الباب الثاني
تعليم فرجيل وإنتاجه
لا نعرف كثيرًا عن التعليم الذي تلقاه فرجيل في صغره، ويقول دوناتوس إن الشاعر أمضى
السنوات الأولى من حياته في كريمونا إلى أن لبس الشملة،٢١
ويدفعنا قول هذا النحوي إلى الاعتقاد بأن عائلة فرجيل كانت من كريمونا، وهذا يُناقض ما
سبق أن قُلْناه عن لسانه. ولكي نتحاشى هذا التعارض في القول، يجب علينا أن نعترف بأحد
أمرَيْن؛ إما أن دوناتوس قد نقل خطأً عن سويتونيوس، أو أن الكلمات (initia
aetatis) قد فسرت تفسيرًا رحبًا.٢٢
وفي الثانية عشرة من عمره، أُرسل فرجيل إلى كريمونا ليتلقَّى هناك دروسه في الآداب،
ولا
شك أن هذا لم يكن ليتم لو لم يتوفر لأبيه المال اللازم لذلك، ولو لم يلاحظ ما عليه الفتى
من
ذكاء. ويحتمل أن تكون عائلة فرجيل قد تبعَتْه في هذا الوقت إلى مدينة كريمونا التي كانت
لمدةٍ تزيد على ثلاثين عامًا بلدية رومانية، والتي كان بها دون أي شكٍّ مدارس لتعليم
البنين
مبادئ النحو، فسنحت له الفرصة هناك أن يدرس المواضيع التي كانت تدرس في المرحلة الأولى
وكانت تُسمى باسم النحو على حد تعبير كونتليانوس Quintilianus.٢٣ وفي كريمونا لبس فرجيل الشملة toga virilis، وهي اللباس الروماني الخاص بالشباب
في سن الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، ولكن مخطوطات دوناتوس عن «الحياة» تتعارض بإزاء
هذه
النقطة، وبالرغم من أنها تتفق جميعًا في أن فرجيل كان في سن السابعة عشرة (وأن هذا كان
عمره في عام ٥٣ق.م.)، فإنها تضيف أن الحدث وقع في وقت القنصلية الثانية لبومبي وكراسوس
عام
٥٥ق.م.
.ويخبرنا سانت جيروم الذي يقال إنه يعتمد على سويتونيوس، أن فرجيل لبس الشملة في
عام ٥٣ق.م
ثم ذهب إلى ميلان Milan. ويبدو أن سفره إلى ميلان قد حدث
حقًّا في نفس الوقت الذي لبس فيه الشملة
البيضاء toga candida ويقول لنا دوناتوس إنه في اليوم الذي لبس فيه فرجيل الشملة toga virilis مات الشاعر لوكريتيوس Lucretius. ومن السهل أن نقول إننا نناقش الآن ابتكار
أحد رجال النحو الذين يحاولون عن طريق هذا التوافق العرضي أن يجعلوا فرجيل خليفة
لوكريتيوس في الشعر الداكتيلي٢٤ وعلى أية حال فإن هذا القول
مستمد من نفس المصدر الذي استمد منه سانت جيروم. وإنه دون أن يشير إلى عام معين يضع ميلاد
لوكريتيوس في الأوليمبياد الواحد والسبعين بعد المائة ويقول إنه مات منتحرًا في الرابعة
والأربعين من عمره (أو تبعًا لبعض المخطوطات في عام ٤٣ق.م.)،٢٥
ولنضع ميلاد لوكريتيوس في العام الأول من الأوليمبياد الواحد والسبعين بعد المائة؛ أي
في
عام ٩٧ق.م.، ولو أنه مات في الرابعة والأربعين من عمره، فإن الحدث يكون قد وقع بالضبط
في
عام ٥٣ق.م. عندما كان فرجيل في السابعة عشرة من عمره ثم ترك كريمونا قاصدًا
ميلان.
وسواء لبس فرجيل الشملة في الخامسة عشرة أو السابعة عشرة فإنه أتم دراساته في كريمونا
ثم أرسل إلى ميلان، ولكنه بقي فيها مدة قصيرة ثم ذهب بعدها مباشرةً إلى
روما.٢٦
ولكي نقرر حالة التعليم في ميلان يجدر بنا أن نعود إلى خطاب لبليني الصغير كتبه منذ
أكثر
من قرن بعد ذهاب فرجيل إليها، ويقول إن شبان كومو Como
كانوا يذهبون إلى ميلان لتلقي العلوم لعدم وجود مدارس في
مدينتهم.٢٧ ويحتمل أن فرجيل لم يجد هناك مدرِّسين أجدر من
الذين تركهم في كريمونا؛ ولهذا آثر الإقامة القصيرة، ولا بد أنه اضطر إلى الذهاب إلى
روما
تحت تيار رغبته الشديدة في أن يقف على معالم المدينة التي طالما سحرت لُبَّه عن بعد.
وقد سبق أن أشرنا إلى القلاقل التي كانت قائمةً بين السكان القاطنين وراء نهر البو
للحصول
على امتيازات المواطن الروماني. أما الكلت والأترسك الذين كانوا يقيمون في غاليا
ترانسبادانا فقد وجهوا أنظارهم وقلوبهم شطر روما التي كانت تصهر في بوتقتها عناصر شبه
الجزيرة المختلفة لتخلق منها عنصرًا واحدًا، ففي نفس العام الذي ذهب فيه فرجيل وهو في
سن
الثانية عشرة إلى كريمونا، حصل يوليوس قيصر على سيطرة قوية لمدة خمس سنوات على الولايات
الغالية بموجب القانون الفاتيني الذي منحه أيضًا أربع كتائب، وبانتهاء هذه المدة جدد
سلطانه
مدة خمس سنوات أخرى، فلما تعهد قيصر بفتح غاليا ترانسالبينا جعل غاليا كيسالبينا قاعدة
استعداداته الحربية.
ولما كانت شعوب إيطاليا الشمالية مخلصةً له، كان صادقًا معهم في تصريحاته ووعوده،
ثم أسَّس
في كريمونا مستعمرةً من خمسة آلاف شخصٍ وخلع على المدينة حقوق المواطن
الروماني.٢٨ ويقولون إنه في عام
٥٢ق.م.٢٩ منح المدن الأخرى التي وراء نهر البو حق الانتخاب
والملكية، فاتخذ الحزب الأرستقراطي هذا التصرف ذريعة قوية للهجوم عليه في روما، وعزم
الحزب
على أن يسحب منه حكم الولايات الغالية.
وبينما كانت تجري الأمور على هذا المنوال في موطنه الأصلي حوالي عام ٥٢ق.م. كان فرجيل
يشق طريقه، وهو في الثانية عشرة، داخل المدينة التي كثيرًا ما سمع عنها، والتي مكنه خياله
الشعري من أن يرفع هامتها على جميع المدن الأخرى ولا سيما مانتوا، كما تعلو أشجار السرو
على
أشجار الصفصاف البضة.
فلما وصل إلى روما كانت تجري بها حوادث ذات أثر قاطع في تاريخ العالم؛ فقد كان العراك
الدائر بين حزبي الأشراف والعامة قد بلغ ذروته، وكانت هناك قوات مسلحة تحت قيادة
كلوديوس Clodius تدافع عن الحزب الشعبي، وبقيادة
ميلو Milo عن الحزب الأرستقراطي. وكانت كلها تجوس في
شوارع المدينة وضواحيها محدثةً الفزع والاضطراب بين الأهلين، تقتل وتفتك بالسكان الوادعين
وتنهب وتسلب كيفما شاءت وحيثما وجدت ما يمكنها سلبه، فعمَّت الفوضى وساد الهرج والمرج
ولم
يعد المرء يحس بالطمأنينة أو الأمان على نفسه وأملاكه، وأضحت الخديعة والدس والتهديد
أمورًا
شائعة عادية كما استحال عقد الاجتماع السنوي لانتخاب القنصلية والوظائف الأخرى
للجمهورية.
وكان في مقدور بومبي العظيم وكان الوحيد من الحكَّام الثلاثة المقيم في روما، أن يكبح
جماح الشعب ويخمد الفوضى العامة، ولكن يبدو أنه كان راضيًا عن تلك الحال رغبةً في أن
يُستدعَى للإنقاذ.
وفي خلال عام ٥٣ق.م. اقترح تريبون شعبي أن يمنح الدكتاتورية ففشل اقتراحه بسبب معارضة
كاتو Cato، أما ليكينيوس كراسوس أحد الحكام الثلاثة
فقد قُتل في الحرب ضد البارثينيين Parthians وكان قيصر
مشغولًا في إخماد ثورة فركنجتوريكس Vercingetorix.
وفي بداية عام ٥٢ق.م. أُجلت في روما انتخابات القنصلية ومضت مدة خلا فيها العرش من
ملك.
وفي الطريق الذي يربط روما بلانوفيوم Lanuvium تقابلت
عصابة ميلو الذي كان يريد الحصول على القنصلية لنفسه مع عصابة كلوديوس وكان يدس له جهرًا
فتم اللقاء عند بوفيلاي Bovill ae وقتل كلوديوس، فحمل
أنصاره جثته إلى روما، وأقاموا له في الفورم كومة من الحطب من مقاعد وأثاث مجلس الشيوخ
نفسه.
ولتهدئة الثورة التي قامت بعد ذلك، أعطى السناتو القنصلية لبومبي في نهاية شهر فبراير،
فتسلم المنصب الجديد دون أن يعاونه أحد، وهكذا وضع القائد جهرًا على رأس الحزب الخاص
بمجلس
الشيوخ المعارض لقيصر.
وفي نفس الوقت بدأ بومبي يجند في إيطاليا لحسابه، أما الحزب الشعبي فقد درس جيدًا
خطط
بومبي — وقد كان هذا الحزب يؤيد قيصر — فاتهم بومبي بأنه يتوق إلى أن يصير دكتاتورًا؛
ولذا
اضطر في الخمسة الشهور الأخيرة من قنصليته أن يطلب معاونة حميه كونتوس ميتيلوس سكيبيو Q. Metellus Scipio، ولكي يقضي على حركاته الخفية
بعد أن صار عدوًّا له علانيةً، طالب قيصر عن طريق الترابنة بالقنصلية الثانية، وكان طلبه
هذا يقول إنه في العشر السنوات التي لا بد وأن تنقضي قانونًا بين القنصليتين الأولى والثانية،
يجب أن يسمح له بترشيح نفسه دون أن يتنازل عن حكمه لغاليا، ودون أن يحضر هو شخصيًّا إلى
روما كالمعتاد في ذلك الحين. ولم يلحظ أحد في بادئ الأمر أن طلب قيصر هذا كان معناه
المطالبة بامتداد حكمه في غاليا، وأنه كان يرمي إلى القضاء على الخطة المدبرة ضده؛ ولذلك
فاز بتأييد كلٍّ من بومبي وشيشرون.
ولما فطن بومبي إلى الشَّرَك الذي نصبه له منافسه، حاول إلغاء موافقته له، وفي العام
التالي
اقترح القنصل ماركوس كلاوديوس
ماركيلوس M. Glaudius Marcellus على مجلس الشيوخ دون إثارة أية جلبة، أن يستدعي قيصر من غاليا
حتى يمنع من استخدامه الامتياز الذي حصل عليه، كما صمم في الوقت ذاته أن تسحب حقوق المواطن
الروماني التي منحها قيصر للمستعمرين في كومو، فحاول قيصر أن يأخذ الأصوات على اقتراحات
ماركيلوس وقايض على النفوذ الذي كان له مع زميله سولبيكيوس روفوس Sulpicius Rufus، وأهم من كل شيء حصل على معارضة التريبون جيوس
سكريبونيوس كوريو C. Scribonius Curio بعد أن استماله
إليه بالرشوة. وبحث الموضوع في العام التالي في عهد قنصلية أيميليوس ليبيدوس Aemilius Lepidus وجيوس كلاوديوس ماركيلوس.
فاقترح كوريو أن يجرد قيصر من حكم بلاد الغال على أن يجرَّد بومبي من حكم إسبانيا في
نفس
الوقت. فلما جُمعت الأصوات على هذا الاقتراح صُدِّق عليه في حالة قيصر فقط، وهنا رفض
التريبون أن يصدِّق على الاقتراح. وهكذا أنقذ قيصر.
وبعد أن أخضع قيصر الشعر، أسرع في الشتاء إلى غاليا كيسالبينا حيث هُرع إلى استقباله
جميع
البلديات والمستعمرات في موكب وحفل عظيمَيْن، فأقيمت الزينات في جميع الطرقات والميادين
العامة التي مرَّ بها قيصر كما زينت المنازل التي على جوانبها كما كان يفعل في الإجازات
والعطلات والأعياد، وخرج إليه الأهلون زرافات ووحدانًا يصفقون ويهللون ويهتفون، وينحرون
الذبائح إجلالًا له، فأولمت الولائم في الميادين والمعابد. ولما رأى قيصر محبة الشعب
له،
اعتمد عليه في كسب المعركة التي أوشك أن يدخلها مع بومبي.
واحتج مجلس الشيوخ بأن البارثينيين يهددون ولاية سوريا الرومانية، فأمر بومبي وقيصر
أن
يتنازل كلٌّ منهما عن كتيبةٍ كي تُرسل إلى الشرق. وعندئذٍ طالب بومبي قيصر بالكتيبة التي
كان قد أعطاها له منذ عامين، وهكذا وجد قيصر نفسه
مطالبًا بكتيبتين احتجزهما بومبي في إيطاليا بدلًا من إرسالهما ليحاربا ضد البارثينيين.
كما
أن جالبا Galba مرشح قيصر للقنصلية لعام ٤٩ق.م. قد هُزم في
الانتخابات، فكان هذا باعثًا للأرستقراطيين ليغتبطوا ويفرحوا جذلًا. وفضلًا عن ذلك فقد
رأى
قيصر أن الساعة قد حانت، وكان قد نصب معسكره في رافينا Ravenna فأرسل في نهاية عام ٥٠ق.م. إنذارًا إلى روما قُرئ في مجلس الشيوخ
في أول يناير سنة ٤٩ق.م. فلم تُقبل الشروط التي عرضها للصلح.
وفي اليوم السابع من شهر يناير أعطيت للقناصل قوًى كاملة للدفاع عن الجمهورية، واعتبر
قيصر
عدوًّا للدولة. فقام عراك علني، بل قامت حرب أهلية أخليت بسببها روما، كما وضعت حدًّا
نهائيًّا للنظام الأرستقراطي وجعلت قيصر الدكتاتور الدائم أي الرئيس. وفي اليوم الحادي
عشر
من شهر يناير عبر الروبيكون Rubicon وسار إلى روما ففرَّ
منها جميع القناصل والحكَّام، في الثامن عشر من نفس الشهر، في إثر بومبي الذي كُتب له
ألَّا
تطأ قدمه هذا المكان مرة ثانية.
وفي إبان الحوادث التي وقعَت في الثلاثة الشهور الأولى من عام ٤٩ق.م. منح قيصر حقوق
المواطن الروماني للغاليين المقيمين بين نهر البو وجبال الألب. أما البلديات الجديدة
التي
أُنشِئت في هذه المنطقة فقد أعطيت لإحدى القبائل التي كان المواطنون الرومانيون قد قسموا
إليها. وهكذا منحت فيرونا Verona
لبوبليليا Poblilia، وبرسكيا Brescia وبادوا Padua
لفابيا Fabia التي كانت قبيلة قيصر. أما مانتوا فقد أعطيت
لقبيلة ساباتينا Sabatina.٣٠
ولا نعرف تمامًا ما فعله فرجيل عندما وصل إلى روما، ولا إلى متى بقي فيها. ويؤكد
لنا
بروبوس أنه أتمَّ دراسته لعلم البلاغة تحت إشراف أعظم الأساتذة.٣١
وكان إبيديوس Epidius واحدًا منهم. ويقال إن أوكتافيوس
الصغير ابن خال قيصر ووارثه، كان رفيقه في المدرسة.٣٢ ويقول لنا
سويتونيوس إن إبيديوس الذي اشتهر بمحاضراته النابية قد أسس مدرسة كان من بين تلاميذها
ماركوس أنطونيوس Marcus
Antonius
وأوغسطس Augustus. وقد يكون هذا حقيقيًّا.
ويقول دوناتوس أيضًا إن فرجيل قد جدَّ في دراسة علم البلاغة، وإنه قام ذات مرةٍ يدافع
عن قضيةٍ في المحكمة وكان يعوزه الاستعداد إلى الخطابة وفصاحة اللسان التي يمتاز بها
المحامون كما يقول ميليسوس Melissus،٣٣ ولكنه لم يعُد يفعل
ذلك مرةً ثانية.
ولهذا السبب لم يكن الوقت ملائمًا للخطابة؛ فقد كانت الأسلحة تتفوق على الشملة، وكان
شيشرون نفسه أمير الفصاحة اللاتينية يعدُّ العدةَ ليودع الفورم ويكرس نفسه للفلسفة كي
يجد فيها
عزاءً لآلامه وأحزانه. فهذا الهجران الذي اضطر إليه الخطيب المفوَّه العظيم، على مضض،
بدافع
الضرورة القصوى، قد تقبله الشاعر الصغير ببشاشة وعن طيب خاطر؛ إذ إنَّ صدى الأنغام في
روحه،
كان يزداد حلاوةً وجمالًا كلما قل سماعه لثرثرة المتضلعين في البلاغة. وعاد مسرورًا إلى
موانئ الحكمة الإنسانية الهادئة بفضل تعاليم أبيقور Epicurus الوديع الذي كان يقوم بتفسير فلسفته في روما سيرو Siro٣٤ العظيم.
أما عن كون سيرو معلم فرجيل في الفلسفة، فيخبرنا به فوكاس٣٥
وسرفيوس Servius٣٦ وفيلارجيريوس Philargyrius٣٧
ودوناتوس.٣٨
ويقول شيشرون أيضًا إنه في عام ٥٠ق.م. تقريبًا، كان سيرو يعلم الفلسفة الأبيقورية
بنجاحٍ
في روما، ويقدمه لنا هو وفيلوديموس Philodemus قائلًا
إنهما «أفضل الناس وأعلمهم».٣٩
أما القول بأن فرجيل بعد أن تلقى دروسه في مدارس البلاغة أخذ يتردد على مدرسة أو
أكثر
من مدارس الفلسفة العديدة التي افتتحها الإغريق المتعلمون في روما، ولا سيما المدرسة
الأبيقورية لسيرو وفيلوديموس، فليس قولًا محتملًا فحسب بل ومحتملًا جدًّا. وهكذا يمكننا
أن
نقبل شهادة بروبوس بأن فرجيل كان يتبع عقيدة أبيقور.٤٠ أما
أنه كان أبيقوريًّا بمعنى الكلمة فهذا زعم النحويين الذين لا يتفقون مع بعضهم بصدد هذه
النقطة.
وهناك أدلة قوية تساعدنا على الاعتقاد بأنه بدأ يشعر بأن الفلسفة الأبيقورية ليست
سوى
تفسير غير شافٍ للعالم والحياة رغم ما كان يكنُّه لها دائمًا من الإعجاب الزائد بها وبشاعرها.
وينشأ هذا الزعم أولًا وقبل كل شيء من تفسير أغنية سيلينوس Silenus في الأنشودة السادسة، ولبعض فقراتٍ في منظومات الزراعة حيث تتكون
الأبيقورية من ذكرياتٍ عن لوكريتيوس.٤١ ويحتمل أن يكون المفسر
المجهول «لحياة» دوناتوس قد فهم خيرًا مما فهم القدماء وبعض العلماء المحدثين، موقف
فرجيل من الفلسفة؛ لأنه يلاحظ أن الشاعر يقبل في أعماله مبادئ فلاسفة مختلفين، وأنه يظهر
ميله قبل كل شيءٍ إلى أفلاطون.٤٢
ويؤكد دوناتوس أن من بين دراسات فرجيل الأخرى، دراسته للطب والعلوم الرياضية بوجه
خاص،
ولم يكن شأن هاتين المادتين في ذلك الوقت منفصلًا تمام الانفصال عن الفلسفة كما هو الحال
الآن، بل كانتا تعتبران جزءين منها. ولو كانت العلوم الرياضية تتضمن علم الفلك، فإن شهادة
فرجيل تقول إنه درس فلسفة الطبيعة أيضًا، وهناك ما يدل على ذلك في
كتاباته،٤٣ ودون أن نقبل الفكرة المبالغ فيها التي تقول إن
القدماء شربوا من منهل حكمته،٤٤ يمكننا أن نلمس أن شعره قد
تغذى على تعليم جاف كما هو الحال مع الشعراء الرومان الآخرين خلا لوكريتيوس الذي يدين
إليه فرجيل كثيرًا جدًّا بعد هوميروس. ويظهر أنه هو الشاعر الوحيد الذي حفظ فرجيل
إنتاجه عن ظهر قلب، فتجلَّت آثاره بوضوحٍ في إنتاجه الشخصي.
وقد درس فرجيل الشعر اللاتيني دراسة مستفيضة جيدة فألمَّ بخواصِّه ابتداءً من
إينيوس Ennius٤٥ إلى كاتولوس Catullus.٤٦ وكان ثيوكريتوس Theocritus٤٧ و
أبولونيوس روديوس Apollonius Rhodius٤٨ من بين الشعراء الإغريق المحبَّبين إلى نفس فرجيل بعد سادة
الإغريق العظام ولا سيما هوميروس.
إذن فالقول بأنه بدأ ممارسة كتابة المنظومات الشعرية في سنٍّ مبكرة يؤيده ما يذكره
كتاب
تاريخ مشاهير الرجال. ويعتقد من مادتها أنها منظوماته الصغرى؛ ولذلك يجب ألا نصدر حكمنا
عليها إلا على ضوء إيماننا بمدى صحة نسبتها إليه؛ فهذه المنظومات في حد ذاتها برهان قاطع
على أنه كتب كثيرًا في سنواته الأولى. أما عن المهارة الفنية التي تتوفر في الأشعار
الفرجيلية الموثوق بها، فلا يمكن الوصول إليها إلا بعد مراسٍ طويل لازب. ولقد اضطربت
حياة
فرجيل باندلاع نار الحروب الأهلية، غير أننا نفتقر إلى دليلٍ مقنع على أنه اشترك في
النزاع الذي قام بين قيصر وبين بومبي. أما المنازعات الأخيرة التي قامت بادئ ذي بدء بين
حكومة الرجال الثلاثة وبين بروطس Brutus وكاسيوس Cassius ثم نشبت بعدئذٍ بين أوكتافيانوس Octavianus وأنصار أنطونيوس؛ فقد جرفته هو وعائلته إلى حافة الخراب؛ إذ
إن تعبئة جيوش جرارة كان معناه في ذلك الوقت ضرورة العثور على أرضٍ تكفي لإقامة الجنود،
على
أن تكون هذه الأرض في إيطاليا بالذات؛ إذ لم يكن الاستعمار وراء البحار شائعًا مستساغًا.
فلما
انتهت موقعة فيليبي Philippi احتل أوكتافيانوس كريمونا،
وسمح لجنوده المحنكين بالإقامة فيها، ولما كانت هذه المنطقة لا تكفي حاجة الجند، فقد
اقتطع
بدافع الضرورة الماسة جزءًا كبيرًا من مقاطعة مانتوا كانت تقع فيه ضيعة فرجيل
نفسه.
ولا يُعرف تمامًا ما حدث بعد ذلك، ولكي نعرف شيئًا ما؛ يجب أن نعتمد أولًا وقبل كل
شيء على
أناشيد الرعاة Eclogues وما قيل بصددها من تفسيرات قديمة أو
حديثة. ففي أولى أناشيد الرعاة هذه التي توخى فرجيل أن يجذب إليها الأنظار فصدَّر بها
المجموعة، يسعى عبد يدعى تيتيروس Tityrus إلى الحصول على
الحرية بعد انقضاء سنواتٍ عدة، ويشجِّعه على ذلك أنه أصبح يملك رقعةً من الأرض تكفيه
وتفيض عن
حاجته، في حين أن جيرانه من حوله يُطردون من ضيعاتهم. ويفسرون هذا فيقولون إن تيتيروس
هذا هو
فرجيل نفسه، وإن الإله الذي طمأنه على أرضه هو أوكتافيانوس الذي توسَّط في مصلحة
فرجيل.
وفي الأنشودة التاسعة للرعاة، يفشل مينالكاس Menalcas
الفلاح الشاعر في إقناع ألفينوس فاروس Alfenus Varus
المنوط بتقسيم أراضي مانتوا، أن يُعفيَه من التقسيم، وكان غائبًا في مهمةٍ مجهولةٍ وربما
كانت
دعوى أخرى، فضاعَت عليه ضيعته، غير أن هناك تفسيرًا آخر يقول إن مينالكاس هو فرجيل. وإن
الذي حدث يمثِّل الخطوة الأولى في الموضوع. ونقول الخطوة الأولى لأن الأنشودة الأولى
بما فيها
من لهجة الشكر الحماسية وروح الاطمئنان والاستقرار، تعتبر دون أي شكٍّ الخطوة الأخيرة
التي
أراد الشاعر أن يؤكِّدها ويظهرها. ولا يحل لنا هذا، تلك الصعوبة القائمة من جرَّاء تسمية
فرجيل نفسه باسمَيْن مختلفَيْن، ليبدو في أحدهما حرًّا وفي الآخر عبدًا. ولو كان فرجيل
قد
استخدم اسمًا مقتبسًا من الشعر الإغريقي الرعوي، ما كان يثير دهشتنا؛ بل كنا نقول إن
هذا
أمر كان شائعًا في ذلك الوقت. والأمر الوحيد الذي يمكننا أن نقطع به واثقين؛ إذ يستحيل
أن
نكون قد أتينا به من تفسير زائف للأناشيد، بل استوفيناه دون شكٍّ من مصدرٍ آخر، هو أن
ضيعة
فرجيل آلَت إلى جندي طرد فرجيل عنوةً معرِّضًا حياته
للخطر.٤٩
وباختصارٍ، إن الشيء المعقول هو أن فرجيل لا يشير إطلاقًا إلى محنه الشخصية في أنشودة
الرعاة الأولى، وأن تيتيروس وصديقه ميليبويوس Meliboeus
ليسا إلا من ملاك الأراضي الصغار، وأن المنظر عبارة عن مرعى جبلي في مكانٍ ما في النجود
القائمة فوق مقاطعة مانتوا بالذات. وقد جمع فيها ميليبويوس قطيعه، وأخذ يدفعه أمامه ليبيعه
قبل أن يقومَ بحركة الهجرة، بينما كان تيتيروس، الذي ذهب ليرى سيده في روما ويعطيه المال
الذي ادخره ليبتاع حريته، من أسعد أصحاب الأطيان الذين يملكون أو يحتلون أرض مينكيو
المجاورة لمانتوا نفسها.
وتُشير الأنشودة التاسعة إلى فرجيل وبعض المحاولات الفاشلة التي قام بها ليحث ألفينوس
فاروس على أن يستبقي أهل مانتوا بقدر الإمكان، ولكن فاروس بدلًا من أن يفعل شيئًا من
هذا
القبيل، استحوذ على الأراضي بمختلف قيمها، وربما كان هذا ما قام أوكتافيانوس بإصلاحه
وترميمه والأخبار السارَّة التي وصلت آذان تيتيروس في روما.
لا ريب في أن أناشيد الرعاة هي التي أكسبت فرجيل ذلك الصيت الذائع، وجذبت إليه اهتمام
مايكيناس Maecenas وزير أوكتافيانوس المشرف على شئون
الدعاية، وكان هذا المنصب يتفق وحبه الخاص للأدب، وسرعان ما أضحى فرجيل أحد الكتَّاب
البارزين الملتفين حول هذا النصير الذي شاع اسمه في اللغة اللاتينية واللغات الحديثة
كمشجع
للأدب والفن.
ولا يُعرف بالضبط متى كتبت أناشيد الرعاة، ولكن يمكن تحديد ذلك على وجه التقريب،
فإن من
يدعى بروبوس يقول لنا مرتين مؤيدًا أسكونيوس Asconius
الرجل الحجة، إن فرجيل كتبها أو قُل نشرها عندما كان في الثامنة
والعشرين٥٠ من عمره، ولكن هذا قول بعيد عن المنطق لا يمكننا
أن نأخذ به لأن فرجيل بلغ الثامنة والعشرين عام ٤٢ق.م. في حين أن الأنشودة الرابعة تشير
إلى حوادث وقعت في عام ٤٠ق.م. فلا بد إذن أن بروبوس قد أساء فهم أسكونيوس، ولا بد أن
الأخير
كان يقصد أن العمل بدأ في هذا العام؛ لأن هذا معقول للغاية، كما أننا إذا أخذنا بقول
دوناتوس أن التأليف دام ثلاث سنين،٥١ كان معنى ذلك أنه بدأ
كتابة أناشيد الرعاة في عام ٤٢ق.م. وفرغ منها في عام ٣٩ق.م.
على أن مؤلفات فرجيل هي خير دليلٍ على مدى سعة اطلاعه مما يجعله جديرًا بلقب
doctus أي «العلَّامة»، ذلك اللقب الذي كانت تتوق
إليه نفس كل واحدٍ من شعراء عصره. وهناك فقرة جميلة في منظومته
الزراعية٥٢ تشرح لنا مدى حبه وإعجابه الزائد بالدراسة
العلمية والفلسفية، وتظهر في الأينيذة Aeneid، وخاصةً في
أحاديث الكتاب الرابع، ما يتمتَّع به من تضلُّع في علم البلاغة؛ مما كان له أكبر الأثر
وأعمقه
في أدب العصر التالي لعصره.
ويبدو أنه عاد إلى وطنه ثانيةً ليكمل دراسته، وتنسب إليه بعض المنظومات منها «كيريس» Ciris، وهي قصة تحول سكيلا Skylla ابنة الملك الميجاري إلى طائر، ومما لا شك فيه أن هذه المنظومة من
تأليف شاعر كان يحاول محاكاة فرجيل وكاتولوس. ومنها «الكاتالبتون» Catalepton، وهي عبارة عن أربع عشرة قطعة شعرية قصيرة من الوزن
المفعولي والرثائي كُتبت في مناسباتٍ مختلفة، بعضها حقيقي والبعض الآخر وهمي. أما
«الكوليكس» Culex أي «البعوضة»؛ فيعتقد أن فرجيل
كتبها في السادسة عشرة من عمره، وتخلو من كل طلاوة شعرية، وتعتبر أتفه ما كتب أو نُسب
إلى
فرجيل. و«الديراي» Dirae عبارة عن منظومتَيْن رعويتَيْن
يطلق على إحداهما الاسم العام «ديراي». وهي مجموعة لعنات حدثت لفقدان ضيعة على إثر حركة
الطرد والنفي التي وقعت في عام ٤١ق.م. ويطلق على الثانية اسم «ليديا» Lydia وكلها نحيب على حب مفقود. وكلاهما يفتقر إلى الدليل على أنها من
شعر فرجيل، أو حتى من تأليف النحوي فاليريوس
كاتو Valerius Cato التي نُسبت إليه أيضًا، ومنها أيضًا «الموريتوم» Moretum، وهي الوحيدة التي قد يرى المرء ضرورة نسبتها إلى فرجيل
لما تمتاز به من صفات وسجايا، غير أنهم لا يقرون نسبتها إليه، وتستمد اسمها من نوع من
الكوامخ (السلاطة) أعده الفلاح سيميلوس Simelus من الجبن
والأعشاب بعد طحنها جيدًا وعجنها وتشكيلها بشكل كرة يتغذى بها في الصباح المبكر. ولا
يذكر
في المنظومة عدا ذلك غير استيقاظه المبكر وطحنه بعض القمح ثم خبزه بمساعدة عجوز زنجية
شمطاء
كانت تشرف على تدبير سائر أمور منزله.
أما المنظومة السادسة التي تُنسب إليها فاسمها «الكوبا» Copa أو «صاحبة الضيافة»، وكانت ترقص وتغنِّي أمام حانتها وتدعو المارة
إلى الدخول ليرفهوا عن أنفسهم في الحديقة الصغيرة الخلفية، وهذه المنظومة الأخيرة مكتوبة
بالوزن الرثائي.
ولا نعلم أن فرجيل بدأ يمارس الشعر بصفةٍ جديةٍ إلا في عام ٤٢ق.م. بعد هزيمة بروطس
وكاسيوس في موقعة فيليبي، وانتقال العالم الروماني إلى أيدي أوكتافيانوس وأنطونيوس و
ليبيدوس Lepidus.
ومنذ ذلك الوقت أقام فرجيل في روما أو نابولي يتمتَّع بكرم وصداقة الإمبراطور، وساهم
في
الحلقة المختارة من الشخصيات البارزة التي كان الأديب العظيم مايكيناس حليف عصره يجمعها
حوله في قصره فوق تل الإسكويلين Esquiline، كما لبَّى رغبة
مايكيناس٥٣ فألَّف أربعة كتب عن الزراعة كتبها في الفترة
التي بين عام ٣٧ق.م. وعام ٣٠ق.م. ثم أهداها إليه. ولا يعرف عن حياة فرجيل غير القليل،
ولكن ما من شكٍّ في أنه هو الذي قدَّم هوراتيوس٥٤ إلى
مايكنياس،٥٥ كما نحظى أحيانًا في كتابات هوراتيوس بلمحاتٍ
عنه ولا سيما وصف رحلته الشهيرة إلى برونديسيوم Brundisium
عندما انضم إلى حزب مايكنياس في سينويسا Sinuessa، كما
يضعه أخوه الشاعر هو وبلوتيوس Plotius وفاريوس Varius في عبارةٍ خالدةٍ بين «أنقى الأرواح وأعز الأصدقاء فوق
الأرض»،٥٦ وفي مناسبة أخرى ينتهز هوراتيوس فرصة ظعنه في
جولة خلال ربوع بلاد الإغريق فيكتب قصيدة يتوسَّل فيها السماح له بأن يقود السفينة التي
تحمل
مثل هذا الثقة العزيز كي تصل سالمة إلى شواطئ إيطاليا، وبذا «تصان نصف
حياته».٥٧
يعلن فرجيل في السطور الأولى من منظومته الزراعية الثالثة عن عزمه على كتابة موضوع
أكثر سموًّا، وإنتاج قطعة حماسية وطنية عظيمة يكون محورها أوغسطس، ويقال إن الإمبراطور
نفسه
كتب إليه من إسبانيا في سنة ٢٧ق.م. يشجعه على نشر تلك المنظومة في الوقت الذي كان قد
فرغ
فيه من كتابتها، تلك المنظومة التي صرَّح بروبرتيوس Propertius٥٨ بعد عامٍ أو عامين أنها «شيء أعظم
من الإلياذة».٥٩ وبينما كان فرجيل مشغولًا بتأليفها عام ٢٣
ق.م. مات ماركيلوس Marcellus وارث أوغسطس المنتظر؛ فصدَّر
فرجيل الكتاب بفقرةٍ شهيرة٦٠ يصفه فيها. ويقولون إنه عندما
ألقى الشاعر هذه الفقرة في حضرة أوكتافيا Octavia، أمه
الثكلى، أغمي عليها.٦١
وفي عام ٢٠ق.م. زار بلاد الإغريق، وقابل أوغسطس عندما كان عائدًا من ساموس Samos في أثينا، فعاد معه إلى الوطن، ولكن صحته الضعيفة لم
تتحمَّل مشقة السفر، فمات في برونديسيوم في الثاني والعشرين من شهر سبتمبر سنة ١٩ق.م.
ودُفن في
نابولي عن جانب الطريق المؤدي إلى بوتيولي Puteoli، كما
نقش على قبره ما يشير إلى محل ميلاده ودفنه وإلى مواضيع منظوماته الثلاث
العظيمة.٦٢
كان فرجيل على سعة عظيمة من الاطلاع تُقرأ أشعاره في كل مكان، فلعبت مؤلفاته الدور
الذي لعبته مؤلفات هوراتيوس؛ فصارت كتبًا مدرسية مقررة٦٣
وتولاها عددٌ كبير من النقَّاد بالنقد، كما علق عليها بعض اللغويين ومن أشهرهم أولوس
جليوس Aulus Gellius في القرن الثاني، وماكروبيوس وسرفيوس في
القرن الرابع. كما أن المسيحيين الأوائل كانوا ينظرون إليه باحترام لما تحويه الأنشودة
الرابعة من نبوءة بمولد فتًى هو المسيح نفسه. فكانوا يبجلونه لا على أنه أعظم الشعراء
الإيطاليين؛ بل على أنه شبيه بالقديسين. ولم يرَ دانتي Dante ضيرًا في المجاهرة بأن فرجيل سيده ومرشده في العالم السفلي.
وكان فرجيل عند الشعب بمثابة الساحر، وربما كان مردُّ ذلك إلى ما ورد في الأينيذة
السادسة من وصفه للسبيلي Sibyl والعالم السفلي.
يجب أن نتذكر جيدًا عندما نتأمل كتابات فرجيل، أن الشعر الروماني باستثناء الساتير
مأخوذ كله عن الشعر الإغريقي. فهاك تيرينس
Terence٦٤ يقلِّد ميناندر
Menander٦٥ ولوكريتيوس إمبيدوكليس
Empedocles،
٦٦ وهوراتيوس
ألكيوس
Alcaeus٦٧ و
سافو
Sappho٦٨ وبروبرتيوس
كاليماخوس
Callimachus،
٦٩
وهكذا فرجيل في أناشيده هذه يحاكي ثيوكريتوس. وفي منظوماته الزراعية يحاكي هسيود
Hesiod،
٧٠ وفي أينيذته هوميروس.
وإن جماعة القراء المهذبين الذين يكتب لهم فرجيل قد يعزفون معرضين عن منظومةٍ لا تترنم
بغير الهمة الوطنية، ولا تمتثل بإحدى المنظومات التي اعتبرت نموذجًا للتفوُّق الأدبي،
فقد
كانوا يتلذذون من أي إصدار جديد موفق لأي عبارة إغريقية؛ إذ كان هذا بمثابة «البطارخ
للقائد»، مثلما يحيا فريقٌ من الأدباء الإنجليز أحيانًا عن رضًا غريب على فقرات من
ملتون
Milton،
٧١ تتطلَّب
معرفة تامة باللغة اللاتينية حتى يتذوقوها. كما أن هوراتيوس في منظومته عن الشعر (سطر
٢٦٨)،
قد سنَّ قانونًا رأى الجميع أنه يسري على جميع الشعراء في أنحاء المعمورة كلها:
ادرسوا النماذج الإغريقية وتأمَّلوها ليل
نهار.٧٢
ويخبرنا سينيكا Seneca٧٣ أن
فرجيل لم يقتبس من الإغريق ليسرق، بل ليحاكي جهرًا.٧٤
وأناشيد الرعاة منقولة إلى حدٍّ كبير من ثيوكريتوس وهو أول من كتب أناشيد رعوية في
النصف
الأول من القرن الثالث قبل الميلاد، ورغم أنه وُلد في كوس Cos وأقام بعض الوقت في الإسكندرية، فقد أمضى معظم حياته في صقلية التي
تشتهر بحياتها الرعوية وبحياة سكانها الطبيعية؛٧٥ لذلك كان جل
أناشيده الرعوية وصفًا للحياة الريفية في شكل حوار درامي. أما منشؤها فمرده إلى حب الموسيقى
والأغاني الذي نما وظهر على اليسر والسعادة من جراء وجود الشاعر في مناخ
جنوبي،٧٦ وعلى المباريات الغنائية والأناشيد الارتجالية
التي كانت أمرًا عاديًّا في أعياد القرى وخاصةً بين أفراد الشعب الدوري، فأنتجت في صقلية
ملاهي إبيخارموس Epicharmus٧٧
وتقليدات سوفرون Sophron.٧٨
وبالرغم من كون أناشيد ثيوكريتوس هي النموذج الذي حاكاه فرجيل في أناشيده الرعوية؛
فإنها تخالفها في ناحية ظاهرة تمامًا؛ فأناشيد ثيوكريتوس تطابق الطبيعة ومناظرها حقيقية
وشعراؤها مخلوقات بشرية، في حين أن أناشيد فرجيل قطع فنية إلى حد كبير، لا ترتبط مناظرها
بمكان معين، فهي تارةً إيطالية وطورًا صقلية وتارةً أخرى أركادية. ورعاتها دائمو التنكُّر،
فأحيانًا ينتحلون شخصية فرجيل، فهو مثلًا تيتيروس في الأنشودة الأولى، ومينالكاس في
الأنشودتَيْن التاسعة والعاشرة، وأحيانًا شخصية جالوس أو قيصر، فهو دافنس في الأنشودة
الخامسة، كما فرض العرف على الطبيعة، فبدلًا من أن ينتج الشعر الرعوي عن الحياة الريفية
بسائر مفاتنها وما فيها من بعض الخباء؛ أضحى صورة من الفن يتلاعب فيها الشاعر طالما أنه
قروي، فيحاول أن يجذب اهتمام مواطنيه بأن يصوِّر لهم عالمًا ريفيًّا مثاليًّا.
بيد أن كل ما هو عرفي للغاية يكون جميلًا للغاية، فإن جمال أناشيد فرجيل أمرٌ لا
جدال
فيه. وهناك حقيقةٌ لا مفر من الاعتراف بها وهي أن أناشيده كثيرًا ما اقتبس منها، وهذا
برهان
له وزنه وقيمته على ما تتمتع به من جمال؛ فقد كتب بوب Pope
«أناشيده الرعوية» وهو في السادسة عشرة من العمر من فرط إعجابه بها. ويقول إنه كتب أنشودته
«المسيح» ليحاكي فرجيل في «بوليو» Pollio ويردد
كوليريدج Coleridge ووردزورث Wordsworth ما يجري على لسان هوراتيوس من وصف مجيد لفرجيل. وهناك أيضًا
تشارلس فوكس Charles Fox الذي لم يكن قط من المتضلِّعين
في الأدب أو من لهم كلمة فيه، ولكنه كان بعد أن يتزعم مناقشة في مجلس العموم ويُقامر
في
بروكس Brooks حتى الصباح، يحاول أن ينعش نفسه قبل
ذهابه إلى الفراش بقراءة أناشيد فرجيل الرعوية. ويقول ماكاوليه Macaulay٧٩ إنه يفضِّل منظوماتِ فرجيل
الزراعية على الأينيذة، وأناشيدَ الرعاة على منظومات الزراعة، وإنه يتوِّج الأنشودتَيْن
الثانية
والعاشرة بتاج الغار والنصر.
غير أنه يبدو أن فتوى ماكاوليه هذه ليست من الحكمة في شيء؛ فالأنشودة تصف كيف خُدِعَ
ضابط روماني يقاتل في الميدان، في حبه لممثلة. فتصور راع أركادي يبكي حظه أو يسرِّي عن
نفسه
بالقنص مع الحوريات وسط الممرات البارثينية، فيصوب السهام الكيدونية من قوس بارثي، ولا
ريب
أن المهارة الفنية التي تتجلَّى في معالجة موضوع كهذا، تستوجب الإعجاب والاستحسان؛ فالجمال
هنا قوي للغاية، ولا يمكن لجمال اللغة أن يُخفي ما في المشهد من سمات فنية. كما أن القوة
الشعرية التي تُسيطر على الخيال هنا ليست من بنات أفكار فرجيل؛ لأنه يجرِّب قوته فقط؛
فأناشيد الرعاة تصور الواقع وتكسبه طابعًا فنيًّا، أما منظوماته الزراعية فتصف الواقع
وتخلق
منه قصصًا شعرية. فالأينيذة السادسة بما ورد فيها من وصف للعالم السفلي تجعل ما هو غير
حقيقي حقيقيًّا، وتكسب الأرواح قوة الحق وجوهره؛ إذ إن تقدم القوة شيء ملموس. ويمكن للذين
يرغبون إدراك هذا أن يقارنوا البكاء على دافنس أو شكوى جالوس بالألم المبرح الوارد في
وصف
الثور الميت في منظومة الزراعة الثالثة.٨٠ أو لهم أن يوازنوا
بين أي أبيات من أنشودة الرعاة الرابعة وبين الفقرة التي تصف الاقتراب من الجحيم وما
تمتاز
به من بساطة هائلة في الأينيذة السادسة.٨١ بيد أنه يحتمل أن
تكون هذه الأنشودة هي خير أناشيد فرجيل المعروفة، هذا علاوةً على أنها أفضل مَثَل يمكن
ذكره لما تحظى به الكلمات السحرية من سيطرةٍ على عقول البشر. وقد تركت هذه الأنشودة أثرًا
فريدًا في نفس جمهور قرائها.
وقد كان وصف العصر الذهبي أو المناظر ذات البهجة المثالية من بين المواضيع التي يعكف
الشعراء في بداية عهدهم على تناولها للتدرب على الشعر والتمكن منه. على أننا إذا استثنينا
بهجة مدلول هذه الأنشودة وما تحدثنا به عن مقدم جيل أوفر سعادةً بمولد صبي مقدس؛ لا تختلف
كثيرًا عما كتب الغير في هذا الموضوع؛ إذ الأنشودة في بعض أجزائها أقرب إلى القبح منها
إلى
الرفعة، ومن الصعب أن تقرأها دون أن تبتسم من رياض العصر الألفي السعيد، وكيف تزينها
كباشٌ
بعضها قرمزي، وبعض آخر أصفر، وثالث يعلوه لون أرجواني جميل، في حين أنه إذا فحص المرء
الأحد
عشر بيتًا الأخيرة، تلك الأبيات التي طار صيت جمالها إلى مسافات بعيدة، يرى أنها تعتمد
كثيرًا على ما فيها من كلمات مسجعة وتكرار فني، بينما تحير الأبيات الأربعة الأخيرة سائر
النقاد خشية أن تكون هناك فكرة ما واضحة تخفيها نغمات موسيقاها العذبة.
ويجدر بنا أن نعتبر أناشيد الرعاة هذه دراسات قام بها أحد السادة العظام، فكشف فيها
عن
كثير من خصاله النادرة، إلا أنه لا يجوز لنا أن نضعها في مصاف إنتاج عبقريته التامة النضج،
وإذا ما فعلنا ذلك بقي لنا أن نذكر أن بهذه الأناشيد متعة خاصة إذ إنها تبين مقدرة فرجيل
الشعرية والأطوار المختلفة التي مرت بها.
فالأنشودتان الأولى والثانية من أناشيد الرعاة هما أول ما كتبه فرجيل، ولا شك في
أنه
كتبهما قبل الأنشودة الخامسة؛ لأن هذه الأخيرة تُشير إليهما.٨٢
وهما صورتان طبق الأصل مما كان يكتبه ثيوكريتوس، وتتصف الأنشودة السابعة بنفس الطابع
وكذلك
الأنشودة الخامسة.
أما الأنشودة الرابعة فقد ثبت أنها كتبت في عام ٤٠ق.م. لأنها تشير إلى قنصلية بوليو.
٨٣ وتاريخ الأنشودة الثامنة هو صيف عام ٣٩ق.م. عندما كان
بوليو عائدًا بعد انتصاره على البارثينيين،٨٤ وتمتاز هذه
الأنشودة الأخيرة بأن موضوع نصفها الثاني ليس منقولًا فحسب بل سبق أن قتل قتلًا في الشعر
القديم. ويحتمل أن تكون أناشيد الرعاة هذه قد نُشرت مرتَيْن، وأن تكون الأناشيد الثانية
والثالثة والرابعة والخامسة والسابعة قد أرسلت إلى بوليو تتصدرها الأنشودة الثامنة
كإهداء.٨٥ وفي هذه الحالة يكون موضوع الأنشودة مبكرًا
تمامًا، في حين أن الإهداء لم يكتب إلا في عام ٣٩ق.م. وعلى أية حال فإن الأناشيد الأربعة
الباقية تكون بدورها مجموعة قائمة بنفسها، وتمتاز عن البقية بأنها تتناول تجارب الشاعر
الشخصية. أما الأنشودة العاشرة التي يقال إنها آخر ما كتب، فقد كتبها فرجيل سلوى لصديقه
جالوس Gallus، ورغم ما فيها من مزايا فنية فهي تصور
ملكات فرجيل الشعرية في أرفع صورةٍ ممكنة، وتدور الأناشيد الأولى والسادسة والتاسعة حول
ضيعته وكيف استرجعها.
ولا جدال في أن الأنشودة التاسعة منقولة عن ثيوكريتوس، وتتضمَّن دعوى مرفوعة إلى
أعتاب
فاروس مباشرةً بطلب مساعدته،٨٦ فلما حظي بها أهداه الأنشودة
السادسة شكرًا له واعترافًا بجميله، غير أن أغنية سيلينوس تبين رغبته في كتابة شيءٍ يسمو
على
شعر الرعاة كما ورد ذكره في الأنشودة الرابعة.
وأخيرًا يهجر فرجيل الشعر الرعوي الحق في الأنشودة الأولى ليتمكن تحت ستار الحوار
بين
شاعرَين من تسجيل تاريخه. فلما استعاد ضيعته واطمأن عليها نراه يعبر عن شكره للإمبراطور،
وزيادة في تبجيله يضع هذه الأنشودة في صدر المجموعة؛ ومن ثم يهديها كلها إليه.
بعد أن انتهى فرجيل من تأليف منظوماته الزراعية في عام ٣٠ق.م. استغل الأحد عشر عامًا
الباقية من عمره في تأليف الأينيذة، وفي سنته الأخيرة قام برحلته إلى الشرق ليزور بنفسه
بعض
المشاهد التي استعرضها في أينيذته، ولكنه مرض في ميجارا Megara وقفل راجعًا إلى إيطاليا، ولكنه مات كما سبق أن قلنا في
برونديسيوم ولم يبلغ بعدُ الواحدةَ والخمسين من عمره. وكان فرجيل قد أثرى من كرم مؤيديه
وأنصاره وخلَّف وراءه ضيعةً كبيرةً وبيتًا فوق تل الإسكويلين بالقرب من حدائق مايكنياس.
ولقد
كان فرجيل رجلًا محبًّا حَسن الطبع لا يعرف الحسد أو الحقد.
ولقد وصف دوناتوس فرجيل فجعله طويلًا أسمر، جاف المظهر. وكان فرجيل رجلًا سعيدًا في
كل شيء غير صحته التي كانت دائمًا أبدًا ضعيفة، ولقد آثر في أواخر أيامه أن يتجنب زيارة
روما. وكان عديم الثقة في قواه الشعرية، إلا أنه تمتع بصيت عظيم إبَّان حياته. واشتهر
أولًا
وقبل كل شيء بأنه شاعر حماسي استطاع أن يكشف الستار عن عظمة الإمبراطورية الرومانية،
ولكن
تفوُّقه الشعري وبُعد صيته قاما أيضًا على ما في شعره من كمال فني، وما يمتاز به من رقة
وعشق للطبيعة، فليس هو بالشاعر الذي يدرك مصير روما فحسب؛ بل شاعر إيطاليا الساهر على
جمالها وإخصابها، المتحدث عن ديانتها وعقائدها.
وتلعب الديانات دورًا هامًّا في منظومات فرجيل، وتتجلَّى خاصةً في الأينيذة، ولكن
يقل
ذكرها في منظومات الزراعة وأناشيد الرعاة. ويميل فرجيل إلى ترديد العقائد الرومانية
القديمة ووصف الطقوس والأعياد الدينية. ويتجلَّى عطفه قبل كل شيء على وجهة النظر البدائية
الروحانية للأرواح (numina) وربات المنازل والريف مثل
لار Lar٨٧ وبيناتيس Penates٨٨ وفستا Vesta٨٩ وجانوس Janus٩٠ والفاوني Fauni٩١ وسيلفانوس Silvanus.٩٢ غير أنه لا يهتم
كثيرًا بغير جوبيتر Juppiter٩٣
وجونو Juno٩٤ و
فينوس Venus٩٥ من بين
الآلهة المتجسدين الإغريق والرومان. فمثلًا استخدامه لأيولوس Aeolus٩٦ وإيريس Iris٩٧ ونبتونوس Neptunus،٩٨ ليس إلا استخدامًا زخرفيًّا لا
يمت إلى الدين بصلة، ولكن جونو وفينوس تصوران مصير الإغريق والطرواديين المتضارب. فجوبيتر
في نظره لا تحده فكرته في قدسية روما ومصيرها فحسب، بل يمثل فكرة ضمنية توحيدية لحكم
الدنيا
المقدس. وهو لا يقول شيئًا عن الطقوس الشرقية الواردة، ولا يتحدث عن سيبيلي إلا كربة
أجنبية. أما معالجته لموضوع أرواح الموتى في الحياة الثانية في الأينيذة السادسة فعلاج
مستوفٍ زاخر بضروب التسلية، ففيها يجمع المعتقدات الشائعة عن حظ الأرواح وما يلحق الأشرار
من عقاب عدا العقائد الأورفيوسية والرواقية عن تطهير الأرواح والعقائد الفيثاغورية عن
تناسخها ولكن طابع الشاعر الديني يتجلَّى واضحًا في اعتقاده الزائد في عنصر الحياة الروحي
وشعوره العميق بالإنسانية المعذبة وبأولئك الذين يقاومون مصير روما مثل ديدو Dido٩٩ وتورنوس Turnus١٠٠ وميزينتيوس Mezentius١٠١ وإحساسه بقيمة
العذاب الروحي.
ولقد أينعَت شهرة فرجيل بعد مماته فاعتبروه ساحرًا ونسبوا إليه قوى معجزة، وصار في
مقدور المرء أن يعرف ما يضمره له المستقبل بمؤلفاته، وساد هذا الاعتقاد في تاريخ مبكر
ومارسه الإمبراطور هادريان Hadrian نفسه، ويقال إن الملك
شارلس الأول Charles I استمع إلى اقتراح لورد فالكلاند Lord Falkland ففتح الأينيذة الرابعة، فكان السطر
الخامس عشر بعد الستمائة من حظه، وفيه تصب ديدو لعناتها على أينياس Aeneas.١٠٢
ولا يخفي الكتَّاب المسيحيون المبكرون ما يدور بأذهانهم من عراكٍ بين إعجابهم بشعره
وعدم
إيمانهم بإلحاده.
ولا جدال في أن شهرة فرجيل قامَت أيضًا على أكتاف منظومته الزراعية التي أهداها إلى
مايكينياس، فكانت أول ما كتب في هذا الصدد باللاتينية، وجاءت آية فنية من الشعر اللاتيني؛
إذ فيها يعالج الشاعر موضوع الزراعة الرومانية بفروعها الرئيسية الأربعة؛ فيتحدَّث في
الكتاب
الأول عن الحرث، ثم عن علم فلاحة البساتين في الكتاب الثاني. ويخص الثالث بتربية الماشية
ويقصر الرابع على تربية النحل. فيعالجها جميعًا كمن له دراية تامة بها ومعرفة شاملة بجميع
تفاصيلها، ويكسبها فنًّا متقنًا ناضجًا وحماسًا جميلًا وجاذبيةً حلوة نحو الطبيعة. وتعتمد
منظوماته الزراعية هذه على أشعار هسيود وأراتوس Aratus،١٠٣ كما تبرهن أيضًا على معرفةٍ بكتاب
الزراعة بالإضافة إلى خبرته الزراعية الشخصية.
وكان الشاعر ينوي أنه إذا مات قبل أن يتم أجزاء أينيذته، أن يلقي بما كتبه منها طعمة
للنيران، ولكنه عدل في النهاية عن هذه الفكرة وآثر أن يتركها لصديقَيْه فاريوس روفوس Varius Rufus وبلوتيوس توكا Plotius Tucca بشرط ألَّا ينشرا ما كتبه، ولكنهما اضطرا بأمر أوغسطس إلى
إذاعتها على الملأ بعد مراجعتها مراجعة دقيقة، وحذف ما لا ضرورة منه دون أن يضيفا إليها
شيئًا.
وبالرغم من أن هذه المنظومة غير كاملة، فقد لقيت ترحيبًا عظيمًا بمجرد ظهورها كمنظومةٍ
حماسيةٍ وطنيةٍ لا تقل قيمة عن منظومات هوميروس. ويعود هذا الترحيب والإعجاب إلى هدف
المنظومة
الوطني وما تحويه من تمجيد شعري لمنبت الشعر الروماني في مخاطرات أينياس مؤسس الشعب
الروماني عن طريق خلفه رومولوس Romulus،١٠٤ كما أنه بوجه خاص جد بيت
الإيوليين Iolians الإمبراطوري عن طريق ابنه
أسكانيوس Ascanius١٠٥ أو
إيولوس Iulus.١٠٦ ولهذا
السبب لم يفطن كثيرًا إلى نقط الضعف بالمنظومة التي لا تظهر إلا في بعض أجزائها المتفرقة،
والتي كان في الإمكان القضاء عليها لو أن مؤلفها قام بمراجعتها هو شخصيًّا قبل نشرها.
ومما
يستوجب الدهشة ويثير العجب ما أظهره الشاعر من فنٍّ عظيم في صوغ تلك المادة الغزيرة التي
جمعها بصعوبةٍ مما كتبه الإغريق والرومان نظمًا ونثرًا، عدا روعة اللغة والوزن وجمال
كثير في
أجزائها المتفرقة. غير أنه لا يمكننا أن نُنكر أن الأينيذة تقل عن منظوماته الزراعية
من حيث
الابتكار والكمال الفني.
وتنحصر محاولة فرجيل منافسة هوميروس، فقط في المحاكاة والتقليد، ولا يظهر هذا جليًّا
في الأمثلة العديدة المنفردة فحسب بل وفي موضوع المنظومة كلها؛ إذ كان فرجيل يُريد بشكلٍ
واضحٍ أن يجمع مزايا الأوديسة Oddesy والإلياذة Iliad في عملٍ واحد، فيصف في الستة كتب الأولى من أينيذته
رحلات أينياس، وفي الستة الباقية ما قام به من معارك في سبيل الحصول على عرش لاتيوم Latium.
وبالرغم من كثرة أخطاء فرجيل التي وعَت إليها العصور القديمة؛ فقد كان أكثر الشعراء
الذين تقرأ لهم الأجيال والشعوب، وأكثر الشعراء المرموقين بالإعجاب والتقدير والاستحسان،
وأكثر شعراء أمته شهرةً وصيتًا، فليس هناك كاتبٌ آخر استطاع أن يترك أثرًا كالذي تركه
فرجيل في تهذيب الأدب واللغة الرومانية، ويسري هذا أيضًا على النثر والشعر، فكما كان
الحال مع أشعار هوميروس بين الإغريق، كذلك كانت أعمال فرجيل، ولا سيما الأينيذة، تستخدم
في العصور المتأخرة لتدرس على أنها مصدر أساسي لتعليم النحو، ولقد حاكاها المؤلفون وخاصةً
بعض شعراء الحماس وفريق من التربيبيين.