الفصل الأول
– أراك مُجافيًا لي في هذه الأيام يا عزيزي حسن، وقد شَغلت بالي باستمرار رزانتك خلافًا لعادتك، فخطر لي أن يكون قد وقع مني ما ساءَك.
– لماذا تظن هذا يا عزيزي يوسف، أيمكن أن أستاء مهما وقع منك من الأمور؟
– إذن لماذا هذا التقطيب؟ ألححت عليك أمسِ أن نمضي إلى غابة بولونيا فلم تصحبني، والآن أُلِحُّ عليك أن نمضي إلى الكوميدي فرانسز، فتأبى، أفلا تَلوح لي ظنون مختلفة؟
– لماذا تفترض أن يكون سبب تقطيبي استياءٌ منك ولا تفترض أن يكون سببهُ أمرًا آخر ليس له مساسٌ بك؟ فلو ساءَني منك أمرٌ لَمَا صبرت عن معاتبتك؛ لأن العتاب صابونُ القلوب.
– إذن لست مسرورًا.
فصرف حسن وجههُ عن يوسف متملصًا من الجواب، واستأنف هذا كلامه قائلًا: أحِسُّ يا عزيزي حسن أنك في استياء عميق، ولا يسعني — وأنا صديقك الحميم — أن أُسَرَّ وأنت منقبض، فأشركْني في معرفة سبب استيائك، إن لم يكن سرًّا ليس في وسعك أن تبوح بهِ لعلَّ لي رأيًا صائبًا في تلافيه.
فتَنَهَّدَ حسن قائلًا: ليس عندي سرٌّ أكتمه عنك يا يوسف، ولكني كتمتُ هذا السر إلى الآن خشية أن تضحك مني متى عرفتَهُ؛ لأنه قد يتراءَى لك سخافة في أهم أمر من أموري.
وكاد الدمع يطفر من عينيهِ فقال له يوسف: إنك غلطان في ظنك هذا؛ لأن الأمر الذي يهمك إلى هذا الحد — مهما كان سخيفًا — أعده مهمًّا؛ لأنه يهمك فإن لم يكن ما يمنعك عن القول فقل؛ فإنَّ بَثَّكَ ما في نفسك من الشجون يصرف أساك ويسرِّي عنك.
– إذن اجلس إلى جانبي واسمع حديثي عساك أن تفرِّج كرْبي.
جرى هذا الحديث بين حسن بهجت ابن سليم صالح، ويوسف بك رأفت ابن عبد العليم باشا صدقي في غرفة في أحد فنادق باريس؛ فالأول كان يدرس المُحاماة، والثاني يدرس الطب في تلك العاصمة الزاهرة، وكلاهما مقيمٌ في ذلك النزل، ومتجاوران كصديقين حبيبين، وكان يوسف بك يُلاحظ أن صديقه حسن قد تغير خلُقه منذ يومين، فكان يئوِّل تغيره تآويل مختلفة، وقد كاشفهُ أمره — كما تقدم الحديث — وعند ذلك جلس يوسف إلى جنب صديقه حسن واستمرَّا في حديثهما.
قال حسن: إن سري لعميقٌ جدًّا يا عزيزي يوسف لم أبح بهِ لسواك، ولا ريب عندي أنك تكتمهُ بل أؤمل أنك تعضدني في الحصول على أمنية عظمى قد وقفت كل قواي لها.
– قل يا حسن فلا داعيَ لهذه المقدمة، إني لك في كل أمر وأنت تعلم.
– إن غمي شديد يا يوسف وألم قلبي أشد فبربك سكِّن آلامي، ألا تذكر كلمة قالها خليل بك مجدي أمس إذ كنا في الحانة؟
– كلَّا، لم أُلاحظ شيئًا.
– بالطبع لم تلاحظ؛ إذ لا ناقة لك في موضوع حديثِهِ ولا جَمَل.
– ماذا قال، فهل أساءَك؟
– ألا تذكر أن الحديث جرَّنا إلى الزواج؟
– نعم أذكر ذلك جيدًا.
– ألا تذكر أنهُ سمى فتاةً عروسًا له؟
فافتكر يوسف بك هنيهة ثم قال: نعم أذكر أنهُ قال: إن نعيمة ابنة حسين باشا عدلي ستكون زوجة له متى انتهى من دراسة الحقوق، فأيُّ أمر في قولهِ هذا يسوءُك؟
لم يَسُؤْني قوله إساءَة فقط بل طعن قلبي طعنةً نجلاء لا أعلم إن كنت أبرأُ منها أو تقضي عليَّ؟
فحملق يوسف بك فيهِ حملقة المستهجِن، وقال: هل لك من مطمع بالفتاة؟
– ليس لي بسواها مطمع.
