بوابة الحديقة عند إغلاقها. فقمتُ واثبًا ونظرتُ إلى الخارج عبر النافذة. رأيتُ ثلاثة رجال على الطريق في الخارج. كانوا …»
قاطَعَه قاضي التحقيق قائلًا: «هلَّا تتوقَّف قليلًا إذا سمحت. فمن المُحتمَل أن تكون هذه النقطة في غاية الأهمية. الآن، هل تعرف — بالضبط — التوقيت الذي رأيتَ فيه ذلك يا جريمسدِل؟»
«نعم يا سيدي! لقد نظرتُ إلى الساعة الموضوعة على رفِّ المدفأة — وهي ساعة مضبوطة للغاية — بينما كنتُ أنهض من كرسيي لأزيح الستارة جانبًا وأنظُر إلى الخارج عبر النافذة. كانت تُشير إلى الساعة الثالثة وسبع عشرة دقيقة بالضبط.»
فقال قاضي التحقيق وهو يُلقي نظرةً خاطفة على هيئة المُحلَّفين: «هذا قبل شروق الشمس بحوالي ساعةٍ ونصف. والآن يا جريمسدِل، كيف استطعتَ أن ترى في ذلك الوقت من الصباح الباكر؟»
«حسنًا يا سيدي، كانت تلك ليلةً صافية، وكان فيها بصيص من ضوء القمر، وإجمالًا، كانت ليلة مناسبة للرؤية؛ إذ كان يُنيرها ما يُمكن أن تُسمِّيه ضوءًا رماديًّا. استطعتُ رؤية حظائرنا على الجانب الآخر من الطريق بوضوحٍ كافٍ، والأشجار القريبة من هناك، والطريق. ورأيت الرجال الثلاثة — أعني هيئاتهم الجسدية — بوضوح.»
«ماذا كانوا يفعلون؟»
«كانوا يسيرون ببطءٍ على الطريق مُبتعِدين عن سيبتر ومُتجهِين صوب جرايكلويستر وميتبورن يا سيدي.»
«هل استطعتَ تمييز كل واحدٍ منهم عن الآخر؟»
«نعم يا سيدي. عرفت أيُّهم كان السيد جاي، وأيهم كان الرجل الأول الذي أتى إلى سيبتر. كان السيد جاي يتوسَّط الرجُلَين الآخرين، وكان الرجل الذي جاء في الساعة التاسعة على يساره، فيما كان الرجل الثالث على يمينه.»
«كيف كان يبدو هذا الرجل؟»
«كان رجلًا طويل القامة يا سيدي، طوله ستة أقدام على الأقل.»
«وهل استطعتَ أن تتبيَّن ما إذا كانت هيئته الجسدية هي هيئة أيِّ شخصٍ من أهالي هذه المنطقة؟»
بدأ جريمسدِل يُبدي علامات التردُّد لأول مرة منذ دخوله إلى مقصورة الشهود. فقد سكتَ وهو يهزُّ رأسه.
ثم أجاب قائلًا: «حسنًا يا سيدي، لعلك تضع في حسبانك، إذا سمحت، أنَّ الضوء لم يكن قويًّا كما ينبغي. لقد كان هذا صعبًا في هذا الوقت من الصباح.»
فسأله قاضي التحقيق: «هل نسجتَ في ذهنك أيَّ تصوُّرٍ آنذاك عن هوية ذلك الرجل؟»
اعترف جريمسدِل قائلًا: «حسنًا، بالتأكيد راودَني تصوُّر؛ أو بالأحرى تخمين.»
«وما هو؟»
تردَّد جريمسدِل مُجددًا.
ثم قال أخيرًا: «كان مجرد تصوُّر. لم يكن سوى … سوى شيء كالخاطرة التي تتبادَر إلى ذهن المرء، أو شيء من هذا القبيل. أُفضِّل ألَّا أقول!»
«يؤسِفني القول إنَّك يجِب أن تقول يا جريمسدِل. من الواضح أنَّك قد تَبادَر إليك تصوُّرٌ ما عن هوية الرجل الثالث حين رأيتَه. والآن، ما هو ذلك التصوُّر؟»
«حسنًا يا سيدي، إذا كان يتوجَّب عليَّ القول، فلا بدَّ أن أقول! لقد تساءلت — وأؤكد أيها السادة أنه كان مجرد تساؤل — عمَّا إذا كان ذلك الرجل هو السيد هاربورو.»
«تساءلتَ عمَّا إذا كان الرجل الثالث، الذي كان يسير إلى يمين جاي ماركنمور على الطريق، هو السيد جون هاربورو؟ هل ظننتَ آنذاك أنَّك ميَّزتَ هيئته الجسدية؟»
«نعم يا سيدي. لكن السبب الوحيد الذي دفعني إلى ذلك هو أنَّ الرجل كان طويلًا جدًّا، وذا بنيانٍ شديد الشبه ببنيان السيد هاربورو، وأنَّ ثلاثتهم كانوا يسيرون صوبَ جرايكلويستر، أي بيت السيد هاربورو، فضلًا عن أنني كنتُ قد سمعتُ آنذاك، كما تعلم يا سيدي، أنَّ السيد هاربورو قد عاد إلى الديار مُجددًا، و… حسنًا، ربما كان بالي مُنشغلًا قليلًا بالتفكير فيه. لا … لا أريد أن يُقال إنني أقول إنَّ ذلك الرجل كان السيد هاربورو، لأنني لم أقُل ذلك!»
«ألا تستطيع أن تُقسِم أنَّ الرجل الثالث كان السيد هاربورو؟»
«كلَّا يا سيدي، قطعًا لا أستطيع!»
«لكنه كان رجلًا يُشبه السيد هاربورو تمامًا في طول قامته وبنيانه ومظهره الشخصي؟»
«هكذا بالضبط يا سيدي.»
«حسنًا، بخصوص الرجل الأول؛ ذاك الرجل الذي حجز غرفةً في نزل سيبتر. متى عاد إلى هناك بعدئذٍ؟»
«لم يعُد قَطُّ يا سيدي!»
«ماذا! لم يعُد قَط؟»
«لم يَعُد قَط يا سيدي! ولم أرَه قَط منذ ذلك الحين! لديَّ باقٍ قيمته ثلاثة جنيهات وأربعة عشر شلنًا يخصُّه يا سيدي؛ إذ كانت قيمة الحساب المُستحَق جنيهًا وستة شلنات. ولكن كما قلت، لم يَعُد قَط. دخلت حجرة الجلوس بعدما رأيتُهم على الطريق، كانت النافذة الفرنسية مفتوحةً قليلًا وكانت إضاءة المِصباحين قد خُفِضَت. ارتأيتُ آنذاك ألَّا أُبالي بمسألة الخلود إلى فراشي، وبدأتُ أزيل أغراض العشاء وبقاياه وأُرتِّب حجرة الجلوس. بالطبع كنتُ أتوقَّع عودة ذلك الرجل الأول في أي لحظة؛ إذ كنتُ أتصوَّر أنَّه سيكتفي بالتمشية قليلًا على الطريق مع الاثنين الآخرين. لكنه لم يأتِ قَط، ولم أرَه أو أسمع عنه أيَّ شيء قطُّ منذ ذلك الحين يا سيدي.»
أنزل قاضي التحقيق عينَيه نحو المسئولين والمُحامين. وصارت هيئتُه هيئة رجلٍ وجد نفسه عالقًا فجأة في طريقٍ مسدود بعدما سلك عدة طرُق مُلتوية.
قال: «من الواضح تمامًا أن هذا سيكون تحقيقًا مُطولًا. على الشرطة أن تبحث عن الرجُلَين اللذين كانا مع المُتوفَّى في نزل سيبتر إن في منتصف ليل الإثنين وصباح الثلاثاء الباكر. أظنُّ أنَّ من الأفضل أن نُرجئ استكمال التحقيق الآن.»
قاطعَه محامي السلطات قائلًا: «أودُّ أن أطرح سؤالًا أو اثنين على الشاهد. جريسمدِل، قلتَ إنَّ الرجل الذي جاءك في الساعة التاسعة من مساء الإثنين وحجز غرفةً طوال الليل أعطاك ورقةً نقدية بخمسة جنيهات، على أن تأخُذ منها قيمة حسابك المُستحَق بنفسك. فهل ما زلتَ مُحتفظًا بتلك الورقة؟»
أجاب جريمسدِل وهو يُخرِج محفظة نقودٍ قديمة الطراز: «نعم يا سيدي. ها هي سيدي.»
قال المُحامي: «يجب تسليم هذه الورقة إلى الشرطة. والآن، لديَّ سؤال آخر: أي نوع من الرجال كان ذلك الرجل الغريب؟ هل كان إنجليزيًّا؟»
أجاب جريمسدِل قائلًا: «انطباعي أنَّه كان أحد أولئك الأمريكيين يا سيدي، من لهجته يا سيدي. فحين كنتُ أعمل لدى السير جيمس مارشانت، رأيتُ رجالًا أمريكيين كثيرين؛ فارتأيتُ أنَّه أمريكي.»
«جيد جدًّا، والآن، تبقَّى سؤال واحد فقط. حين رتَّبتَ حجرة الجلوس، هل وجدتَ أيَّ شيء، أي شيء صغير ربما يكون أيٌّ من هؤلاء الرجال قد ترَكَه سهوًا؟ فأحيانًا ما يترك النزلاء بعض المُتعلقات سهوًا عند رحيلهم، كما تعرف.»
فدفع جريمسدِل يدَه في جيبٍ آخرَ وأخرج منه شيئًا.
«وجدتُ يا سيدي، وكنتُ أنوي ذكر ذلك. وجدتُ هذا موضوعًا على مائدة العشاء.»
ورفع مالك النزل غليونَ تبغ مصنوعًا من خشب أشجار الخلنج ومُزيَّنًا بحليةٍ من الفضة، كي يتسنَّى لكل الحاضِرين رؤيته، ثم وضعه على حافة مقصورة الشهود.»