– ماذا تقول يا حسن؟
– أقول: إن نعيمة كل آمالي، فإذا لم أنل يدها كان وجودي في هذا العالم عبثًا وحياتي لغوًا؛ فلأجلها أحيا وأدرس وأسعى إلى العُلَى.
– ولكن ألا تعلم نسبة نعيمة إليك؟
– أعلم أنها كنسبة الثريَّا إلى الثرى، ولكنني سأجتهد أن أرقى في سلم العلى حتى ارتفع من الثرى إلى الثريَّا.
– لا تؤاخذني يا عزيزي حسن إذا خامرني الظن بغرورك، لا أشك أنك قد تصير كفئًا لمثل نعيمة، ولو كنت أباها لَما ترددت في أن أهبك يدها — إذا هي رضيت — ولكن أنت تعلم أن أباها يعتد جدًّا بكرم مَحْتِدهِ ورِفْعة أصله ومقامه الاجتماعي؛ فما هو ممن يجود بيَدِ ابنته لمن هو دونه أصلًا ومقامًا، وإن كان فوقهُ علمًا وهمةً؛ لأنهُ من أهل الزمان الغابر الذين يحافظون أشد المحافظة على الأصل، وهو لا ينسى أنك ابن رجل كان من بعض حاشيته، لا تؤاخذني على هذا الإفصاح؛ لأننا نتكلم الآن بحرِّيَّة ضمير.
– أعلم ذلك جيدًا يا عزيزي يوسف، وما أنا مغرور، ولكنني أتذرَّع إلى استرضائه بأمرين؛ الأول: أني أجتهد أن أصير في المستقبل القريب ذا شأن في الهيئة الاجتماعية يرضيه؛ إذ أسعى إلى جمع ثروة وإلى مقامٍ سامٍ. والثاني: أن تفصح نعيمة بأنها لا تقبل سواي بَعْلًا، وحينئذ لا أظن أن حسن باشا يكون مستبدًّا إلى حدِّ أن يزوج ابنته بالرغم منها بزوجٍ لا تريده ويحرمها زوجًا صالحًا لها، هي تبتغيه.
– كِلَا الأمرين ممكن، ولكنهما صعبان.
– لا أنكر أنهما صعبان؛ أما الثاني فهو في حكم المقرر إذا حصلت على الأول، ولذلك سأبذل — إن شاء الله — الهمة القعساء في سبيل الصعود إلى مراتب العُلى، ومتى حان الوقتُ لهذا الصعود أُخبرك بما أفعله لأجله، فإن في رأسي أفكارًا عديدة بمشروعات مهمة متى أخبرتُك عنها عضدتَني فيها، فلندع الحديث عنها الآن إلى حينه.
– إذن بينك وبين نعيمة علاقة حب الآن.
– نعم، ولكن ليس أحد سواك يعرف ذلك.
فسكت يوسف بك هنيهة سكتة المبهوت ثم قال: عجبًا! كيف اتصلت إلى نعيمة وهي أعز من جبهة الأسد، وأمنع من بيض الأنوق، أولًا؛ لأن أباها مُبالِغ في حجْبها، وثانيًا لأنها تمتاز جدًّا على أترابها بآدابها وحشمتها وبمبالغتها في الاحتجاب، فإنها ما بلغت سن الثامنة حتى تنقبت وتحجبت، فإن كانت في المدرسة فهي كالسجينة، أو في البيت فتُلازم خدرها، أو في المنتزه البعيد عن الناس فهيهات أن يراها أحد.
– أما رأيتها قط.
– رأيتها مرة في العام الغابر، وأنا داخل إلى دار أبيها لزيارة، وكانت بلا نقاب فدهشتُ لجمالها الفاتن وملامحها الجذابة، ولكنها هرعت في الحال مختبئةً مني، وقد تيقنت حينئذٍ أنها أسمى جمالًا وكمالًا مما يصفونها به فأتعجب كيف اتصلت إليها وصارت بينكما هذه العلاقة الحبية.
فابتسم حسن وقال: إن لمعرفتي بها قصصًا تكاد تكون غريبة لا أكتمك إياها، ولكني أتوسل إليك أن تكتمها.
– سبحان الله يا حسن، أما عرفتني حق المعرفة، فما بالك تحذرني؟ أي سر من أسرارك أفشيته؟
– لا شكَّ عندي أنك كتوم؛ ولذلك أقص عليك ما جرى بيننا؛ لأنه قصة تفكهك وتلذ لي على حد قول الشاعر: